الفصل الخامس عشر

عندما وصل مارستن الشاب إلى المنزل المحاط بالأسوار في ويمبلدون، اكتشف أن سارتويل لم يعبأ كثيرًا برغبات رئيسه؛ إذ غادر منزله متجهًا إلى المصنع في موعده المعتاد في الصباح. ويبدو أن السيد هوب لم يكن حاسمًا بما يكفي، عندما أخبر مدير مصنعه بألَّا يذهب إلى مكتبه في اليوم التالي.

وقف مارستن على عتبة باب المنزل مترددًا؛ فلم تكن لديه أدنى فكرةٍ عن التصرُّف الأفضل الذي عليه اتخاذه تاليًا. وبعد أحداث أمس، كان من الصعب محاولةُ ترتيب لقاء مع مدير المصنع في مكتبه.

قالت الخادمة بعدما لاحظت حيرته: «السيدة سارتويل ليسَت في المنزل أيضًا، ولكن الآنسة سارتويل في الحديقة. ربما تود مقابلتها؟»

ربما! تسارعَت نبضات قلب الشاب لمجرد ذكر اسمها. كان يحاول إقناع نفسه بأن تلكؤه عند المنزل يرجع إلى خيبة أمله؛ لأنه لم يجد مدير المصنع في منزله، إلا أنه كان يدرك أن حواسه جميعها كانت متحفزةً لإلقاء نظرةٍ عليها أو سماع صوتها. كان يأمل في سماع صوتها، أو لمحها ولو للحظةٍ خاطفة. لم يكن يريد أي شيء في العالم في هذه اللحظة سوى أن يتحدث إليها، أن يلمس يدها، ولكنه كان يعلم أنه إذا التقاها، وعلم والدها بلقائهما، فسيتأجَّج سخط سارتويل العنيف عليه، ممَّا يعرِّض مهمته للخطر بلا أدنى شك. فلن يرى سارتويل في زيارته إلى ويمبلدون إلا حيلةً للفوز بلقاءٍ مع الفتاة. لقد وثق به برونت، وودَّعه داعيًا له بالتوفيق، وقد يعتمد مصير العمال الثائرين الذين يوشكون على إثارة الفوضى، على نجاح مهمته. وقد يتضوَّر النساء والأطفال جوعًا في مقابل دقائق معدودة، يحظى فيها بلذة الحديث مع إدنا سارتويل. لم يكن قد تعرَّض لمثل هذا الإغراء من قبل، ونحَّاه جانبًا برفضٍ واهٍ متردد.

وزفر قائلًا: «لا، كنت أريد لقاء السيد سارتويل. سأذهب للقائه في مكتبه.»

صفقت الخادمة باب المنزل بقوة. فلا شك في أنه لم يكن يحتاج لاستغراق كل ذلك الوقت حتى يقول «لا»، تاركًا إياها واقفةً عند الباب.

إلا أن قصر الكلمة لا يعبِّر عن مدى مشقَّة نطقِها. ولكن صوت إغلاق الباب المدوي الناتج عن تردُّده جعله يقرِّر التخلِّي عن تردده في خوض اللقاء الذي لا مفر منه. ربما لا يكون من المجاملة لسارتويل في شيءٍ أن نقول إن ابنته عندما سمعت الباب يُغلق بهذا العنف، ظنَّت أن والدها عاد إلى المنزل، وأن ثمَّة خطبًا ما. فلم يكن الصبر من شيم سارتويل، وعندما كانت زوجته تحاول، مدفوعةً فقط بحسٍّ قويٍّ بالواجب تجاهه، أن توضِّح له بعضًا من أخطائه الكثيرة، كان الرجل، بدلًا من أن يشعر بالامتنان لها، عادةً ما يُنهي النقاش الذي لا يُراد به إلا مصلحته، بأن يصفق الباب بعنفٍ خلفه ويذهب إلى الحديقة العامة بطقسها الرائع، حيث يمكن للمرء أن يسير أميالًا دون أن يمر بالطريق نفسِه مرتَين.

أسرعَت الفتاةُ نحو مقدمة المنزل لدى سماعها صوت إغلاق الباب المدوِّي، وانتابَها قلقٌ شديدٌ عندما رأَت مارستن عند البوابة تقريبًا. وخطر لها على الفور أن خطبًا ما ألمَّ بوالدها، وسرعان ما لحقت بالشاب، وتأكَّدت مخاوفها من ارتباكه الواضح لدى رؤيتها.

