الفصل الثاني

نحن نتحدث عن شخصياتنا الفردية كما لو أنها شيء حقيقي ملموس؛ كما لو كنا نحن أنفسنا حقيقة، متناسين أننا ما نحن سوى مجموعة من الخِصال اكتسبناها من أسلافنا الذين مات أغلبهم، ورحل وصار في طي النسيان. فرجل الأعمال المحنَّك في «المدينة» يتصوَّر أن غرائزَه القوية مقتصرةٌ عليه وحده؛ لا يدرك حقيقة أن تلك الصفات الباهرة التي تمكِّنه من إنشاء شركة مساهمة؛ قد مكَّنت أحد أسلافه من العصور الوسطى من نَهْب بلدة، أو قاطع طريق من عصر لاحق من سرقة حقيبةٍ مليئةٍ بالنقود من قاطع طريق آخر في مرجٍ خالٍ.

كانت إدنا سارتويل تملك سمةً وراثيةً واحدةً واضحة وبارزة، ومن السهل ملاحظتها؛ كانت عيناها تشبهان عينَي والدها، لكنهما أكثرُ رقةً ولمعانًا، وجميلتان إلى حدٍّ مربك؛ عينان كفيلتان بأن تطاردا أيَّ رجلٍ حتى في أحلامه. لم تحمل عيناها أيًّا من تلك الحِدة القاطعة كالسيف، تلك الحدة التي جعلت من عينَي والدها سلاحَين للهجوم والدفاع، ولكنهما كانتا عينَي والدها دون شك، مع اختلافٍ أنثوي رقيق، وفي هذا الاختلاف عاشَت والدتها المتوفاة من جديد.

قال لها والدها عندما أصبحا بمفردهما: «إدنا، يجب ألَّا تحضري إلى هذا المكتب مرةً أخرى.»

كانت نبرة صوته تكتنفها حدة تفوق تلك التي اعتادت التحدُّث بها مع ابنته، فرفعت إدنا بصرها نحوه بسرعة.

سألته: «هل قاطعتُ اجتماعًا مهمًّا؟ ماذا كان يريد هذا الشاب يا أبي؟»

«كان يريد شيئًا لم أستطِع منحه إياه.»

«أوه، يؤسفني هذا! لقد بدا محبَطًا. هل كان يطلب منصبًا أعلى؟»

«شيء من هذا القبيل.»

«ولمَ لم تستطِع منحه إياه؟ ألَا يستحقه؟»

«لا يستحقه، لا. لا، لا!»

«بدا لي أنه يملك وجهًا طيبًا؛ أعني صادقًا وصريحًا.»

«يا إلهي! ماذا تعرفين أنتِ عن الوجوه أيتها الطفلة؟ لا تتدخَّلي في أمور العمل؛ فأنتِ لا تفهمينها. وكُفي عن الثرثرة، والثرثرة، والثرثرة. إن امرأةً واحدة على هذه الشاكلة تكفي في أي عائلة؛ فلن يتحمَّل الرجل أكثر من واحدة.»

صمتت الابنة، في حين بدأ الأب يضع بعض الأوراق في فتحات صندوق البريد، ثم يُخرجها مرةً أخرى، ويُعيد ترتيبها، ثم يضعها في صندوق البريد. كان يحاول استعادة رِباطة جأشه. ثم اختلس نظرةً نحو ابنته ورأى عينَيها مُغرورقتَين بالدموع.

فقال لها: «هَدِّئي من رَوعك، لا بأس يا إدنا. كل شيء على خير ما يرام. كل ما في الأمر أني قلق قليلًا الليلة. أخشى أن مشكلةً ستحدث مع العمال. إنه موقف عصيب، وعليَّ أن أتعامل معه بمفردي. يبدو أن لا مفرَّ من حدوث إضراب، ولا يمكن لأحدٍ أن يتوقَّع متى سينتهي.»

«وهل هو أحد المُضربين؟ يبدو ذلك مستحيلًا.»

علا الضيق قسمات وجه والدها.

