الفصل الثالث عشر

كان سارتويل يفتخر بكونه رجلًا قليل الأخطاء. فكان قادرًا على تتبُّع حدث محللًا أسبابه ونتائجه بيقين عقلاني مستساغ، وربما جعلته هذه الميزة البسيطة قليل الصبر بعض الشيء مع الآخرين، ممن قد لا يملكون فطنةً مماثلة، بشهادة زوجته التي لم تكن لتتوانى عن الإقرار بذلك. ربما كانت هذه المرأة المنصفة ستشعر برضًا داخلي، وإن كان له ما يبرِّره، لو علمت كم كان زوجها مخطئًا في تقديره لمدى تأثير الأخبار التي عهد إلى مارستن بمهمة نقلها إلى المضربين عليهم. لقد تخيَّل سارتويل أن العمال، في خضم غضبهم من تعرُّضهم للخداع، سينقلبون على جيبونز ويمزِّقونه. واعتقد أن جيبونز لن يجرؤ على أن يخبر أتباعه من السذج الغافلين، كما دأب سارتويل على تسميتهم، كيف تعرَّضت النقابة للخداع، وظلت طوال أسابيع تدعم العمال المزيفين الذين ألقى بهم المدير إليها طُعمًا التقموه بكل سذاجة. واستنتج المدير أنهم سيعودون حتمًا إلى المصنع بعد أن يُنزلوا انتقامهم بجيبونز ويعزلوه. فقد نفدت أموالهم، وخبت حماستهم للإضراب، وباتت الصحف توجز آخر أخبار الإضراب في خبرٍ لا يتجاوز السطرَين، وتوقفت التبرعات فعليًّا، فماذا تبقَّى لهم إذن سوى العودة أو المجاعة، ذلك الحليف القوي للسادة في كل أنحاء العالم؟

ولكن نسي سارتويل أن الإنجليز يعرفون كيف يتحمَّلون الجوع. فما من هندي يشد الحزام على بطنه للسيطرة على آلام الجوع بعزم يفوق عزم مواطن إنجليزي يُصر على أسنانه ويتحمل الجوع، إذا اقتضت الحاجة. فقد جاع الإنجليز على الجليد بالقرب من القطب الشمالي، وتحت الشمس الحارقة في الصحراء.

لقد واجه الإنجليزي المجاعة وجهًا لوجه في القلاع المحاصرة أثناء الحروب، دون أدنى تفكيرٍ في الاستسلام، ووزَّع حصص الطعام غير الكافي على متن طوف في عرض المحيط بدقة متناهية. وجلس الشاعر في عليته يتضور جوعًا دون صياح أو صراخ يشكو به جوعه، وقال العالم: «آهٍ لو كنا نعلم.» في الغابات والسهول، في الأدغال وعلى قمم الجبال، وربما كان الأسوأ من كل ما سبق في المدن الكبرى، حيث الوفرة والرخاء، أظهر الإنجليزي أنه يعلم كيف يتحمل الجوع، مرددًا قول الشاعر:

«لم تطرف لي عين، ولم يُدوِّ صوتي بصرخة ألم.»

عندما سمع جيبونز ما كُلِّف مارستن بإخبارهم به، قال على الفور: «هذا كذب»؛ إلا أن أعضاء اللجنة تبادلوا النظرات فيما بينهم وبدا القلق على وجوههم؛ خشية أن تكون هذه هي الحقيقة بالفعل.

قال مارستن: «السؤال الأهم هو هل ستُخبرون العمال بذلك؟»

«بالطبع سأفعل، إذا تيقنت من صحته، ولكني لا أصدق كلمةً واحدة منه. ربما تريد أن تستمتع بكونك حامل الأخبار السيئة للعمال.»

«أنوي إخبارهم بالفعل إن لم تفعل أنت.»

«بالطبع. آسف لأننا لا نستطيع أن نرضي غرورك.»

صرفت اللجنة مارستن ودخلت في اجتماع سري مغلق، ولم يمر وقت طويل حتى انفض، ليجتمعوا مرةً أخرى في المساء مباشرةً قُبيل التجمع الكبير في قاعة جيش الخلاص. وفيما بين الاجتماعَين، بحث جيبونز وأعضاء اللجنة الآخرون بجدٍّ عن العمال المزيفين المزعومين، ولكنهم لم يعثروا على أي منهم؛ إذ اختفوا بلا أثر. كان واضحًا أنهم قد علموا بما يدور، ففر «مفسدو الإضراب» السابقون؛ خوفًا من انتقام أصحاب الحق الشرعيين في أموال النقابة، حتى لا يقعوا تحت طائلة أي أذًى قد يلحق بهم.

