الفصل التاسع عشر

سار لانجلي إلى تشيلسي ولا يزال صدى عبارة «الموت جوعًا» يرن في أذنيه. وأخذ يلوم نفسه أشد اللوم على غبائه الأعمى؛ فقد كان كل ذلك يحدث أمام عينَيه على مدار أيام، ولم يساوره أي شك إزاءه. لا شك في أنها حرمت نفسها من الطعام منذ البداية حتى لا يجوع والدها، وعندما داهمتها آلام الجوع، في نهاية المطاف، كانت أضعف من أن تتحملها. حتى والدها، الذي عزله طبعه الحاد عن أي أصدقاء كان من الممكن أن يلاحظوا ما يحدث ويحذِّروه قبل فوات الأوان، كان غافلًا أيضًا عما يحدث نصب عينَيه. فقد تسبَّبت استقلاليته الفظة في تجويع ابنته ببطء حتى الموت.

«الموت جوعًا!» في أغنى مدينة في العالم، صومعة حبوب الأمم، التي يفيض من حِجرها الواسع القمح الذهبي القادم من كل دولة تشرق عليها الشمس التي تنضجه.

وصل لانجلي إلى المرسم أخيرًا، وربما كان سيعرف، لو كان ملمًّا بعادات العالم الكبير، أن ثمة مناسبةً مهمةً هناك من العربات العديدة التي تجرُّها خيول جميلة ويحيط بها سائقون وخدم متأنقون، المصطفة في انتظار أصحابها. في بداية عمله، كان لانجلي يأمل في أن يكون له بعض الطلاب ليدرِّبهم على العزف حتى يحسِّن من دخله الضئيل. فطبع بطاقات عمل كتب في منتصفها «ألبرت لانجلي»، وكتب في طرفها «مدرس موسيقى»، بخط أصغر. ولكنه لم يستخدم هذه البطاقات قط؛ فلم يكن يمتلك الشجاعة للسعي لاجتذاب الطلاب والحفاظ عليهم. ولعلمه أن بارني رجل عصري، وضع لانجلي بعضًا من هذه البطاقات في جيبه، وعندما فتح البواب المتأنق الباب، أعطاه إحدى هذه البطاقات الكرتونية. حدَّق الصبي في البطاقة ثم ألقاها في الإناء الذي يحوي الكثير من البطاقات لأشخاص آخرين، وصاح بالاسم بصوتٍ عالٍ حتى يُسمع عند قمة الدرج، مشيرًا بيده إلى موضع صعوده. وصاح الرجل الذي يزيح جانبًا الستارة الثقيلة التي تغطِّي المدخل بالاسم إلى داخل الغرفة، التي تصاعدَت من داخلها همهماتٌ لحواراتٍ مختلطة، تتخلَّلها من وقتٍ لآخر موجةٌ من الضحكات المبهجة. وحدَّق التمثال الحي المزخرف الواقف عند قمة الدرج في الفراغ فوق رأس لانجلي بينما كان يصعد درجاته.

وأخذ عازف الأرغن بطاقةً أخرى أعطاها للرجل الواقف عند الباب.

وقال: «لم آتِ لحضور «حفل الاستقبال». هلَّا تعطي هذه البطاقة إلى السيد هوب، وتسأله عمَّا إذا كان يستطيع مقابلتي لحظات. وأخبره بأني أتيت ليلة أمس، ولم أتمكن من الحضور في وقتٍ مبكرٍ عن ذلك اليوم.»

أخذ الرجل البطاقة واختفى خلف الستائر. وفي غمضة عين خرج له بارني، وكان استقباله لعازف الموسيقى حارًّا إلى حد محير.

