الفصل السابع

موت في أسرة الأحدب

ازدادت الصلة بيني وبين الأحدب وثوقًا وقربًا، حتى لم يعد أحدنا يستغنى عن أخيه لحظةً واحدة، وقد اطَّردت معنا الحياة على وتيرة واحدة؛ ففترة الصباح للعمل، وفترة ما بعد الظهر حتى ساعة متأخرة من الليل في أحاديث ينصرف شطر كبير منها في أن يقصَّ عليَّ وأقصَّ عليه تفصيلات زياراتنا إلى مواضع حبنا، حتى لكأني أزور معه ولكأنه يزور معي. وتبدَّل الوضع بيننا، فلم يعد هو وضع المرشد للمسترشد، بل أصبح تعاونًا بين متساويَين في حياة واحدة، فما هو إلا أن أوحى الموقف بالمشاركة في مسكن واحد؛ لأنه توقَّع أن يُزار وكذلك توقعت، وإذن فالخير في أن نسكن في منزلٍ أرْحَبَ وألْيَقَ باستقبال الزائرين.

لبثنا شهورًا — سافر خلالها إبراهيم إلى إنجلترا — وتيار الحياة ينساب مطمئنًّا هادئًا، وكُنَّا عندئذٍ كمن تحالف مع الزمن، فلا نحن نشكو ولا هو يفاجئ، وأوشك الأحدب أن يعتدل ظهره وتستقيم مشيته، وحدَّثني أن مقالاته الأدبية تغيرت نغمتها، والعجيب أنه وجد أن الكتابة أصبحت أعسر عليه؛ فما كان أيسر عليه قبل ذلك أن يكتب ثائرًا محطِّمًا ضاربًا بهراوته حيثما وقعت؛ وأمَّا الآن فكلما همَّ بنقدٍ ثائر لم يجد في نفسه مددًا؛ ولذلك فقد كان يضطر إلى البحث عن موضوعاتٍ لا شأن لنفسه بها، فيكتب عن مذهب في الفلسفة أو نظرية في السياسة أو وجهة من وجهات النقد الأدبي، متناولًا هذا وهذا وذاك من خارج لا من باطن نفسه وانطباعات خبرته، وكثيرًا ما أوحت إليه بموضوعات الكتابة رسائل كانت تجيئه من إبراهيم يُذكَر له فيها أشياء كثيرة مما تصادفه في حياته الدراسية الجديدة في إنجلترا، وفي مدى التغير الذي يتحول به عقله من نظرٍ إلى نظر.

كان حبه يختلف عن حبي؛ فحبه لسميرة هو الحبُّ بين الأنداد، بما في ذلك من بسطةٍ في الحديث وسهولةٍ في اللقاء والزيارة، حتى لأوشكا أن تزول بين نفسيهما الحواجز كما تزول بين الزوجين فيما يختص بوسائل التعبير؛ وأمَّا حبي ففيه الحذر والخوف والحرج والتردد؛ لأنه برغم راحة النفس وخفقة القلب. كانت هنالك الحوائل النفسية الكثيرة التي تعرقل خطوتي إليها، وأكثر منها الحوائل النفسية التي تعرقل خطوتها إليَّ؛ لذلك كانت صِلاتي وزياراتي أقل حدوثًا من صِلات الأحدب وزياراته؛ ومن هنا كانت أحاديثنا تمسُّه أكثر مما تمسني.

وفجأةً وقعت للأحدب وقائع اضطربت لها حياة كلينا معًا؛ فإلى ذلك الحين لم يطرأ لي أن أسأل الأحدب عن أسرته؛ لأن أمثال الأحدب من الناس يوهمونك أنهم من أنفسهم في عزلةٍ تامة عن الكون والكائنات، فلا يعنُّ لك أن تسأل: من ذا يكون أبوه، وهل له إخوة وأخوات وأبناء عم وخال؟ لا يعنُّ لك أن تسأل هذا؛ لأنه فرد قائم بذاته تبدأ حقيقته بشخصه وتنتهي بشخصه، ولا أثر فيه لما بينه وبين غيره من روابط وصِلات.

وفجأة جاءني ذات ليلٍ في ساعة متأخرة يُنَهْنِهُ بالبكاء، ويمسح عينيه بمنديله ويكف لحظة وعيناه محمرتان، ثم يعود فينهنه بالبكاء، وأنا منه في حيرة، لا أدري ماذا دهاه، وأسأله فلا يجيب، فشفتاه — حتى وهو منقطع عن بكائه لحظة — راجفتان، يحاول بمجهود ظاهر أن يوقف فيهما الرجفة فينهمر في البكاء، وهكذا حتى مضت نصف الساعة، وأخيرًا قال وهو يبكي: عمي مات … وهذا ثاني عم لي يموت، مات أولهما غرقًا عند أسوان حين كنت ما أزال طفلًا، أبكي لبكاء الآخرين لا عن حرقةٍ في نفسي، وهذا هو الثَّاني أبكيه من سُويداء القلب.

قلت: هل كان مريضًا؟

قال: كان مريضًا بالسُّكر، وتعفَّنت له أصبع في قدمه اليمنى، وأخذ الداء يَسْري، فلم يكن بُدُّ من بتر ساقه إلى نصف الفخذ، كنت كل يوم أخطف نفسي من العمل خطفًا لأزوره وأرعاه، وكانت آخر كلمة قالها لي من قلبٍ يحبني كما أحبه، قالها وهو ينظر إليَّ ساعة حملوه إلى غرفة العمليات، وعيناه شاخصتان إليَّ وحدي برغم وجود أخيه وأبنائه بجواره؛ إذ قال: أدعو لك يا رياض براحة السر وسعادة العيش، ربنا يسعدك يا رياض يا ابني … وعاد رياض إلى البكاء.

