الفصل الثامن عشر

في اليوم التالي لفشل مارستن في استمالة أغلبية العمال إلى صفِّه، خلال الجدل الذي دار بشأن الإضراب، ذهب الشاب إلى ويمبلدون أملًا في أن يجد العزاء في هزيمته في صحبة محبوبته. كان يشعر بأنه يستغلُّ سارتويل دون وجه حقٍّ إلى حدٍّ ما بمواعدة ابنته سرًّا هكذا، ولكنه برَّر ذلك لنفسه، كما يبرِّر المحبون دائمًا لأنفسهم، بأن من الحمق أن يخسر المرء جولةً ولدَيه الأوراق التي تضمن له الفوز. كان جليًّا أن سارتويل لا يعترض على زيارات برنارد هوب، وأنه راغبٌ تمامًا في تزويج ابنته لابن ربِّ عمله. لو أن مارستن قد أدرك هذا بالأمس، لم يكن ليتعامل بهذه الدرجة من إنكار الذات ويرفض لقاء إدنا سارتويل، والآن، أمَا وقد تدخَّل القدر نيابةً عنه ومنحه المعلومة بأن لديه منافسًا، فلن يكون بالحمق الذي يجعله يضيع الفرصة التي سنحَت له.

دخل مارستن قطعة الأرض الفضاء المحيطة بالمنزل الشاغر، وراح يمسح ببصره السور ذا القمة الزجاجية في قلق؛ بحثًا عن الإشارة التي وعدَت إدنا، بعد إلحاح، بأن ترسلها. ولكنه لم يرَها. فتساءل عما إذا كانت الفتاة، في نهاية المطاف، أخبرَت والدها عن زيارته. كان مارستن واثقًا من أن سارتويل سرعان ما سوف يُلمُّ بجميع تفاصيل الأمر من مجرَّد تلميحٍ بسيطٍ إليه بشأنه.

ظلَّ مارستن يذرع الجانب الآخر من السور في تعاسةٍ لا يدري ماذا يفعل. وفجأةً توقَّف بالقرب من الموضع الذي قفز من فوقه في اليوم السابق. تراءى له أنه سمع صوت سعال خفيف على الجانب الآخر من السور. ربما كان هذا تحذيرًا أو دعوة؛ كان السؤال الذي يدور في ذهنه هو: أيهما أصح؟ لا شك أنها تعلم أنه سيكون هناك في انتظار إشارتها، أو ربما — وكانت فكرةً مؤلمة له — نسيَت أمره من الأساس.

كان هناك على الجانب البعيد من الحديقة سور متنزه، أقصر من السور الحجري الحصين، ويلتقي به عند طرفه مشكلَين زاويةً قائمة. ولأنه لم يكن يحتمل الترقب، قرَّر الشاب أن يُقدم على مخاطرة استطلاع الأمر. فصعد من فوق سور المنتزه ونظر من فوق السور الحجري، إلا أن الأشجار والشجيرات كانت كثيفةً للغاية؛ فلم يستطع أن يرى إذا ما كان ثمَّة أحدٌ في حديقة سارتويل أم لا؛ حتى المنزل كان محجوبًا عن رؤيته. لا يتسلق ضعاف القلوب سورًا حجريًّا أبدًا؛ أما مارستن فلم يتردَّد سوى لحظة، ثم تمسَّك بفرع شجرةٍ متدلٍّ، وسحب نفسه إلى أعلى السور متفاديًا الزجاج، وهبط على الجانب الآخر بين الشجيرات. وقف في مكانه يُصغي بتركيز، ولكنه لم يسمع صوتًا، فتحرَّك بحذرٍ بين الشجيرات نحو المساحة المفتوحة تحت الأشجار، حيث جلس يتحدَّث إلى إدنا في اليوم السابق. كان المكان خاليًا، ولكنه تنفَّس الصُّعَداء عندما رأى وشاحًا أحمر اللون معلقًا على ظهر أحد المقاعد. لقد فكرت فيه على الأقل؛ إذ كان هذا الوشاح بلا شكٍّ هو الإشارة التي لم تستخدمها.

أصبح مارستن أكثرَ حيرةً مما كان وهو واقفٌ على الجانب الآخر من السور. فقد بدا أنها كانَت تنوي إلقاء الوشاح فوق الزجاج المكسور، وإلا فما كانت أحضرَتْه إلى مكان لقائهما، ولكن بما أنها لم تُعطِه الإشارة المتفق عليها، فهل ثمَّة احتمالٌ أن يكون والدها في المنزل؟ عقد الشاب حاجبَيه وهو يفكر في المبرر الذي سيقدمه إلى سارتويل إذا ما ضبطه واقفًا تحت الأشجار.

