الفصل السابع عشر

وجد ألبرت لانجلي لنفسه شغفًا جديدًا وممتعًا في الحياة. كان هذا الشغف هو الصداقة، التي لم يتذوَّق عازف الأرغن مُتعها ومباهجها من قبلُ طوال حياته التي طغى عليها الوحدة والكدح. فقد أصبح لانجلي زائرًا دائمًا لمسكن برونت وبدأ يعلِّم جيسي أساسيات وقواعد الموسيقى، ووجدها طالبةً مجتهدة وسريعة التعلم والاستيعاب، وصامتةً للغاية أيضًا. كان يرى وجهها النحيل وعينَيها الواسعتَين الحزينتَين بعين خياله أينما ذهب، بينما كانت هي تنظر له بمهابةٍ وانبهارٍ لم تكن لتُسبغهما إلا على كائنٍ من عالم آخر، وربما كان كذلك بالفعل؛ إذ كانت علاقته بهذا الكوكب المحموم الساعي إلى المال محدودةً للغاية بلا شك. كان جو برونت يسعد أيما سعادة بالجلوس في مقعده الوثير ليدخِّن. فمهما كان المال المخصص لتدبير شئون المنزل قليلًا، فسيبتدع العامل طرقًا لتوفير التبغ لنفسه.

في أغلب الأحيان، لم يكن برونت يتواجد بالمنزل أثناء تلقي ابنته درس الموسيقى؛ لأن أعراف الطبقة الوسطى لم يكن لديها الكثير لقوله عن الترتيبات المعيشية لأولئك الذين يعيشون في فقر مدقع. وكان الغياب الكامل للخبرة بالأمور الدنيوية لدى الشاب، من شأنه أن يُصعِّب على أي شخصٍ أن يفسر له السبب في عدم وجوب التقاء شخصَين يجمعهما حب الموسيقى كلما سنحت لهما الفرصة، حال وجود من يهتم لأمره أو أمرها بما يكفي ليحاول تقديم هذا التفسير. كانت الفتاة، التي فاق شغفها بالألحان شغف والدها، مبهورةً بمهارة عازف الأرغن في العزف على الآلة الموسيقية التي كرَّس حياته لها، قبل أن تستدرج عيناها الرصينتان روحه الموسيقية للغوص في سحرهما الغامض. ووقع الاثنان في حب أحدهما للآخر دون أن يُدرك أيٌّ منهما ذلك.

ذات مرة، استطاع لانجلي أن يقنع برونت وابنته بالذهاب معه إلى الكنيسة، وهي خاوية في غير أوقات القداس ليستمعا إلى موسيقى الأرغن الكبير. جلس العامل وابنته معًا في وحشة المقاعد الخالية، وراحا يستمعان في طرب إلى إيقاع «اللحن الجنائزي» الكئيب الذي ملأ أرجاء المبنى المهجور. عزف لانجلي المقطوعة تلو الأخرى في حب الموسيقى وفي حب جمهوره. كان عرضًا موسيقيًّا شبيهًا بما كان يستمع إليه ملك بافاريا المجنون عندما يكون وحيدًا، ولكن كان من يستمع إليه الآن رجلًا لا يملك بنسًا في جيبه، ولا كسرة خبزٍ ليأكلها في مسكنه البائس. هل هدَّأت أصابع العازف البافاري البارعة نفس الملك في لحظة تعذيب الشيطان له، مثلما هدَّأت مهارة داود في العزف من روع طالوت، من يدري؟ إلا أن اللمسات السحرية لعازف الأرغن الوحيد على المفاتيح العاجية نقلَت مستمعيه إلى عالمٍ لا مكان فيه للجوع.

كان في السكون المخيم على مبنى الكنيسة الضخم، الذي لم تقطعه الضوضاء الآتية من خارجه، وارتداد صدى الأنغام عن سقفه المعتم الشاهق المقوس، وانطلاق أصداء غير متوقعة قابعة عند الأركان المظلمة، بالإضافة إلى عظمة الموسيقى وسموها؛ ما منح المستمعَين والعازف شعورًا بأنهم معزولون تمامًا عن الصخب بالخارج. كانت الكنيسة حينئذٍ واحة سلامٍ وسط صحراء شاسعةٍ من الاهتياج والصخب.

لم يتمكَّن لانجلي من إقناع برونت مرةً أخرى بالذهاب معه إلى الكنيسة. فبعض الذكريات أثمن من أن تُمَس، ومَن يخاطر بتكرار تجربةٍ تذوَّق فيها النعيم الخالص، فعليه أن يُهيِّئ نفسه للخذلان.