ولبث أسابيع لا يبادلني حديثه المعتاد، ولا أجرؤ أن أبادله؛ فهو يغيب عني، ثم يحضر ليأكل وينام.

وأول ما حدَّثني عنه عندما عادت إليه القدرة على مبادلة الحديث هو ملاحظة أبداها عما شهده من جدَّته ليلة أن نُقلت جثة ابنها إلى القرية ليُدفَن هناك، قال الأحدب: سُئل سوفوكليز، وكانت السنُّ قد تقدمت به: «ماذا ترى الآن في الحب يا سوفوكليز؟ ألا تزال قادرًا عليه؟» فأجاب: «صه! نشدتك الله ألا توقظه في قلبي من جديد؛ فكم يسعدني أن أراني قد فررت من حبائله، فأحسُّ كأنما فررت من مستبدٍّ متوحش مجنون!» … ولست أريد في الحقيقة أن أتكلم الآن عن الحب، بل أريد على ضوء هذا الذي قاله سوفوكليز أن ألاحظ لك عما يصيب العواطف كلها من برودة الانفعال مع مرِّ السنين … لقد مات لي عمَّان، جاء موت الثاني بعد موت الأول بفترة طويلة، وشهدت موقف جدَّتي في الحالتين — وإن أكن قد شهدت الحالة الأولى وأنا صغير — فكأنما شهدت امرأتين مختلفتين أشد ما يكون الاختلاف بين الناس، شهدت في المرة الأولى أُمًّا جزعت على موت ابنها جزعًا لم أشهد له مثيلًا في كل ما رأيت من الأمهات اللائي ثكلن أبناءهن، شهدت عندئذٍ أُمًّا لا يكاد ينقطع لها بكاء، تهيم على وجهها أحيانًا في شوارع القرية صارخةً نادبةً، وتصوم عن الطعام أيَّامًا، فإن أكلت تعمدت ألا يكون طعامها من أطيب الطعام، وكثيرًا ما كانت تذهب إلى قبر ابنها حيث تقضي اليوم كله والليل كله، وتأبى أن تفترش غير الحصير الغليظ الخشن، على أن تكون السماء غطاءها مهما كان البرد قارسًا، وألدُّ أعدائها هم أولئك الذين يتقدمون إليها بالنصح أو بالتعزية والمواساة؛ لأنهم إن فعلوا كان معنى ذلك عندها قصورهم عن إدراك المُصاب بكل هوله وفداحته … ثم شهدت جدَّتي هذه لما مات ابنها الثاني، وكانت تقدمت بها السن إلى ما يقرب من السبعين، وذلك حين نقلنا جثمان عمي هذا الذي مات منذ قريب، إلى القرية حيث تُقيم جدتي، وحملنا النعش من السيارة إلى بهو الدار، فرأيت جدتي واقفةً في سوادها — وكان الليل قد انتصف والسكون ضاربًا ليشمل القرية كلها في صمته العميق — وكانت الأضواء خافتة في الدار، حتى كاد الأشخاص أمام عيني يتحولون أشباحًا؛ وقفت جدتي لحظةً شاخصةً ببصرها إلى النعش بعد أن وضعه حاملوه على أريكةٍ خشبيةٍ في بهو الدار، وقفت لحظة صامتة لا تتحرك ولا تنطق، فلم يسعنا إلا الوقوف معها في صمتٍ خاشعين، ثم صرخت صرختين تنطق فيهما بلفظ «يا ولدي»؛ فكان ذلك كل ما أبدته جدتي من علامات الجزع، وبعدها جلست هادئة في المأتم، لا تصرخ ولا تبكي ولا تندب ولا تلطم صدرًا ولا تمزِّق ثوبًا؛ لقد تخلَّصت مع الأيام من حدَّة الانفعال، فكانت بمثابة من تخلَّص من «مستبدٍّ متوحش مجنون» على حدِّ ما قال سوفوكليز عن حُبِّه الذي بردت مع الشيخوخة جذوته.

قلت للأحدب: وهل بَردَ حُبك اليوم بالنسبة لما كان عليه بالأمس؟

قال: لقد تغير نوعه. كان هيجانًا على السطح، فأصبح تغلغلًا في الأعماق. كان كالشلال يقفز ماؤه فوق الصخور قفزًا أرعن لا يبالي أيَّ الأحجار يُفتِّت وأيَّها يُزحزِح، فأصبح كماء المحيط العميق عندما يتبدَّى للعين ساكنَ الموج وفي جوفه تياراتٌ جوارف.

قلت: أصبت. ولعل هذه هي مميزات ما يسمونه بغرام الشيوخ؛ فهدوءٌ في حركة الجوارح الظاهرة، فلا اندفاع ولا جرأة ولا مغامرة، ولكن تآكلٌ في الجوف وانهيارٌ في الروح.

وصمت الأحدب قليلًا كأنه يفكر فيما يقوله، ثم قال والقَتَب على ظهره يشتد في عيني بروزًا، والعبوس على شفتيه والجهامة فوق جبهته: الحياة ثلاث لحظات: لحظة الميلاد، ولحظة الزواج، ويعنون به النسل الذي يحفظ البقاء، ثم لحظة الموت؛ أما الأولى فكما قلتُ لك ذات مرة … لا، لا أظنني قلتها من قبل …

فقاطعته قائلًا: كتبتها في مذكراتك.

فقال: أي مذكرات تعني.

قلت: أعني مذكراتك التي كتبتها عن نشأتك وأنت مدرِّس شابٌّ.

قال: ومن ذا أدراك بها؟ وأين رأيتها؟ لقد مزَّقتها منذ زمن طويل.

قلت: عثرت على حطامها، وجمعت منه ما أمكن جمعه، فعشت معك أكثر مما تظن، وفي هذه المذكرات تقول إن لحظة ميلادك أدخل في حياة الآخرين منها في حياتك؛ لأنك لا تعيها، والعبرة عندك بالخبرة الواعية.

