الفصل الرابع والعشرون

في الصباح، اصطحب بارني مارستن إلى منزل البستاني الطيب، الذي أمنت تأثيرات الثراء المفسدة حسن نواياه وضمنت تعاونه، وهناك ارتدى الشاب الثياب التي من المفترض أن تضفي عليه سيماء البستاني اللازمة لأداء الدور الذي عليه أن يلعبه. كان مارستن يأخذ الأمر بجديةٍ بالغة، بينما بدا بارني مستمتعًا بهذا الحفل التنكري إلى أقصى حد، حتى إنه أراد أن يلتقط صورةً للبستاني الجديد كتذكارٍ لهذه المناسبة.

وأخيرًا انصرف مارستن حاملًا مكنسةً على كتفه، ومثل أمام مدخل حديقة مدرسة هاي كليف، وسُمح له بالدخول دون نقاش. لم يحاول مارستن أن يخفيَ عن نفسه حقيقة انزعاجه من الاحتيال الذي يوشك على ارتكابه، ولكن عندما أنَّبه ضميره، سأله عمَّا إذا كان لديه خطةٌ أفضل ليقترحها، ولكنه لم يجد لديه إجابةً عن هذا السؤال.

كانت الحديقة المحيطة بالمدرسة خاليةً عندما وصل إليها، وقادَته فطنته الفطرية إلى الاتجاه أولًا نحو الممرات الظاهرة للعامة، وبهذا، عندما تخرج الفتيات، يكون في الجزء الأكثر عزلةً من الحديقة؛ إذ كان واثقًا من أن قواعد المدرسة تنص على أن يخرجْنَ لاستنشاق الهواء النقي فيها. وصدق حدسه، وكان شعوره بالإحراج أقوى ممَّا توقع، عندما وجد نفسه فجأةً وسط مجموعةٍ من الفتيات يثرثرْنَ جميعًا في صخبٍ ومرح، ولكن لحسن الحظ لم تُعِره أيٌّ منهن ذرة اهتمام. لم يضع مارستن في حسبانه وجود أيٍّ من المعلمات، ولكن ثلاثًا منهن كن حاضرات، إلا أنهن جلسْنَ على أحد مقاعد الحديقة ولم يبدُ عليهن أنهن يعبأْنَ بما تفعله الفتيات المكلَّفات برعايتهن.

كانت إدنا سارتويل تحمل في يدها كتابًا واضعةً إحدى أصابعها بين أوراقه، ولكنها كانت تذرع المكان جيئةً وذهابًا مع فتاةٍ أخرى وتتحدثان بصوتٍ هامس. كان مارستن يأمل أن يكون موضوع الكتاب شيقًا، وتمنَّى لو انزوَت الفتاة في مكانٍ منعزلٍ لتقرأه؛ فقد بدأ يشعر بأن مهمته لن تُنجز بسهولةٍ كما كان يتوقع، على الرغم من نجاحه في الدخول إلى حديقة المدرسة، التي بدَت في البداية الخطوة الأصعب في محاولته برمتها. وفي نهاية المطاف، منحه الكتابُ الفرصةَ التي كان ينشدها؛ إذ وقفت إدنا ورفيقتها برهةً معًا بعد انتهاء نزهتهما، ثم افترقَتا.

كان في أحد أركان الحديقة منزلٌ صيفيٌّ منعزل، تحجبه أشجارٌ وشجيراتٌ كثيفة عن الرؤية من المدرسة، وبالكاد تصله أصوات الثرثرة المرحة التي أشاعَت البهجة في الأجواء في مكانٍ آخر، واتجهَت إدنا نحو هذه البقعة الهادئة وهي تقرأ الكتاب أثناء سيرها؛ إذ كان واضحًا أنها على درايةٍ بالمسارات التي تؤدِّي إليها. تتبَّعها مارستن ببطءٍ في البداية، ثم زاد من سرعته عندما قلَّت احتمالاتُ ملاحظته من قِبَل أحد، وكانت دقات قلبه أسرع ممَّا كان يتوقع بسبب الجهد الذي كان يبذله. كانت الفتاة تجلس في «الشاليه» الصغير، عندما حجب جسد مارستن ضوء الشمس المتسلِّل من مدخله.

كان كل ما جرؤ على قوله هو: «آنسة سارتويل.»

هبَّت إدنا واقفةً وسقط الكتاب على الأرض، ونظرت نحوه بعينَين فزعتَين لم يبدُ فيهما أنها تعرَّفت عليه.

