الفصل السادس

الكاتب الظل

لم أعد أستطيع التخلص من هذه الفكرة العجيبة التي سيطرت عليَّ، وهي أنني أنا والأحدب ومعنا صديقي إبراهيم الذي لقيته في الإسكندرية لا بُدَّ أن يكون بيننا رباط وثيق، يجعل مِنَّا ثلاثة جسوم لنفس واحدة، نعم، قد يكون هذا سطحًا مني في التصور، ولكن ما أكثر ما تقرأ عن شخوص تتعدد مع روح واحد، حتى لتجد من المذاهب والعقائد ما يجعل الإنسانية كلها؛ بجميع ماضيها وحاضرها وسائر ما سوف يولد من أفرادها إلى أبد الآبدين، شعابًا لنفس واحدة، لكنني لا أريد أن أغلو في القول إلى ذلك الحد البعيد، ويكفيني ثلاثة أشخاص، إبراهيم والأحدب وأنا، لأزعم لهم نفسًا واحدةً تشعبت في اتجاهات ثلاثة.

أقول: إني لم أعد أستطيع التخلص من هذه الفكرة، حتى ولو كانت فكرة باطلة من حيث الواقع الحسي؛ فهي ما تزال صالحة لتصورات الخيال؛ لأن ثلاثتنا — إذا جُمع بعضنا إلى بعض — صنعوا إنسانًا متكامل الجوانب، وماذا يُراد لمثل هذا الإنسان المتكامل من عناصر؟ أليس الذي يُراد له هو:
  • أوَّلًا: عمل يرتزق منه، ويجري فيه على تجانسٍ مع أبناء المجتمع الذي يعيش فيه.
  • وثانيًا: خيال يجمح به آنًا بعد آنٍ ليفرَّ من قيود المكان والزمان كلما ضاق بهذه القيود.
  • وثالثًا: طيران بالعقل إلى أهدافٍ بعيدة تريد التحقيق في دنيا الواقع ولو بعد حين، فلا هو يخضع للأمر الذي تفرضه عليه ضرورات العيش، ولا هو يطير بأجنحة العاطفة التي تُشبِع نفسها ولكنها لا تُغيِّر من الواقع شيئًا.

فإذا كانت هذه هي العناصر الأساسية المطلوبة ليتكامل الإنسان؛ فهي هي نفسها العناصر التي تتجسد فُرادى في شخصي، وفي شخص رياض عطا (الأحدب) وفي شخص صديقي إبراهيم؛ فأنا الذي حملت على كتفيَّ أعباء الأمر الواقع وما يقتضيه، ورياض هو الذي ترك قياده لعاطفته، وإبراهيم هو الذي أخذ يخطط بالعقل الصرف لمستقبلٍ علميٍّ يرفعه عن درب ضربته الأقدام.

فها نحن أولاء نقف جنبًا إلى جنب على عتبة الحياة العملية، وكان ذلك سنة ١٩٣٠، لكن سرعان ما تفرَّقت بنا السبل، ولقد كان بيننا من الأصول المشتركة ما يجعل في أشخاصنا شيئًا من التداخل؛ بمعنى أنني وإن كُتِبَ عليَّ أن أسير على الدرب الذي ضربتْه لي أقدامُ السائرين الآخرين من عباد الله، فلم يكن ذلك ليحرمني من ساعاتٍ لشطح العاطفة، وساعات أخرى للأمل في أهدافٍ بعيدة وجديدة، وكذلك الأحدب، فإن يكن قدَرُه أن تشتعل به العواطف وتحتدم الغرائز؛ فهو بالطبع لم يخلُ من لحظات يستسلم فيها للأمر الواقع، أو لحظات يخطط فيها لنفسه بالعقل كيف يخطو إلى أمام ثم نقول القول نفسه عن زميلنا الثالث إبراهيم؛ فهو إذا كان قد غلب عليه المستقبل بطموحه حتى غضَّ النظر عن الحياة كما تمرُّ بموكبها أمام عينيه، فلم يكن هذا الانصراف إلى بناء المستقبل ليُلهيه أحيانًا عن الاستماع إلى صوت اللحظة الراهنة، أو المَيل أحيانًا إلى جموح العاطفة أو نداء الغريزة.

ثلاثتنا جميعًا كان لهم نصيبٌ موفور في حياة الفكر والتعبير؛ أمَّا نصيبي أنا فقد كان شبيهًا بما يفعله عارِض الأزياء في نوافذ الدكاكين، ليراه المارَّة في الطريق واقفًا وراء الزجاج بالثياب المعروضة، وإذن فلم يكن له من فضل أكثر من فضل المعلِن عن شيء موجود، فتكون قيمته مرهونة بعدد الزبائن الذين يُغريهم عرضه فيُقبِلون على الشراء، فإذا لم يجتذب للثياب من يتذوقها ويشتريها. كان وجوده وعدم وجوده على حدٍّ سواء.