كان مارستن على وَشْك اتخاذ القرار بأن يعود أدراجه من الطريق الذي جاء منه، عندما رأى إدنا قادمةً من ناحية المنزل. مدَّت الفتاة يدها نحوه وعلى وجهها ابتسامةٌ استقرَّت في قلبه، إلا أن كلماتها لم تكن مطمئنة.

قالَت: «كنت أترقَّب وصولك، ولكني كنت آمل ألَّا تأتي.»

كرَّر مارستن كلماتِها بنبرةٍ تشوبها الحيرة: «كنت تأملين ألَّا آتي؟»

«كنت آمل ألَّا تأتي إلا عن طريق البوابة الأمامية على الأقل. فهذا لا يعجبني. فالأمر يبدو سريًّا ودنيئًا، كما لو أننا نقترف ذنبًا نخجل منه. قد لا نجني نفعًا كثيرًا من حديثنا عن الإضراب، ولكننا بالتأكيد لا نفعل شيئًا يخجل أيٌّ منا من أن يعرفه العالم بأسره. ولا أرى سببًا، بعدما فشلت الخطط التي وضعتها بالأمس، لعدم دخولك المنزل مثل أي زائرٍ آخر، أليس كذلك؟»

«أعتقد أنه لا يوجد سبب.»

صاحَت الفتاة متحمسة: «بالطبع لا يوجد؛ ولهذا أنوي إخبار والدي بكل شيءٍ بشأن زيارتك هذه اليوم، حتى وإن لم أستطع ذكر شيءٍ عن زيارة الأمس.»

قال مارستن راجيًا، وقد انتابه الهلع: «أوه، ولكن يجب ألَّا تفعلي شيئًا من هذا القبيل. ستعدينني بأنَّكِ لن تتفوَّهي بكلمةٍ واحدةٍ عن وجودي هنا اليوم، أليس كذلك؟»

ضحكَت الفتاة وهزَّت رأسها نفيًا.

وقالت: «لن أقطع على نفسي وعدًا أحمق مثلما فعلت بالأمس. فكما ترى، لم يعُد وعدي لك بأي نفع.»

«ماذا؟! هل أخبرتِ السيد سارتويل بأني كنت هنا؟»

«لا. لقد وعدتك بأني لن أفعل، ولم أفعل، ولكن هذا الوعد جعلني أشعر بالذنب إلى حد البؤس دون داعٍ. ما أعنيه هو أن خططك لإنهاء الإضراب لم تنجح؛ ومن ثَم فإن إخبار والدي بشأن زيارتك لن يشكِّل أيَّ فارق. ألَا تتفق معي في ذلك؟ لا، لن أتسرَّع وأقطع على نفسي وعدًا كهذا مرةً أخرى.»

قال مارستن في جدية: «آنسة سارتويل، أنت لا تدركين جميع الملابسات، ثمَّة أسباب أخرى تحتِّم عليكِ عدم إخبار والدكِ بمجيئي إلى هنا. على الرغم من أن المفاوضات فشلت في الوقت الحالي، فستُستأنف مرةً أخرى قريبًا. وإذا ما علم السيد سارتويل أنني كنت هنا بالأمس …»

«أوه، أنا أنوي الوفاء بوعدي بشأن الأمس. لن أتفوَّه بكلمةٍ عن هذه الزيارة، ولكني سأخبره عن زيارة اليوم.»

«ولكن ألَا تفهمين ما أقصد؟ زيارة الأمس أدَّت إلى هذه الزيارة. فالزيارتان متلازمتان؛ لا يمكنكِ ذكر واحدةٍ دون أن يؤدِّي بكِ ذلك إلى ذكر الأخرى. عديني من فضلكِ بألَّا تُفصحي عن شيءٍ عن زيارة اليوم أيضًا.»

«لن أقطع على نفسي أيَّ وعودٍ أخرى. عندما عاد أبي في وقتٍ متأخرٍ ليلة أمس، أخبرني بكل ما حدث بشأن ما حاولت فعله، وكل شيء. وشعرت بالذنب لاضطراري إلى إخفاء أي شيءٍ عنه، حتى إنني قرَّرت ألَّا أقطع على نفسي وعودًا أخرى لأي أحدٍ إلا إذا كان على علمٍ بها، ولا تكون ثمَّة حاجة للشعور بالذنب. أنا واثقة من أنه كان سيسعد بمعرفة أننا قد تحدَّثنا عن الإضراب، وأننا كنا نحاول مساعدته، ولكن بسبب هذا الوعد الغبي، لم أجرؤ على ذكر أيٍّ من ذلك له. وظني، إذا كنت تفهم ما مررت به، أنك لن تطلب مني أن أخفي أي شيء عنه.»