قالت وهي تلهث: «أوه، سيد مارستن، هل وقع خطب ما؟ هل حدث مزيد من الاضطرابات في المصنع؟»

قال مارستن متلعثمًا: «لا، لا أعتقد ذلك.»

«أنا واثقة من أن خطبًا قد وقع. أخبرني، أخبرني. لا تتركني فريسةً للقلق.»

«أظن أن كل شيء على ما يرام.»

«ولمَ تقول إنك «تظن»؟ ألست واثقًا من ذلك؟ هل حضرت إلى هنا قادمًا من المصنع؟»

«لا، لم أفعل. لقد حضرت لتوي من سربيتون. كنت أريد التحدث إلى السيد سارتويل، ولكن لم أجده في المنزل.»

قالت الفتاة وكأن عبئًا قد انزاح عن صدرها: «آه.» ثم سدَّدت إليه نظرةً ثاقبة مربكة إليه، أعادت لعقله صورة والدها بصورة غير مفهومة. «من سربيتون؟ هل حضرت لتوك من سربيتون؟»

قال بتلعثم: «نعم.»

«هل ذهبت للقاء السيد هوب؟»

بدا الارتباك جليًّا على وجه مارستن، ولاحظت الفتاة ذلك. فاشتعل وجهها احمرارًا من فرط غضبها.

وقالت: «إذا كانت زيارتك سرية، فلا أتوقع منك بالطبع أن تجيب عن سؤالي.»

«لم يكن مقصودًا بها أن تكون زيارةً سرية، ولكن … ولكن طلب مني السيد هوب ألَّا أذكرها.»

«ألَّا تذكرها لوالدي؟»

«لأي شخص.»

حدَّقت إدنا سارتويل إلى وجه الشاب التعس بنظرةٍ ملؤها التأنيب، والاحتقار كذلك للأسف.

ثم قالَت في استياء: «يمكنني أن أستشفَّ من تعبيرات وجهك أنك لا تريد أن يعرف والدي أنك كنت تتحدث إلى السيد هوب بشأن الإضراب.»

رد عليها مارستن بدفعة شجاعة أدهشته هو نفسه: «إن وجهي لا يخبركِ بكل ما أفكِّر فيه يا آنسة سارتويل. لقد التقيت السيد هوب لأجل الإضراب، وكانت رغبته هو، وليست رغبتي، ألَّا يعرف السيد سارتويل أنني كنت هناك. ولكني مخطئ في قول إنها لم تكن رغبتي. فأنا أيضًا لا أريد أن يعرف بها السيد سارتويل.»

صاحَت الفتاة وقد اشتعل وجهها غضبًا: «حسنًا، أنا أعتبر هذا خيانة.»

فسألها مارستن وقد شحب وجهه في الوقت الذي تخضَّب فيه وجهها بحمرة الغضب: «لمن؟»

«لوالدي.»

«ربما كانت خيانة، كما تقولين، ولكن ليس للسيد سارتويل. ربما كانت خيانةً لجيبونز؛ فهو أمين النقابة العمالية وقائد الإضراب، بينما أنا أحد أعضاء النقابة وأحد العمال المضربين. لا يمكن أن أكون خائنًا للسيد سارتويل وهناك حربٌ بيننا.»

قالت الفتاة بازدراء: «لم تكن ثمَّة حربٌ بينكما عندما كنت تظن أنه يمكنه أن يسديَ إليك معروفًا.»

حدَّق إليها الشاب في دهشةٍ عقدَت لسانه عن الكلام.

وواصلت حديثها قائلة: «نعم، لقد أخبرني بما حدث في تلك الليلة عندما ذهبت إلى المكتب آخر مرة. لقد رفض طلبك، وكنت غاضبًا منه حينئذ. ظننتك حينها محبطًا ليس أكثر، وتحدَّثت إليه نيابةً عنك، ولكنه قال لي إنني لا أعرف أيَّ شيءٍ عنك، وأنا أصدِّقه الآن. لم أتصوَّر قط أنك الشخص الذي قد يتآمر من خلف ظهر رب عمله.»