عندما اجتمعت اللجنة للمرة الثانية في ذلك اليوم، كان أعضاؤها منقسمين على أنفسهم فيما يتعلق بمدى صحة إفشاء هذا السر للعمال. فرأى البعض أن من الأفضل إبلاغ العمال بهذه الأخبار السيئة تدريجيًّا، فيما رأى البعض الآخر أن أسوأ الأشياء يجب الكشف عنه مرةً واحدة. غير أن جيبونز قال إنه لا يوجد في واقع الأمر أي خيارٍ ولا بد من إخبار العمال بالحقيقة كاملة؛ فإذا حاولت اللجنة الخروج بأنصاف حلول، فلا شك في أن مارستن سيقف في مكانه، ويروي لهم كل ما أخبره به سارتويل. ومن ثم استقر الرأي على إخبار العمال بالحقيقة كاملةً ولا شيء سواها.

عندما وقف جيبونز هذه الليلة أمام جمهوره في القاعة الكبرى، رأى أن عليه التعامل مع مجموعة من الرجال اختلف مزاجهم تمامًا عن مزاج ذلك الحشد الذي صوَّت سابقًا بسعادة، وحماسة، لصالح الإضراب. فلم يعد العمال يمزحون كثيرًا فيما بينهم كالسابق، بل كانوا يجلسون في أماكنهم في صمت وتجهُّم. بدا أن شعورًا بحدوث أمر سيئ يطغى على القاعة، وعندما تقدم جيبونز لمقدمة المنصة، شعر بأن المُناخ العام للمكان معادٍ له، وأن عليه أن يمضي في الأمر بحرص شديد، وإلا فسيخسر سيطرته على العمال. كان يدرك جيدًا أنه خطيبٌ مُفوه، ولكنه كان يدرك أيضًا أن العمال قد ضاقوا ذرعًا بعض الشيء بكثرة الكلام، دون تحقيق نتائج ملموسة من كل هذا.

بدأ جيبونز حديثه قائلًا: «الاتحاد هو الناتج الطبيعي للأوضاع الحديثة للعمالة. إن العامل اليوم يمكن تشبيهه بأنبوب واحد في أرغن ضخم. لا يمكنه أن يُصدر أكثر من نغمة واحدة فقط. فهو يُمضي حياته بأكملها يؤدي جزءًا واحدًا من شيء ما. إنه لا يبدأ بتصنيع سلعة تجارية، ويعمل عليها، ثم يُنهيها، مثلما كان الحال في الماضي، بل أصبح فحسب يتسلمها من عاملٍ آخر ترك بصمته عليها، فيضع بصمته هو الآخر عليها، ثم يمرِّرها إلى عاملٍ آخر، وهكذا تنتقل السلعة من يدٍ إلى يدٍ حتى تصل إلى العامل الذي سيضع البصمة الأخيرة. إن عامل اليوم ليس إلا مجرد ترس صغير في عجلة ضخمة للغاية؛ لذا فإن لم يتحد مع أقرانه، يصبح عاجزًا. كان العامل في الماضي أكثر استقلالًا بكثير. فكان يبدأ عمله وينهيه بنفسه. فإن كان صانع براميل، كان يصنع البرميل بأكمله، ثم يركِّب الطوق والرأس. وإذا جاز تشبيه أحدنا بأنبوب واحد من أنابيب الأرغن، فقد يُشَبَّه عامل الأمس بآلة الفلوت، حيث يمكنه أن يعزف مجموعةً كاملة من النغمات. فالعامل …»

صاح عامل نفد صبره يجلس في المقدمة: «آه، كف عن هذا! لا نريد فلسفة، بل نريد أجر الإضراب أو أجر السيد.»

ارتجت القاعة بهتاف: «اسمع، اسمع!» وبدا أن الرجل الذي قاطع جيبونز قد عبَّر عمَّا يجيش في صدور الحضور. فوقف جيبونز لحظات ينظر إليهم.