كان برونت يقول: «لا يا صديقي، لن نكرِّرها في الوقت الحالي. ربما أعود إلى هناك يومًا ما إذا بدأت في نسيان ما سمعت، ولكن ليس الآن. سأصبح مهووسًا بالموسيقى إذا ما اعتادت أذناي على عزفِك الرائع، ففي الواقع، أعتقد أحيانًا أني على وَشْك أن أصبح كذلك بالفعل.»

ولكن عادةً ما كانت جيسي ترافق عازف الأرغن إلى الكنيسة الهادئة، دون أن يفكر أيٌّ منهما فيما يصحُّ وما لا يصح، ومن حسن حظهما، لم يرَهما القندلفت أو زوجته، واللذان كانا سيثيران ضجةً كبيرة حول قواعد السلوك اللائق المقدسة. وفي بعض الأحيان، كانت الفتاة تجلس معه في غرفة الأرغن في العُليَّة لتشاهده وهو يعزف، ولكنها كانت في أغلب الأحيان تجلس على أحد المقاعد؛ إذ إن هذا الموقع أفضل لسماع أنغام الآلة الموسيقية من المنظور السماعي الصحيح. ورثت جيسي عن والدها قلة الكلام التي تميَّز بها، وعزَّز ميلها إلى الصمت طبيعتها الخجولة. كان من النادر أن يدورَ حوارٌ بينهما في الكنيسة؛ إذ بدا أن كلًّا منهما كان قانعًا تمامًا بحقيقة وجود الآخر معه. كانا حبيبَين شبه صامتَين؛ فلم تكن للغة المنطوقة فائدةٌ تُذكر بالنسبة إليهما.

ذات مرة، بينما كان لانجلي يهبط السلم الضيق من غرفة الأرغن العلوية، ظن أنها رحلت، وبدت الكنيسة مهجورةً بصورة غريبة للغاية. في أوقات القداس، كان يجب إشعال مصابيح الغاز حتى خلال النهار؛ فقد كانت النوافذ مصنوعةً من الزجاج الملون، وكانت الكنيسة محاطةً بمبانٍ عالية ملاصقة لها. كان من النادر أن ترى أجواءً صافية في هذا الجزء الكئيب من المدينة، وكانت الكنيسة من الداخل معتمةً دائمًا. حدَّق لانجلي بنظره القصير عبر الظلام، ولكنه لم يتمكن من رؤيتها. وانتابه شعور غامض بالقلق، وبينما كان يُسرع بين صفوف المقاعد، إذا به يبصرها جالسةً في مكانها، وقد أراحت رأسها على حامل كتب الترانيم الملحق بالمقعد وبدت نائمة. فلمس كتفها برفق، وعندما رفعت رأسها ببطء، وجد أنها كانت تبكي في صمت.

فمال بجسده فوقها وهمس قائلًا: «ما الأمر يا عزيزتي؟»

«أشعر بالخوف، خائفة من شيء ما لا أعلم ما هو. لقد أظلمت الكنيسة تمامًا فجأة، وخبا صوت الموسيقى. اعتقدت أني أغرق، أغرق حتى القاع، وما من أحد لينقذني.» كانت ترتجف وهي تتحدث، ثم نهضت واقفةً على قدميها في اضطراب، وترنَّحت قليلًا عندما حاولت التحرك بين صفوف المقاعد. ثم أخذت نفسًا عميقًا مضطربًا، وأضافت: «كان الأمر أشبه بكابوس.»

أحاط لانجلي خصرها بذراعه ليسندها بينما يسيران معًا بين صفوف المقاعد.

وقال: «إنها ظلمة الكنيسة، وربما كآبة الموسيقى. سأعزف لكِ مقطوعةً أكثر بهجةً عندما تأتين في المرة القادمة. فأنا أعزف أكثر من اللازم على مفاتيح الأرغن الصغيرة.»

عندما وصلا إلى الباب، طلبت منه أن يتوقف برهة قبل الخروج. حاولت عبثًا أن تجفِّف عينَيها؛ إذ بدأت في البكاء مجددًا وهي مستندة إلى الجدار الحجري، وكانت تبكي بكآبة ويأسٍ اعتصرا قلب الشاب.

قال متلعثمًا لا يدري ماذا يقول: «جيسي، جيسي.»

قالت جيسي منتحبة: «أشعر بالإعياء والضعف. سأتعافى مرةً أخرى بعد قليل.»