قال: هذا ما أردت أن أقوله، وأما اللحظة الثالثة؛ وأعني لحظة الموت فلن يكون لي علم بها؛ لأنها تجيء بذهابي، فلا التقاء بيني وبينها، وبقيت اللحظة الوسطى، لحظة الزواج والنسل، فهي لحظة لم أعشها حتى الآن، وإذن فماذا بقي لي من حياتي، وبأي معنًى أقول: إنني أحيا؟ أبالأنفاس التي أرددها.

قلت: في مستطاعي أن أقول هذا الذي تقوله، ومع ذلك فأنا أشعر في أصلابي بدفعة الحياة وتيارها، «فداؤك منك» — كما يقول المعري — «وما تشعر»، بشعورنا نحيا وبشعورنا نموت.

فردَّد الأحدب قولي: «بشعورنا نحيا وبشعورنا نموت»، ثم استطرد يقول: هذا صحيح، نخلق دنيانا بنوع شعورنا، تكون كبيرة فتصغر في شعور المزدري لها، وتكون صغيرة فتكبر في تهاويل الشُّعور؛ ثم ابتسم الأحدب ابتسامةً ساخرة.

•••

توالى الموت في أسرة الأحدب؛ فكلما مضت بضعة أشهر جاءني بنبأ جديد، وكانت النظرة السوداء قد عاودته لتقيم معه هذه المرة أمدًا طويلًا، فلم يكن موت أحبائه ليزيد من حزنه النفسي شيئًا كبيرًا، فزوجة عمه تموت بعد زوجها فيكون موتها امتدادًا لموت زوجها، ماتت يوم أحد، وأسرع الأحدب إلى الأسواق ليشتري رباط رقبة أسود قبل أن يحين حين الجنازة، لكن الدكاكين كانت حينئذٍ تغلق في أيام الآحاد، فقال لنفسه: وهل يكون الرباط الأسود أشد سوادًا من نفسي، فلأحزن من الداخل، وإلى الجحيم ما يقوله الأقربون والأبعدون، لكنه كان يغالط نفسه؛ لأنه ما زال قلقًا إلى اليوم خشية ما قد يكون هؤلاء الأقربون والأبعدون قد ظنوه في عقوقه لمن عاشت له كالأم طيلة حياتها.

ومات أبوه؛ صحبه إلى المستشفى ولم يطُف بباله قطُّ أنه خروج من الدار إلى غير عودة، وكأنما جاءت لحظة موته بمثابة النطق بحُكمين في آنٍ واحد؛ حكم ببراءة الراحل وحكم باتهام ابنه. لم تنكشف للأحدب براءة أبيه فيما كان ظنه اعتداء وقسوة، إلا لحظة أن كشف عن جثمانه الغطاء الأبيض في غرفة المستشفى ليقبِّله قبل الرحيل، فيرى وجهه الميت وكأنه وجهه الحي الذي يعرفه؛ كم ألف ألف مرة يتذكر الأحدب ما قد كان أحسَّه إزاء أبيه من سوء ظن، فيعض أصابعه عَضًّا من الندم على سوء فهمه، لطالما يقول الأبناء إن آباءهم لا يفهمونهم وينسون أن الآباء كذلك من حقهم أن يقولوا إن الأبناء لا يفهمونهم.

كانت لحظة موت أبيه بدايةً لضمير الأحدب أن يُكيل لنفسه اللائمات لائمة فوق لائمة؛ «من ذا يعيده إلى الحياة ولو شهرًا واحدًا لأؤدي له واجب الولاء أكثر مما أديت»، هكذا لبث يقول بعد موت أبيه، ويسمعه أصغر الإخوة فيطمئنه بأنه كان يؤدي أكثر مما يؤديه الأبناء لآبائهم، لكن الأحدب قد وجد لنفسه ذريعة كبرى يتهم نفسه على أساسها؛ لأنه يحب اتهام نفسه فيزداد التواءً وتعقيدًا على تعقيد.

وإنه ليذكر جنازة أبيه في هيبتها وقد تقدمتها كوكبة من الفرسان جاء بها ابن عمه الضابط الشاب المتوقد حيويةً ونشاطًا، وسار الأحدب في مقدمة المشيِّعين مُطرقًا رأسه نحو الأرض لا يرى إلا قدميه وبضع أقدامٍ أخرى على يمين ويسار، وقلَّما كان يرفع رأسه فيبصر بالنعش محمولًا على أعناق حامليه في طمأنينة وهدوء، ثم يعود فيُطرق رأسه نحو الأرض مرة أخرى، وكان في إطراقه ذاك كثيرًا ما يتنبَّه لنفسه تنبُّه المستيقظ من نعاس عميق، ليجد نفسه سارحًا في ذكريات عجيبة يستخرجها من ركام السنين، فيخجل أشد الخجل إذ يرى نفسه سابحًا في أعماق ماضيه وجثمان أبيه على بُعد خطوة واحدة منه، لكن لحظة الخجل لا تلبث أن تتملَّكه حتى تزول ليغوص في أغوار الماضي مرةً أخرى.