قال مارستن ببطء: «آنسة سارتويل، أنت مخطئة تمامًا في رأيكِ بي. فأنا لا أحمل في صدري أيَّ ضغينةٍ تجاه السيد سارتويل، وآمل أنه لا يحمل أيَّ ضغينة تجاهي أيضًا. لقد تحدثتِ للتو عن خيانةٍ اقترفتها؛ إنها خيانةٌ لجيبونز كما قلت لك. إنني أستهدف الإطاحة به إذا ما تمكنت من استمالة ما يكفي من العمال ليُصوِّتوا معي. وحينئذٍ سيصبح الطريق ممهدًا للسيد سارتويل ليضع حدًّا لهذه الأزمة، التي أثق تمامًا أنها تؤرِّقه ربما أكثر من أي شخصٍ آخر.»

«ولكن ما دام الأمر هكذا، لماذا لا تريده أن يعرف ذلك؟»

«ألا تعلمين السبب؟ حتى لا يرتكب الخطأ نفسه الذي ارتكبته أنتِ. لقد سمحتِ لي مشكورةً بأن أشرح لك الأمر، أما السيد سارتويل فقد لا ينتظر ليسمع أيَّ تفسيرات.»

قالت إدنا نادمةً وهي تمد يدها إليه: «لم أكن رءوفةً بك، أليس كذلك؟ سامحني من فضلك. والآن أريد أن أفهم كل شيء عن هذا الأمر؛ لذا تعالَ معي إلى الحديقة حتى لا يقاطعنا أحد. فقد يحضر أحد بينما نقف هنا عند البوابة، وحينئذٍ سأُضطر إلى الدخول إلى المنزل؛ فقد ذهبت أمي إلى سربيتون لتطمئن على السيد هوب. هل أصيب أمس؟»

«لا. سأذهب معكِ يا آنسة سارتويل، ولكن بشرطٍ واحد.»

سألته الفتاة ببعض الدهشة: «وما هو؟» فقد كانَت قد استدارَت ناحية الحديقة متوقعةً أن يتبعها.

«ألَّا تخبري السيد سارتويل بأنكِ تحدثتِ معي.»

«لا يمكنني أن أعدك بذلك. فأنا لا أُخفي شيئًا عن والدي.»

«حسنًا إذن. هذا عين الصواب بالطبع، ولكن في هذه الحالة، عندما تخبرينه بأنكِ تحدثت إليَّ، أخبريه بأني حضرت لمقابلته، وأن الخادمة قالت إنه والسيدة سارتويل ليسا موجودَين في المنزل، وأنها سألَتني عما إذا كنت أودُّ مقابلتك. أخبري والدكِ بأنني قلت «لا»، وأنني كنت في طريقي للانصراف عندما أتيتِ أنتِ وتحدثتِ إليَّ.»

نظرَت له الفتاة مباشرة، وقد تغضَّن جبينها الأملس قليلًا في حيرة. كانت الفتاة في حيرةٍ من أمرها.

فقالَت: «أنت تقول ذلك لأنك لا تفهمه. لم يكن ليُمانع على الإطلاق أن تتحدَّث معي بشأن الإضراب؛ لأنه يثق بي تمام الثقة، ولكن قد لا يعجبه الأمر إذا عرف أنك ذهبت للقاء السيد هوب.»

«بالضبط. ألَا ترين أنكِ إذا أخبرتِه بأنكِ تحدثت معي، فسيكون عليكِ أن تخبريه بما قيل؟ وسيعرف بطريق غير مباشر أنني قد ذهبت إلى سربيتون، ولا شك في أنه سيغضب، وسيغضب أكثر عندما يعرف أني لم أكن أنوي إخباره بأمر الزيارة. في واقع الأمر وبعد هذه المحادثة التي دارَت بيننا، سأذهب إليه مباشرةً وأخبره بأني تحدثت إلى السيد هوب، رغم أني على يقينٍ تامٍّ من أن هذا الفعل سيُحبط كل خططي.»

«كل هذا لمجرد أني تحدثت إليك بضع دقائق؟»

«نعم.»