ظهرت مجلة الرسالة لصاحبها أحمد حسن الزيات في يناير من سنة ١٩٣٣، وكنت — كصاحبي الأحدب — مُدرِّسًا في ريف الدقهلية. كانت قريتي تنتمي إليه قبل أن تتحول فيما بعدُ إلى محافظة دمياط، فما إن صدر العدد الأوَّل من «الرسالة» حتى انفتح أمامي الميدان الذي أنظم فيه نشاطي الفكري الذي يفيض لي بعد شواغل مهنتي، فأخذت أرسل المقالات تباعًا، و«الرسالة» تُفسِح لي صدرًا رحبًا، ولكن فيمَ كانت تلك المقالات بصفة أساسية؟ كانت فصولًا في الفلسفة الغربية، يغلب أن تختص كل مقالة منها بفيلسوف؛ فهذا هو برجسون، وذلك هو نيتشه أو شوبنهاور أو غيرهما، وهكذا لم يكن نصيبي عندئذٍ من الفكر أكثر من نصيب السمسار الذي يتوسط بين صاحب السلعة من جهة وشاريها من جهةٍ أخرى.

ولذلك لم أدهش بعد أن مرت بي السنون وأوقفتني المصادفة على صاحبي الأحدب، وعرفت كيف سايرت حياته حياتي في خطَّين متوازيين، مع هذا الفرق الذي أشرت إليه، وهو أني كنت أسير على الدرب المدقوق بالأقدام، على حين أنه كان يربأ بنفسه عن مثل هذا السير الرتيب؛ أقول: إني لم أدهش حين علمت فيما بعد بما كان يضطرم به صدر الأحدب في تلك الفترة نفسها من ضيقٍ بالمعروف المألوف، وتَشَوُّف إلى ما هو ذاتيٌّ أصيل، فرأيت له مقالة وكأنه كتبها ليعارضني، يقول فيها شيئًا كهذا:

لقد قرأت في صدر شبابي كل ما أنت به اليوم معجَبٌ مفتون، واجتزت عهدًا أراك تجتاز مثله الآن، عانيت فيه ما عانيت من كربٍ وضيق، وكم قرأت وقرات، فكنت أتلوَّن بما أقرأ كأني حشرة حقيرة تدبُّ على ظهر الأرض وتسعى، فتصفرُّ إن كانت تحبو فوق الرمال، وتخضرُّ إن كانت تزحف فوق الحقول.

كنت أقرأ للشكَّاك فأشك، ثم أقرأ للمؤمنين فأومِن، هذا كتاب متشائم أطالعه فإذا أنا الساخط الناقم على حياتي ودنياي، وذلك كتاب متفائل أطالعه فإذا أنا الهاشُّ الباشُّ المرِح الطروب، لكن أراد الله بي الخير فأفقت إلى نفسي فوجدتها مضطربة هائمة تعصف بها الريح هنا وهناك، وهي في كل ذلك تعاني من القلق والهم ما تعاني.

وضرب الأحدب في مقالته تلك الأمثلة؛ ضرب مثلًا بالإمام الغزالي الذي قرأ ما قاله الحكماء والفلاسفة، فلم يكن له منها سوى أن ارتجَّت نفسه ارتجاجًا عنيفًا، وأخذه الشك من كل جوانبه، حتى نالت منه العلل بما نالت، لم يَشْفِه منها إلا أن يستمع إلى وحي نفسه؛ وضرب مثلًا بتولستوي الذي غاص في أغوار الفكر ما غاص، وانتهى به الأمر إلى اضطرابٍ وحيرة، فما كان منه إلا أن يفرغ مكتبته من كل ما فيها على أنه أباطيل؛ لقد قرأ تولستوي للفلاسفة الأعلام جميعًا، قرأ لأفلاطون وكانت وشوبنهور وباسكال، لكنه تبين أن آراء هؤلاء الحكماء إنما تكون واضحة ودقيقة حينما تبعد عن مشاكل الحياة المباشرة، ولكنها في ميدان هذه الحياة لا تهدي الحائر سواء السبيل.

كنت إذن أنقل الفكر من غيري، وكان الأحدب يتمرد على الفكر الذي ينقل عن آخرين، ولا يريد من الشراب إلا ما ينضح به إناؤه هو لا ما ينسكب من آنية الغرباء، فماذا كان صديقنا إبراهيم يضع في تلك الفترة نفسها؟ إنه تناسى واقعه وغضَّ عنه النظر، وجعل من نفسه «تلميذًا» مرةً أخرى، فلقد صمم على هدف يتحقق في موعد قريب أو في موعد بعيد، فذلك لا يهم، وإنما المهم هو الهدف والسعي إلى بلوغه، وما هدفه ذاك إلا أن يظفر بالدراسة الجامعية للفلسفة، ودراسة تنتهي به إلى «شهادة» يغير بها مجرى حياته، ولتكن تلك الدراسة العلمية في إنجلترا، أوَّلًا لأنه كان يؤمِن بصلابة الثقافة الإنجليزية إذا قيست إلى ميوعة الثقافة في سواها، وثانيًا لأنه كان بحكم دراسته في مدارس إنجليزية في المراحل الابتدائية والثانوية، وحتى المرحلة العليا لم تخلُ من اهتمامٍ واضح باللغة الإنجليزية وأدبها؛ أقول: إنه كان بحكم هذه النشأة ملمًّا بتلك اللغة إلى درجة الإتقان، ولم يكن له إذ ذاك من سبيلٍ إلى جامعة إنجليزية، لا مبعوثًا من الدولة بسبب الضائقة الاقتصادية التي ألمَّت بالعالم في أول الثلاثينيات، ولا على حسابه الخاص لخواء جيوبه وجيوب ذويه من المال الذي يكفي لذلك، وحتى لا يضيع الوقت في أوهام، أخذ يُعِدُّ نفسه لامتحاناتٍ تُجريها جامعة لندن في الخارج لمن يريد الانتساب إليها، فقسم إبراهيم حياته قسمين: أمَّا نهاره فللعمل من أجل العيش؛ وأمَّا ليله فللتحصيل كما هو الشأن مع أي «تلميذ» صغير أو كبير.