فمن سبحاته تلك أنه تذكَّر كيف أخذته الرغبة وهو غلامٌ في أن يجمع من الأقفال أكبر عددٍ يستطيع جمعه، وأن تكون وسيلته إلى ذلك هي السرقة لا الشراء؛ فلجأ إلى طريقة غريبة ولكنها سهلة التنفيذ، وهي أن يشتري قفلًا بادئ ذي بدء، ثم يدور على كلِّ مكان تقع عينه فيه على قفل من الصنف نفسه، فيدبِّر له خطة أن ينفرد وحده بالقفل لحظةً ويفتحه بمفتاح القفل الشبيه، ويأخذه ويمضي؛ ومن ذلك أن خزانة الأوراق التي لم يكن يعلم ما كنهها، خزانة الأوراق أمام مكتب الإدارة في مدرسته الابتدائية وهو تلميذ صغير. كانت مقفلة بقفلٍ أراده لنفسه، فبحث حتى وقع على شبيهه في السوق واشتراه، ولكن متى ينفرد بتلك الخزانة والمدرسة مليئة بالتلاميذ والخدم والموظفين؟ إن ذلك لا يكون إلا في ساعة مبكرة من الصباح قبل أن يتنبه أحد، وتسلل إلى الردهة حيث وُضِعت الخزانة التي ضُمَّ مصراعاها بالقفل المنشود، وفي خطفةٍ أسرع من البرق فتح القفل وانتزعه، وأسرع الهبوط على السلَّم المجاور، فسمع المصراعين ينفتحان ويخبطان على الحائط خبطة مفرقعة؛ فقد كانت الخزانة تميل على قفاها إلى الخلف؛ إذ رُفِعت قائمتاها الأماميتان على مربَّعين صغيرين من الخشب، دون قائمتيها الخلفيتين، مما أدى إلى انفراج مصراعيها بهذه السرعة وانقذافهما إلى الخلف وخبطتهما المدوية على الحائط، وكان للص الصغير شعور النصر شجَّعه على التماس نصر آخر في اليوم نفسه على قفلٍ لمحه بين أقفال التلاميذ شبيه بما عنده، وعاد إلى داره وفي جيبه قفلان أضافهما إلى ما عنده، فأصبحت ثلاثة أقفال من أسرة واحدة، لم يدْرِ ماذا يصنع بها، سوى أن يوزعها على جيرانه الصغار، وعليهم هم أن يجدوا لها المفاتيح.

فلما أشبع في نفسه هواية الأقفال، اشتهى منافيخ الدراجات؛ فللدراجة منفاخ يُركَّب مُحاذيًا للقائمة المعدنية التي عليها يستند المقعد، وما أيسر أن تنتزعه يد السارق من مكانه لو واتته الخلوة التي تُنجيه من أعين الناظرين، ودراجات التلاميذ تصطف صفوفًا في مكان لها معيَّن يحاذي سور المدرسة من الداخل، فإذا وجد السارق الصغير فرصةً يخلو فيها إلى بُغيته فأين يخفيها بقية اليوم الدراسي؟ وتفتَّق ذهنه عن حيلةٍ بسيطة تنجح أحيانًا وتُخفق أحيانًا، وهي أن يقصد إلى مكان الدراجات في اللحظة المناسبة، وينزع أقرب منفاخ إلى يديه، ثم يقذف به خارج سور المدرسة في الطريق — وهو طريق بعيد عن حركة المدينة، فيقل فيه المارَّة من الناس؛ حتى إذا ما خرج آخر اليوم الدراسي، بحث عن الفريسة، ويغلب أن يجدها ملقاة على الجانب الرملي من الشارع، فيدسُّها في حقيبة كتبه ويمضي … وماذا يصنع بهذه المنافيخ التي تجمَّعت لديه؟ إنه يوزعها على من شاء من الأصدقاء الصغار، ولم يكن له ولا لأحد من هؤلاء الأصدقاء الصغار دراجة حتى يحتاج لها إلى منفاخ!

كانت تلك هي السن نفسها التي يقرأ فيها مع لداته أو يسمع القصص عن «طاقية الإخفاء»، ولَكَمْ سرح بخياله بعد أن ألبس نفسه طاقية الإخفاء بوهمه، فيدخل على الناس في بيوتهم ليستمع إلى أسرارهم وهم لا يشعرون، ويستوي على موائدهم فيأكل وهم لا يعلمون … أي شهوة اشتهاها ذلك السارق المتسلل ولم يحققها بطاقية الإخفاء إذا تعذَّر تحقيقها في الواقع المحسوس؟ لقد بلغ الحُلُم واشتعلت شهوته، فماذا يكون السبيل أمامه إلا أن يلبس لهن طاقية الإخفاء ويتسلل إلى مخادعهن ولو كُنَّ في حصونٍ مُحصَّنة؛ وكبرَ وقصد ذات يوم إلى متحف الفنون، فإذا هو يقف أمام صورةٍ لفنانٍ معاصر نسي اسمه، لكنها صورة تُصوِّر مدخل بيت وجانبًا صغيرًا من الدَّرَج الخشبي المؤدي من المدخل إلى الطابق الأعلى، على غرار ما نراه في بيوت أوروبا، وعلى بضع الدرجات الخشبية التي ظهرت في الصورة امتدَّ بحذاء الحائط ثعبان ثنى جسده مع زوايا الدرجات، حتى تدرَّج معها مُمتدًّا من المدخل إلى الدرجة الرابعة أو الخامسة، والصورة رائعة رائعة رائعة بألوانها وبالضوء والظل فيها، هي من الفن الواقعي برغم كونها لفنانٍ حديث، فوقف أمامها صاحبنا طويلًا، وفجأةً وثبت على ذهنه الأقفال والمنافيخ وأحلام طاقية الإخفاء أيام أن كان غلامًا صغيرًا فشابًّا مُراهِقًا، وابتسم للذكريات، وقال: أتكون هناك طرقٌ أخرى للتسلُّل إلى بيوت الناس وأسرارهم يسلكها المتسللون؟

وصحا من غفوته الطويلة ليدير البصر فيما أمامه وما حوله في جنازة أبيه.

وماتت أمه الحبيبة التي تعلَّم منها كيف يكون الحب خالصًا لوجه الحبيب، والتي عنها أخذ صفاته الخلقية كلها، ماتت مَن كانت تُزيل عنه هموم نفسه، فإذا راكمت له الدنيا من صدماتها ما ينقض ظهره، أزاحت عن ظهره ما استطاعت من أحمال.