صاح مارستن وقد ظهر من حبه للفتاة في صوته أكثر ممَّا يدرك: «عزيزتي الآنسة سارتويل، لن أسبِّب لكِ أي معاناة لأي سببٍ كان في هذا العالم!»

حدَّقت إدنا إلى وجهه بعينَين متسعتَين، مندهشةً من حرارة كلماته، ثم ضحكَت بجذل.

وقالت: «يا إلهي، كم أنت جاد! سأنسى الأمر برمته سريعًا في النهاية، وعلى الرغم من أني لن أقطع على نفسي وعودًا متسرعةً مرةً أخرى، فسأفكِّر في الأمر، وإذا … ولكن ما جدوى «إذا»؟ سأخبر والدي الليلة بأنك حضرت للقائه، وأني تحدَّثت معك بشأن الإضراب.»

«لن تكون هذه هي الحقيقة يا آنسة سارتويل. فلم آتِ للقائه، بل أتيت لأراكِ أنت.»

«أوه.»

«نعم، وسيكون عليكِ أن تخبريه بأني تسلَّقت السور. لا يمكنكِ أن تنقلي أنصاف الحقائق كما تعلمين، كما أننا لم نتحدث كثيرًا عن الإضراب، أليس كذلك؟»

«نعم، ولكنك جئت إلى هنا من أجل هذا، أليس كذلك؟»

«نعم. أوه، نعم، بالطبع. ولا شيء غير ذلك، ولكن عليك أن تدركي أنه لن يكون منطقيًّا أن تخبري والدكِ بأي شيء عن هذه الزيارة، ما لم تخبريه بكل شيء. سيود أن يعرف سبب دخولي من فوق السور.»

«ولمَ فعلت ذلك؟ أنا واثقةٌ من أنه كان من الأفضل الدخول عبر بوابة المنزل. كان الأمر سيصبح أسهل كثيرًا.»

«سأفعل عندما آتي المرة القادمة. ولكنكِ تعلمين أن السور موجود، وأني جئت من فوقه؛ لذا، ومن دون أي وعود، أرجوكِ ألَّا تخبري السيد سارتويل بأي شيءٍ عن هذا الأمر؛ لأنه سيطلب مني شتى أنواع التفسيرات التي لا أدري كيف يمكنني أن أقدِّمها له.»

«حسنًا، لن أفعل. أوه، يا إلهي! هذا يُعدُّ وعدًا، أليس كذلك؟ وقد قلت إني لن أقطع أي وعود. ظني أنك ستعتقد الآن أن هذا من شيم النساء. ولكني لن أعدك بأي شيء آخر أبدًا.»

«أوه، لا تقولي ذلك يا آنسة سارتويل. سأعدك أنا بأي شيء.»

«عظيم. عدني إذن بأن تخبر والدي بأنك كنت هنا.»

ضحكت الفتاة عندما رأت ارتباكه حين صدَّقت ما قاله في الحال هكذا.

صاحت الفتاة في جذل قائلة: «أرأيت، أنت لم تكن تعني ما قلت. أعتقد أنك خائف من أبي.»

«هذا صحيح.»

«شيء غريب جدًّا. أود أن أخبره بذلك. لا أتخيل أن أحدًا قد يخاف منه.»

«ربما لم ترَيه في غضبه من قبل.»

«أوه، أجل، رأيته؛ ولكني كنت أجلس هادئةً دون أن أنبس بكلمة. إنه ليس عنيفًا على الإطلاق عندما يغضب، مثل بعض الرجال، ولكنه يضيِّق عينَيه، ويزم شفتَيه بشدة، ولا يرغب في توجيه أي حديثٍ له في تلك اللحظة، وهذا ما يجعلني ألتزم الصمت. لقد كان غاضبًا منك في تلك الليلة، أليس كذلك؟»

سألها مارستن حابسًا أنفاسه: «أي ليلة تقصدين يا آنسة سارتويل؟»

«تلك الليلة عندما دخلت عليكما في المكتب. المرة الأولى على الإطلاق التي تحدَّثت فيها إليَّ. ألَا تذكر؟»

قال مارستن بصوت خافت: «لن أنساها ما حييت.»

«أراك تتأثر بالأشياء على نحو بالغ. يجب ألَّا تلتفت إلى خيبة أمل هينة، وألَّا توغر صدرك تجاه والدي لأنه رفض طلبك. لقد ناصرتك حينئذ، كما أخبرتك بالأمس، وأخشى أني لم أُفِدك كثيرًا بما فعلت؛ فأبي يرى أن النساء يجب ألَّا يتدخلْنَ في أمور العمل.»