•••

جئت إلى القاهرة منقولًا من مدارس الريف، ويبدو أن ضباب الأزمة الاقتصادية العامة كان قد أخذ ينقشع بعض الشيء، فبدأ التعيين في وظائف الحكومة بعد أن كان بابها مُغلَقًا على الجميع، وكنت أنا وشقيقي الذي وصفته في الصفحات السابقة بأنه توءم روحي، ومعنا نفر قليل من أصدقاء الدراسة؛ أقول: إننا كُنَّا أوائل الدفعة عند التخرج، ولم يكن تفوُّقنا ذاك بذي معنًى لأن الضائقة قد شملت الأوائل والأواخر جميعًا، فلما انفرجت الأزمة بادرت مدارس الأوقاف الملكية التي كانت تتبع الملك، والتي كانت تجمع خيرة المدرسين حيثما كانوا لتضمن أن تكون لها الصدارة بين المدارس، بادرت باستدعاء من كانت الأزمة الاقتصادية شتَّتتهم في أرجاء البلاد، وكُنَّا نحن أول من وقع عليه الاختيار، وما إن عُدنا إلى القاهرة بعد غيبةٍ قصيرة حتى تلقَّانا مدير التعليم المشرف على مدارس الخاصة الملكية، بنوعٍ عجيبٍ من التهديد المخيف؛ فنحن الآن — كما قال — في أشرف ساحة من ساحات التعليم؛ لأنها ساحة في كنف صاحب الجلالة، وإن ذلك حده ليُلقي على عواتقنا تبعة أن نصون لتلك المدارس الممتازة امتيازها، ثم نحن الآن — كما قال أيضًا — كمن أُلقِيَ به في اليمِّ وفي يده طوق النجاة، فإما عرف كيف يطفو بذلك الطوق فتكون له حياة، وإمَّا خاب فغرق واندثر، على أن مقامنا في تلك المدارس التي بعثت في نفوسنا كثيرًا من الرعب، لم يطُل؛ لأن تلك المدارس المخيفة المحطِّمة لنفوس العاملين فيها، سرعان ما ذابت في مدارس الدولة ولم يعد لها وجودها المتميز الذي كان.

ومع ذلك فحياتي العاملة لم تكن عندي إلا زائدة بغيضة حصرتها بين قوسين، حتى لا تعرقل سيري في الجانب الذي كانت أُوثِر العيش فيه، وهو جانب القراءة والكتابة، لكن الكتابة عندي — كما أسلفت القول — لم تكن إلا القراءة نفسها بعد أن يتحول المعنى المقروء إلى معنًى مكتوب، وذلك هو الذي جعلني في تلك الأعوام أقربَ إلى عارض الأزياء.

لم أكد أبلغ القاهرة حتى قصدت إلى رئيس تحرير مجلة الرسالة بعد أن كنت أرسلت إليها من بعيد بضع عشرة مقالة، ربما كان لها وقْعٌ حسنٌ عند القراء، وكانت إدارة المجلة في غرفة لجنة التأليف والترجمة والنشر (وكان رئيس التحرير عُضوًا فيها) فقدَّمني لمن كان موجودًا ليلتئذٍ من أعضاء اللجنة، ومنهم رئيس اللجنة الأستاذ أحمد أمين، فرحَّبوا بي ترحيبًا أكثر مما كنت أراني جديرًا به من علماء أجلَّاء ومن أدباء ذائعي الشهرة والصيت، ولم تمضِ دقائق حتى عرض عليَّ أستاذ كبير أن أشاركه في إخراج كتب يكون أساسها عرضًا لكتب إنجليزية نختارها، مما هو مؤلَّف في الموضوع الذي نحبُّ الكتابة فيه، عرضًا لا يتقيد بالترجمة كما هي مفهومة، لنفسح المجال للشرح.

فرحت بالعرض فرحةً شديدةً، ولم تمضِ بضعة أشهر حتى كنت قد أكملت الكتاب الأوَّل، وأعطيت شريكي الكبير أصول الكتاب، وبعد أيام لقيت الأستاذ في مقر لجنة التأليف والترجمة والنشر — وكنت خلال تلك الأيام قد التحقت باللجنة عُضوًا — فأعطاني مقدمة أعدها للكتاب، وطلب مني قراءتها، فلما أخذت أقرأ، وقعت في السياق على صيغة تدل على أن المقدمة موجَّهة إلى القارئ منه وحده، لا من الشريكين معًا، فقلبت الصفحات الباقية مسرعًا لأقفز إلى الإمضاء، وإذا الإمضاء — كما توقعت — له وحده؛ ولا بد أن يكون وجهي قد امتقع، فقال لي: ماذا ترى؟ كن صريحًا، ألا توافق على أن تكون المقدمة مني؟ إذا كان الأمر كذلك عدَّلت في العبارة وجعلتها مقدمة مِنَّا معًا؛ فقلت خجلًا: لا، لا، هذا هو الوضع الصواب، وقد كان.