وقال: «هو؟ لماذا … إدنا، إنكِ تُعيدين فتح أي موضوعٍ بكل ما لدى المرأة من إصرار. نعم. من المؤكد أنه سيُضرب عن العمل غدًا مع بقية الحمقى. إنه أحد العمال، إذا كنتِ تريدين أن تعرفي من يكون، والأكثر من ذلك أنه سيُضرب عن العمل على الرغم من عدم اقتناعه به؛ سيُضرب لمجرد أن الآخرين سيُضربون. لقد أقرَّ لي بذلك قبل دخولكِ مباشرة. أعتقد الآن أنكِ تُدركين حجم قدرتكِ على قراءة وجه رجل.»

قالت الفتاة متنهدة: «لم يكن يجدر بي أن أهتمَّ بالأمر. ربما لو أعطيتَه ما أراد، لما كان ليُضرب عن العمل.»

«أوه، إنكِ تزيدين صورته في ذهني سوءًا عمَّا أراها. لا أعتقد أنه ممَّن يمكن رشوتهم.»

«وهل يُعدُّ ذلك رشوة؟»

«قد تكون كذلك على الأرجح؛ ولكن الأمر يعود إليه في أن يُضرب أو لا؛ إن عاملًا يُضاف إلى الإضراب أو ينقص منه لن يشكِّل فارقًا بالنسبة إليَّ. وأتمنى إن أضربوا، أن يُضربوا جميعهم؛ فالقلة التي ستتخلَّف عنهم لن تزيد الأمور إلا تعقيدًا. والآن، بعدما فهمتِ الموقف بأكمله، هل تشعرين بالرضا؟ إنني لا أتحدَّث عن مثل هذه الأمور مع أي امرأة، كما تعلمين؛ لذا يجدر بكِ أن تسعدي لذلك.»

كان سارتويل قد عاد إلى طبيعته مرةً أخرى، وقرَّر في نفسه ألَّا يفقد سيطرته على نفسِه مجددًا.

قالت الفتاة: «نعم يا أبي، وشكرًا لك.» ثم أضافت قائلة: «إن عربة الأجرة تنتظر»، ولم تكن تقصد بذلك إيصال المعلومة التي أفشتها كلماتها، بقدر ما كانت تقصد أن تجعلَه يُدرك أن المناقشة قد انتهَت بالنسبة إليها.

«دعيه ينتظر. هذا هو الغرض من عربات الأجرة. إن السائقين يُفضِّلون الانتظار على العجلة. اجلسي لحظاتٍ يا إدنا، سأكون جاهزًا بعد قليل.»

جلسَت الفتاة بجوار طاولة والدها. كان السيد سارتويل غالبًا ما يفضِّل مكتبه على طاولته؛ إذ كان مكتبه عاليًا على نحوٍ يجعل الرجل يقف عندما يكتب. كان هذا المكتب مكوَّنًا من ثلاث حجيرات تخزين، لكل منها غطاء خاص. وكانت هذه الحجيرات الثلاث مُقفلةً دائمًا، وكان مع موظفي سارتويل مفتاحا اثنتين منها. أما الحجيرة الثالثة، فكان من المفترض أنها تحوي وثائق المدير الأكثر خصوصية، ولم يرَ أحد، عدا هو، ما يوجد في داخلها. فقد كان الغطاء يُقفل تلقائيًّا عندما يُغلق، وكان المفتاح الصغير الذي يفتح الغطاء يتدلَّى من سلسلة ساعة سارتويل.

راقبت إدنا والدها وهو يفتح الحجيرات الواحدة تلو الأخرى، وكان يبدو أنه يعيد ترتيب أوراقه. كان دائمًا ما يوجد هدف محدَّد يكمن خلف أفعاله، إلا أن الفتاة لاحظت أنه يبدو في هذه اللحظة حائرًا ومضطربًا. كان يبدو وكأنه يراوح بين هذا وذاك دون أن يُحرز أي تقدُّمٍ في عمل محدد. تساءلت عمَّا إذا كان الإضراب الوشيك يُسبِّب له قلقًا أكثر ممَّا كان على استعدادٍ لأن يُقِر به. تمنَّت لو تمكَّنت من مساعدته، ولكنها كانت تعلم جيدًا أنه لن يقبل شيئًا سوى تركه وشأنه. وكانت تعلم أيضًا أن والدها عندما يقول إنه سيكون مستعدًّا للذهاب إلى المنزل معها في وقتٍ محدد، فإنه عادةً ما يكون جاهزًا عندما يحين ذلك الوقت. فلماذا كان يؤجِّل المغادرة إذن؟