كانا يجلسان متقابلَين، وكانت الفتاة منحنيةً إلى الأمام في وضعية ودودة وحميمية، بينما جلس الشاب، الذي لم يستطع أن يرفع بصره عنها، يستمع إلى همس حديثها الساحر كما لو كان في حلم.

كرَّر مارستن كلمتها كما لو كان يحدِّث نفسه: «هل ناصرتني؟»

«نعم، وقال أبي …»

قطعت الفتاة حديثها في حرج؛ إذ تذكرت أن ما قيل لم يكن في صالح مارستن.

سألها مارستن متلهفًا: «ماذا قال؟»

«حسنًا، كما تعلم، إنه يرى أنك صغير السن للغاية، ولا تمتلك الخبرة لتتولى منصبًا ينطوي على مسئولية، وأنت لست كبيرًا بما يكفي بالفعل، أليس كذلك؟ ولكن في المستقبل عندما تكتسب المزيد من الخبرة، أنا واثقة من أنه سيستمع إليك. من الرائع أن تكتسب ثقته؛ على الأقل هذا ما يجدر بي أن أحاول فعله.»

قال مارستن في كآبة: «نعم، كم أود أن أكتسب ثقته!»

«أوه، الأمر ليس صعبًا. ليس مطلوبًا منك إلا أن تؤدي واجبك. وأعتقد أنه ليس من العيب أن يكون الشاب طَموحًا. بل يُفترض أن يكون ذلك في صالحه، خاصةً مع رجل مثل أبي؛ فلطالما كان هو نفسه طموحًا للغاية، وأعتقد أن أكبر عيب في العمال أنهم لا يهتمون بتحسين أوضاعهم من عدمه. لا يمكنك أن تفعل أي شيء لإنسان لن يساعد نفسه، وأنت طموح، أليس كذلك؟»

«جدًّا. أحيانًا أرى أنني طَموح أكثر ممَّا ينبغي.»

«أوه، لا يمكن أن يكون الإنسان طموحًا أكثر ممَّا ينبغي، إلا إذا كان على شاكلة نابليون وكان وضيعًا وشريرًا بكل ما تحمله الكلمتان من معنًى. بالطبع سيكون هذا خطأً في هذه الحالة. والآن إذا أردت نصيحتي … ولكن ربما تعتقد أنني لا أعرف شيئًا عن هذه الأمور؟»

«آنسة سارتويل، إني لأفضل أن أسمع النصيحة منك على سماعها من أي أحد آخر في العالم، وسأنفِّذها بحذافيرها.»

«أنت تأخذ الأمور بجدية مبالغ فيها حقًّا. يا لها من مسئولية كبيرة تلك التي ستثقل بها كاهلي! لا، عليك أن تسمع النصيحة أولًا، ثم تقرِّر إذا ما كان من الأفضل اتباعها أم لا. أعتقد أنك يجب أن تواصل العمل في هدوء لعام أو اثنين، وأن تبذل أقصى ما في وسعك وألَّا تتحدث كثيرًا قدر الإمكان. إن أبي يحب الرجل الذي يُنجز الأمور وليس الرجل الذي يتحدث عن الأمور. فهو لا يؤمن كثيرًا بالكلام. وعندما ترى ضمنًا أنه قد أصبح يثق بك، فربما يعرض عليك حينها منصبًا أفضل، ولكن إن لم يفعل، فأبلغني وسأتحدث إليه في هذا الشأن. أوه، سوف أعرض الموضوع بدبلوماسيةٍ شديدة. سأبدأ بسؤاله عن مدى تقدُّمك في عملك في المصنع، وإذا أطرى عليك، فسأقترح عليه أن يمنحك منصبًا أفضل من منصبك الحالي. هل تعجبك خطتي؟»

«إنها خطةٌ رائعة، ولكن … لكن …»

«ولكن ماذا؟ ما وجه اعتراضك عليها؟»

«ليس لديَّ أيُّ اعتراضٍ عدا أنني قد أفقد الدافع بمرور الوقت.»