وكانت هذه بداية وضعت مبدأً لما سوف نشترك فيه معًا من كتبٍ بعد ذلك، وهي كثيرة، ثم ماذا؟ إنني إذا قلت ما أقول الآن، فإنما أقوله لأنه كان — والله شهيد — من العوامل التي اعتملت في نفسي بضروبٍ من الصراع بيني وبين نفسي نادرة المثال، ولست أُلقِي الذنب على أحد في كل تلك المحنة النفسية التي طالت معي أعوامًا ليست بالقليلة، لست أُلقِي الذنب إلا على الترتيب المضطرب المتناقض الذي رُكِّبت عليه نفسي؛ فبينما أواصل الليل بالنهار جُهدًا وجهادًا في سبيل أن أميز نفسي بما كانت تسحق أن تتميز به، تراني أجفل من اتخاذ الخطوة المناسبة أو العبارة الملائمة في المواقف التي تستدعي تلك الخطوة أو هذه العبارة فيضيع مني ما رجوت كسبه من تقدُّم.

فلأنني جبنت دون القول الصريح عما كنت أريده حقًّا، وهو أن تظهر الكتب بين القراء على حقيقتها التي هي أنها مشارَكة، سارت الأمور معي بخطوات سريعة نحو أن أكون أمام الناس في منزلة التابع لا الشريك، ولم يسع شريكي الكبير إلا أن يعاملني هذه المعاملة ما دمت قد رضيتها لنفسي؛ أكلمه بالتليفون ذات مرة بضرورة قصوى، فيختلط عليه الاسم باسمٍ شبيه لأحد أصدقائه، فيهش في طريقة الحديث، حتى إذا ما أدرك أنه أخطأ الظن، عَبَس في رنة الحديث ليمحو ما كان قد هش به حتى لا يفلت الزمام؛ ويكتب إليَّ خطابًا ذات مرةٍ لضرورة قصوى لذلك، فيجعل الخطاب أربع كلمات، منهما كلمتان أوليان تقولان: «السلام عليك»؛ لأن «عليكم» فيها ميم زائدة على المطلوب.

التواضع صفة جميلة إذا وقف عند حد معقول؛ وإلا فسرعان ما ينقلب على صاحبه ضعةً وقلَّةَ قدْرٍ وتفاهةَ قيمةٍ، وهكذا كان أمري؛ فقد خرجت من الشركة الأدبية «صغيرًا»، حتى لقد اضطررت فيما بعدُ إلى مضاعفة جهودي أضعافًا مضاعفة لكي أنفق بعضها في محو التصغير الذي لحقني، وأكسب ببعضها الآخر خطوة إلى الأمام، فكلما سار غيري خطوة واحدة تكون كلها كسبًا له في ميدان الفكر والأدب. كان لزامًا عليَّ أن أخطو عشر خطوات، تذهب تسعٌ منها في محو ما قد رسخ في الأذهان من أنني تابعٌ تصدر إليَّ الأوامر فأطيع، فلو كنت منذ البداية وضعت الأمور في نصابها، فإما تعادلٌ وإمَّا انفضاض، لحدث أحد الأمرين بغير إجحاف، فمن الإنصاف أن يكون الكبير كبيرًا لأنه كبير، وأن يكون الصغير صغيرًا لأنه صغير؛ وأمَّا أن يزداد الصغير صغرًا ليزداد الكبير كبرًا، فذلك ما أسميه إجحافًا.

•••

والحقُّ أني سُرعان ما وجدت أن هذا التباعد بين الكبير والصغير هو دستور التعامل بين أعضاء لجنة التأليف والترجمة والنشر؛ فقد كان من هؤلاء الأعضاء فئةٌ من قادة الفكر وأعلام الأدب، كما كان منهم مثلي من البادئين عند أول الطريق، ولقد كنت توهمت عند انضمامي لتلك اللجنة أن الطريق قد أصبح مفتوحًا أمامي لأندمج في هؤلاء القادة والأعلام، لكنني لم ألبث أن وجدت الزمالة عسيرة الأسباب؛ إنَّ آلهة الأولمب لا يهبطون من قمَّتهم الشامخة بما ظننت من سهولةٍ ويُسْر، نعم إن أعضاء اللجنة هم من الوجهة النظرية أعضاء أُسْرة واحدة، لكنهم كجزر الأرخبيل، تقوم كل جزيرة وحدها ويحيط بها الماء من كل أقطارها، فلم أبادل الأرباب حديثًا ولم يبادلوا، وجلست معهم لا كما يجلس الزميل؛ إذ تبيَّنت أن الأرباب أشد من سواد الناس حرصًا على أن يظل الأمر بينهم درجات، فلا يصغر الكبير من أجل الصغير، ولا يكبر الصغير ليستوي مع الكبير، وأوشك كلٌّ أن يضرب حول نفسه نطاقًا من حُرَّاس وحُجَّاب حتى لا يظن ظانٌّ أن الملتقى سهلٌ يسير.