أطرقت الفتاة بوجهها الذي تعلوه الحيرة نحو الأرض، وظلت تركل الحصى على الممشى بطرف حذائها الأنيق في شرود. غمرها الشاب بنظراته وزاد حنين قلبه إليها. وأخيرًا رفعت بصرها نحوه على حين غرةٍ وقد ارتسمَت على شفتَيها ابتسامة مرتبكة.

وقالت: «آسفة أنني استوقفتك. لعلك لا تعلم ما يعنيه أن ينصبَّ اهتمامك على شخصٍ واحدٍ دون بقية العالم مجتمعًا. إن أبي هو كل شيءٍ بالنسبة إليَّ، وعندما رأيتك، خشيت أن يكون قد ألمَّ به مكروه. لا يبدو من الصواب أن أخفيَ عنه أي شيء، ولا يبدو من الصواب أيضًا أن أفعلَ شيئًا من شأنه أن يعرقل الوصول إلى تسويةٍ سريعةٍ للأزمة. لا أعلم ما يجدر بي فعله.»

متى تردَّدت امرأة ووقعت في حيرة من أمرها، ولم يسارع رجلٌ لاستغلال ترددها مستخدمًا أسلحتها ضدها؟

قال مارستن في لهفة: «ألَا ترين أن عقل السيد سارتويل مزدحمٌ بأمورٍ تفوق قدرة البشر على التحمل؟ لماذا إذن نُضيف على قلقه قلقًا بإخباره بأني حضرت إلى هنا، أو ذهبت إلى سربيتون؟ إن التفسيرات التي تبدو مرضيةً من وجهة نظركِ قد لا تكون مرضيةً من وجهة نظره. وحينئذٍ سيُقلق نفسه دون أي داعٍ.»

«هل تعتقد أنه سيفعل؟»

«أعتقد! أنا واثق أنه سيفعل.»

«نعم، أعتقد أن ما تقوله صحيح. حسنًا إذن، أعدك ألَّا أخبره بزيارتك إلا إذا سألني مباشرة. والآن تعالَ معي؛ أريد أن أعرف كل ما تخطِّط له، وما قاله السيد هوب. وربما يمكنني أن أقترحَ عليك شيئًا من شأنه أن يساعدك؛ فأنا أعلم يقينًا ما سيفعله والدي، وما لن يفعله، أكثر من أي أحدٍ منكم.»

تقدَّمَته إدنا عبر ممشى الحديقة، وتوقَّفت أخيرًا حيث تناثرَت بضعة مقاعد تحت شجرةٍ وارفة الظلال.

وقالت: «اجلس. يمكننا أن نتحدَّث هنا دون أن يقاطعَنا أحدٌ تمامًا.»

جلس مارستن في مواجهة إدنا سارتويل، في العزلة الهادئة لأبعد مكانٍ في أعماق الحديقة المُسوَّرة. لم يكن ليتخلَّى عن مكانِه هذا مقابل آخرَ في الجنة، وشعر أن الحظ يحالفه. ولكن قدر الإنسان أن يدفع مقابل متعته حتمًا إن آجلًا أو عاجلًا، وسرعان ما اكتشف مارستن أن القدر يطالبه بالمقابل. ولكنه لم يكن يملك رصيدًا في مصرف الآلهة.

بدأت إدنا حديثها قائلة: «على الرغم من أنني قد وعدتك، فأنا واثقة من أنك مخطئ في اعتقادك بأن والدي سيستاء إذا علم أننا تحدثنا معًا عن الإضراب، وإذا كنتُ قد قلت إنني لن أخبره بحضورك إلى هنا، فهذا ليس لأني أخشى أن يضايقه ذلك، بل لأني سأُضطر حينها أن أخبره بزيارتك إلى سربيتون أيضًا، وكما تقول، قد يعتقد أن زيارتك للسيد هوب غير مبررة، مهما كانت نواياك. ولكن الأمر مختلف تمامًا بالنسبة إليَّ. سوف يسخر فقط من نقاشنا حول الموقف، مثلما يسخر من أحاديثي مع السيد برنارد هوب التي تدور في هذه الحديقة نفسها.»

«آه، هل يأتي السيد برنارد هوب إلى هنا؟»

«نعم، إنه يتردد علينا كثيرًا منذ بداية الإضراب. فهو مهتم أيما اهتمام بأحوال العمال.»

«حقًّا؟ إنه أمر يستحق الكثير من الإشادة.»

