الفصل السادس عشر

«إدنا، أين أنت؟»

«أنا هنا يا أماه.»

«لقد سمعتني أناديك، لماذا لم تجيبيني؟»

«لقد أجبتكِ وقلت إني آتية. كيف حال السيد هوب؟»

«أعصابه متعبةٌ للغاية. يعتقد أنه لم يُصب بضرر، ولكني واثقةٌ من أنه تضرَّر نفسيًّا، وهذا الضرر أسوأ كثيرًا من الجراح الخارجية، وقد أخبرته بذلك. لقد أصبح يخاف بشدة، ويفزع كلما وجَّهَت له زوجته عبارةً عادية. نصحته أن يذهب إلى الطبيب ليكتشف ما ألمَّ به قبل فوات الأوان. أخبرتني السيدة هوب أنه يتصرف بغرابةٍ شديدة. فقد أكل أقلَّ القليل على الإفطار صباح اليوم، ولكنه، قبل الغداء، طلب إحضار وجبةٍ ضخمةٍ إلى غرفة مكتبه، والتهمها بمفرده.»

«ربما لأنه لم يأكل جيدًا على الإفطار.»

«لا يا بنيتي، أنت لا تعين ما تتحدثين عنه. ثمَّة بعض الأصناف لا يمكن للسيد هوب الاقتراب منها إلا ويمرض بعدها. السيدة هوب حريصة جدًّا على نظامه الغذائي. هناك المخلل على سبيل المثال؛ إنه لم يأكل منه قطعةً واحدةً منذ ستة عشر عامًا، ولكنه تناول منه كميةً كبيرة اليوم، وشرب زجاجةً كاملة من البيرة، فضلًا عن اللحم البقري والجبن، والكثير من الأصناف الأخرى. والسيدة هوب المسكينة تجلس مغلولة اليدَين في انتظار موته. لم أرَ مثل نظرة الاستسلام الملائكية تلك على وجه بشرٍ من قبل.»

«على وجه السيد هوب؟»

«إدنا، لا تكوني وقحة. تعرفين جيدًا أنني أعني السيدة هوب.»

«لم أكن أُدرك ذلك حقًّا يا أماه. اعتقدت أن السيد هوب ربما استسلم. ماذا يقول؟»

«يقول إنه لم يُصب بأي أذًى، ولكن كل ما تفعله السيدة هوب هو التنهُّد وهز رأسها أسفًا. فهي تعلم ما سيحل به.»

«أؤكد لكِ أن الرجل المسكين كان جائعًا ليس أكثر، وأنه مل من فرط الالتزام بالنظام الغذائي. آمل أنه استمتع بوجبته.»

«إدنا، إن خبرتكِ محدودة للغاية، وآسف أن أقول إن عقلكِ كذلك محدود للغاية لتفهمي ما أعنيه بذلك. لطالما كانت أعضاء الهضم لدى السيد هوب ضعيفةً دائمًا. ولولا أن زوجته توليه رعايةً خاصة، لمات منذ أمدٍ بعيد. لقد غفلَت عنه بضع دقائق صباح اليوم، ورفضت تلقي جميع الاتصالات، فيما عدا اتصالي وواحدة أو اثنتَين من أعزِّ صديقاتها، وحدث ما حدث. إنها تخشى أن اضطراباتِ الأمس قد دمَّرت أعصابه بالكامل، ولم يعُد يدري ما يفعل، على الرغم من إصراره على أنه يشعر بأنه على ما يرام كما هو دائمًا، ولكني قلت للسيدة هوب إني كنت سأطلب المشورة الطبية على الفور لو كنت مكانها. من الذي حضر للقاء والدكِ بينما كنت في الخارج؟»

«لم أدخل المنزل منذ مغادرتك.»