وأقف هنا مع القارئ وقفة قصيرة، أنقل له فيها نموذجًا مما كتبته عندئذٍ لأعبِّر عما اضطرب بين جوانحي من مشاعر، وهي مشاعر إن تكن في هذه الحالة خاصةً بفردٍ واحد، إلا أنها في حقيقتها تعكس ضربًا من التفاوت بين الأفراد في حياتنا، أكاد ألا أجد له مثيلًا في شعبٍ آخر، حتى بين الشعوب التي يصفونها آنًا بالتخلف وآنًا بالتنامي، وهو تفاوتٌ يصبح مُحالًا معه أن يعرف الناس معنًى للمساواة، مهما ترددت هذه الكلمة على ألسنة المتكلمين وأقلام الكاتبين؛ فقد كتبت تحت عنوان «ذات الملِّيمَين» (وهي قطعة من النقود كانت في تلك الأيام متداوَلة بين الناس) كتبت ما يلي:

لست أدري متى وكيف تسلَّلت هذه القطعة ذات الملِّيمَين إلى نقودي، ولكن الذي أدريه في يقين هو أنها بقيت هنالك شهرًا كاملًا تنتقل معي حيث أنتقل، وتسير حيث أسير، تحاول جاهدةً أن تجد سبيلها إلى الإنفاق، وأنا أُغالب طبيعة البشر فأعاونها على ذلك فلا أجد لها السبيل، ولعلك تدري شيئًا من هذا الصراع الدائم، القائم بين المال وصاحبه، هذا يشد المال إلى جيوبه شدًّا لا يريد له أن يشهد النور، والمال يبتغي لنفسه أن يتنفس الهواء الحر الطليق، فيجري دافقًا سيَّالًا بين أصابع المتعاملين، تارة تحسه أيدٍ ناعمة، لكنها تستخفُّ به وتزدريه، وطورًا تظفر به أيدٍ خشنة، لكنها تتقبَّله قبولًا حسنًا وتُكرِم له المأوى، وإن ذلك لمن عجب الحياة الذي لا ينقضي، فإن طاب لك المأوى ألفيت به الشوك والحسك معًا، يستذل النفوس، ويؤجج الصدور، وإن التمست لنفسك العزة ألفيت مأواك خشنًا غليظًا؛ ومهما يكن من أمر، فقد ألحفت هذه القطعة تنشُد لنفسها الفكاك، وغالبت نفسي وعاونتها على الإنفاق، ولكن كان لها القدَر بالمرصاد.

فها أنا ذا عند دار السينما أضرب بمنكبي مع الضاربين، لعلِّي أجد السبيل إلى شباك التذاكر، وقد ضربتْ حوله زحمة الناس نطاقًا يخنق الأنفاس، وأين من هؤلاء القوم من يواتيه حظه السعيد فيبلغ عتبة الشباك؟ إن عيون المتزاحمين لتكاد تفتك به من حسدها له على توفيقه فتكًا؛ وحان الحين وكنت أنا المرموق بهاتيك العيون الفواتك، ووقفت أمام الشباك أملأ عارضته بمرفقي، ولكنني أسرعت الحركة والكلام لتطمئن نفس المنتظرين الناظرين فلا يحقدوا، وضربت يدي في جيبي وأخرجتها، فقذفت بما أخرجت لبائعة التذاكر، فإذا بها ذات الملِّيمَين تتحرك على رُخامة الشباك في رعونة الأَيْفاع.

وجلست في مقهًى مع طائفة من الأصدقاء ممن لا تزال بيني وبينهم حواجز الكلفة قائمة، يحاول كلٌّ مِنَّا أن يستر من نفسه الفقر والجهل والضعة، ليُظهر الثراء والعلم ورفعة المكانة بين الناس، وجاء الخادم ليتقاضانا ثمن ما شربنا، فتسابقت الأيدي مُخلِصةً إلى الجيوب — يا ليتها تدرك أصحاب المسغبة بعُشْر معشار هذا الوفاء لأصحاب اليسار! — فهذا موقفٌ من المواقف النادرة التي ينعم فيها من يُثبِت للآخرين غناه، وأخرجت كلُّ يد ما فيها على المنضدة في سرعة متلهِّفة، فقذف واحدٌ بريالٍ قوي العضلات صدَّاح الرنين، ونشر آخر جنيهًا من الورق بين أصبعيه؟ وقذفت على المنضدة بما حملت يدي مع القاذفين، فإذا بنصف ريالٍ يأخذ مكانة لا بأس بها بين القذائف، ولكن دارت إلى جانبه ذات الملِّيمَين، فحطَّت من قدره وقيمته، وشاء الحظ العاثر أن تتعثر هذه القطعة المنكودة في دورانها حتى هوت إلى الأرض في رنينٍ ضئيل، فانحنى أحد الأصدقاء إليها وردَّها إليَّ، فأخذتها والجبين يتندى من الخجل؛ فليس يشرف المرء في مثل هذه المواقف أن يضم جيبه شيئًا من ذوات الملاليم.