وجفَّت في عينه الحياة، فلا ريَّ ولا نضارة، يرى نفسه في الحلم أنه يعبر نهر النيل، ويستعد لخوض الماء، لكن وا عجباه، إنه لا ماء، والقاع جافٌّ، عليه علامات تدل على أن كانت هنا مياهٌ تجري! ويمشي على القاع الجافِّ مشيةً وئيدةً، يمشي خطوة خطوة، ينظر إلى الأرض كأنما يبحث عن شيءٍ ضاع، فلا يرى إلا الحصى وآثار جريان الماء، وفجأةً يجد شيئًا معدنيًّا يلمع، إنه مِبْرَاة غُرِزَت في التراب إلى نصفها، وبرز نصفها، إنها مِبْرَاة أبيه، فيلتقطها، ويضعها في جيبه، ثم يمشي مشية وئيدة، يمشي خطوة خطوة، ينظر إلى الأرض كأنما يبحث عن شيءٍ ضاع، حتى يصل إلى الشاطئ الآخر، فيصعد ما يشبه المرتقي الوعر، يصعد حانيًا جسده إلى أمام حتى لا يهوي من خلف، يصعد ليرى أنه في مدينة الموتى، جفاف في جفاف، وهناك يرى عربة، ولكن أي عربة! عربة كلها حجر في حجر، هي أشبه بالصندوق الكبير، انكشف غطاؤه الأعلى، والصندوق من حجر خشن، والعجلات من حجر مُصْمَت، والحصان المشدود إلى العربة من حجر غليظ، ثم ماذا؟ ثم ينظر في الصندوق الحجري فيرى جثمان أمه وقد غُطِّيَ على نحو ما تُلَف المومياء عند المصريين القدماء، وبينا هو عالق بحافَّة الصندوق ينظر، إذا بالعربة الحجرية تُسرع جاريةً بين منازل الموتى، تدور إلى اليمين في هذا المنعطف وإلى اليسار في ذلك المنعطف، فتُثير من الغبار وحبَّات الرمل ما يكتنف العربة كلها، ويملأ خياشيمه وفمه، ويدير وجهه إلى الخلف فلا يرى إلا سحابة كثيفة من الغبار وحبَّات الرمل، ويشدُّ أنفه فلا يتنفس، فيتنفس من فمه، فيشهق هواءً مليئًا بالغبار وحبَّات الرمل، كل هذا وهو عالق بذراعيه على حافة الصندوق، وجسمه مُدَلًّى يتأرجح مع سير العربة السريع، فيخبط العجلات الغليظة وهي تدور.

ويصحو من هذا الحلم الفظيع، قائلًا: اللهم اجعله خيرًا. ولكن أي خير يا تُرى يُرجى من هذا الجفاف واليباب والموت؟!

يقصُّ عليَّ الأحدب هذا الحلم، ثم يقول: لقد حاولت عندئذٍ أن أفسِّره على النظرية الفرويدية في تأويل الأحلام، فقلت إن مِبْرَاة أبي التي وجدتها إلى نصفها مغروزة في قاع النهر الذي جف ماؤه، هي رمز الذكورة التي أورثنيها، والتي ربما كانت في حياته مكبوتة وهمَّت الآن بالظهور، لكن مجرى الحياة قد جفَّ ماؤه، وبهذا الجفاف وقفت سلسلة التوالد، ثم ماذا وجدت حين عبَرت إلى الضفة الأخرى، الضفة الغربية التي كانت هي المستقر الأبدي عند أجدادي القدماء، وجدت مواتًا في موات، لم يكن هناك كائنٌ حيٌّ واحد، ولكن لماذا أرادت أمي في كفنها أن تشدَّني معها إلى عالم الموتى، وبهذه الطريقة البشعة المخيفة؟ لقد كانت عوَّدتني طول حياتها أن ترعاني من الأذى، حتى وأنا رجل مكتمل النمو، ترعاني كأنني ما زلت في عينها الطفل الضعيف الذي تهدده العوادي، أتكون قد أسرعت بعربتها وتابوتها لأنها في عالم الغيب قد لمحت بروحها الخالدة خطرًا داهمًا يحيق بي، فجاءت لتنقذني منه قبل وقوعه … لست أدري، لكني على كل حال قمت لساعتي، وبحثت عن مِبْرَاة أبي في مخلفاته، فوجدتها صدئة بعض الشيء، فنظَّفتها، أرهفت نصلها، وخبأتها في خزائني، وما زلت حتى اليوم أحملها معي كلما ارتحلت هنا أو هناك، لكن ما مسستها مرة إلا وتذكرت ذلك الحلم المخيف وأخذتني الرجفة، وما وقعت عيني عليها مرة في أدراج مكتبي إلا ونحيت عنها وجهي بحركةٍ آليةٍ سريعة، لكنني سرعان ما أضحك من ضعفي أمام الخرافة، إنها كانت أضغاث أحلام ومضت مع الريح.

لكنها أضغاث أحلام جاءت متكاثرة بعد أن فقد الأحدب رءوس أسرته، واندسَّ في ضميره أنه هو وأقرانه من الطبقة الثانية في الأسرة قد أُزيل السقف من فوق رءوسهم، وأصبحوا أمام الخلاء اللامتناهي المجهول وجهًا لوجه.

لكن أقدار الحياة والموت لا تجري بالضرورة مع حساب الأعمار؛ فقد ظَنَّ الأحدب أنه هو وأقرانه في السن من أفراد الأسرة قد جاء دورهم للقاء ربهم بعد أن ذهب عنهم معظم من كانوا يكبرونهم من الآباء والأمهات؛ لأنه لم يكن يدري أن مشيئة الله قد سبقت بأن يموت شباب الأسرة قبل كهولها.