«ماذا؟! كنتِ في الحديقة طوال هذا الوقت! إدنا، متى ستتعلَّمين تحمُّل بعض المسئولية؟ كيف تتوقعين من الخادمات أن يؤدين واجباتهن إذا ما أهملتِ أنتِ واجباتكِ ولم تتابعيهن؟»

«إنكِ تُدرِّبينهن جيدًا يا أمي، حتى إنني لم أرَ ضرورةً لمتابعتهن أثناء غيابك.»

«نعم، أنا أدرِّبهن، وأؤدِّي واجبي نحوهن، كما آمل، ولكن لديكِ أنت أيضًا واجبات لتؤديها، على الرغم من استخفافكِ بها. لقد نسيت أن كل ساعةٍ تُضيِّعينها سدًى سيكون عليكِ تفسير سبب إضاعتها في اليوم العظيم.»

«لم أكن أضيِّع وقتي، وحتى إن فعلت، لا يمكن للمرء أن يفكر في اليوم العظيم طوال الوقت.»

كانتا قد وصلتا في تلك اللحظة إلى غرفة الضيوف، فجلست السيدة سارتويل وهي تحدِّق إلى ابنة زوجها بحدة مخففة.

ثم قالت بجدية: «إدنا، أتوسل إليكِ ألَّا تسمحي لنفسكِ بأن تكوني وقحة. فهذه هي الطريقة نفسها التي يتحدث بها والدك، وعلى الرغم من أننا نأمل أن تُغفر له، فليس من اللائق أن تتحدث فتاةٌ في مثل عمركِ بهذه النبرة. إن والدكِ لا يعي المتاعب التي سيجلبها على نفسه بالطريقة التي يتبعها في تربيتك، وإذا ما أخبرته بأنكِ كنت تخدعينه، فلن يصدق. ولكن، ذات يوم، للأسف! سيرى الحقيقة.»

صاحَت إدنا وقد بدأ الشحوب يزحف إلى وجهها بسرعة: «كيف أخدعه؟»

هزَّت زوجة أبيها رأسها في حزنٍ وتنهَّدت.

ثم قالت: «إذا لم يخبركِ قلبك، فربما من الأفضل أن ألتزم الصمت. لقد ورثت عنه طابعه الانفعالي اللعين يا فتاتي المسكينة. لقد شحب وجهكِ من الغضب لمجرد محاولةٍ بسيطةٍ مني لتقويم سلوكك.»

«أنتِ لم تقوِّميني. بل قلت إني أخدع والدي، وأنا أسألكِ ماذا تعنين بذلك؟»

ابتسمَت السيدة سارتويل ابتسامةً رقيقة، وإن لم تخلُ من الحزن.

وقالت: «يا للتشابه! يا للتشابه! أكاد أرى أمامي والدكِ يتحدث ولكن بصوتك.»

«حسنًا، هذا يُسعدني. إنكِ لا تطرين عليَّ عادة.»

«وهذا دليلٌ آخر على وقاحتك. أنتِ تعلمين جيدًا أني لا أُطري عليكِ عندما أقول إنكِ تُشبهين والدك. بل على النقيض تمامًا. ولكن سيأتي يوم يدرك فيه ذلك. نعم، سيأتي بلا أدنى شك.»

«أنت تعنين أنه سيدرك أني أخدعه، ولكنكِ لم تخبريني كيف أخدعه.»

«أنت تخدعينه لأنكِ تحرصين أشد الحرص، في حضرته، على ألَّا تُظهري الجانب الأسوأ من شخصيتك. أوه، يا إلهي، إنكِ تراعين ذلك جيدًا! تكونين في غاية الوداعة والخجل في وجوده. ولكنه سيكتشف حقيقتكِ ذات يومٍ وسيحزن كثيرًا. انتظري حتى تتعارض إرادتاكما العنيدتان، وحينئذٍ سيعرف كلٌّ منكما حقيقة الآخر. لا شك في أن الأمور بينكما الآن سلسة وهادئة تمامًا، ولكن هذا لأنكِ لا تطلبين معرفة ما يعنيه، ولا تخبرينه بأنكِ لا تعبئين باليوم العظيم.»