في نهاية المطاف، أغلق سارتويل غطاء إحدى حجيرات المكتب وأقفلها بالمفتاح كما لو كان يحبس اضطرابه بداخلها، ثم أدخل المفتاح المتدلي من سلسلة ساعته في قفل الحجيرة الثالثة وفَتحَ غطاءها. ألقى مصباحٌ كهربي متدلٍّ من سلك من السقف على المكتب أشعة ضوءٍ انطلقت من غطاء أوبال دائري كان يغطي المصباح. حدَّق المدير بضع لحظات إلى داخل المكتب، ثم الْتفت إلى ابنته وقال:

«إدنا، لقد أفزعتِني عندما دخلت المكتب الليلة.»

«أنا آسفة يا أبي. ألم تكن تتوقع حضوري؟»

«بلى، ولكن ليس في تلك اللحظة كما حدث. تزدادين شبهًا بوالدتكِ يا ابنتي العزيزة كلما كبِرت.»

خيَّم الصمت على المكان برهة؛ إذ لم تكن إدنا تدري ما عليها أن تقول. كان من النادر أن يتحدث والدها عن زوجته المتوفاة، ولم تكن إدنا تتذكر والدتها.

ثم قال الوالد: «لم ألحظ حتى الليلة أنكِ تشبِّين عن الطوق. لطالما كنت أراكِ طفلتي الصغيرة. ثم دخلت عليَّ فجأة. إدنا، لم تكن والدتكِ تكبركِ إلا بأربع سنواتٍ فقط عندما تُوفِّيت. وكما ترين يا عزيزتي، على الرغم من أنني أتقدَّم في السن، تظل هي شابة؛ ولكني أعتقد أحيانًا أن الشاب الذي كان زوجها قد مات أيضًا؛ فلم يتبقَّ بداخلي أي شيء منه.»

كان سارتويل ينقر بخفة بأصابعه على سطح المكتب بينما يتحدث؛ ثم رفع يده إلى أعلى وأطفأ المصباح الكهربي بطريقة تدل على انزعاجه من ضوئه الشديد. كان المصباح في منتصف الغرفة يُرسِل ما يكفي من الضوء، وتركَه متواريًا في الظل.

«أعتقد أنه يحل وقت في حياة كل أب يدرك فيه، بشيء من الصدمة، أن ابنته الصغيرة التي كان يُلاعبها في حِجرِه قد أصبحت شابة. يشبه الأمر حين يسمع الرجل نفسه وهو يشار إليه لأول مرة بأنه مُسن. أتذكر جيدًا كيف كظمت غيظي عندما سمعت للمرة الأولى أحدهم يقول عني إني رجل مُسن.»

صاحت الفتاة بصوت شبه منتحب يتخلَّله شعور بالسخط: «ولكنك لست مسنًّا!» كانت تتمنَّى لو اقتربت من والدها وأحاطت عنقه بذراعيها، ولكن حدَّثها حدسها بأنه يريدها أن تبقى حيث هي حتى ينتهي ممَّا يريد قوله.

قال الوالد: «أنا في طريقي إلى هذه المرحلة. فلا أحد يصغر سوى الموتى. وظني أن الفتيات لا يرين تقدم آبائهن في العمر، مثلما لا يرى الآباء أنوثة بناتهم. ولكننا لن نتحدث عن عمري. سنرحِّب الليلة بالقادم، دون المسارعة إلى الرحيل. علينا أنا وأنتِ يا إدنا أن نُدرك أننا نبدأ، بشكلٍ ما، مرحلةً جديدة من حياتنا معًا. لقد أصبح كلانا بالغًا. عندما كانت والدتكِ تكبركِ بقليل، أوصيتُ برسم لوحة شخصية لها. سخرَت مني ونعتتني بالمبذِّر. فكما تعلمين، كنا نعيش في فقرٍ مدقع، ورأت المسكينة أن رسم لوحةٍ لنفسها ليس من الضروريات. وأيقنت منذ ذلك الحين أن هذه اللوحة كانت الشيء الوحيد الضروري الذي اشتريته في حياتي. وعندما أصبحت أكثر ثراءً، أعطيتها لرسام معروف لينسخها، وفعل ذلك خدمةً لي وليس من أجل المال؛ فالرسامون لا يُحبِّذون نسخ أعمال الآخرين. العجيب في الأمر أن اللوحة التي نسخها كانت أقرب شبهًا بوالدتكِ من اللوحة الأصلية. اقتربي يا ابنتي.»