«هذا ما أقوله بالفعل، إلا أن والدي لا يفعل شيئًا سوى السخرية منه. إنه يعتقد أن السيد هوب ما هو إلا كومة كبيرة من اﻟ… اﻟ…»

قال مارستن بسرعة بعدما لاحظ ترددها: «من الحماقة.»

قالت إدنا وهي تضحك بتحفظ: «حسنًا، نعم، وإن كنت أرى هذا الوصف مبالغًا قليلًا، وليس هذا ما كنت أنوي قوله. ولكني لا أعتقد أنه كذلك. ربما يكون طائشًا، أو بالأحرى، كان طائشًا، ولكن ذلك كان قبل أن يدرك المسئوليات الملقاة على عاتقه. أظنه شابًّا جادًّا للغاية، ولكنه يبالغ في التواضع بشأن ذلك، ويقول إنه يأمل في أن تعوِّض جديته أي قدراتٍ تنقصه من شأنها أن …»

«إنه يحتاج إذن إلى كل الجدية التي يمكنه جلبها ليحلَّ هذه المسألة.»

صاحَت إدنا بحماس: «أوه، إنه يدرك ذلك. كما قال إنه إذا كان ثمَّة مَن يوجِّهه لطريق الصواب، فسيبذل كل ما في وسعه لمساعدة العمال في تحسين أحوالهم. وأخبرته أن فكره المتذبذب هو ألدُّ عدوٍّ له.»

«إنه متذبذب، أليس كذلك؟»

«إلى أقصى حد. على سبيل المثال، قد يغادرك اليوم وهو مقتنعٌ تمامًا بأن إجراءً ما صحيح. ثم يعود في الغد، بعدما يُعيد التفكير فيه، وبحوزته عددٌ كبيرٌ من الاعتراضات حتى إنه لا يكون واثقًا من صحتها. ويقول — وهو محق تمامًا في ذلك — إن المسألة معقدةٌ للغاية، ولا بد أن يُنظر لها من جميع جوانبها، وإلا فستقع أخطاء حتمًا.»

«ولهذا السبب لا يفعل أيَّ شيء، على ما أعتقد. فحينئذٍ سيكون واثقًا من عدم ارتكاب أي أخطاء.»

كان في صوت الشاب بعضُ المرارة جعلت الفتاة تنظر إليه في دهشة. لا شكَّ في أن شخصَين يهتمان لأمر العمال من صميم قلبَيهما مثل كلٍّ من هوب ومارستن، لا بد أن يكونا ممتنَّين لأي مساعدةٍ يقدِّمها أحدهما للآخر، إلا أن مارستن لم يُبدِ أي استمتاعٍ بالاستماع لأهداف بارني النبيلة الإيثارية.

«لمَ تقول إنه لا يفعل شيئًا؟»

«حسنًا، عندما التقيته قبل بَدْء الإضراب، أملًا في أن يستخدم نفوذه في تفادي الأزمة، لم يُظهر أي رغبةٍ في تحسين أحوال أي أحدٍ إلا نفسه. كان مترفًا وسعيدًا، فلمَ إذن يشغل نفسه بأمر العمال؟ حتى إنه وصفهم بأنهم «متسولون حمقى» عندما أخبرته بأنهم قد صوَّتوا لصالح الإضراب عن العمل.»

صاحَت إدنا في جذل: «أرأيت، من السهل للغاية، كما قلت بنفسك، أن يُسيء الرجال فَهْم بعضهم البعض. فبضع كلماتٍ توضيحيةٍ من شأنها أن تظهر لك كيف أنك أسأت الحكم على السيد برنارد هوب. لقد كان ينوي بالفعل استخدام نفوذه في صالح العمال، وحضر إلى هنا قاطعًا كل تلك المسافة من تشيلسي ليتحدث إلى أبي حول هذا الموضوع، تمامًا مثلما فعلت أنت اليوم، ولم يكن أبي في المنزل، مثلما هو الحال اليوم. فأخذنا أنا والسيد هوب وأمي نناقش الأمر، ووافَقَنا الرأي تمامًا في أنه لن يكون من العدل بالنسبة إلى أبي أن يكون ثمَّة أيُّ تدخُّل. ورفض التدخُّل في النزاع من أجل والدي.»