وبدأ السَّير في هذا الاتجاه العكسي بابن عم الأحدب، الضابط الشاب الذي أوشك أن يكون بين شباب الأسرة صفوة وخلاصة. نعم، لقد كان ذلك الضابط الشاب مع الأحدب على طرفَي نقيضٍ في الاتجاه والميل، فبينما الأحدب فيه شيء من طبيعة الشاعر والفنان. كان ابنه عمه الشاب لا تربطه بدنيا الشعر والفن إلا أنها موضوع للهزء والسخرية، وكان الأحدب مكبًّا معظم وقته على الكتب والدفاتر، وأما الضابط الشاب فبينه وبين الكتب والدفاتر ما يكون بين الأعداء، وإن الأحدب ليذكر يومًا أضحكه فيه ابن عمه ضحكاتٍ من القلب — وهو حدث نادر في حياة الأحدب — حين جاءه ابن عمه خلال السنة الدراسية التي قضاها الشاب في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، قبل التحاقه بكلية الشرطة، جاءه ليقصَّ عليه ساخرًا بعض ما كان يتلقاه في محاضرات الأدب الإنجليزي، وكان المُحاضِر أستاذًا إنجليزيًّا مشهودًا له بالكفاءة الممتازة؛ لأنه هو نفسه شاعر بالإضافة إلى كونه أستاذًا للأدب، لكن الشاب لم يكن يفهم عنه كلمة واحدة، وكانت الأسماء والمصطلحات تتحول في سمعه لتصبح أمساخًا شائهة، فلما أخذ يقص على الأحدب بعض ما حصله عن «العصر الألبسا» راح الأحدب يسترجعه محاولًا أن يدرك المقصود بهذه الأسماء التي لم يسمعها من قبلُ، ويظل يلحُّ عليه في السؤال حتى يتبين له أن «الألبسا» هذه هي ما بقي في سمع الشاب من «إلزابث»، وأن كنير هو الملك لير، وأن «كبيس» هو ماكبث، وهكذا كان الأمر في عشرات الأسماء كما وردت في مذكرات الضابط الشاب عندما كان طالبًا للأدب الإنجليزي خلال بضعة أشهر.

لا، لم يكن ذلك الشاب مخلوقًا لعلمٍ أو أدب، وإنما أراد له خالقه أن يبرع براعة تُلفت الأنظار جميعًا في أدائه لواجبات الضابط الشرطي؛ ولذلك لم يكن عجيبًا أن أخذ يقفز في المناصب والدرجات قفزًا سريعًا، وهو بعدُ لم يبلغ الثلاثين.

وسافر الأحدب، ليغيب فترة من الزمن، وكان مُقدَّرًا لقطاره أن يغادر محطة القاهرة قبيل طلوع الشمس؛ ولذلك اكتفى ذوو قرباه وأصدقاؤه بتوديعه في الليلة السابقة، حتى لا يكلِّفوا أنفسهم مشقة اليقظة المبكرة يوم سفره، لكن كم كانت دهشته وفرحته عندما فوجئ بابن عمه الشاب يذهب إلى المحطة لتوديعه في تلك الساعة الباكرة، وكان هو الواحد الوحيد الذي وقف لتوديعه حتى يتحرك القطار؛ فوا عجباه للأقدار وما تُدير! مضى من الزمن ما مضى، ثم ذهبت الأنباء الحزينة إلى الأحدب حيث كان، تحمل له الخبر بأن ابن عمه الضابط الشاب قد اختاره الله إلى جواره، وصُعِق الأحدب للمفاجأة، وأخذته نوبة حادة من البكاء، ورأته سيدة مصرية في غمرة بكائه، وسألته فقصَّ عليها، فعجبت السيدة أن يكون هذا البكاء كله لوفاة ابن عم؟ لكن المسألة يا سيدتي ليست مرهونة بدرجة القربى كما هي الحال في توزيع التركات؛ لأن للقلوب وروابطها ترتيب آخر ودرجات أخرى. ثم أخذ الأحدب يسأل نفسه في حيرته: أكان ذلك إذن هو السر الإلهي في أن الضَّابط الشاب دون سواه من الأقربين والأصدقاء هو الذي ذهب إلى المحطة في تلك الساعة الباكرة لتوديعه، فهل كان يا ترى يحس بقلبه أنه وداع أخير!

وما كاد الأحدب يعود إلى مصر، حتى سأل عن قبر ابن عمه ليزوره؛ فقد كانت مقبرة الأسرة حتى ذلك التاريخ في قريتها بالريف، فلما عاجلت المنيَّة زينة شبابها التمسوا له مثوًى عند من استضاف الجثمان في مدفن أسرته، وحزَّ في نفس الأحدب ما سمعه من تفصيلات، وكأنما الذي رحل عَنَّا شريد مقطوع من شجرة كما يُقال، فما كان من صاحبنا الأحدب إلا أن يعمل على أن تكون للأسرة مقبرتها بالقاهرة، ما دام الانتقال إلى القرية قد تعذَّرت أسبابه، ونقل جثمان الفقيد الشاب من مكانه ليكون أول من يرقد من أبناء الأسرة في مدفنها الخاص.