«تعالَي نحتسِ الشاي في مكان ما. فهذا من شأنه أن ينعشك.»

خرجا من الكنيسة معًا، واصطحبها لانجلي إلى مكان يُقدَّم فيه الشاي. جلست جيسي هناك مسندةً رأسها بكآبة على يدها بينما كانت تُحضَر المشروبات، وكان جالسًا أمامها في صمت حزين. رشفت جيسي بضع رشفاتٍ من الشاي، ولكنها لم تستطع شربه، وهزَّت رأسها رفضًا عندما قدَّم لها لانجلي الخبز المدهون بالزبد.

ثم قالت أخيرًا: «لا بد أن أعود إلى المنزل. لا أستطيع أن آكل شيئًا. سأكون في حال أفضل هناك.»

سارا معًا على مهل حتى وصلا إلى ساحة روز جاردن، وعند المنزل رقم ثلاثة، ساعدها على صعود الدرج القذر، كان مسرورًا أنهما سيصعدان طابقًا واحدًا فقط؛ إذ كانت تتشبث لاهثةً بالدرابزين المتداعي بين كل درجة أو اثنتَين. كان برونت جالسًا في مقعده ذي الذراعَين مقطبًا جبينَه في غضب. كان برونت في أسوأ حالاته المزاجية، فنظر نحوهما في استياء وتجهم عند دخولهما، ولكنه لم يقل شيئًا. كانت هذه الأمسية التالية لقرار العمال باستكمال الإضراب، بعدما لم تتمكَّن مجموعته من الفوز بأغلبية الأصوات، وكان غليون برونت مُطفأً. فلم يستطع العثور ولو على القليل من التبغ، على الرغم من أنه فتَّش في كل جيوبه على أمل العثور على بعض الفتات. غاصت جيسي في أحد المقاعد وراحت تتنقل بوجهها الشاحب في جزع بين والدها وصديقها؛ إذ بدا عليها الخوف من احتمال التفوه بكلمات فظة؛ فقد كانت تعلم أن والدها يكون فظًّا في حديثه عندما يكون مستاءً.

قال عازف الأرغن: «جيسي ليسَت بخير.»

لم يُجِبه برونت، واكتفى بالنظر إلى ابنته ومداعبة شعرها، وقال برفقٍ لم تتوقَّعه منه:

«ماذا بكِ يا صغيرتي؟ هل أنت جائعة؟»

غمغمت ابنته بلهفة: «لا، لا. لقد احتسينا الشاي قبل أن نعود. لست جائعة.»

أدرك لانجلي، الذي كان بطبيعته بطيئًا في إدراك الأشياء، أن برونت، على الأقل، لا يمتلك أي طعام ربما منذ وقت طويل. كان قد عرض عليه بعض المال من مدخراته الضئيلة عدة مرات قبل ذلك، ولكنه كان يرفض دائمًا، وفي بعض الأحيان لم تكن طريقة رفضه ودودةً على الإطلاق. فخرج عازف الأرغن في صمت تاركًا الأب وابنته بمفردهما.

قال برونت في قلق: «هل تودين أن أحضر لك أحدًا … أعني امرأة؟ نحن لا نعرف جيراننا، ولكن قد تحضر امرأة منهم إذا علمت أنك مريضة.»

هزَّت الفتاة رأسها رافضة.

وقالت: «لا أريد أحدًا، لا أريد شيئًا سوى أن أستريح قليلًا. سأتعافى قريبًا. لا أحتاج إلا إلى الراحة.»

عاد الأب إلى مقعده، وجلس كلاهما في الظلام الزاحف.

لم يمرَّ وقت طويل حتى انفتح الباب ودخل لانجلي حاملًا أشياء على ذراعَيه. وضع رغيفًا من الخبز على الطاولة وإلى جواره بقية حمولته، ووضع على رف المدفأة الفارغ جريدةً تحوي القليل من الفحم.

حدق برونت إليه وانعقد لسانه برهة، ثم صاح في سخط:

«لن أنسى صدقتك هذه يا فتى، فلتتنزل عليَّ اللعنات إن فعلت!»

قبل أن تسنح للانجلي فرصة الرد، هبَّت جيسي واقفةً وهي ترتجف.

وناحت قائلة: «لا يا أبي، لا تفعل»، وأخذت تترنح عندما حاولت أن تسير نحوه، ثم سقطت فجأةً على الأرض.