وأمام هذا الدفاع المستميت عن بارني، لم يجد الشاب ما يقول، ولكن حدث ما جنَّب الشاب ضرورة الرد؛ فقد أجفل كلٌّ من المتحدِّثة والمستمع عندما سمعا صوتًا أجشَّ بالقرب من المنزل يدعو الفتاة باسمها.

فهبت إدنا واقفةً في انزعاج، ونهض مارستن أيضًا.

«إنها زوجة أبي تُناديني. لقد عادَت. لم أدرك أن الوقت قد تأخَّر إلى هذا الحد. ماذا نحن فاعلان؟ يجب ألَّا تراك هنا، ولكنك لن تستطيع الخروج دون المرور عبر المنزل.»

«يمكنني أن أقفز من فوق السور. مَن يسكن في المنزل المجاور؟»

«إنه خالٍ، ولكن السور عالٍ، وثمَّة زجاج مكسور على قمته.»

«لا بد أن أجرِّب على أي حال.»

عبرا سياج الشجيرات ليصلا إلى الجدار الفاصل بين المنزلَين.

وقالت إدنا: «أوه، أنا واثقةٌ من أنك لن تتمكَّن من القفز من فوق السور، وستُجرَح يداك.»

خلع مارستن معطفه، وألقاه مفرودًا فوق الزجاج المكسور المتناثر، وتراجع إلى الخلف إلى أقصى مدًى سمح له به سياج الشجيرات، ثم ركض بأقصى سرعةٍ ليقفز، وأمسك بقمَّة السور بكلتا يدَيه حيث غُطِّي الزجاج بالمعطف. وفي اللحظة التالية كان قد قفز فوق السور يرتدي معطفه، بينما كان حذاؤه يسحق الزجاجات المكسورة.

رفعَت إدنا رأسَها نحوه وهمسَت له، وقد توهَّج وجهُها من فَرْط الإثارة: «أنت لم تجرح نفسك، أليس كذلك؟ أنا سعيدةٌ للغاية. إلى اللقاء!»

قال مارستن بصوتٍ خفيضٍ ولكنه مسموع: «لحظة واحدة. لم تواتني الفرصة لإخباركِ بخططي.»

«أوه، أرجوك، أرجوك اقفز؛ فقد تصل أمي إلى هنا في أي لحظة.»

سُمع نداء «إدنا!» مرةً أخرى آتيًا من داخل المنزل.

فهمس مارستن قائلًا: «لا يزال كل شيءٍ على ما يرام. ولكن لا بد أن أعرف رأيكِ في خططي. سأكون هنا في نفس الموعد غدًا، وإذا كانت الساحة خالية، هلا تلقين بشالٍ، أو شريط، أو أي شيء، على السور حيث كان معطفي حتى يمكنني رؤيته من هذا الجانب؟»

«هيا اذهب. إذا رآك أحد هنا فسيُفسِد ذلك كل شيء. لا أعرف ماذا أقول بشأن الغد. سأفكِّر في الأمر.»

«تذكري أنني سأكون على هذا الجانب من السور. وعليكِ أن تستوضحي كل شيء جيدًا، حتى تُعطيني رأيكِ فيه؛ فهذا أمرٌ مهم للغاية.»

«حسنًا، حسنًا. أعدك بهذا، ولكنَّك تخاطر بكل شيءٍ ببقائك هنا.»

هبط مارستن في حديقة منزل رجل آخر، وواصل اقتحامه لها دون اكتراثٍ فوق وعبر أي شيء اعترض طريقه، حتى وصل إلى بوابتها، فعبرها ليصبح في الشارع مرةً أخرى. كانت كلمة «للإيجار»، المكتوبة على نوافذ المنزل وعلى لافتة موضوعة فوق السور العالي، مطمئنةً بالنسبة إليه.

تمتم مارستن ضامًّا قبضته: «آه، بارني هوب، لم تقدِّم يداك أي خير لهذا العالم قط. إن القفز من فوق السور لمرة واحدة يساوي عبور البوابة لدزينة من المرات. أظن أني بحاجةٍ إلى تعليماتٍ بشأن واجبي تجاه أرباب عملي، مثلما تحتاج أنت لتوضيحٍ لالتزاماتك تجاه العمال.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