ثم صاح بصوت أشبه بالنفير: «حسنًا، سأكف عن ذلك. هذا ليس وقت فلسفة، كما قال صديقنا، بل وقت أفعال. عندما يتجرد رجل من ملابسه ليتشاجر، ماذا يتوقع؟»

ليتلقَّى إجابةً غير متوقعة وهي «الجلد بالسياط.»

ليس من الآمن أبدًا أن يعتمد خطيب على الجمهور في الإجابة عن أسئلته، إلا أن أصوات الضحكات التي تعالت في القاعة أخبرت جيبونز بأن الحشد أصبح في مزاج أفضل، وكان هذا هو أقصى ما يتمناه.

قال جيبونز: «عندما يخلع مواطن إنجليزي معطفه ليُقاتل، فهو لا يستجدي أي معروف من خصمه، ولكنه يتوقع مواجهةً نزيهة وعادلة، وإذا كان المتفرجون من الإنجليز، فسيحصل على ما أراد، سواء أعجبهم أم لا. فلا يتوقع أن يُضرَب تحت الحزام، ولا يتوقع أن يُعلق من رقبته بالحبال، ولا يتوقع أن يُضرب إذا انكفأ على الأرض. لقد خلعنا ملابسنا من أجل معركةٍ عادلةٍ مع المدير سارتويل، وقاتلنا كما يجدر بالرجال أن يقاتلوا. لم نخالف قانونًا، ولم نُثر أي شغب. حتى الشرطة، التي تتوق دائمًا لإلقاء القبض على أي مضربٍ عن العمل، لم تمسَّ أيًّا منا. كانت معركة عادلة، ونزيهةً وشريفة. كانت معركةً عادلة من جانبنا، وأفتخر بأني كنت جزءًا منها. والخطأ الذي ارتكبته عندما تصوَّرت أننا نواجه خصمًا شريفًا؛ رجلًا لن يلجأ إلى مخالفة قواعد الحلبة. لم أتوقَّع مخالفة قوانين اللعب، لم أنتبه للخداع. وبعد ما عرفته الليلة، أقول — وأنا على استعدادٍ تامٍّ لتحمُّل تبعات كلماتي — إن سارتويل لص، بل لص جبان في نظر أي رجل نزيه. فقد كان يعلم أن أموالنا هي أساس معركتنا. كان يدرك أن تجويع زوجات وعائلات عمالنا الذين لا حول لهم ولا قوة هو أقوى حلفائه. لم يجرؤ على اقتحام النقابة وسرقة أموالنا؛ خوفًا من الوقوع تحت طائلة القانون، إلا أنه سلك مسارًا أكثر خسةً وجبنًا لتنفيذ هذه السرقة. لقد استغل جشع بعض الرجال العاطلين عن العمل — يا لهم من بؤساء! لا ألومهم على شيء، فلا شك في أنهم كانوا يتضورون جوعًا — وأخبرهم بأنهم إذا ما تنكَّروا في هيئة موظفين لديه، فستضمهم النقابة إلى صفوفها، وتدفع لهم أجورًا، ما دام لم تُثَر شكوك حولهم؛ أي ما دام ظل هؤلاء الرجال صامتين، سيظل بإمكانهم الحصول على أجر الإضراب. بقدر ما كنت دومًا أحتقر سارتويل، لم يخطر ببالي أن ينحدر إلى حد اللجوء إلى حيلة مثل هذه. الرجل الذي يسطو على مصرفٍ يمتلك بعض الشجاعة، ولكن أن يغري رجل مجموعةً من الفقراء التعساء لارتكاب جريمة، بينما يقف هو على مسافةٍ آمنةٍ ليجنيَ ثمار ما فعل؛ فلا توجد كلمةٌ مهذبة في اللغة يمكنها وصفه. والآن، أيها الرجال، ها قد صرتم على علمٍ بما حدث، ونتيجة ذلك أن أصبحت خزانتنا فارغةً كما لو أن سارتويل قد حطمها بعتلة حديدية. وينتظر المدير في ترقُّب أن يجني ثمرة سرقته لنا. سيفتح غدًا أبواب المصنع أمامكم لتدخلوا منها وتُكملوا انتصاره علينا. والسؤال الذي أطرحه أمام هذا الجمع الليلة: هل ستدخلون؟»

هتف الجميع في صوت واحد ارتفع إلى سطح المبنى: «أبدًا! فلنتضور جوعًا أولًا!»