اندفع لانجلي نحوها إلا أن برونت دفعه جانبًا في خشونة، وانحنى فوق ابنته، وحمل جسدها الضئيل بين ذراعيه متحدثًا إليها بلطف وحنان. ثم حملها إلى الفراش ووضعها فوقه بحب.

ثم صرخ في وجه لانجلي قائلًا: «أسرع! أسرع وأحضر طبيبًا. ثمَّة طبيب في نهاية شارع لايت. أخشى أن ثمَّة شيئًا خطيرًا يحدث لها.»

ولم يتوانَ الشاب. رفض الطبيب الذهاب إلى ساحة روز جاردن، وقال إن لديه مرضى يجب أن يعتني بهم. فقد كان يدرك أن الساحة لم يكن يأتي من ورائها الكثير.

فأجابه الرسول في لهفة: «أنا عازف أرغن في كنيسة القديسين الشهداء. وسأدفع لك ما تريد.»

قال الطبيب: «أوه، ليس هذا ما أقصده. من يعالج سكان الساحة عادة؟ لا بد أن أحدًا يفعل.»

أجابه لانجلي: «لا أعلم، ولا وقت لديَّ لأبحث. الحالة خطيرة. تعالَ معي!»

فذهب معه الطبيب متذمرًا؛ فهذا النوع من العمل كان خارج نطاق تفضيله.

عندما وصلا، وجدا برونت يفرك يدَي الفتاة في قلق.

صاح بمجرد دخولهما: «لقد تأخرتما.»

لم يُجِبه أيٌّ منهما، واتجه الطبيب بسرعةٍ نحو الفراش بلا مبالاة، واستخفاف رجلٍ اعتاد رؤية مثل هذه المشاهد على نحو دائم. وضع الطبيب أصابعه على معصم الفتاة، وقرَّب أذنه من صدرها، ثم وضع يده على جبينها الأبيض الناعم.

ثم سأل بحدة: «هل هي مريضة منذ فترة طويلة؟»

رد والدها: «لطالما كانت جيسي ضعيفةً ومريضة، ولم تكن ابنتي المسكينة بخير على الإطلاق مؤخرًا.»

«مَن يتولى علاجها؟»

«لا أحد.»

«أوه، حسنًا، لن يمكنني منحك شهادة وفاة في ظل هذه الظروف. أغلب الظن أنه سيكون ثمَّة تحقيق.»

صرخ برونت قائلًا: «يا إلهي! تحقيق! هل تعني أن … لا يمكن أنك تعني ذلك! … جيسي لم تَمُت؟»

«لا، لقد ماتَت. لا يمكنني أن أفعل شيئًا. سأبلغ الطبيب الشرعي، ويمكنه أن يفعلَ ما يحلو له. لا شكَّ لديَّ في أنه لا توجد شبهةٌ جنائية، ولكننا ملزمون بالتصرُّف وفقًا للقانون كما تعلم. طابت ليلتك!»

ألقى برونت نفسه على الفراش وسط عاصفة من الحزن، بينما وقف لانجلي بجوار الفتاة الميتة في ذهول. أمسك بيدها النحيلة التي فارقتها الحياة، وحدَّق إلى وجهها فاقدًا الحس، تأبى دموعه النزول. نهض والدها وأخذ يذرع الغرفة جيئةً وذهابًا متضرِّعًا إلى القدر تارةً ولاعنًا إياه تارةً أخرى. وفجأة، التفت نحو لانجلي كالمجنون.

صاح فيه بصوت هادر: «ماذا تفعل هنا؟ إن تدخُّلك هو ما جعل كلماتها الأخيرة تخرج مضطربة. هيا ارحل، واتركنا وشأننا!»

استدار لانجلي مبتعدًا عن الفراش، وسار ببطءٍ نحو الباب دون أن يتفوَّه بكلمة، وتبعه برونت مطرقًا عينَيه اللتَين أصبحتا بلون الدم إلى الأرض. ثم توقَّف الشاب مترددًا عند الباب، وأسند ذراعه إليه، وأحنى رأسه في حسرةٍ وقنوط.

ثم قال في يأس: «رحماك يا ألله! لقد أحببتها أنا أيضًا.»

نظر إليه برونت برهة، غير مستوعبٍ ما قال في البداية. ثم بدأ الغضب يزول من وجهه تدريجيًّا.