هبَّت إدنا إلى جوار والدها ووضعت يدها بخفة على كتفه. وأضاء سارتويل المصباح الكهربي. وفي قاع المكتب كانت ثمَّة لوحة كبيرة لامرأة شديدة الجمال. سقط الضوء على وجه المرأة وكانت عيناها الجميلتان تنظران نحوهما باسمتين.

قال الوالد في صوت شبه هامس وكان يتحدث بصعوبة: «هذه والدتكِ يا إدنا.»

كانت الفتاة تبكي بصوتٍ خفيض كي لا يلحظ والدها ذلك. انسلَّت يدها من فوق كتف والدها المجاورة لها إلى كتفه الأخرى، وداعب والدها شعرها الأشقر بيده.

ثم قالت محاوِلةً أن تتحدث بشجاعة: «مسكين يا أبي!

لا بد أنك تشعر بوحدة موحشة. يبدو أنني قد … قد فهمت أمورًا … لم أكن أفهمها من قبل … كما لو أني قد أصبحت عجوزًا فجأة.»

ظلا يحدِّقان معًا في اللوحة لبعض الوقت في صمت، ثم قالت الفتاة:

«لمَ لمْ تُرِني هذه اللوحة من قبل؟»

«حسنًا يا عزيزتي، لطالما كانَت هنا ولم تدخل المنزل قطُّ، وعندما كنتِ في سنٍّ صغيرة، لم تعتادي الحضور إلى المكتب، كما تعلمين. وكما تعلمين، كانت زوجة والدكِ المسئولة عن تنشئتكِ … و… و… اعتقدت بصورةٍ ما أن وجود هذه اللوحة لن يمنحها فرصةً عادلةً معك. فلطالما كان العالم قاسيًا على زوجات الآباء.» ثم أغلق المكتب في عجالة. وصاح بنبرة جافة: «لا عليك، لا عليك، لن يفيد ذلك كما تعلمين يا إدنا. ولكن كان هذا ما أردت أن أقوله لك. أريدكِ أن تتذكري — بل أن تفهمي — أننا وحيدان في هذا العالم، إن جاز القول؛ وأن ثمَّة رابطًا بيننا في ذلك، مثلما في حقيقة أننا أب وابنته. وأريدكِ أن تشعري دائمًا بأنني أقرب أصدقائك، ولا بد ألَّا يحدث أي سوء تفاهم بيننا أبدًا.»

قالت الفتاة في جدية: «لا يمكن أن يحدث ذلك أبدًا يا أبي.»

«صدقت، صدقت. ومن هذه اللحظة فصاعدًا، إذا حدث أي شيء يؤرقك، أريد منكِ أن تأتي إليَّ وتخبريني عنه. آمل أن تكون بيننا ثقة تامة. وإنْ أورثكِ أي شيء الحيرة، فأخبريني به؛ إذا كان أمرًا تافهًا، أريد أن أعرفه؛ وإذا كان أمرًا خطيرًا، أريد أن أعرفه. ففي بعض الأحيان، قد تبدو المشكلة تافهةً في ظاهرها ولكنها في الحقيقة مشكلة خطيرة، والعكس صحيح؛ وتذكَّري أن تصنيف المشكلات التي تواجهكِ لا يقل أهميةً عن حلِّها. هذا ما يمكنني أن أساعدكِ به؛ فحتى إن لم أكن قادرًا على تفكيك الخيوط المتشابكة، فربما كنت قادرًا على أن أريكِ أنها لا تستحق محاولة تفكيكها من الأساس.»