فقد صاح بارني واضعًا يدَيه على كتفَي لانجلي قائلًا: «صديقي العزيز، هل يمكنك العزف على البيانو؟ بالطبع يمكنك ذلك. يا له من سؤال أحمق! دائمًا ما أتسرع. لقد ساقتك العناية الإلهية إلى هنا يا صديقي. لقد أرسلنا شخصًا إلى تشيلسي الآن بحثًا عن عازف بيانو، وها أنت ذا تسقط أمامي من السماء. إنه الحظ. هل أردت مقابلتي؟ بالطبع تريد ذلك، وعلاوةً على ذلك، أنا أيضًا أريد مقابلتك! تعالَ، ادخل. إن لديَّ أكبر وأجمل بيانو يمكن أن تلمسه أصابعك على الإطلاق … إنه آلة موسيقية مذهلة؛ صمَّمت صندوقه بنفسي، وأخبرت صانعيه بألَّا يبخلوا عليه بأي نفقات، وقد فعلوا. يمكنك أن تثق بهم في ذلك. والآن، تفضل بالدخول، تفضل بالدخول.»

«سيد هوب، أنا لم آتِ لكي أعزف؛ فلست في مزاجٍ يسمح لي بالعزف.»

«بالطبع لم تأتِ للعزف. وهذا هو الجميل في الأمر. أنت تريد مني شيئًا، أليس كذلك؟»

«بلى، وإذا منحتني لحظاتٍ من وقتك …»

«سأمنحك ألف لحظة يا عزيزي، ألفًا منها، ولكن ليس الآن. اسمعني. أنت تريد شيئًا أملكه، وأنا أريد شيئًا تجيده. إن الرفاهية التي تعيشها إنجلترا بأكملها تقوم على هذا النظام. وقامَت تجارتنا على أساسه. لقد أصبح بلدنا عظيمًا فقط لأنه يعلم جيدًا ما يريد، ولأنه يملك شيئًا تريده البلدان الأخرى، كما تعلم! والآن، أنا أريد رجلًا يمكنه عزف موسيقى راقصة، وأريده الآن، ليس غدًا، أو بعد غد، أو الأسبوع القادم. هل فهمت ما أعنيه؟ جيد. ادخل إذن واعزف لنا بعض مقطوعات الفالس على البيانو الجديد، وعندما تنتهي من العزف، سأمنحك ما تريد، حتى وإن كان نصف مملكتي، مثلما تقول كتب الحكايات. حينئذٍ، سيكون كلانا سعيدًا بالحصول على مراده.»

«أنا عازف أرغن في كنيسة القديسين الشهداء. ولا يمكنني أن …»

«لا بأس. لا تعتذر. يمكنك أن تعزف على البيانو بنفس مهارة عزفك على الأرغن؛ أعرف هذا من مظهرك. تفضَّل بالدخول، تفضَّل بالدخول.»

بدت أمارات النصر على بارني وهو يسحب خلفه العازف المتبرم.

وصاح قائلًا: «لقد أحضرته»، وتعالت أصوات التصفيق والضحك الصاخبة.

قال بارني مبتهجًا وهو يُجلِس لانجلي أمام البيانو الضخم، الذي بدا غطاؤه الضخم وكأنه جناح تنين مسنود بدعامة: «اسمعوني، هذه جميع المقطوعات الموسيقية التي قد يريدها أي إنسانٍ متزن، ولكن، إذا كنتم تُفضِّلون أي مقطوعاتٍ أخرى، فسأُرسل في طلبها، وها هو البيانو، «فلنستمع إلى نغماته»، كما يقول الشاعر.»

كانت قطع السجاد التي عادةً ما تغطِّي الأرض المصقولة بالشمع قد أزيلت، وأزيحت المقاعد إلى أركان الغرفة لتستقر إلى الحائط. كان ثمَّة الكثير من الضحكات والاعتراضات بحجة أنهم لم يأتوا مستعدين للرقص، إلا أن الجميع كانوا متلهفين على نحوٍ ملحوظٍ لبدء المرح.