استطردت الفتاة حديثها والدموع تكاد تنهمر من عينَيها، قائلة: «إن أبي لا يهدِّدني أبدًا بعذاب الآخرة، كما تفعلين أنت دائمًا، كما أنه لا يكيل لي الاتهامات؛ لذا لا أحتاج لأن أسأله عما يعنيه. ربما كنتُ شريرة، ولكنك تقولين أشياء تبدو دائمًا أنها تُخرج الجانب السيئ من شخصيتي.»

قالت السيدة برقة: «أنت اندفاعية للغاية. في البداية لم تتورعي عن التطاول عليَّ، ثم ها أنت تقولين إن شخصيتكِ سيئة، وأنا لم أدَّعِ هذا قط. فلستِ أسوأ من أبيك.»

«أسوأ؟ أتمنى فقط لو كنتُ نصفه.»

«آه، هذا لأنكِ لا تعرفينه مثلما لا يعرفكِ هو. أنت تعتقدين أنه يثق بكِ تمام الثقة، ولكنه لا يفعل شيئًا من هذا القبيل. لماذا كان حريصًا كلَّ هذا الحرص على أَخْذ الصحف معه صباح اليوم؟»

«لا أعلم بالطبع. ولمَ لا يفعل؟ إنها ملكه.»

«ملكه، نعم! ولكنه لم يفعلها من قبل قط. لقد أخذها معه حتى يواصل خداع زوجته وابنته، هذا هو السبب. حتى لا نعرف كيف واجه العمال وتحدَّاهم أمس. أوه، يمكنني أن أتخيَّل ما فعل! فتلك هي الأفعال التي تُرضي غروره الدنيوي.»

صاحت الفتاة وهي تلهث من فرط القلق: «أوه، ماذا حدث يا أمي؟»

«أظن أنه لم يخبركِ بما حدث، وأظن أيضًا أنه لم يقل لكِ إن السيد هوب المسكين، وكذلك السيد مونكتون، رجواه وناشداه ألَّا يذهب إلى المصنع اليوم، نعم، لقد كادا يركعان على ركبتَيهما لكيلا يفعل، ولكنه لم يُعِر رغباتهما أيَّ اهتمام، رغم كونِه مرءوسهما! وإذا لم يكن ثمَّة سببٌ آخر فلا بد أنه …»

«أخبريني ماذا فعل؟ كيف تحدى العمال؟»

«لمَ لا تدعيني أكمل ما أقول؟ لمَ أنت قليلة الصبر هكذا؟»

«لأنه والدي. ألَا ترين أن هذا سبب كافٍ؟»

غمغمت السيدة سارتويل بنبرة حزينة: «بلى يا صغيرتي المسكينة، بلى، هذا سبب كافٍ. من شابه أباه فما ظلم. ربما كان في الأمر مبالغة مني أن أتوقع منكِ الصبر، بينما والدكِ لا يملك ذرةً منه.»

«ليس هذا ما أقصده، ولكن لا عليك. أخبريني أرجوكِ إن كان في خطر.»

«جميعنا معرَّضون للخطر في كل لحظةٍ من حياتنا، ومنجانا منه هو تدخُّل العناية الإلهية وليس جهودنا العقيمة. كم مرة، كم مرة بذلت كل ما في وسعي لأغرس هذه الحقيقة العظيمة في ذهن والدك، ولكني لم أتلقَّ إلا كل استهزاء وسخرية، كما لو أن الاستهزاء والسخرية سينفعانه في اليوم العظيم؛ لماذا تتصرفين هكذا يا إدنا؟ إنكِ تذرعين الغرفة جيئةً وذهابًا بطريقةٍ يؤسفني أن أقول إنها لا تليق بفتاةٍ راقية. لا يجدر بكِ أن تقفزي من مقعدكِ بهذه الطريقة المفاجئة. أؤكد لكِ أن السخرية لن تُجدي نفعًا. ولا شك في أن لي الحق في أن أعبِّر عن رأيي في منزلي! عندما قلت لوالدك صباح اليوم إنه يجب ألَّا يتفاخر بقوته لأنها قوة زائلة، بل عليه أن يضع ثقته في قوة أسمى، قال إنه فعل؛ إذ كان رجال الشرطة موجودين في موقع الإضراب. أليست هذه سخرية؟ فقد كان يُدرك أني لا أقصد الشرطة.»