وأخيرًا قال بهدوء: «هل كنت تحبُّها يا فتى؟ لم أكن أعلم، لم أكن أعلم. اغفر لي نوبات غضبي الفظ. كنت أعتقد أنها ستنكسر في هذه اللحظة. أنا مجنون أيها الفتى، ولا أدري ما أقول. أنا لا أملك بنسًا واحدًا في هذا العالم، ولا أعلم إلى أين أذهب لأجد مالًا. لن تخرج فتاتي الصغيرة إلى مثواها الأخير في جنازة فقراء في هذه المدينة القاسية. لا، لن يحدث ذلك حتى لو اضطُررت إلى حملها بين ذراعَي، كما كنت أفعل دائمًا، والسير بها نحو الشمال، ونبيت ليالينا تحت أسيجة الشجيرات طوال الطريق. نعم، هذا ما سأفعله. سنسير على إيقاع «اللحن الجنائزي.» سيرافقنا طوال الطريق. سنرتاح ليلًا في الحقول الخضراء تحت الأشجار، بعيدًا عن الدخان والضجيج، وحيدَين معًا. آه، يا إلهي! سأبدأ رحلتي على الفور، وسأسير طوال الليل، وعندما يحل الصباح سأكون خارج مدينة بابل هذه.»

صاح لانجلي ممسكًا بذراعه: «لا، لا! يجب ألَّا تفعل ذلك. لا بد أن تسمع ما سيقوله الطبيب الشرعي.»

«وما شأن الطبيب الشرعي أو أي شخص آخر بها أو بي؟»

«إنه القانون: لا بد أن تمتثل إليه.»

«وما شأني بالقانون؟ ماذا فعل لي أو لجيسي؟ لن تخرج ابنتي بجنازة فقراء، سواء بالقانون أو بغير القانون.»

«لن تكون هناك جنازة فقراء. ثمَّة قلوب عطوفة في لندن، كما في الشمال. عدني بأنك لن تفعل أي شيء حتى أرى إذا ما كنت سأتمكَّن من تدبير المال.»

قال برونت وهو يغوص في مقعده: «أعدك. فلست واثقًا من أنني سأستطيع السير لتلك المسافة الطويلة الليلة، حتى وإن حاولت. ولكن اتركني بمفردي الآن يا فتى، وعُد فيما بعد. أريد أن أبقى بمفردي لأفكِّر.»

غادر لانجلي الغرفة، والتقى مارستن على بسطة السلم، ولم يكن يعرفه، ولكن رأى أنه بصدد الدخول إلى الغرفة.

فهمس له قائلًا: «لا تدخل. فهو يريد أن يبقى بمفرده.»

سأله مارستن منزعجًا من نبرة الرجل الآخر: «هل حدث خطب ما؟»

«نعم، ماتت ابنته.»

«ماتت! يا إلهي! كيف؟ في حادث؟»

«لا، كانت مريضةً طوال أسابيع، ولكن لم يعتقد أحدٌ أنها قد تموت. ماتَت جيسي منذ ساعة فجأة. هل أنت صديقه؟»

«نعم.»

«يجب أن تساعدني إذن، أخبرني بما يجدر بي فعله. لنهبط إلى الساحة حيث يمكننا أن نتحدَّث.»

هبط الشابان الدرج.

قال لانجلي: «لا يملك برونت أي مال، ولن يترك ابنته للأبرشية لتتولَّى دفنها. يجب أن نحصل على بعض المال. لقد وعدته بذلك، ولكني لا أملك الكثير منه، وإن كنت على استعدادٍ لإعطائه كل ما أملك. لو كنت أملك المزيد من المال، لما طلبت المساعدة من أحد.»

قال مارستن: «أنا لا أملك إلا بضع شلنات، ولكن لا بد أن نحصل على المزيد بأي طريقة. لا يملك أيٌّ من العمال أي أموال، وإلا كانوا أعطَوها لنا. كان من الممكن أن أذهب إلى سارتويل بالأمس، ولكني تشاجرت معه اليوم، وأخشى أنه كان شجارًا عنيفًا لا مجال فيه للإصلاح. وعلى الرغم من أنه لم يقُل لي أي شيء، فأنا لا أستطيع الذهاب إليه لطلب المساعدة. ولكن هناك برنارد هوب. نعم، هو مَن سيقدِّم المساعدة. فقد ساعد برونت عندما وقع في مشكلةٍ مع الشرطة. ولكني لا أريد الذهاب إلى برنارد هوب؛ فلديَّ أسبابٌ معينةٌ تجعلني راغبًا عن أن أكون مدينًا له. هل تمانع الذهاب أنت إليه؟ إنه يعيش في تشيلسي.»