صاح بارني وهو يبتسم في سعادةٍ إلى ضيوفه الكُثُر قائلًا: «أنتم في بوهيميا، كما ترَون، ومتعة بوهيميا هي اللاتقليدية. لقد ظَلِلت أرقص بعد انتهاء العرض المسرحي حتى شروق شمس هذا الصباح، وعلى استعدادٍ تامٍّ لأن أبدأ من جديد. هل نرفض وجبة الغداء لأننا أفطرنا، ولأننا سنتناول العشاء في السابعة؟ ليس الأمر كذلك. أنا جاهز للرقص في أي وقتٍ ليلًا أو صباحًا. والآن، سيدي الموسيقي، فلتبدأ العزف. «هيا إلى الرقص، انشروا أجنحة السعادة!» كما يقول الشاعر.»

وكان لانجلي من البراعة بمكان لدرجة أنه لم يكن ليخطئ في توقيت النغمة، أو في عزف النغمة نفسها وإن حاول. لقد صدق بارني في قوله إن البيانو آلة موسيقية مذهلة، وعندما ملأت موسيقى الفالس المرحة أرجاء الغرفة الكبيرة، بدأ كل زوجٍ من الحضور يرقص برشاقةٍ وخفةٍ على الأرضية المصقولة. واصل الموسيقي العزف دون توقُّفٍ بطريقةٍ آليةٍ لم تُنقص من روعة عزفه، وخلال فترات الراحة بين الرقصات، تحدَّث عددٌ من الضيوف إلى مُضيِّفهم عن روعة الموسيقى.

وكان بارني يقول مُلوِّحًا بيده في خيلاء: «أوه، نعم، إنه أحد اكتشافاتي. الرجل عبقري، كما ترَون، وبراعته في الموسيقى تضاهي براعتي في الرسم.»

قال أحد الشباب: «بارني، أنت تبالغ دائمًا. ستصيب عازف البيانو بالغرور بإطرائك عليه، إذا ما علم أنك تعتبره في مثل براعتك.»

قال بارني بتواضع عبقري حقيقي: «لعلك تتخيَّل أنني أغبى من أن أدرك المغزى الحقيقي لهذا التعليق. أنا أعلم أسلوبك الساخر؛ ولكن دعني أخبرك بأن ما كنت أعنيه هو أنني وعازف الموسيقى لسنا مقدَّرَين من قِبَل عامة الشعب الذين تُعتَبر ممثلًا بارزًا عنهم.» (ثم همس بارني جانبًا للسيدة التي على يمينه: «أستحق الإشادة لردي الرادع له.»). «نعم يا فتى، سيأتي يوم تفخر فيه بقول إنك دُعيت إلى حفلات الاستقبال هذه، والتي أنوي أن أجعلها إحدى السمات الفنية للمجتمع اللندني.»

قال الشاب معترضًا: «مهلًا يا بارني، إني لأفخر بذلك الآن بالفعل. والجميع يكرهونني في جميع النوادي التي أرتادها لتفاخري المستمر بتفضلك عليَّ. وأزعم أن مكانتك في عالم الفن تضاهي مكانة شركة يونيفرسال بروفايدر في عالم التجارة.»

غمغمت السيدة في محاولة منها لتهدئة الأجواء المضطربة: «فلتطلب منه أن يعزف شيئًا أثناء الاستراحة.»

جلس لانجلي أمام البيانو كتمثال كئيب، دون أن يلتفت إلى همهمة الحوارات التي تدور من حوله. فقد كانت أفكاره في مكان آخر بعيد، في تلك الغرفة البائسة حيث يرقد جثمان الفتاة الميتة. اتجه بارني نحوه مسرعًا، فاستفاق الموسيقي من شروده مجفلًا عندما تحدث إليه بارني.

قال له: «إليك عدة مقطوعات من موسيقى المازوركا المجرية؛ إنها موسيقى غريبة، ولكنها ستعجبك. هلا تعزف لنا بعضها بينما نحتسي الشاي؟ إن الجميع يُطرون على براعتك في العزف، وهم جميعًا أناس يُميِّزون العزف الجيد عند سماعه. هل تريد مشروبًا مرطبًا قبل أن تبدأ؟»

هز لانجلي رأسه نفيًا، وبدأ يعزف الموسيقى المجرية. عاد بارني ليجلس بجوار السيدة وارتسمت على شفتيه ابتسامة رضًا، كونه استطاع أن يُنصِّب نفسه راعيًا لموسيقيٍّ بارعٍ كهذا. أسندَت السيدة ذقنها على يدها وراحَت تستمع باهتمام.