كانت إدنا قد غادرت الغرفة قبل أن تنهي زوجة والدها الجملة الأخيرة، وعندما تبعتها السيدة التي لا تمل من المحاولة إلى الرَّدهة، بعدما نهضت وهي تتنهد بيأس، وجدت نفسها أمام محنة أسرية أخرى. فقد ارتدت إدنا قبعتها وكانت تقفل عباءتها.

فسألتها زوجة والدها المشدوهة: «إلى أين أنت ذاهبة؟»

«إلى لندن.»

«إلى لندن! هل يعلم والدكِ ذلك؟»

«سيفعل. سأستقلُّ عربةً من المحطة إلى المصنع.»

«ماذا! هل ستمرين بالعربة وسط هذا الحشد المتوحش؟»

«هذا الحشد المتوحش لن يؤذيني.»

«صغيرتي، أنت مجنونة! ما معنى هذا؟»

«يعني أني ذاهبة لأعرف الخطر الذي تعرض له أبي أمس، وأني سأكون إلى جواره إذا كان لا يزال في خطرٍ اليوم.»

ضمَّت المرأة المغلوبة على أمرها يدَيها معًا في هلع وعجز. وسألت نفسها، هل كانت ثمَّة امرأة، منذ بدء الخليقة، حريصة على أداء واجباتها تجاه الجميع، تتعرض للمضايقات من قِبل مثل هذَين الشخصَين الخارجَين عن السيطرة؟ ولكنها، وعلى غير العادة، تفوَّهت بالكلمات المناسبة للموقف تمامًا.

«لقد حان الوقت الموعود أسرع ممَّا توقعت. لقد منعك والدك من الذهاب إلى مكتبه، وإذا ما وجدك تعصين أمره في موقف كهذا، فسيستشيط غضبًا. وحينئذٍ سترين بنفسك ما أعاني منه.»

توقَّفت الفتاة الطائشة عن إتمام استعداداتها للخروج.

وقالت: «لم إذن تثيرين استيائي فوق قدرتي على التحمل، وترفضين إخباري بما حدث؟»

«أنا أرفض! أنا لا أرفض لكِ طلبًا. ليتني كنت أرفض طلباتكِ منذ صغرك؛ فحينئذٍ كنت ستفكرين مرتَين قبل أن تُلقي كل طاعتك لي أدراج الرياح. كل ما عليك فعله هو أن تسألي عما تريدين معرفته، وتنصتين بصبر عندما أُخبرك به.»

«لقد كررت سؤالي مرات كثيرة.»

«كم تبالغين! سأسميها مبالغة، مع أني أملك كل الحق في استخدام مصطلح أكثر قسوة. وستكون دقة التعبير أكثر …»

«هل ستخبرينني أم أذهب؟»

«ألم أقل لك الآن إني سأخبرك بأي شيء؟ ما الذي تريدين معرفته؟ إن سلوكك السخيف أطاح كل شيء من ذهني.»

«قلت إن أبي تحدى العمال وكان في خطر أمس.»

«أوه، نعم! بعد أن رأى والدك أن السيد هوب والسيد مونكتون في حراسة الشرطة وهما يجتازان الحشد المتمرد، لم يرَ أمامه مفرًّا من إظهار مدى شجاعته مقارنةً برئيسَيه. فخرج من بوابات المصنع بمفرده، وسار وسط الحشد.»

«ماذا قال؟»

«لم يقل شيئًا.»