في بداية مواجهته للحشود في تلك الليلة، كان جيبونز يخشى ألَّا يتمكن من استنهاض العمال من حالة البرود البادية عليهم تجاهه، وبينما كان يلقي خطابه، أظهرت له الهمهمات المتزايدة بين العمال ثم عواصف الغضب العنيفة التي اندلعت وسطهم أنه قد امتلك زمامهم؛ وفي النهاية، وبكلمة واحدة منه، لن تتمكن الشرطة بكل قواتها في هذا الجزء من لندن أن تنقذ المصنع من الدمار وألسنة اللهب.

صاح أحد الحضور: «فلنقتحم المصنع!» وبدأ الرجال جميعهم يتحركون استجابةً لهذه الدعوة.

فصاح جيبونز بصوته الجَهْوري الذي غطَّى على صخب هتافاتهم: «لا يا رجال. لن يتجه أحد إلى المصنع. فليعد الجميع إلى بيوتهم الليلة، ولكن عودوا إلى أرض الإضراب في الصباح. يجب ألَّا نُنفِّذ للعدو ما يصبو إليه عبر أي محاولة للعنف. في الغد، سنعترض طريق مونكتون وهوب ونطالبهما بحقوقنا شخصيًّا. وليتحملوا نتائج رفضها. لن نتعامل مع سارتويل بعد اليوم.»

هلَّل الجميع لهذا القرار، وانفضَّ الاجتماع في هدوء.

في صباح اليوم التالي، احتشد العمال أمام البوابات التي كانت لا تزال مغلقة، وراحوا يطلقون صيحات تهديد غاضبةً ضد مدير المصنع. قالوا إن دعوة جيبونز إلى التهدئة كانت منطقيةً كفاية في البداية، ولكن مضى وقت التهدئة. زادت أعداد قوات الشرطة، الذين ظلوا يحاولون تفريق الحشد قدر الإمكان، ليواجهوا بذلك أصعب مهمة واجهوها منذ بداية الإضراب. فقد كان مزاج المضربين سيئًا للغاية، ولم يطيعوا أوامر رجال الشرطة ولم يتعاملوا مع دفعاتهم لهم بالهدوء الذي أظهروه سابقًا؛ إلا أن رجال الشرطة أظهروا الكثير من ضبط النفس، وكان واضحًا أنهم قد تلقَّوا تعليمات بعدم استخدام هِراواتهم إلا ملاذًا أخيرًا.

قضى سارتويل الليلة في مكتبه لعلمه أن ثمة أزمةً على وشك الحدوث، وتعالت صيحات الحشد المتزايد عندما لم يظهر في موعده المعتاد.

كان جيبونز يطوف بين رجاله محاولًا، بالقول والفعل، أن يسيطر عليهم، ويمنع وقوع صدام. كانوا يهتفون له، ولكنهم لم يلتفتوا كثيرًا لِما يقول.

بعد العاشرة بقليل، وصلت عربة وتوقفت عند أطراف التجمع، واستُقبلت بوابل من صيحات الاستهجان. أسرع جيبونز ووقف أمام العربة وخاطب راكبها.

قال: «سيد هوب …»

صاح الضابط المسئول: «تراجع!»

فصاح جيبونز: «سيد هوب، أريد أن أتحدث إليك قليلًا.»

انزوى السيد هوب الضئيل في أحد أركان العربة، عاجزًا عن الكلام، وقد شحب وجهه كورقة بيضاء.

دفع الضابط جيبونز وقال: «قلت لك تراجع!» وضربه بقوة نوعًا ما في صدره.

«دعه يُجِبْني. هل ستمنح عمالك دقيقةً من وقتك؛ العمال الذين جعلوك ثريًّا؟»

كرَّر الضابط كلمته دافعًا جيبونز إلى الخلف أكثر: «تراجع!»

ظلَّت العربة تتقدم مقتربةً من البوابة شيئًا فشيئًا. كان العمال يستشيطون غضبًا كالبحر الهائج، ولكن كتم الجميع أنفاسهم.

«اسمعني يا سيد هوب. إن عمالك يتضورون جوعًا. وكل ما يطلبونه هو …»

دفع الضابط جيبونز إلى الخلف مرةً أخرى. وعلق كعب جيبونز في أحد أحجار الرصف، وسقط على ظهره.