«أوه، هذا هراء. أنت تحب عملك، أليس كذلك؟»

«أحبه كثيرًا، ولكن إذا تمكَّنت من رؤيتك من وقتٍ لآخر، فإني … حسنًا … لن أفقد الأمل أو أيئس. وإذا ما تمكنا من ترتيب ذلك …»

اتكأت إدنا في مقعدها، ونظرت إليه مباشرةً بعينَيها الصافيتَين الواسعتَين اللتَين بدت فيهما الحيرة، في محاولة منها لاكتشاف ما يكمن خلف ما تراه واضحًا نصب عينَيها. أما مارستن، المثقل بعبء إدراكه أنه لم يكن يتعامل معها بصدق، ولكنه يخشى أن يفتح عينَيها قبل الأوان على حقائق الموقف، فكان مرتبكًا مثل أغلب من لديهم عزم وطيد على تحقيق غاياتهم، عندما يوضعون في موقفٍ زائفٍ لا مفرَّ منه دون المخاطرة بوقوع كارثة. وللحظةٍ تصاعد مع نبضات قلبه المتسارعة إصرار عنتري على تنحية كل حذره جانبًا، والصراخ بأعلى صوت قائلًا: «أحبك يا حبيبتي، أحبك؛ أنا فقير، ومنعني والدك من رؤيتك»؛ ولكنه خشي أن تصده إدنا، الأمر الذي سيكون أكثر فتكًا بآماله من منع والدها له عن التحدث إليها. فأطرق ببصره إلى الأرض وكبح جزعه. لقد أدرك أن الصدق لم يكن السبيل الأفضل لاتباعه، عندما اعترف لوالد الفتاة بمشاعره تجاهها في الوقت غير المناسب، على الرغم من اعتقاده حينئذٍ أنه قد سلك سبيلًا شجاعًا ومستقيمًا. ولو أنه كان أقل اندفاعًا، وحاول كسب المزيد من ثقة سارتويل، لربما نجح في النهاية في وضع قدم داخل منزل رئيسه، وحينها من يدري ماذا كان سيحدث! لقد حاول من قبل السحب من مصرف الثقة، ولكن رُفض شيكه، ولم يعد يمتلك رفاهية ارتكاب خطأ آخر من هذا النوع.

قالت إدنا أخيرًا، وقد قطَّبت جبينها الناعم قليلًا في ضيق: «لا تعجبني كلمة «ترتيب» التي قلتها. فزياراتك لنا لا تحتاج إلى ترتيب. يمكنك أن تأتي لزيارتنا مثلما يأتي أيٌّ من أصدقاء أبي، وستتوافر لنا فرص كثيرة لنتحدث. أنت مُصر على أن والدي يحمل لك ضغينة، في حين أنني أؤكد لك أن هذا ليس صحيحًا.»

قبل أن يتمكن مارستن من الرد، قطع الصمت بحدة صوت انغلاق البوابة القوي، وصعق الشاب عند رؤية سارتويل يدخل ويسير بخطًى واسعة على الممشى المؤدي إلى المنزل، ثم يتوقف، ويدير رأسه نحو البقعة التي يجلسان فيها، ثم يعبر المرج متجهًا نحوهما مباشرة. هبَّ مارستن واقفًا، في حين نهضت الفتاة ببطء أكبر وفي عينَيها لمعة خبيثة. ها هو حل المشكلة قد أصبح في متناول يدها، وفي الوقت المناسب تمامًا. كانت التعبيرات التي ارتسمَت على الوجوه الثلاثة ستُثير اهتمام طالب يدرس علم الفِراسة. كانت ملامح كلٍّ من سارتويل وإدنا ومارستن يرتسم عليها الغضب، والسرور، والارتباك على الترتيب، ولكن كان الرجل الأكبر سنًّا هو أول من سيطر على مشاعره، وبينما كان يقترب منهما، أصبح وجهه قناعًا خاليًا من التعبيرات لا يكشف أي شيء من الانفعال الذي يعتمل في صدره. ألقى نظرةً خاطفة مقتضبة على مارستن، الذي وقف في مكانه شاحب الوجه، وتبدو عليه أمارات مَن وقع في فخ ولا يجد سبيلًا للفرار. وألقى نظرةً أطول وأكثر تدقيقًا على ابنته، التي أظهرت له على الفور أنها ليس لديها ما تخفيه. فقد كان سرورها الواضح والصريح بحضوره أوضح من أن يُفهم بطريقة مغايرة. فتنفس الصُّعَداء، ولكنه أدرك بالفطرة أن الموقف يتطلَّب تعاملًا دقيقًا للغاية، إذا ما أراد أن تظلَّ الفتاة على جهلها ببواطن الأمور. وكان القَدَر حليفه في هذه اللحظة؛ فكلا الرجلَين، على تناقض الدافع لدى كلٍّ منهما، كان يرغب في الشيء نفسه: كان كلاهما لا يرغب في الشجار في حضور إدنا، أو المجازفة بأن تعرف كل ما يجري في ذلك الوقت. ولحسن الحظ، كانت عينا إدنا منصبَّتين على والدها، ولم تكن تنظر نحو الشاب الذي تجلَّى على وجهه وسلوكه أمارات الذنب والتردُّد على نحو لا لَبس فيه. وكانت هي من بادر بالحديث.