«كيف تحدى العمال إذن؟»

«يا إلهي، يا لغبائكِ يا صغيرتي! عندما يتخطى العمال الحدود هكذا، فلا شك في أن خروجه بينهم — وهو السبب في كل ما حدث — يُعد تحديًا لهم. ولكن الجريدة التي اشتريتها من المحطة نشرت القصة كاملة؛ إنها على طاولة الردهة، وكنت سترينها لو استطعت الحفاظ على هدوئك. اقرئيها إذا أردت. لن يكون في فعل ذلك عصيان لي. تذكري أن والدكِ هو مَن كان لا يرغب في أن تري الجريدة.»

مرَّ اليوم على إدنا سارتويل بطيئًا كالسلحفاة، وعندما لم يعُد والدها إلى المنزل في موعده المعتاد، تزايد قلقها أكثر وأكثر. لم تقُل زوجة أبيها شيئًا عن تأخره عندما مرت الساعات دون أن يعود، ولكنها بدأت تتخذ هيئة الاستسلام الصبور الذي أصبح لائقًا بها. قُدِّمت وجبة العشاء في موعدها تمامًا، وفي الموعد المعتاد رُفعت من فوق الطاولة. وبَّخت السيدة سارتويل إدنا مرةً أو مرتَين على قلقها، وندمَت على اضطرارها إلى توبيخها، ولكنها كانت مجبرةً على فعل ذلك؛ لأن القدوة الحسنة التي حاولَت أن تتمثَّلها لم تلقَ أي تقديرٍ من إدنا. ثم قالت في نهاية المطاف:

«اذهبي للنوم يا إدنا. سأنتظر والدك حتى يعود.»

«من المؤكد أنه سيعود إلى المنزل قريبًا. أرجوك، دعيني أنتظره حتى يعود.»

ثم خيَّم الصمت بضع دقائق.

ثم قالت السيدة سارتويل: «لا أريد أن أكرِّر طلبي يا إدنا. لقد سمعت ما أمرتكِ به.»

«من فضلك، لا ترسليني للنوم قبل عودة أبي. إن القلق يمزِّقني! دعيني أنتظره بدلًا منك. فلن أتمكن من النوم إذا ذهبت إلى الفراش. هلَّا تدعيني أنتظر عودته بدلًا منك؟»

طغَت نظرة الضحية على وجه زوجة والدها النحيلة، تلك النظرة التي تحكي قصصًا عن محنٍ كثيرةٍ تحمَّلتها دون شكوى.

قالت: «لطالما سهرت أنتظر عودة والدك، ولطالما سأفعل، ما دمنا ظللنا زوجَين. للمرة الثالثة آمرك بأن تذهبي إلى النوم.»

ظلَّت الفتاة جالسةً في مكانها وقد احمرَّت وجنتاها احمرارًا يدل على التمرد. ونمَّت لمعة الغضب المكبوت في عين السيدة سارتويل عن أن الأمور قد وصلت إلى نقطة تحتِّم على واحدة منهما أن تغادر الغرفة مهزومة. وأظهرت المرأة الأكبر سنًّا طول بال حين ظلت نبرتها في الحديث ثابتة.

«هل تنوين أن تطيعيني يا إدنا؟»

«لا، لن أفعل.»

واصلت السيدة سارتويل الحياكة، وخلا سلوكها من أي أمارات انزعاج ظاهرية من سلوك الفتاة غير المبرر، إلا من قليل من الاعتدال في جلستها. وفي كل مرة بعد ردود إدنا السريعة، كان الصمت يخيِّم عليهما بضع لحظات.

قالت السيدة سارتويل هذه المرة: «في وقت سابق من اليوم يا إدنا، سوَّلت لك نفسكِ التحدث إليَّ والتعامل معي، بطريقةٍ تمنيتُ لو ندمتِ عليها عندما تسنح لك الفرصة للتفكير فيها. وتوقَّعت منكِ أي تعبير ندم. هل فكرت فيما فعلت يا إدنا؟»

«نعم.»

أدخلت السيدة سارتويل الخيط في سَم خياط إبرتها ببطء مبالغ فيه.