هاج الحشد كالموج، وأغرق رجال الشرطة للحظات، وغمر الشارع كما لو أن سدًّا تهدَّم. وبدا سائق العربة في مقعده العالي وهو يحاول السيطرة على حصانه المرتعب، كما لو كان غريقًا وسط محيط هائج جاثمًا على طوق نجاة. ثم وقع في ذلك الخطأ التكتيكي عندما بدأ يستخدم سوطه في ضرب من حوله. فقد رُفعت العربة في الحال وانقلبت لترتطم بالأرض ما أدَّى لتهشُّم زجاجها. وتجمع رجال الشرطة معًا وهم يضربون بهِراواتهم يمنةً ويسرةً في هِياج يضاهي ثورة الحشد الخارجة عن السيطرة. وظل رجال الشرطة يشقون طريقهم بصعوبة حتى كوَّنوا دائرةً حول العربة المنقلبة، وحمل اثنان منهم السيد هوب الذي كان عاجزًا عن الحركة بسبب الخوف والرعب، وأُحيط هذان الرجلان، وبينهما الرجل الضئيل، بمجموعة من رجال الشرطة الذين وقفوا كتفًا بكتف، وشقُّوا طريقهم عبر الزحام الكثيف نحو البوابات، وسرعان ما فُتح الباب الصغير الملحق بالبوابة الكبيرة وأُغلق، بعد أن دخل السيد هوب وبرفقته شرطي يسنده.

ارتفع جيبونز بهيئة شعثاء، وقد اختفت قبعته، وتمزَّق معطفه، وتلطَّخ وجهه بالدم، فوق مستوى الحشد المناضل بالوقوف على العربة المنقلبة.

وصرخ: «يا رجال، بحق الرب، لا تقاوموا رجال الشرطة! تراجعوا! تراجعوا!»

كان كمن يصرخ في مهب الرياح. فقد انقضَّ رجال الشرطة على العمال مثل الشياطين، وسرعان ما بدأ الحشد يتراجع إلى الخلف، ولكن ليس لأن جيبونز أمرهم بذلك. وخلال مدة وجيزة للغاية، كان رجال الشرطة يسيرون وحدةً واحدة عبر الشارع، لا يعترض طريقهم أي شخص. ورقد من تبقى من أولئك الذين بدوا قبل بضع دقائق قوة لا تُضاهى على الرصيف يئنون، أو يتكئون على الجدران، ونُقل المصابون بإصابات خطرة إلى المستشفى، فيما نُقل الآخرون إلى مخفر الشرطة.

على الرغم من الهزيمة التي تعرضوا لها في الصباح، تجمع العمال مرةً أخرى حول المصنع بعد ظهيرة اليوم نفسه، وازدادت أعداد الحشد المُهدِّد عمَّا سبق؛ ويرجع ذلك إلى نشر الصحف المسائية أخبارًا مقلقة في جميع أرجاء لندن عن أحداث الشغب، كما أطلقوا عليها، واجتذبت هذه الأخبار العاطلين من جميع أنحاء المدينة الكبرى. كانت أشد الشائعات المنتشرة أن العمال سيدمرون المصنع؛ وسينهبون المخابز في شارع لايت؛ وأنهم سلَّحوا أنفسهم وعلى وشك التحرك في مسيرة في ميدان ترافلجار. وتحت قيادة قائد مستميت ثابت العزم، لم يكن أحد ليتوقع ما قد يحاولون تحقيقه، إلا أن جيبونز، الذي تدثَّر بمعطف آخر، ووضع الكثير من اللاصق الطبي على وجهه، راح يدعو إلى التهدئة واحترام القانون. وقال إنهم سيخسرون تعاطف الرأي العام إذا جنحوا إلى العنف، إلا أن بعضًا من مستمعيه اعترضوا قائلين إن تعاطف الرأي العام «لم يعُد عليهم بأي خير.» فقال جيبونز: «إن ما نريده، وما نريد أن نحصل عليه هو التحدُّث إلى المالكَين. سيخرجان من المصنع حتمًا عما قريب.»

خرج المالكان بالفعل في نهاية المطاف معًا، وكان من الصعب أن تجد رجلَين أكثر خوفًا من مونكتون وهوب في جميع أنحاء البلاد ذلك اليوم. كانا محاطَين بدزينة من رجال الشرطة نمَّ سلوكهم الصارم على أنهم ممن يجب عدم العبث معهم. أُغلقت البوابات في الحال خلف هذا الموكب المهيب الذي سرعان ما سلك طريقه عبر الشارع، بينما تعالَت صيحات الاستهجان والامتعاض من الحشد أثناء مروره.