«أوه، أبي، أنا سعيدة للغاية بحضورك، لقد كنا نتحدث عنك للتو.»

«نعم يا إدنا، ثمَّة بعض الأمثال تنطبق على ما تقولين: بعضها مجامِل وبعضها على النقيض.»

ضحكت إدنا في سعادة.

وقالت: «كنا نحاول تسوية مسألة الإضراب، وكان السيد مارستن يعتقد أنك ستغضب إذا عرفت أنه كان هنا، ظن أنك قد تعتبر ذلك تدخلًا. وأخبرته بأن كل ظنونه ما هي إلا محض هراء، ولكني أرى أنه لم يقتنع؛ وها أنت ذا قد حضرت في الوقت المناسب لتحل المشكلة نهائيًّا.»

«أرى أني وصلت في الوقت المناسب تمامًا. ولَكَم أنا سعيد بالحصول على مساعدة في حل هذا الوضع المعقد المحيِّر، وأرحِّب بالمساعدة أيًّا كان مصدرها.»

أطلقت الفتاة صيحة نصر والتفتت نحو الشاب الواقع في حبها، الذي بدا في هذه اللحظة وقد استعاد رباطة جأشه إلى حدٍّ ما، وقالت: «أرأيت؟! أليس هذا هو ما قلته لك للتو؟»

«مارستن، أخبرني السيد هوب منذ ساعة بأنك قد زرته بالأمس، وبأنك شرفتني بزيارة منزلي في ويمبلدون بعد ذلك، فعدت إلى المنزل خوفًا من تفويت زيارتك الثانية. السيد هوب يُثني عليك كثيرًا، ولا أريد أن أكون أقل حرارةً منه في التعبير عن رأيي في إخلاصك النزيه لمصلحة رفاقك من العمال.»

بلَّل مارستن شفتَيه الجافتين، ولكنه لم يُجب. إن السيد هوب الضئيل الرعديد نكث بوعده معه، وبعد أن نصحه بالصمت، أفشى كل التفاصيل بمجرد أن عاد تحت سطوة خادمه المستبد، ما أدى إلى التعجيل بحدوث هذه المواجهة المؤسفة. أخذت إدنا تتنقل ببصرها ما بين الرجلين، وارتسم على وجهها شيء من التوجس. كانت كلمات والدها هي كل ما كانت تتمنى سماعه، وكانت نبرته مقبولةً تمامًا، ولكن … ولكن … بدا أن ثمَّة بعض الجفاء في الأجواء. فتحدثت الفتاة بنبرة أقل مرحًا، أقل من ذي قبل، وإن لم تخلُ أيضًا من الثقة في أن كل شيءٍ لا يزال يسير كما ينبغي.

وقالت: «كان ذلك أحد الأمور التي تؤرِّقنا. لقد طلب السيد هوب من السيد مارستن ألَّا يخبرك عن زيارته إلى سربيتون، ولكني كنت واثقةً من أنك لم تكن لتبالي.»

«لقد فعلتَ الصواب يا مارستن إذ لم تقل شيئًا عن الزيارة مثلما طلب منك السيد هوب، إلا أن إدنا أيضًا محقة في قولها إن الأمر لم يكن ليشكل فارقًا بالنسبة إليَّ.»

قالت إدنا للشاب: «والآن، ها أنت ذا ترى أن جميع مخاوفك لم يكن لها أساس، وأن تفسير الأمر ببضع كلماتٍ من شأنه أن يمحوَ كل العقبات. آمل أن تأتي لزيارتنا وقتما تريد التحدث إلى والدي، وسيسعدك أن تستقبله في المنزل، أليس كذلك يا أبي؟ لقد بذل السيد مارستن قصارى جهده لإنهاء الإضراب، رغم أنه لم يُوفَّق.»

«أقدر هذا تمامًا يا مارستن، ومنزلي مفتوح لك دائمًا.»

رمقت إدنا مارستن بابتسامة، بينما لم يرفع مارستن عينَيه عن سارتويل، الذي استطرد بلباقة ودماثة قائلًا:

«ولكن من الإنصاف أن أخبرك بأنه لن تكون ثمَّة حاجة لمناقشة أمر الإضراب. لقد كنت كالكرة بين الأقدام طويلًا بما يكفي. والآن حان دوري لأضرب ضربتي. سيعود المصنع إلى العمل مرةً أخرى يوم الإثنين. فقد وصلتني طلبات توظيف تفوق عدد الوظائف الشاغرة لديَّ بأربعة أضعاف. وبينما نتحدث الآن، يعكف الكتبة على كتابة بضع مئات من البرقيات تطلب من المرسَل إليهم بدء العمل صباح يوم الإثنين. لن يكون لي أي تعاملٍ مع النقابة بعد ذلك.»