وقالت: «وما النتيجة التي توصلت إليها؟»

«شعرت بالسرور عندما فكرت أني لم أقل شيئًا أكثر قسوةً مما قلتُ.»

تردَّد صدى دقات الساعة الطويلة الموضوعة على بسطة الدرج في أرجاء المنزل. وراحت إدنا تتسمع بانتباه لصوت خطًى سريعة وواثقة على الحصى في الخارج، إلا أن أذنَيها لم تلتقطا شيئًا غير الصمت.

«يضاف إلى — سأستخدم كلمة صفاقة؛ لأنني لا أرى مصطلحًا أفضل منها لوصف الكلمات التي وجَّهتِها إليَّ — يضاف إلى صفاقتك الآن العصيان. وإذا كنت أبالغ في وصف الأمر، فلن يكون مَن هو أسعد مني لتصحيح ذلك الوصف بالأسلوب اللائق.»

«لا رغبة لي في تعديل ما قلت.»

بعدما قرضت السيدة سارتويل الخيط بأسنانها، وتنهدت تنهيدةً عميقة مضطربة، قالت:

«في كل عائلة يا إدنا لا بد من وجود شخص يأمر ويطيعه الآخرون. وعندما تحين ساعتي، سيسرني كثيرًا أن أضع عن كاهلي عبء هذه السلطة الرديئة التي عُهد بها إليَّ، ولكن إلى أن تحين تلك الساعة سأظل سيدة منزلي. لقد منحني والدكِ بمطلق حريته واختياره هذه السلطة، وهو، وليس أنت، الشخص المنوط باستعادتها، إذا ما أراد ذلك. لهذا لن أتفوَّه بأي كلمةٍ أخرى حتى عودته. وحينئذٍ سيكون عليه أن يختار بيننا. إذا اختار أن تكوني أنتِ سيدةَ هذا المنزل، فسأحني رأسي دون أن أنبس ببنت شفة، وأترك هذا المنزل داعيةً الرب أن يُبقيَ السلام والبركة بين جدرانه.»

لا شك أن شيئًا من هذا الاستسلام الذي نطقت به هذه الكلمات الموزونة، والذي يحوي إيحاء التضحية بالذات، قد مسَّ قلب الفتاة المتحجر؛ إذ دفنت وجهها بين كفَّيها وبدأت تبكي، في علامةٍ مؤكدةٍ على الانهزام. ولكن كانت عازمةً بوضوحٍ على ألَّا تمنح خصمتها شعور الرضا الذي فازت به عن جدارةٍ بخطبة عصماء رائعة للغاية عن السلوك الصحيح في عائلةٍ منضبطة.

فانتحبَت قائلة: «إن الخطأ دائمًا خطأ أبي المسكين! مع كل ما يُغرق عقله من مشكلاتٍ وقلاقل، لا بد أن يشعر بالقلق عندما يعود إلى المنزل بسبب مناقرتنا البائسة.»

«أنا لا أدخل في مناقرات أبدًا يا إدنا. ولا أستخدم هذه الكلمة المخجلة أبدًا. لا أعرف بالطبع من أين جئت بها، ولكني واثقة من أنك لم تسمعيها مني. إذا أردت ألَّا ينزعج والدك، يجب أن تتصرفي على النحو الذي لا يضطرنا للاحتكام إليه. فأنا لا أريد أن أضيف متاعب إلى متاعبه، بل على النقيض تمامًا. هل أنت جاهزة للامتثال لأوامري الآن يا إدنا؟»

«نعم.»

نهضت الفتاة وتوجَّهت في تردد نحو الباب وعيناها مغرورقتان بالدموع.

«لم تعطني قبلة ما قبل النوم يا إدنا.»