«أرى أنكِ لا تعرفينني، ولا عجب في ذلك؛ فلم أكن أرتدي ملابس بستانيٍّ عندما كنت واقفًا في حديقة منزلكِ آخر مرة.»

تورَّد وجه الفتاة وأشرق بالسعادة، وأطلَّت الضحكة من عينَيها أولًا قبل أن تُطلَّ من شفتَيها.

«لقد أفزعتني!» قالتها الفتاة وقد تلاشى لديها الفزع، ولم تكن قادرةً على كبح جماح سرورها، بينما كانت تتفحَّص ملابسه الغريبة من قمة رأسه حتى أخمَص قدمَيه. «هل أصبحتَ تعمل بستانيًّا هنا، أم قفزتَ من فوق السور؟»

«الأسوار هنا عالية للغاية، وإلا حاولت تسلقها. أنا بستانيٌّ لليوم فقط، حتى أتمكن من التحدث إليكِ.»

«تتحدث إليَّ أنا؟ كنت أعتقد أن الإضراب قد انتهى نهايةً سعيدة. ألم تعُد إلى عملك؟ كيف سُمح لك بترك عملك؟»

«أوه، لا مشكلة في ذلك! يمكنني أن آخذ عطلةً متى أردت. نعم، لقد عُدت إلى عملي، وصرت غارقًا في العمل منذ ذلك الحين. وجئت إلى هنا بالأمس على أمل أن أقابلك. فقد كان هذا أمرًا مهمًّا للغاية، بالنسبة إليَّ على الأقل.»

«هل حصلت إِذَن على الترقية المنشودة بهذه السرعة، أم إنك ترى أنه يجدر بي أن أتحدَّث إلى أبي عن منصبك عندما أراه في المرَّة القادمة؟ كان من المفترض أن يحضر في وقتٍ سابق، ولكنه أرسل إليَّ رسالةً تقول إنه مشغول للغاية بعدما عاد العمال إلى عملهم، وإنه لن يتمكن من الحضور ربما لأسبوعٍ آخر أو أكثر.»

«لم آتِ إلى هنا ألتمس صنيعًا من والدك، بل جئت من أجلكِ أنت. أنا أحبكِ يا إدنا، ولطالما أحببتكِ منذ وقعَت عيناي عليكِ لأول مرة! لا تتخيلي أن … أن الغرور قد اجتاحني لدرجة أن يحدوني أملٌ ولو بسيطًا في أن تهتمي لأمري؛ فأنت بالطبع لا توليني أي اهتمامٍ ولا يمكنكِ ذلك، ولكني أردت أن تعرفي شعوري تجاهك. أردت أن أخبرك؛ ولهذا السبب أتيت. أنا فقير، لا يمكنني إنكار ذلك، ولكن والدكِ كان فقيرًا أيضًا يومًا ما، وتحسَّنت أحواله بعد ذلك. ستتحسَّن أحوالي أنا أيضًا؛ سأواصل العمل ليلًا ونهارًا. وأيًّا كان مَن أعمل تحت إمرته، فسأخدمه بكل إخلاص، يا إلهي! سأخدمه حتى تنبري ساقاي إذا كان ذلك هو ما يتطلَّبه الأمر؛ ليقتنع بمدى جديتي في الفوز بثقته وأن أكون ضمن ثقاته، وستظل صورتكِ مطبوعةً طوال هذا الوقت في ذهني تمنحني السعادة والأمل، كما كانَت دائمًا منذ أمدٍ طويل، منذ بدأ حبكِ يغزو قلبي. أنت تعلمين أني لا أملك فرصةً في الفوز بقلبك كما قد يمتلكها غيري. لقد أرسلك والدك إلى هذه المدرسة بغرض منعي من لقائك، الذي كان سيتسنى لي لو كنت ثريًّا. أنا لا أملك فرصةً عادلة على الإطلاق، عدا تلك التي أختلسها لنفسي، كما فعلت اليوم. وهذه الفرصة تعني الكثير والكثير بالنسبة إليَّ، بل تعني كل شيء؛ حتى إنني لم أجرؤ على الإقدام على المخاطرة. أعرف أني أفصحت عن مشاعري في وقت مبكر للغاية، وبصورة مفاجئة للغاية، ولكني لم أجرؤ على مواجهة المستقبل الذي رسمته لنفسي من دون أن تعرفيها. قد يفوز أحدهم بقلبك بينما أعمل أنا من أجل الوصول إليك، وسيسعى كثيرون من أجل ذلك. لا أريدك أن تقولي شيئًا، لا أريد كلمات تمنحني الأمل أو تورثني الإحباط، لا أريد وعودًا، لا أريد أي شيء! لقد أصبحت تعرفين ما أشعر به، وهذا يكفيني الآن. ولكني أريدك أن تتذكري، أحيانًا، أن ما من رجل يكافح من أجل الوصول إليك مثلما أفعل. تذكري ذلك عندما يتحدث إليك رجال آخرون. حبيبتي … حبيبتي … لم يشعر رجل بمثل ما أشعر منذ بدء الخليقة!»