صاحت الفتاة في جزع: «أوه!»

سأله مارستن، متحدثًا للمرة الأولى: «هلَّا تمنحني فرصةً أخرى للتحدث إلى العمال؟»

«لم تكن الأصوات المعارضة لنا كثيرةً خلال الاجتماع الأخير.»

«أمامك حتى الجمعة ليلًا. إنني أمهلك أقصى قدر ممكن من الوقت، حتى آخر لحظة؛ ولهذا السبب أتكبَّد ستة أضعاف التكلفة وأستخدم البرق بدلًا من البريد. ستُرسل الخطابات في جميع الأحوال يوم الجمعة. وسيستأنف المصنع عمله يوم الإثنين، بكم أو بدونكم؛ ومن ثم ليس لديك وقت لإضاعته.»

«سأعود إلى لندن على الفور وأدعو إلى اجتماع مع العمال. هل يمكنني أن آتي لمقابلتك في مكتبك غدًا؟»

«بالطبع. إن مكتبي مفتوح دائمًا: ولكن تذكر، لقد أصبح عرضي الحالي هو الاستسلام غير المشروط. لا مزيد من المفاوضات بعد الآن.»

قال مارستن باقتضاب: «إلى اللقاء»، ثم استدار على عقبَيه وأسرع نحو البوابة، بينما وقف الأب وابنته يراقبانه حتى اختفى عن الأنظار. ألقى سارتويل بجسده على أحد المقاعد وهو يغمغم:

«حمدًا للرب!»

«لمَ تقول ذلك يا أبي؟»

«أقول ماذا؟ أوه! لأن توترًا قد انزاح عن صدري. لقد ودعت هوب ومونكتون معًا صباح اليوم إلى ألمانيا، وسيغيبان أسبوعَين على الأقل. وهذا سيُفسح لي المجال، وسأسحق هذا الإضراب مثلما تُسحق قشرة البيض.»

وقبض سارتويل يده اليمنى بعصبيةٍ كما لو كانت قشرة البيض بداخلها.

قالت إدنا: «إني لأُشفق على العمال يا أبي.»

«وأنا أيضًا يا عزيزتي، إذا ما قاوموا، ولكنه سيكون خطأهم وحدهم. يُقال إن التجربة تُعلِّم فئةً معينةً من الناس، وها هم يُعِدون أنفسهم لجرعةٍ مريرةٍ منها.»

«ألن تُعيده إلى العمل، حتى إذا صمدوا؟»

«أعيده؟ مَن؟ أوه! مارستن. إذا لم يعودوا جميعًا، فلن أسمح لأيٍّ من أعضاء النقابة العمالية أن تطأ قدمه المصنع مرةً أخرى. ولكن دعكِ من العمال، أريد أن أتحدَّث عنكِ أنت.»

«عني؟»

«نعم. عن الوضع هنا في المنزل. إنه ليس الوضع الذي أتمناه، وأنوي أن أُجري تجربة.»

«هل تعني ما حدث بالأمس بيني وبين أمي؟»

«بل أعني الوضع برمته. إن ما حدث بالأمس لم يكن إلا دلالة على ما تئول إليه الأوضاع، لا أعلم كيف أعبِّر عمَّا أقصده، ولكنه غير مُرضٍ.»

«لقد أخطأت يا أبي، كما قلت ليلة أمس، كنت قلقةً وخائفة — وهذا ليس مبررًا لما فعلت بالطبع — ومن ثم تلفَّظت بأشياء لم يكن يجدر بي قولها. شعرتُ بالندم على الفور، ولكني أشعر بندمٍ أكبر الآن حين أرى أنني قد ضايقتك. لن يتكرَّر هذا مجددًا. وسأكون في غاية الحذر في المستقبل، وأنا واثقة إذا ما تجاهلت الأمر، فسأحسن التصرف.»