قبلت إدنا زوجة أبيها على وجنتها وذهبت إلى غرفتها، وألقت نفسها على فراشها دون أن تبدل ملابسها وهي تنتحب. ولكنها ظلت تتسمع تلك الخطوات على الحصى التي لم تأتِ. وفي النهاية، نهضت وصفَّفت شعرها استعدادًا للنوم، وغسلت وجهها حتى لا يعرف والدها، إذا عاد إلى المنزل ورآها، أنها كانت تبكي. ثم ارتدت ثياب النوم وجلست بجوار النافذة تتسمع بحرص ولهفة. وصل القطار الأخير إلى المحطة بعد منتصف الليل بقليل، وبعد بضع دقائق، التقطت أذناها الحساستان صوت الخطوات الذي انتظرته طويلًا في الشارع من بعيد، ولكنها لم تكن تلك الخطوات السريعة العصبية التي اعتادت عليها. بل كانت خطوات رجل متعب. فكَّرت في أن تنادي عليه بصوت خافت عبر النافذة، ولكنها تراجعت. واربت إدنا باب غرفتها وسمعت صوت غمغمة زوجة والدها، ومن حين لآخر كانت تسمع نبرة صوت والدها الأقصر والأكثر خشونةً وهو يرد عليها بردوده المقتضبة. وبعد مدةٍ بدَت بلا نهاية، صعدَت زوجة أبيها وحدها، وأغلقَت باب غرفتها.

كتمت إدنا أنفاسها وهي تتسلل في هدوءٍ من غرفتها وتهبط الدرج. كانت درجات السلم رءوفةً بها فلم تُصدر صريرًا. ثم فتحت باب غرفة الطعام، ووقفت في مكانها صامتةً كما لو كانت شبحًا. قفز والدها من مقعده فزعًا، وتطلَّب منه الأمر كل قدرته المعتادة على السيطرة على النفس ليكتم صرخةً كادت تُفلت من بين شفتَيه.

وهمس قائلًا: «رباه، ابنتي العزيزة؛ هل تريدين أن تُفزعي والدك العجوز حتى يفقد القدر اليسير من العقل المتبقي لديه؟ لمَ لم تنامي بعد؟» أغلقت إدنا الباب برفق، وركضت نحوه، وأحاطت عنقه بذراعَيها.

وقالت: «أبي، هل أنت بخير؟ هل أُصبت بسوء؟»

«أصبت بسوء! لماذا، ما الذي سيؤذيني أيتها الصغيرة الحمقاء؟» ثم أزاح شعرها عن عينَيها. وقال: «كنت تحلمين؛ وظني أنك أصبحت تتكلمين أثناء نومك. لمَ لم تنامي؟»

«لم أتمكن من النوم حتى عودتك إلى المنزل. لمَ تأخرت هكذا يا أبي؟»

«لقد تخطَّى الأمر ما يُلزم به القانون الرجل. هل يجب أن أقدم تبريرات لامرأتين كلما عدت إلى المنزل في وقت متأخر من الليل في القطار الأخير؟»

جلست الفتاة على وسادة صغيرة، وأراحت رأسها على ركبة والدها الذي داعب شعرها في حنان.

وقال: «ما الذي يؤرقكِ يا إدنا؟ لمَ أنتِ قلقة لهذه الدرجة من عودتي في ساعةٍ متأخرة؟»

«خشيت أن تكون في خطر؛ فقد قرأت ما كُتب في الجريدة عن تحديك للعمال، و… و…»

أطلق سارتويل ضحكةً هادئة.

وقال: «بنيتي الغالية، إذا كنت ستبدئين حياتك بتصديق كل ما ترينه في الصحف، فستعانين جراء ذلك دائمًا. سأخبركِ بأمرٍ مفزع أكثر من ذلك بكثيرٍ لم يُنشر في الصحف بعد.»

سألته الفتاة رافعةً بصرها نحوه: «ما هو يا أبي؟»

«هو أنك كنت فتاةً صعبة المراس طوال اليوم، وسبَّبت الكثير من القلق للمسئولين عن تنشئتك.»

أراحَت إدنا رأسها مجددًا على ركبة والدها.