ثم همست بصوتٍ خافت: «كم يعزف مقطوعات المازوركا هذه ببراعةٍ مذهلة! إنه يُبرز ذلك الطابع الشيطاني الذي تصطبغ به أغلب الموسيقى البولندية والمجرية.»

وافقها بارني قائلًا بحرارة: «نعم، إنه يعزف كشيطان، رغم أنه عازف أرغن في إحدى الكنائس. أعتقد أن كبير الشياطين يعتني بموسيقانا مثلما يعتني بأخلاقنا.»

«هل ألَّف أيَّ مقطوعاتٍ موسيقية؟»

«من؟ الشيطان؟»

«لا، لا. أنت تعلم جيدًا أني أتحدث عن عازف الأرغن.»

«ألَّف مقطوعاتٍ موسيقية! حسنًا، في الواقع. إنه نابغةٌ غير مُقدَّر، ولكني سأهتم بأمر تقديره. سأنشر بعضًا من أعماله، إذا سمح لي بذلك. إنه رجل شديد التواضع، و…»

«رجل آخر يشبهك.»

«بالضبط، بالضبط. أنا دائمًا ما أدفع الآخرين إلى الأمام وأغفل مصالحي، ولكن سيأتي يومٌ وأبهركم جميعًا. وكما ترَون، طبقتنا الاجتماعية لا تُفرز نوابغ مثل عازف الأرغن هذا. فلم تُفرز الطبقة الأرستقراطية رجلًا مثل شكسبير قط.»

«أظن أنها قد فعلت. ألم يكن لورد بيكون هو من ألَّف الأعمال التي تحمل اسم شكسبير؟»

«نعم، لم يكن لورد بيكون من ألَّف تلك الأعمال. لقد بحثت في هذه المسألة، ولكني لم أعثر على أي دليل يدعمها. نعم، إن العظماء الحقيقيين يأتون من عامة الشعب. ولا يعرف العالم أين يبحث عنهم، ولكن أنا أعرف، وأعثر عليهم مثلما عثرت على هذا الرجل. أنا أتخيَّر مجتمعي من الأرستقراطيين، ولكني أتخيَّر نوابغي من عامة الشعب.»

«ولكن إذا لم تُخرج طبقتنا عظماء، فكيف لك أن تأمل في أن تصبح أعظم الرسامين؟»

«آه، الرسم أمر مختلف كما تعلمين؛ فلطالما كان فن النبلاء والسادة. ليوناردو وكل أولئك الرسامين العظام كانوا من صفوة رجال عصرهم اجتماعيًّا. كما أن روبينز — أم هل كان تيتيان؟ — أحدهما على أي حال، ذهب بوصفه سفيرًا إلى بلاط ملك إسبانيا في موكب مهيب. لطالما كان الرسامون رفاقًا للملوك. ولكن ما رأيك، دعينا نرقص رقصةً أخرى.»

عادت موسيقى الفالس الحالمة مرةً أخرى لتختلط بصوت حفيف التنورات الحريرية عند احتكاكها بالأرضية المصقولة. كان لانجلي يندمج اندماجًا شبه تام مع الموسيقى التي يعزفها أيًّا كانت، ولكنها الآن لم تكن سوى سبب لتبلُّد حزنه، وتوارت نغمة خافتة شديدة الحزن خلف اللحن المرح الصادر بسلاسة وعذوبة من البيانو؛ نغمة لم يسمعها أحد سواه. كانت أذنه غير المهتمة تلتقط ضحكةً جذلة، ومن وقتٍ لآخر عبارةً هامسة، بينما يتمايل الراقصون بالقرب من مكان جلوسه، وكان يتمنَّى لو انتهَت مهمته حتى يواجه مرةً أخرى رحلة السير الطويلة التي تنتظره. أنَّب لانجلي نفسه معتبرًا نفسه ناكرًا للجميل، رغم ما بدا من صعوبة وقسوة في اضطراره في هذا الوقت العصيب للذهاب من أجل الترفيه عن جمعٍ من محبي المتعة؛ فقد تذكَّر أن يعقوب تحمَّل سبع سنواتٍ دون شكوى ليتزوَّج المرأة التي أحبها: فلمَ إذن يبخل على محبوبته بعصر يومٍ واحد، في حين كان الهدف واحدًا فعليًّا، وإن كان الأمل قد ألقى بظلال البهجة على الفترة الطولى، بينما ألقى اليأس بظلال الكآبة والقنوط على الفترة الأقصر. لقد عانى كلا الرجلَين، كلٌّ بطريقته، من أجل محبوبته، حيةً وميتة.