«عزيزتي إدنا، أنا لا ألومكِ على الإطلاق، ولا أعتقد أن ما حدث كان خطأك، ليس خطأك وحدك على الأقل. أنا لا أُدين أحدًا؛ فهذه طبيعتنا التي خلقنا الله عليها، وثمَّة فروق في الطباع تُسبِّب الخلافات من وقتٍ لآخر. أنت لا تحصلين على فرصة عادلة حاليًّا. أنا لا أعبأ كثيرًا بأصدقاء والدتك، وليس لديَّ أنا نفسي الكثير من الأصدقاء؛ ولهذا السبب ليس لديكِ الكثير من الرفاق في نفس عمركِ يمكنكِ أن تدعيهم لزيارتك، وتردِّي زياراتهم، طبقًا للأصول والأعراف. لقد عوَّلتِ عليَّ وعلى أمك لنكون صديقَين لكِ أكثر ممَّا ينبغي، ولا أعرف أيُّنا هو الأنسب لكِ أن يكون صديقًا. إنك تمرين الآن بمرحلة شديدة الحساسية من حياتك، وأريد أن أبذل كل ما في وسعي من أجلك؛ لذا أعتقد أنه يجدر بي أن أُرسلكِ إلى مدرسةٍ تلتقين فيها بفتياتٍ لطيفات وتكوِّنين صداقاتٍ تستمتعين بها. ثم إن لديكِ موهبةً في الموسيقى غير قابلةٍ للجدل، ستُنمى في المدرسة، و… ثمَّة الكثير من الأسباب التي تدعم هذه الخطوة.»

سألته إدنا بصوت متهدج: «هل تعني أن عليَّ أن أغادر المنزل؟»

«أعتقد أن هذا سيكون التصرُّف الأمثل. وفي خلال عامٍ أو عامَين، سوف تنظرين إلى الحياة بإدراك فلسفي أعمق.»

صاحت إدنا كما لو أنها تتحدث عن أبد لن ينتهي: «عام أو عامين!»

ابتسم والدها.

وقال: «سيمر الوقت سريعًا كالريح. وفي غضون عام أو عامين، عندما تعودين إلى المنزل، ستسعدين أنت ووالدتك بلقاء إحداكما الأخرى. ففي بعض الأحيان، ترقُّ مشاعرنا تجاه الغائب.»

دفنت الفتاة وجهها بين يدَيها.

فصاح والدها وهو يقرِّب مقعده من مقعدها ويُحيطها بذراعَيه: «لا، لا، يا إدنا، صغيرتي العزيزة! وكأنكِ ستُرسَلين إلى أفريقيا. لقد تخيَّلت أنكِ ستكونين سعيدة.»

فانتحبَت قائلة: «ليس هذا هو السبب. إن قرارك هذا يدلُّ على أنك تراني سيئةً للغاية، لدرجة أنك مُضطرٌّ لأن تخرجني من المنزل.»

«هذا هراء يا إدنا! إنه لا يدل على أي شيء من هذا القبيل. فلا يمكنني أن أرسل أمك إلى مدرسة داخلية، أليس كذلك؟ حسنًا، إذن! أنا لا أراك سيئةً على الإطلاق. ولا شك لديَّ في ذلك، ولكنك قلت ما حرَّضك عقلك على قوله. هدئي من رَوعك؛ يا له من اعتراف يائس يُقدَّم لابنة متمردة مثلك! لا، لا. أنا لا ألومك على الإطلاق. وكما قلت سابقًا، لا ألوم أي أحد. نحن فقط مدفوعون بالظروف، هذا كل ما في الأمر.»

«ولن أراك أبدًا إلا عندما أعود للمنزل؟»

«ابنتي الحبيبة، هذا هو الجانب المبهج في الأمر. سترينني وسأراك، بل أكثر مما نفعل الآن. ما رأيك في ذلك؟ سأختار لك مدرسةً ممتازة تقع في مكان حيوي بالقرب من البحر. وأعتقد أنه سيكون أوفر بالنسبة إليَّ أن أشتري تذكرة قطار موسميةً إلى هناك؛ إذ سأذهب إلى هناك كثيرًا. سنخرج بمفردنا في نزهاتٍ طويلةٍ على التلال، ونتحدث عن كل شيء. سنتناول وجباتٍ صغيرةً شهية في الاستراحات التي سنكتشفها على جانب الطريق، ومن وقتٍ لآخر، سنتناول وليمة غداء كبيرةً في مطعمٍ فاخرٍ له نافذة تطلُّ على بحر المانش. إدنا، سيكون هذا بمثابة استعادة والدك المسن لشبابه. فهو نادرًا ما يتنشَّق نسمات الهواء النقي في ظل الأوضاع الحالية، ولكن حينئذٍ …»

أطلقَت إدنا صيحة سعادة وأحاطَت عنق والدها بذراعَيها.

وصاحت قائلة: «أوه، يا أبي، لا أصدق أذنيَّ! متى سأذهب؟»

«هذا الأسبوع، كما آمل. ها قد أدركتِ الآن أن كل شيءٍ يعتمد على نظرتكِ للأمور.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