«لا مانع لديَّ، سأفعل أي شيء. لقد قطعت على نفسي عهدًا.»

«كنت سأذهب له الليلة لو كنت مكانك. فغدًا يوم «حفل الاستقبال» الذي يُنظِّمه، وسيكون ثمَّة الكثير من الناس في منزله. وسيكون من الصعب مقابلته، ولا يمكننا الانتظار إلى بعد غدٍ. إنه يسكن في منزل كريجنبوتوتش في تشيلسي. وإذا فشلت في مهمتك، فسأذهب للقاء والده؛ لذا فمن المؤكد أن أحدنا سيحصل على المال.»

قال لانجلي: «سأذهب في الحال.»

كانت الرحلة إلى تشيلسي طويلة، وعندما وصل عازف الأرغن المتعب إلى المكان، وجد بارني قد ذهب إلى حفلٍ مسرحيٍّ يليه حفل راقص، ومن غير المرجح أن يعود إلى منزله تلك الليلة. ولم يُعرَف متى سيعود في الصباح، ولكن كان من المؤكَّد أنه سيعود في تمام الثالثة؛ إذ كان أصدقاؤه المدعوون إلى «حفل الاستقبال» سيبدءون في التوافد على المنزل في تلك الساعة، هكذا قال خادم بارني. عاد الرجل المنهك أدراجه ووصل إلى ساحة روز جاردن عند منتصف الليل تقريبًا. طرق باب برونت، ولكنه لم يتلقَّ إجابة، فدفع الباب بعد لحظاتٍ قليلةٍ من التردد. كان يخشى أن يكون الرجل العنيد نافد الصبر قد نفَّذ قراره في النهاية، وغادر مع جثمان ابنته إلى الشمال، ولكنه وجد كل شيء على حاله. كان برونت جالسًا في مقعده دافنًا رأسه بين كفَّيه، ولم يوجِّه له أي تحية.

قال لانجلي واثقًا من أنه لن يواجه أيَّ رفض: «سأحصل على المال غدًا.»

لم يُجِبه برونت، وبعد أن ألقى الشاب نظرةً على الجثمان الساكن المُسجى على الفراش، الذي أصبح وجهُه يُشبه وجه طفلةٍ صغيرة، انصرف الشاب في هدوءٍ مثلما دخل.

قابلته السيدة سكيمينس على الدرج. وأرادت أن تعرف ما يجري. قالت إن نساء الساحة، عندما سمعْنَ بوفاة الفتاة، عرضْنَ المساعدة على برونت، ولكنه تصرَّف بهمجيةٍ كعادته وطردهنَّ خارج المنزل مصحوباتٍ بسيلٍ مخيفٍ من السباب. كانت واثقةً أن ثمَّة خطبًا ما. وكان الطبيب الشرعي حاضرًا وارتأى ذلك أيضًا. وأخبرَته بأن ثمة تحقيقًا سيجري في مبنى البلدية في الصباح. وتركَت الشرطة استدعاءً للانجلي لحضور التحقيق والإدلاء بشهادته.

فصاح الشاب في فزع: «ولكني ذاهب إلى تشيلسي في الصباح. أنا لا أعرف شيئًا عدا أن جيسي كانَت مريضة.»

«يُقال إنك رأيتها تموت. وأقر برونت بذلك. لا بد أن تحضر التحقيق، وإلا فسيُرسلون وراءك شرطيًّا.»

لم يغمض للانجلي جفن في تلك الليلة، وكان مرهقًا ومنهكًا في الصباح. صعد أعضاء هيئة محلفي الطب الشرعي الدرج محتشدين، وبعد أن ألقَوا نظرةً على جثمان الفتاة، وقاموا بتعليق الإجراءات وانتقلوا إلى مبنى البلدية. أدلى لانجلي بشهادته وغادر الغرفة على الفور، وظل يحوم حول الباب منتظرًا خروج برونت الذي بقيَ في مبنى البلدية. وأخيرًا، خرج من المبنى شاحب الوجه وعيناه تحدِّقان أمامه.

سأله لانجلي: «ماذا قالوا؟» إلا أن الرجل الآخر لم يُجِبه، وواصل المسير وسط الحشد الفضولي المتجمهر كما لو كان لا يرى شيئًا.

سأل أحد المتجمهرين أحد أعضاء هيئة المحلفين عندما خرج من المبنى: «ما حكم هيئة المحلفين؟»

فأجاب الرجل: «ماتت جوعًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