وجاءت الضربة الثانية لتكون أفدح؛ فقد أصابت المنايا بخبطها العشوائي أصغر أشقاء الأحدب، بعد أن كان هذا الأحدب يتوهَّم أن مقادير الحياة والموت تجري مع حساب الأعمار. كان بينه وبين شقيقه الأصغر ما يقرُب من عشرين عامًا، وإنه ليذكر جيِّدًا ذلك المساء الذي كان فيه يجلس مع أبيه ترقُّبًا لنبأ الوليد الجديد، وجاءت البُشرى بأن وُلِد لنا وَلَدٌ، وفي هدوء عجيب التفت الوالد إلى ابنه الأحدب يسأله: ماذا تسميه؟ فأجاب الأحدب: نسميه أحمد. وقد كان؛ لم تكن حياة أحمد بالنسبة للأحدب ما تكون الحياة بين شقيقين وكفى، بل اختلط فيها عنصران واندمجا معًا في موقفٍ شعوريٍّ واحد، هما عنصر الأبوة وعنصر الأخوَّة ممتزجَين، ولا يستطيع الأحدب أن يقصَّ شيئًا عن حياته في الفترة التي تلازما خلالها، إلا ويجد نفسه في حياةٍ واحدةٍ مع شقيقه الأصغر، فذلك الشقيق هو موضع جدِّه وموضع مزاحه في وقت واحد، هو موضع جدِّه لأنه جعل نفسه مسئولًا عن تربيته على نحوٍ يميل به إلى حب العلم والأدب، وهو موضع مزاحه لأنه عامله كما يعامل اللاعب لعبته.

كان أحمد في مرحلة الدراسة الابتدائية عندما وضع له الأحدب خطَّة التزود بالأدب، ورأى أن يبدأ معه بأدب المنفلوطي، ولم يترك الغلام ليقرأ وحده ما يقرؤه، بل لازَمَه وتابعه لفظًا لفظًا شارحًا له المعنى مرة، موضِّحًا له مواضع الجمال الأدبي مرة، ولعل الأحدب في ذلك كله قد أحسن النية ولكنه أساء الاختيار والتصرف؛ إذ ما هو إلا أن أخذت الغلام رجفة وانفجر معها باكيًا في توتر عصبي غريب، ولم يدْرِ الأحدب ماذا يصنع ليردَّ الغلام إلى هدوئه وسكينته، فلما أن هدأ الغلام وسكن وغاب في نعاسٍ لبضع ساعات، صمم الأحدب ألا يكون له شأنٌ بأخيه بعد ذلك فيما يقرؤه وما لا يقرؤه.

لكن الغلام كان بطبعه متفوقًا ومتميزًا في كل ناحية من نواحي حياته؛ فهو في دراسته ممتاز، وهو في رياضته ممتاز — كان هو بطل التنس في مدرسته الثانوية — وهو في علاقاته الاجتماعية ممتاز، ففضلًا عن كونه مركز اهتمام الأسرة بجميع أفرادها. كان ذا نشاط ملحوظ في «الكشافة» وفي «الجوالة» وله زمرة طيبة من الأصدقاء يحبهم ويحبونه.

غير أن الطبيعة البشرية تستعصي على التنبؤ فيما يبدو، فآخِر ما كان يتوقعه الأحدب في أخيه أن يراه — وكان في نحو السابعة عشرة من عمره — قد تغيَّر من النقيض إلى النقيض في كثيرٍ من جوانب حياته، فبين عشيةٍ وضحاها انقلب الشاب المرح شابًّا غارقًا فيما يشبه الحزن العميق، الذي تسكن فيه الجوارح وتهدأ الحركة ويقل الاهتمام بأي شيء، بين عشية وضحاها تبدلت الضحكات البريئة المرحة عبوسًا وزمًّا للشفتين وهمومًا تطفئ بريق العينين. ما الذي أصاب فتانا ومصدر بِشْرِنا وموضع رجائنا؟ الله وحده أعلم؛ فالأحدب إلى هذه الساعة لا يعلم، لكن ذلك التحوُّل المفاجئ العجيب كان كذلك نقطة تحول في علاقة الأحدب بأخيه؛ فلم يعد يستطيع بعدها أن يجعل منه لعبته كما كان يفعل قبل ذلك، ولم يعد يجرؤ على التعامل معه على أساس أنه ما يزال طفلًا يجوز التحدث إليه بما يتحدث الراشدون مع الصغار، وبقي من العلاقة بينهما ذلك الحب الأخوي الصادق العميق، وذهب منها جانب الوصاية والوقاية.

وكرَّت الأعوام، وأصبح الشقيق الأصغر طبيبًا، تشيع عنه حيثما حل قصصٌ تُروى عن طيبة قلبه وشدة عطفه على مرضاه. والحقُّ أن ذلك الشقيق الأصغر قد اجتمعت في طباعه تلك الخصائص الأساسية التي تُميِّز أفراد أسرته جميعًا، لكنها اجتمعت فيه مكثَّفة في حسناتها مُبَرَّأة من سيئاتها؛ فهو متدين، متسامح، عطوف، هادئ، على شيء من الانطواء، لا يعتدي ولا يخدع، تعامله فتعامل إنسانًا من البلَّور، لا يُخفي شائبة ولا يَستُر عتامة؛ فهو — كما يقول الناس — جنيهٌ من الذهب، تعرفه فتعرف قيمته.

كان أصغر الأشقاء بهذه الحسنات وأكثر منها، وكان لأخيه الأحدب حبة قلب وقرَّة عين وموضع زهو ومنبع حب، لكن هل تغفو عنه عين القدر لينعم بحياته صحيحة سليمة؟ كلا، بل أصابه بالعلة التي أخذت تستفحل وتستعصي، حتى انتقلت به إلى رحاب الله.

وهكذا خاب ظن الأحدب في تصاريف القدر، عندما توقَّع — بعد موت الكبار — أنه هو وأقرانه في العمر حلَّ دَورهم؛ فقد كُتِب له — أو كُتِب عليه — أن يذهب من الأسرة شبابها قبل كهولها؛ هكذا بالحرف الواحد سمعت الأحدب يقول في جمعٍ من الناس بصوت مسموع، يوم رأيته في مأتم ابن عمٍّ له سقط — رغم شبابه — في مكان وقوفه ميِّتًا.