وقالت: «نعم، هذا صحيح تمامًا. كنت سيئةً ومتمردة للغاية بقول أشياء لم يكن يجدر بي قولها.»

«وترك أشياء كان عليك قولها … آه، حسنًا، جميعنا يخطئ. ومن نعم الرب أن منَّ علينا بالغفران، وإلا ساءت عاقبة أغلبنا.»

«عندما تكون هنا، وبشكل ما، لا يبدو أن شيئًا يهمني، وتبدو جميع مخاوفي خلال اليوم ضئيلةً وتافهة، وأتساءل لمَ أرَّقتني؛ ولكن عندما تغيب … حسنًا، يختلف الأمر كليًّا.»

«أنا سعيد للغاية بسماع هذا يا إدنا، ولكن عليك ألَّا تتخيلي أنك ستخدعينني بتملُّقك حتى أُلغي العقاب الذي تعرفين أنك تستحقينه. لا، لن أنخدع بدبلوماسيتك. ولن يجدي ذلك نفعًا معي يا بنيتي العزيزة، لن يجدي.»

«هذه ليست دبلوماسيةً أو تملقًا؛ إنها الحقيقة. وسأتقبل عقابي بكل خنوع إذا ما أخبرتني بما حدث اليوم.»

«أرفض التفاوض مع متمردة معترفة بذنبها؛ ولكن بما أنني لا بد أن أدعك تذهبين إلى النوم قبل طلوع الصباح، فسأخبرك بما حدث. لقد جرت محاولة لتسوية الإضراب اليوم. فقد اجتمع العمال معًا الليلة، وانتظرت في النادي لمعرفة النتيجة. فقد أرسلت رجلًا تابعًا لي في الاجتماع كان من المقرر أن يُحضر لي نتائج التصويت بمجرد انتهائه. إنه شاب — أحد المضربين، ولكنه الرجل الوحيد العاقل بينهم — التقى بي عصر اليوم، وقدم لي اقتراحات معينةً وقبلتها. اقترح عزل جيبونز وحضور وفد من العمال للقائي. لربما كنا سنتمكن من تسوية المسألة في غضون عشر دقائق لو تحقَّق ذلك.»

«إذن فقد فشل، بعد كل ما تكبده من عناء؟»

«من الذي فشل؟»

«اﻟ… الشاب الذي تتحدث عنه؟»

وجدت إدنا صعوبةً في أداء دور المخادع. وكانت سعيدةً أن والدها لم يرَ التعبير المرتسم على وجهها، وندمت أشد الندم على وعدها لمارستن بألَّا تفشي لأبيها أمر زيارته.

قال سارتويل: «نعم، فشل. لا شك أن الوقت لم يكن كافيًا لاستطلاع آراء العمال على النحو الصحيح، وخلال الاجتماع، تمكن جيبونز، وهو خطيب مفوه، من الفوز بعدد من الأصوات كان كافيًا لإحباط جهود الآخرين. لم يكن انتصارًا ساحقًا، ولكنه كان كافيًا لتحقيق الهدف. كان اجتماعًا عاصفًا للغاية، كما فهمت، وفاز جيبونز بفارق دزينة من الأصوات أو نحو ذلك.»

«وماذا سيحدث الآن؟»

«يبقى الحال كما هو عليه. سأنتظر بضعة أيام أخرى، وإذا لم يعد العمال إلى عملهم، فسأملأ أماكنهم بطاقم عمال جديد. لا أريد اللجوء إلى ذلك إلا ملاذًا أخيرًا، ولكني لن أتركهم يتلاعبون بي أكثر من ذلك. والآن يا فتاتي، لقد أخبرتكِ بكل شيء، فلتذهبي إلى الفراش، إلى الفراش فورًا، ولتنعمي بنومٍ هادئ. فلا يمكن السماح بهذا التسيُّب، كما تعلمين.»

قبَّل الوالد ابنته وربت على كتفها في حنان. وارتقت الفتاة الدرج في تثاقل وهدوءٍ كما نزلت، يخالجها شعور بالذنب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