وكنت أُجالس فئةً من رفاقي، وأرادت المصادفة أن يدور بيننا حديثٌ أخذ يشتد فيه الجدل ويشتد حتى اضطرم واشتعل، فجاء زميل يجمع مِنَّا قدرًا من المال نُحسِن به على خادمٍ طاحت يد المنون بزوجه، وعجزت دراهمه أن تقلقل الجثة من سريرها إلى القبر، فجاءنا يطلب الإحسان — والموت يقسو على الفقير كما تقسو عليه الحياة، فلا هو إن عاش حيٌّ بين الأحياء، ولا هو إن مات واجدٌ سبيلًا ميسورةً إلى مراقد الموتى — ودار الزميل الكريم يلقف من الأصابع ما امتدت به، ومددت أصابعي ذاهلًا مشتغلًا بما أنا فيه من الجدل، وقد كدت أنتصر، وإذا بالزميل يبتسم لي قائلًا: لا بأس، فلا يكلف الله نفسًا إلَّا وسعها. وضحك الحاضرون جميعًا، ونظرت فإذا بذات الملِّيمَين بين أصبعيه، فجذبتها في حركة عصبية سريعة، وفمي يتمتم ألفاظ الأسف، وأخرجت ضعف ما أَحْسَن به الآخرون لأعوض هذه السقطة؛ فمن أمثال هذه السقطات ترتسم شخصية الرجل في أذهان الناس.

حقًّا إن العِرْق دسَّاس، ومَن تجري في عروقه دماء النذالة والضعة هيهات يخفي عن الناس طويته، فالنفس لا بُدَّ يومًا مفضوحة بسلوكها، ولو حاولت أن تُسْدِل على مكنونها ألف ستار وستار؛ فهذه القطعة ذات الملِّيمَين — فيما يظهر — قد استغلَّت شبهها بذات القرشين استغلالًا دنيئًا خسيسًا، وأُشهِد الله أني من إجرامها بريء؛ فقد عَنَّ لي يومًا أن أسلك نفسي في زمرة الوجهاء — ولست منهم في عيرٍ ولا نفيرٍ — فركبت الترام في الدرجة الأولى، وجاء الكمساري يجبي من الراكبين الأجور، وكنت منه في أقصى المقصورة، فمددت له يدي بذات قرشين، وأراد أحد الراكبين أن يُعِينني على ما قصُرت عنه ذراعي، فأخذ مني قطعة النقد ليعطيها للعامل، ورأيته ينظر إلى القطعة في يده ثم إليَّ، ولكن أدبه قد شاء له ألا يتدخل في أمرٍ لا يعنيه، وناولها إلى بائع التذاكر، فنظر إليها الرجل وقال: ما هذا؟ فقلت: خذ قرشًا وهاتِ قرشًا، فقال: عشنا ورأينا ذات الملِّيمَين تلد من جوفها القروش! فأدخلت يدي إلى جيوبي في رعشة الخجل، وأصلحت الخطأ، وقدَّمت إلى الرجل المعذرة بالابتسام وبالكلام، وأردت أن أُثْبِت للجالسين براءتي — ووجاهتي — فأحسنت بذات الملِّيمَين إلى فقيرٍ قفز إلى سلَّم العربة يطلب الإحسان، وانتهى بذلك تاريخٌ مؤلم طويل، لكن الله، الذي يُضمِر الخير في الشر، قد أراد لهذه القطعة الخبيثة ألَّا يذهب عني بلاؤها بغير درسٍ مفيد، بصَّرني بناحية من طبائع الناس، مؤسفة مضحكة معًا.

فقد جلست بين جماعةٍ ذات مساء، وكان في الحاضرين أديبٌ شابٌّ لم يتجاوز العشرين، هو الذي حشر نفسه في زمرة الأدباء حشرًا، بغير دعوةٍ منهم ولا قبول، ولست أعلم من ماضيه الأدبي إلا مقالة نشرتها مجلة أسبوعية، ولو اكتفى بهذا الحد من الأحلام لكان جميلًا؛ لأن الأحلام الحلوة التي تنفع صاحبها ولا تؤذي الآخرين ليس بها بأس ولا ضرر، ولكن الغرور أخذ من هذا السخيف مأخذًا شديدًا، فإذا به لا يكتفي أن يكون أديبًا من الأدباء، ولكنه — لو أنصف الزمان وعرف للناس أقدارهم — (هذا وسوس له الغرور) لكان في الطليعة منهم، غير أن شيوخ الأدب (هكذا توهَّم) يقفون له بالمرصاد، فلا يُخَلُّون بينه وبين النشر؛ لأنهم ينفسون عليه ما وهبه الله من عبقرية ونبوغ! … فقلت لنفسي: أليس هذا بين الناس قطعة من ذوات الملِّيمَين، تستغل شبهها بذات القرشين، فتدسُّ نفسها بين الريالات وأنصافها دسًّا دنيئًا قد يخدع الغافلين؟

وحدَّثني صديقٌ، أراد لنفسه الصدارة فالتحق بجمعيةٍ أعضاؤها طائفة ممتازة من عِلْيَة القوم، فخالطهم، ولكنهم لم يخالطوه، وهشَّ لهم وابتسم، ولكنهم تولَّوا عنه وعبسوا، فجاءني شاكيًا باكيًا من لؤم الطباع الذي يؤلم ويُشقِي، فقلت له، وقد تلقَّيت العِبرة من ذات الملِّيمَين: اعلم أن في النقود ريالات ومليمات، فإن وجدتْ واحدةٌ من ذوات الملِّيمَين نفسها بين الريالات، فظنت نفسها «عُضوًا» في هذه «الجماعة»، فأصابها ما أساء إليها وأشقاها؛ فليس الذنب ذنب الريالات المتكبرة، لكنه ذنب ذات الملِّيمَين؛ لأنها أرادت أن تُكلِّف الأشياء ضد طباعها؛ إذ أرادت — خطأً — أن تكون ريالًا.