كنت أعلم أن الأحدب يواصل الكتابة في المجلات الأدبية، وتابعت قراءة ما يكتبه مرة كل أسبوع، وكنت أزداد حُزنًا كلما ازداد تعبيرًا عن طويَّة نفسه وما يحزُّ فيها من ألم. لقد كنت حسبتني وقعت على سرِّه الذي يفسر لي شذوذه وانعزاله، لكني تبيَّنت أنني لم أعرف عنه بعدُ إلا القليل الذي لا يفسِّر لي هذه السياط التي راح يُلهِب بها جلده لغير سببٍ ظاهر، نعم إن الموت قد دبَّ في أُسْرَته حتى أطاح برءوسها فذهبت عنه الدرع الواقية وتعرَّى صدره للفحات الهواء، ولكن هل هذا وحده يفسر أن يكتب فيقول:

لقد عصفت العواصف بنفسي، وتجهَّم الأفق أمام عيني، ورأيت خريف عمري يتساقط أمامي على الأرض أوراقًا صفراء يابسة، كنت أسمع لها خشخشةً كأنها حشرجة المحتضر … ونظرت فإذا بقيَّتي — بعد جهاد طويل — حطبة جافة من ساق وفروع، تعرَّت عن الورق والزهر والثمر، تعوي في ثناياها الريح عواء الأمعاء الجائعة، وليس على مرمى البصر فيها إلا اليباب؛ فخلخلت التراب حول الفرع والساق، وحملتها تجاه الغرب إلى طرفٍ ناءٍ من الصحراء، حتى إذا ما أغمضت الشمس جفنيها من غروب، أشعلت النار في بقيتي — وبقيتي حطبة يابسة — فتراءت من بُعدٍ أمام عينيَّ العشواءَيْن كأنما هي الشمس قد عادت إلى الشروق، لترسل من حرِّ أنفاسها شُعاعًا جديدًا، قبل أن تعود إلى مهدها في ظلام الغيب …

فها هنا أيضًا — كما كانت حاله عندما عرض جانب اللص من نفسه — أردف بنهاية فيها بصيص من أمل، هناك رأى صورة الثعبان المتسلل فوق الدَّرَج، فتعزَّى بأن هناك صورًا أبشع مما عهده في نفسه من تسللٍ إلى بطون الناس في الخفاء، وهنا يحرق حطام نفسه اليابسة، فيتوهم — في آخر لحظة — أن ضوء الحريق هو ضوء شمسٍ آذنت له بشروق جديد … وظللت أسأل نفسي: ماذا دهاه عندئذٍ حتى عادت إليه علَّته بعد اقترابه من العافية، ثم ماذا يصادفه في غضون بلواه فيراه بصيصًا خافتًا من أمل؟

قرأت له ذات يوم مقالًا كتبه بمناسبة يوم ميلاده يقول فيه:

لقد سألت نفسي: لو أرَّخت لحياتك ودوَّنت ما مرَّ بها من حوادث، فماذا أنت ذاكر؟ إن من الرجال من يكتبون قصص حياتهم فإذا هي حافلة بأحداثها، تقرؤها فكأنما تقرأ قصة من خَلق الخيال البارع، فأين من ذلك ما عشت من حياةٍ فارغةٍ جوفاء؟ وهنا رأيت الشبه ماثلًا بيني وبين ساعي البريد؛ أرأيت كيف يُنفق هذا الرجل حياته ساعيًا بين الناس ببريده؟ إنه لا يمس «الظروف» إلا من ظاهرها دون أن ينفذ إلى قلوبها ولبابها، إنه لا يعلم من الرسالة إلا عنوانها أو بعض عنوانها، فأين ذلك من صاحب الخطاب؟ إنه يفضُّ غلافه ويمس شغافه، ويقرأ السطور وما بين السطور، إنه يستروح من كلماته أنفاس الحبيب، أو هو ينظر إلى الألفاظ فإذا هي ألحاظ الصديق ناظرة إليه تُباسمه وتُناجيه … لكأنني من هذه الحياة إزاء مدينة حصينة سُوِّرت بمنيع الجُدُر، ولكأنني منها طوَّاف يطوف حولها ويطوف، ثم لا يجد إلى جوفها من سبيل … صه! أذلك همس؟ إنهما حبيبان يتغازلان، أتلك ضحكات طروب؟ إنها جماعة مرحة نشوانه، أذلك أنين؟ إنه بكاءُ حزينةٍ ثكلى، يا ويح نفسي! أريد أن أهمس كما يهمس الهامسون، أريد أن أضحك كما يضحك الضاحكون، بل أريد أن يكون لي في حياتي ما أبكيه وأرثيه! أين — يا صديقي — الجواز الذي يُبيح لي الدخول في هذه المدينة الصخَّابة فأشتريه؟ … رأيت الناس ذات صيفٍ حرور يصطافون، فأقسمت لأكونن كسائر عباد الله مُصطافًا، ذهبت إلى الشاطئ مع الذاهبين، فسرعان ما برزت من إهابي شخصية ساعي البريد، أقف على الشاطئ ولا أغوص، الناس يمرحون في الماء ويلعبون، والأطفال يتقلبون مع الموج ويضحكون، والنساء كعرائس الماء غائصات طائفات صائحات ضاحكات، وليس لي من كل ذلك شيء. ونظرت حولي، فإذا أنا واقف بين أكوام الملابس نَضَاها أصحابها، ويشاء القدر الساخر أن يكون أقربها إليَّ حذاء مخلوع، فأدركت عندئذٍ في يقين أني بين هذه الأحياء كالقوقعة الفارغة، يرتسم على سطحها الحيوان ولا تحتويه، ولم أستطع أن أواجه هذا الحق المخيف، فقفلت إلى الدار راجعًا …

قرأت هذا فقلت: إن في الأمر شيئًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