صاح أحد العمال: «لا نُكن أي ضغينة لهما. أخرجوا لنا سارتويل وسنريكم ماذا سيحدث.»

كانت كراهية مدير المصنع وليس مالكَيه هي الشعور السائد لدى الحشد. فهلَّل الرجال لهذا التعليق، وهتفوا ضد المدير المكروه ثلاث مرات.

عندما اختفى الرجلان وحرسهما عن الأنظار، تخلَّت قوة الشرطة عن يقظتها، واندفع الحشد ليملأ الفجوة التي أخلتها قوة الشرطة. وبعدما أصبح السيدان في أمان وبعيدَي المنال، بدا أن أكثر لحظات اليوم حرجًا قد انقضَت. لم يكن من الممكن أن تعرف الشرطة أن الاستياء الحقيقي لدى الحشد لم يكن موجهًا ضد الرجل الذي قُلبت عربته هذا الصباح.

قال مارستن مخاطبًا برونت: «أرجو ألَّا يغامر سارتويل بالخروج الليلة. سيتطلب الأمر ما يزيد على اثني عشر رجل شرطة لحراسته حال خروجه.»

رد برونت قائلًا: «إن لديه قدرًا من الذكاء، وسيظل حيث هو.»

لم يكن برونت أو مارستن حاضرَين خلال معركة الصباح، ولكنهما توجَّها إلى مكان الإضراب في عصر ذلك اليوم، شأنهما شأن الكثيرين ممن لا يوجد لديهم ما يشغلهم.

وبينما كان برونت يتحدث إذا بالباب الصغير الملحق ببوابة المصنع يُفتح، ليخرج منه سارتويل بمفرده تمامًا. كانت يده خاويةً من أي شيء يمكن اعتباره سلاحًا إلا من مظلته الرفيعة الأنيقة المعتادة. كانت قبعته الحريرية تلمع وملابسه أنيقة ومهندمة، كما لو كان نموذج عرضٍ لدى خياط. بدا أكبر سنًّا بقليل عما كان عليه عند بداية الإضراب، إلا أن جسده النحيل القوي البنية كان منتصبًا كالعادة، وحملت عيناه نظرة السطوة الصارمة تلك التي كان يجبن أمامها كل من عمل تحت إمرته في وقت أو آخر.

خيَّم صمت لحظي على الحشد. حتى إن صياح بائع متجول في شارع بعيد كان مسموعًا. كان الجميع يدرك أن قذف حجر أو طوبة، أو حتى رفع ذراع، سيكون بمثابة شرارة في مصنع للبارود. كانت ضربة واحدة كافيةً وحينها لن تتمكن كل قوات الشرطة في لندن من إنقاذ حياة ذلك الرجل، الذي يعبر المنطقة الخالية بين بوابات المصنع متجهًا نحو الحشد. كان كافيًا أن تمضيَ تلك الكتلة الصامتة من البشر قُدمًا لتُزهق حياة سارتويل على أحجار الرصف.

سار سارتويل، دون أن يتوقف أو يُسرع الخطى، عبر المساحة الفاصلة بثقة واضحة في أن العمال سيُفسحون له الطريق. لم يُبدِ في سلوكه أي أمارات خوف، ولم يُبدِ أيضًا أيًّا من أمارات خُيَلاء السلطة، ولكن كان في نظرة عينه الحادة واتزان وضعية رأسه ذلك الشيء المجهول الذي يميز السادة؛ ذلك الشيء الذي يُلزم الجميع بالطاعة في الحال ودون نقاش.

تفرَّق الحشد أمامه، ولم يتلفت سارتويل حوله. وبحكم العادة، رفع عامل، أو اثنان، يده لتحيته أثناء مروره، وتلقى في المقابل تلك الإيماءة المقتضبة التي لطالما كانت رده على هذه التحية. وانشق المحيط البشري أمامه كما فعل البحر الأحمر أمام قائد اليهود، وعبر مدير المصنع خلاله دون أن يُمس.

صاح برونت وقد صعد إلى مكان أعلى من بقية زملائه ملوحًا بقبضته في وجه السماء البريئة التي لم ترتكب في حقه أي أذًى: «يا إلهي! لم أرَ في حياتي في شجاعة هذا الرجل.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