وإني لطلب المغفرة من القارئ أن أعدت أمامه المقالة كاملة، وهي المقالة التي كتبتها في أواخر الثلاثينيات لأعبِّر بها عمَّا يحسُّه صغيرٌ وجد نفسه فجأةً بين الكبار، ولقد أردت بإعادة المقالة كلها لأجعلها أمام القارئ نموذجًا للمقالة «الأدبية» كما كتبتها، وما أزال ألجأ إلى كتابتها أحيانًا إلى يومنا هذا، كلما وجدت الموقف يتطلب صورة أدبية معبِّرة، ولا يكفيه العرض التحليلي العلمي المجرَّد.

أخذت هذا التفاوت مأخذ الأمر الواقع، ومضيت فيما بدأت المضيَّ فيه، وهو الشركة الأدبية بيني وبين الأستاذ الكبير.

وهكذا كان شأني عندئذٍ؛ أعرض الأفكار نيابةً عن أصحابها، وأتلقَّى ما أتلقَّاه من إحسانٍ أو إساءة، فماذا كان الشأن عند جناحي الأيسر؛ وأعني «الأحدب»؟ فلم يعد خافيًا أمامنا أنني أنا والأحدب وزميلنا إبراهيم أضلاع لمثلث واحد، أدركنا ذلك أو لم ندركه بالوضوح الكافي.

حزَّ في نفس الأحدب أن يكافح ما يكافح، حتى لقد كان يعمل من ساعات اليوم الواحد ما لا يقلُّ عن خمس عشرة ساعة، ثم يلقى هذا التصغير بلا مبررٍ معقول، لو كان صغيرًا في حقيقته، فلماذا رضي الكبار أن يُزاملوه ويشاركوه؟ فلم يجد أمامه إلا أن ينكمش وينطوي وأن يمسك القلم ليبثَّه آلام نفسه التي انكمش عليها وانطوى، فكتب مقالات رامزة، يفهمها مَن يعرف طبيعته؛ وأمَّا من لا يعرف تلك الطبيعة فيجد فيها ما يجده القارئ لقطعةٍ رُوعِيَ فيها شروط الإنتاج الأدبي في فن المقالة.

وكان من تلك المقالات التي لفتت الأنظار مقالةً عنوانها «البرتقالة الرخيصة»، بدأها بأن راح يتغزل في صفات البرتقالة الجميلة ليأخذه العَجب كيف تُباع — برغم ذلك — في الأسواق بأرخص الأثمان، ولا تلقى من الفاكهاني أقلَّ العناية، بينما التفاح معطوبٌ وقد يسري في جوفه الدود، ومع ذلك فهو يُلفُّ في الأوراق ويُرص في الصناديق، ويُباع بالثمن المرتفع، «إن البرتقالة لتُشبِع الحواس جميعًا؛ فهي بهجة للعين بلونها، وهي متعة للأنف بأريجها، ولذة للذوق بطعمها، ثم هي بعد ذلك راحة للأيدي حين تديرها وتدحرجها، ولقد لسبت البرتقالة معطفًا من جلدٍ جميل، فإذا ما انتهت إلى آكلها، نَضَت عن نفسها ذلك العطاف الذي لامسته الأيدي، لتبدو لصاحبها بكرًا لم تفسدها جراثيم السوء والمرض، وهي فوق ذلك كله لم تنسَ أن تحنو بفضلها على الفلاح المسكين، لأنها قررت منذ زمن بعيد أن تمنحه جلدها ليملِّحه فيأكله طعامًا شهيًّا، وليس بالقليل أن يظفر زارع البرتقال بقشوره ما دام السادة قد نعموا باللباب …» هكذا كتب صاحبي الأحدب وقتئذٍ، ليتألم وليسخر نيابةً عن صِنْوه الذي هو أنا.

لا، لم أكن شبيهًا بصِنْوي الأحدب، ولا كان الأحدب شبيهًا بي، برغم هذه العلاقة الغريبة الوثيقة التي كشفت لنا عن نفسها فأظهرتنا وكأننا إخوة من رحم واحد، وحتى في المجال الواحد — مجال الفكر والأدب — لم نكن شبيهين؛ فأنا أتوارى خلف غيري من المؤلفين؛ وأمَّا هو فيثور داخل نفسه على مثل هذا الطغيان، ولقد حدث أن انضم إلى اللجنة الأدبية نفسها صديقنا الشاعر فخري أبو السعود — الذي مات منتحرًا فيما بعد — وكانت طبيعته الثائرة قريبة جِدًّا من طبيعة الأحدب، بقدر ما هي بعيدة عن طبيعتي، فلما رأى تلك العلاقة الاستبدادية العجيبة التي كانت تنظم التعامل بين كبار الأعضاء وصغارهم، كأنهم الموظفون في ديوان الحكومة، منهم الرئيس الشامخ بجبروته ومنهم المرءوس الصاغر المطيع؛ أقول: إن صديقنا الشاعر حين رأى تلك العلاقة العجيبة قائمةً بين أعضاء لجنة أدبية، حاول — وكأنه أحدب آخر — أن ينفخ في صدري روح التمرد قائلًا: إنني لم أعد أطيق أن يتركوني مربوطًا أمام المِذْوَد انتظارًا لما يجودون به عليَّ من صدقات، وكان في الحق صادق التعبير كل الصدق بهذه الجملة التي قالها؛ لأن الكبار في تلك اللجنة الأدبية كانوا يعطون الصغار فرصة الكتابة والنشر كما يعطي صاحب المال صدقةً لمتسول جلس إلى جانب الطريق وفتح كفه يستجدي.