هوت يد بارني الثقيلة بقوةٍ على كتف العازف التي لا تكسوها إلا طبقة خفيفة من الملابس، وإن لم توقظه بالكامل من تأملاته المريرة.

«ممتاز يا صديقي، ممتاز! لقد قدَّمت أداءً رائعًا، والجميع مسرورون … بل مسحورون! أؤكد لك أنهم مسحورون بالفعل. سيُغادرون الآن؛ لذا اعزف لنا لحن وداعٍ حماسيًّا، أي شيء تختاره؛ ربما من الأفضل أن يكون أحد ألحانك، أنت تعرف ما أعنيه، لحن توحي نغماته بالأسف … نغمات تعكس أسفهم لأنهم سيغادرون.»

أسرع بارني عائدًا إلى ضيوفه، وأخذ يصافحهم مطالبًا إياهم بالعودة مرةً أخرى، بينما كان بدوره يتلقَّى جزيل الشكر على الأمسية الرائعة. وفجأةً غطت على همهمات الوداع نغمات «اللحن الجنائزي» المهيبة، التي بدَت كدقَّاتٍ منظومةٍ لجرس الموت. أضفى الرنين الصادح للآلة الموسيقية سحرًا نابضًا بالحياة على اللحن الكئيب، وهو ما كانت تفتقر إليه نغمات الأرغن المستوية الجَهْورية. كان لانجلي يعزف كالمسحور، ملقيًا رأسه إلى الخلف، ورافعًا وجهه الشاحب إلى أعلى، وبدا وكأن الحياة قد فارقته. خيَّم صمتٌ لحظيٌّ تقشعرُّ له أبدان الحضور، كما لو أن ريحًا جليديةً قد اجتاحَت المكان وجمَّدت تيار المحادثات الدائرة مسكتةً إياها. فاقشعرَّت أبدان بعضهم في مواضعهم، وقطعت فتاة، كانت تغلق زر معطفها عند الرقبة، حديثها وقالت بطريقةٍ شبه هستيرية:

«إذا كانت هذه مزحة يا سيد هوب، فهي لا تعجبني.»

وغمغم أحد الرجال وهو يسرع بالمغادرة: «تبًّا لهذا الذوق السيئ.»

صُدم بارني مثلما صُدم جميع من سمعوا هذا اللحن غير الملائم للحدث، وصاح وهو يسير بخطًى واسعة نحو العازف بمجرد أن استوعب ما يحدث: «أوه، نحن لم نرغب في لحنٍ حزين.»

وضعت السيدة التي كانت تمتدح عزف لانجلي يدها على ذراع بارني لتحجزه.

وقالت بهدوءٍ والدموع تترقرق في عينَيها: «صه! لا توقفه. اسمع! هذا الرجل مُلهَم. لم أسمع في حياتي مقطوعةً لشوبان تُعزف بمثل هذه الروعة.»

غمغم بارني بنبرةٍ اعتذارية: «أوه، هل هذه مقطوعة لشوبان؟» كما لو أنه لم يكن سيتدخَّل لو كان يعلم ذلك.