كانت الفتاة ترمق والدها بنظرةٍ جادةٍ أثناء حديثه، ثم فاجأته، كما لو أنها تُريه أن حَدْس المرأة سيصيب مباشرةً النقطة التي يحوم حولها فِكر الرجل بإسهاب، عندما قالت:

«أبي، ثمَّة أمرٌ حدث يتعلَّق بي، أمر أثار في نفسكَ القلق تجاهي. ماذا حدث؟ أعتقد أنني يجب أن أعرف. هل قالَت زوجة أبي أي شيء عن …»

«لا، لا يا ابنتي، لم تقُل زوجة أبيكِ أي شيء عنك. وإن فعلت، لم أكن … أعني، لأوليت الأمر كامل اهتمامي، ولم أكن لأتردَّد في أن أُخبركِ به. يجب ألَّا تقفزي إلى أي استنتاجات؛ ربما أتحدث إليك بجديةٍ لا داعي لها؛ إلا أن الانطباع الذي آمل في تركه لديكِ هو أنه على الرغم من أني قد أبدو غارقًا في العمل حتى أذنيَّ، فإنكِ أهم بالنسبة إليَّ من أي شيءٍ آخر، بل إنكِ منذ وفاة والدتك، صِرت الإنسان الوحيد الذي يمثِّل أهميةً حقيقيةً بالنسبة إليَّ؛ لذا إن أردتِ أي شيء، فأخبريني به؛ ثوبًا جديدًا، على سبيل المثال، باهظ الثمن بصورةٍ غير مسبوقة. وظني أنكِ ستكتشفين، عندما يتعلق الأمر بسعادتك، أنني لن أسمح لأي تحيُّزاتٍ من جانبي بأن تعترض طريقها.»

رفعت الفتاة بصرها نحو والدها باسمة.

وقالت: «لا أعتقد أن عدم حصولي على ثوبٍ جديد قد يعرِّض سعادتي للخطر.»

«إن الملبس مهم للغاية يا إدنا، علينا ألَّا ننسى ذلك، وإن كنت قد استخدمت الثوب مجرد مثالٍ خشية أن تأخذي حديثي بجدية مبالغ فيها. لنعُد إلى المنزل الآن يا صغيرتي. هذا اللقاء هو الأخير بيننا في هذا المكتب، كما تعلمين، وقد اقتحمَته، بشكلٍ ما، تلك الجدية التي تتسم بها جميع الأمور التي تُؤدى للمرة الأخيرة. والآن، إذا كنت جاهزة، فأنا أيضًا جاهز.»

«ليس تمامًا يا أبي. أنت تعلم أني أحب هذا المكتب — لطالما أحببته — والآن، وبعد هذه الليلة، سيبدو مخيفًا لي دائمًا. كل هذا الحوار كان حول امرأةٍ عديمة الأهمية وملابسها؛ ولكن ما يؤثر فيَّ يا أبي هو الوَحْدة الموحشة التي عشتَها طوال حياتك تقريبًا. لم ألحظ ذلك من قبل قط. ومن الآن فصاعدًا، عليك أن تناقش أمورك معي؛ ربما لن أكون قادرةً على تقديم الكثير من المساعدة في البداية، ولكن، فيما بعد، مَن يدري؟ وسيُسعدني ذلك لأنه سيجعلني أعتقد أن تآزرنا ليس من جانبٍ واحدٍ فقط. اتفقنا يا أبي؟»

«اتفقنا يا إدنا.»

جذب الأب ابنته نحوه وتم الاتفاق. ثم أطفأ الأنوار، وهبطا الدرج معًا مسرعَين إلى حيث ينتظرهما سائق عربة الأجرة النائم. كان الضباب قد هبط ووصل إلى قمة رأسه تقريبًا.

صاح سارتويل بحدة: «محطة ووترلو، خط السكك الحديدية الرئيسي.»

قال السائق وقد استعاد يقظته كاملةً وهو يهم بإمساك اللجام: «حسنًا يا سيدي.» وفتح الحارس البوابات.

«هل كل شيء على خير ما يرام يا بركنز؟»

أجاب البواب وهو يمس طرف قبعته: «كل شيءٍ بخير يا سيدي.»

«خذ كامل حذرك.»

«أمرك يا سيدي.»

عاد صليل العربة الآخذ في التضاؤل وهي تسير في الشارع الضيق مرةً أخرى؛ إلى حيث يقف بركنز وهو يُغلق البوابات الكبيرة للمرة الأخيرة هذه الليلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