قلت لصديقي: وماذا تريدنا أن نفعل؟

قال: ننفصل وحدنا وننشئ لجنة أدبية أخرى.

قلت: يفتح الله عليك وعليَّ، فأنا أعرف الناس بقدر نفسي، وما دمت على طريق الثقافة أحبو، فلأدَع للأوصياء أن يَهدوني سواء السبيل.

قلت ذلك عن إرادةٍ ضعيفة، لا عن اعتقادٍ بصدق ما أقول؟ فكأنما كان صِنْوي الأحدب ساعتئذٍ قد كمن بين جوانحي، وأخذ يصيح لي من داخل نفسي صيحةً غاضبة، بأنني إنما أعبد الأصنام، وبأن هؤلاء الكبار إنما صار معظمهم كبارًا بقلة الحياء لا بكثرة العمل وجودة الإنتاج.

كان واضحًا طوال هذه المرحلة — أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات — أن الفواصل لم تكن حادَّةً بيني وبين صِنْوي الأيمن إبراهيم؛ فلئن كان مجاله الخاص الذي يستوعب نشاطه هو العمل العلمي الصرف؛ ولذلك فقد كان همه الأكبر في تلك الأعوام أن يجتاز امتحانات ويظفر بشهادات، فقد كنت أنا في الوقت نفسه أقف إلى جواره على حافَّة النشاط العلمي، حتى لقد اضطررت أن أتحدث باسمه عندما سنحت له فرصة البعثة إلى إنجلترا، وأوشكت أن تضيع منه بعد أن سنحت؛ نعم اضطررت أن أتحدث باسمه، وأن أضرع بين يدي الكبار نيابةً عنه؛ لأنه كان في تحصيله العلمي مشغولًا عما يجري حوله، وهل كان يتصور بأن هؤلاء الكبار لم يكن في ضمائرهم ما يمنع من وضع اسمٍ مكان اسمٍ في غفلة من صاحب الحق؟

ومع ذلك فهذه أمورٌ لم تكن تُثير سخطي ولا سخط إبراهيم إلى الحد الذي يشلُّ فاعليتي ويجمِّد فاعليته؛ أمَّا صاحبنا الثالث رياض — أحدب الظهر — فكان كلما لحظ شيئًا كهذا تفجَّر من الغيظ، وإمَّا أن يصب غيظه هذا على الورق، وإمَّا أن ييأس من قلمه وورقه ويلوذ بمخبأٍ من داره على نحو ما فعل أخيل عندما أفرغ غضبه بأن انسحب من حومة القتال إلى ضيعته.

وكان التعبير عن الغيظ بالكتابة طريقته هذه المرة — وإن يكن هذا التعبير قد ظل مختزنًا في نفسه فترة من الزمن قبل أن يسيل مدادًا على سن القلم — فكتب بعنوان «أصنام تحطمت» — وإنك لتعرف أسلوب الأحدب حتى من العنوان — يقول: صادقتني أيام الشباب طائفة قليلة من رجال، نزلوا من نفسي عندئذٍ منزلة إكبارٍ لا ينتهي وإجلالٍ ليس بعده مزيد، ثلاثة منهم أو أربعة كانوا دومًا أمام أعيني مثلًا أتمثَّل به حين أطلب لنفسي، أو حين أسُوق للناس مثلًا، للرجل كيف يصلب عوده وتتعدد جوانبه وتتنوع نواحيه، كنت أنظر إليهم نظرة الطفل إلى أبيه، يراه عملاقًا قادرًا على كل شيء؛ فهو إن شاء أمسك بالقمر، وهو إن أراد أنزل المطر، وأراني بالقياس إليهم قطرةً من محيط أو ذرَّةً من جبل، آه لو كان لي قلم فلان وشهرته؛ أو لو كانت لي هذه الحيوية الدفاقة التي لفلان وهذا الأفق الواسع والعلم الغزير! إن شخصه ليملأ الفضاء حتى ليكاد يتعثر به السمع والبصر أنَّى مضيت، وانظر إلى فلان كيف كسب القلوب بترفُّعه عن الصغائر وازدرائه لما ينغمس فيه الناس إلى أذقانهم من توافِهَ، وأين لك مكانة فلان في هدوئه واعتداده بنفسه حتى لتتوجه إليه الأنظار أينما حل … ومضت الأعوام وازددت خبرة بالناس وطبائعهم، وراقبت عن كثبٍ وفي شيء من الدقة والتفصيل، بعد أن كنت أنظر من بعيد وعلى وجه التعميم والإجمال، فأخذ نفر من هؤلاء العمالقة يصغرون ويضؤلون حتى لأراهم اليوم أقرب إلى الأقزام، كنت أحسبهم أقوياء بنفوسهم، فرأيت كيف يضعفون أمام أيسر الدوافع وأصغر ضروب الغواية؛ إنها أصنام عبدناها وتحطمت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