تفرَّق الحشد بسرعةٍ ورنين النغمات غير المحبَّبة يدقُّ في آذانهم، تاركين بارني وضيفتَه واقفَين وحدهما. وبعدما انتهى لانجلي من عزف اللحن، جلس في مكانه وتدلَّى ذراعاه الطويلان بجواره.

فسأل بارني ضيفته: «هل تودِّين التحدث إليه؟»

«لا، ليس الآن.»

وانسلَّت السيدة بخفةٍ إلى خارج الغرفة، وتبعها بارني حتى وصلا إلى البسطة في أعلى الدرج.

قالَت السيدة وهي تمدُّ يدها إلى بارني: «من فضلك، راقبه جيدًا. أُريدك أن تطلب منه العودة إلى هنا مجددًا، واسمح لي بدعوة الضيوف.»

قال بارني متحمسًا: «سأفعل ذلك. سيسرُّني ذلك كثيرًا.»

«لا، لن يكون ذلك مدعاةً للسرور يا سيد هوب، ولكننا سنستمع إلى عزفٍ موسيقي ساحر. إلى اللقاء!»

عاد بارني إلى الغرفة ووجد لانجلي يقف بجوار البيانو كرجلٍ استفاق الآن من حلم، وبدا لا يعلم أين هو.

صاح بارني بحرارة: «لا بد أن تحصل على بعض الشراب. إنك تبدو منهكًا، ولا عجب في ذلك. لم أسمع في حياتي مقطوعةً لشوبان تُعزَف بمثل هذه الروعة. أؤكِّد لك يا صديقي أنك قادرٌ على إخراج كامل قدرات البيانو. والآن، هل تشرب الويسكي أم البراندي؟»

شكره لانجلي رافضًا كلا الشرابَين. قال إنه سيسير مسافةً طويلة، وإنه يتعجَّل الرحيل.

صاح بارني: «تسير! ما هذا الهراء! لمَ تسير وتُهين جميع سائقي العربات المحترمين الذين تمرُّ بهم؟ سأهتمُّ بأمر السير هذا، أتمنى أن أكون على درايةٍ بواجبي تجاه مجال صناعة العربات.»

لمس بارني جرسًا كهربائيًّا، وعندما ظهر خادمه، قال له:

«أرسل الخادم إلى محطة كينجز رود ليُحضر عربة. وعندما تصل العربة، أعطِ السائق عشرة شلناتٍ وأخبره أنه رهن إشارة الراكب لأربع ساعات. واطلب منه الانتظار أمام الباب حتى يخرج الراكب، وحتى يحدث ذلك، أحضر بعض الويسكي والصودا. والآن، سيدي عازف الأرغن — دائمًا ما أنسى الأسماء — آه، لانجلي، إنه مكتوب على البطاقة بالطبع. هل ألَّفت أي مقطوعاتٍ موسيقيةٍ بنفسك؟ أظنك قد فعلت. هل نشرت أيًّا منها؟ لا أظن. حسنًا يا صديقي، علينا أن نُصلح كل ذلك. أنت متواضعٌ أكثر ممَّا ينبغي؛ يمكنني رؤية ذلك. ولكن التواضع لا يفيد في لندن. أعلم هذا لأني أنا نفسي عانيت منه. يا إلهي! فقط لو كنت أمتلك وقاحة بعض الناس، لصرت أشهر رسامٍ في أوروبا. إذا ما أحضرت لي بعضًا من مؤلَّفاتك الموسيقية، يمكنني توفير ناشرٍ من أجلك. هل تعدني بذلك؟ أسمعك تقول هذا هراء! إنها بلا قيمة؟ كلام فارغ! هل تقارنها بأعمال الموسيقيين العظام؟ صديقي العزيز، لا شك لديَّ في أن الموسيقيين العظام نجحوا في أعمالهم، ولكنهم كانوا فيما مضى فقراء مساكين مثلك. هل لأن رافاييل مارس الرسم، عليَّ ألَّا أرسم أفضل منه؟ لا تسير الأمور على هذا المنوال. سنُصبح أنا وأنت من عظماء الرسم والموسيقى بعد بضعة قرون من الآن والأيام بيننا. من الرائع أن تُدرك أنك من العظماء، بينما لا تزال شابًّا وقادرًا على فعل شيءٍ ذي قيمة. وإذا لم تدرك هذه الحقيقة بنفسك، فتأكَّد أنه لا أحد آخر سيفعل، على الأقل، ليس في الوقت المناسب بما قد يعود عليك بأي نفعٍ في هذا العالم. لتشرب بعض الويسكي؛ «إنه مبهج ومهدئ»، كما تقول الإعلانات. حسنًا، تفضل!»

تلعثم لانجلي وهو يقول في خجل: «لقد أتيت للقائك يا سيد هوب لأن مارستن — أحد الموظفين في شركة والدك — أخبرني بأنه يعتقد أنك … أنك تفضلت وساعدته ذات مرة عندما …»

«أوه. نعم، أتذكر مارستن. لقد حضر إليَّ من أجل أحد رفاقه، كان قد ضرب بعضًا من رجال الشرطة. حسنًا … هل ضرب المزيد منهم؟»

«لا، ولكنه في أزمةٍ شديدةٍ يا سيد هوب.»

«لا شك أن رجلًا مثله لن يخلو من الأزمات. كم تبلغ الغرامة؟»

«لقد ماتت ابنته الوحيدة بالأمس.»

«أوه، يؤسفني سماع هذا كثيرًا، يؤسفني للغاية حقًّا.»

«إنه لا يملك أي مال، ولا يختلف حال العمال عنه كثيرًا. ليس من شيم برونت أن يطلب المساعدة من أحد، ولكني أعلم أنه يخشى أن تكون ثمَّة … إنه لا يريد أن تُدفن ابنته مثل الصعاليك، وفكَّرت أنه …»

«بالطبع، بالطبع. فهمت كل شيء. لم أتمكَّن قط من فَهْم مشاعر الفقراء في هذا الشأن. يبدو أنهم يحبون الجنازات المهيبة، كما لو كانت شيئًا مهمًّا للمتوفَّى. أعترف لك بأنك إذا ما منحتني صحبةً جيدة وأنا على قيد الحياة، فيمكنك أن تفعل بي ما يحلو لك عند وفاتي. فلن يَضيرني حينها أن أرقد بجوار صعلوكٍ أو أمير، ولكني أفضِّل صحبة الأمير فوق الأرض. حسنًا، كم سيحتاج؟ بالطبع لا تعرف، وكذلك أنا. لنقل خمسة عشر جنيهًا، وإذا ما احتجتم إلى المزيد، فقط أرسل لي برقيةً وسأُرسل لك المال مع رسول على الفور. لا، لا تفكِّر في إعادة إرسال أي من هذه الأموال. تبرَّع بما سيتبقَّى منها، إذا ما تبقَّى شيء، للجمعيات الخيرية. ولكن عليك أنت أن تعود لزيارتي، وسوف نتحدث عن الموسيقى. يمكنك الحضور في أي وقت؛ فلا مجال للرسميات بيننا. واكتب عنوانك هنا على هذه البطاقة حتى أتمكن من التواصل معك. لقد وعدت إحدى السيدات بأن أجعلك تحضر إلى هنا ذات يوم لتعزف لبعض الأصدقاء. لن تخيِّب ظني، أليس كذلك؟ شكرًا جزيلًا لك، أنا ممتنٌّ لك كثيرًا.»

ثم دخل الخادم الغرفة وقال: «لقد وصلت العربة يا سيدي.» «حسنًا. سأوصلك إلى عربة الأجرة يا سيد … إممم، لانجلي. لا بأس بهذا، لا عليك. يمكنك أن تجعل السائق يوصلك إلى حيث تريد طوال أربع ساعات، إذا أردت. سيوصلك السائق إلى برايتون في خلال تلك الفترة؛ لذا أعتقد أنه سيُوصلك إلى أي مكان في لندن سريعًا دون تأخير. حسنًا، إلى اللقاء يا صديقي العزيز، وأشكرك كثيرًا على موسيقاك الرائعة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