ذاب أيُّ خجل كان يشعر به مارستن في حضرة إدنا حتى هذه اللحظة، في حرارة عاطفته المتقدة عندما بدأ يتحدث. كانت الكلمات تتدافع من فمه، كل كلمةٍ في عقب سابقتها في تتابعٍ مختلط لاهث، وكان وجهه كالجمر، فيما اختلجت شفته السفلى عندما توقَّف عن الكلام. بدا في البداية وكأنَّه في سباقٍ مع الزمن؛ إذ كان من المحتمل أن يقاطعهما أحدٌ في أي لحظة، ولكنه سرعان ما نسي منافسه، ولم يكن في العالم، في نظره، سواه والفتاة المرتعدة المرتبكة الواقفة أمامه.

أما هي، فبعد ما بدت عليه في البداية من عدم تصديقٍ ودهشة، تراجعَت إلى الخلف مستندةً بيدها على الجدار، ثم غاصَت تدريجيًّا في مقعدها وقد اكتسى وجهُها الشاحب بتعبيرٍ يشوبه الخوف. وبينما كان مارستن ماضيًا باندفاعٍ في حديثه، سقط رأسها على يدَيها، وبقيَت على هذه الحال طوال حديثه.

أعقب حديث مارستن صمت عميق للغاية؛ حتى إنه خشي أن يتقدَّم أو يتراجع إذ كان مسندًا يده على إطار الباب، وسمع أصوات ضحكات الفتيات تأتي من بعيدٍ خاليةً من أي أفكار، عدا تلك الخاصة بحجرة الدراسة. كان يدرك أن عليه أن يتذكر أدقَّ تفاصيل هذا المكان طوال حياته؛ المكنسة الراقدة عند قدمَيه، والكتاب الواقع على الأرض مفتوحًا، حتى عنوان الكتاب الذي يتلألأ بلون ذهبي على جانبه، والذي لم يستوعب عقله من معناه شيئًا سوى كلمةٍ واحدةٍ استرعت انتباهه؛ «غزل» (كانت العبارة الكاملة «قصائد غزل مايلز ستانديش»)، وتساءل تساؤلًا مبهمًا عمَّا إذا كان الغزل قد أفلح. كانت عيناه تجوبان المكان سريعًا لتحفظا تفاصيل المشهد ورتوشه، ثم تعودان دائمًا إلى ذلك الجسد المنحني الصامت أمامه، واستنبط غريزيًّا من مظهر كتفَيها المتدليتَين أن ثمَّة تغييرًا قد حدث؛ لم يكن واضحًا، ولكنَّه موجود. كان عقلُه منشغلًا للغاية بوقائع الحياة القاسية لدرجةٍ لم يتمكَّن معها من الانغماس في أي تحليلاتٍ تأمليةٍ من أي نوع، بل كان ممسوسًا بعصا الحب السحرية، وحُبي ببصيرةٍ نافذةٍ لم يختبرها من قبل. فرأى أن الفتاة التي أقبلت عليه عندما كانت طفلةً سوف ترفضه بعدما أصبحت امرأة.

وأخيرًا، هزَّت الفتاة رأسها ببطء.

وغمغمت قائلة: «لا يمكن، لا يمكن!»

فصاح مارستن بحماس قائلًا: «ليس الآن. أعلم ذلك … ولا أطلب منك شيئًا! ولكن … هل يمكن أن يحدث في وقت ما … في وقت ما؟»

لم ترفع الفتاة بصرها.

وقالت: «هذا مستحيل … مستحيل!»

«كل ما أريده أن تمنحيني فرصة … فرصةً عادلة. لا تقولي … أوه، أرجوك لا تقولي «لا» أو «نعم» الآن! أعلم أن والدك كان متحاملًا ضدي، ليس ضد شخصي على ما أعتقد، بل ضد فقري: وهذا مجرد تعبير آخر عن حبه الكبير لك. إنه يعلم معنى الفقر، ويريد أن يحميك منه. إنه محق في ذلك، وإذا ما ظَلِلت فقيرًا بعد عامين، أو أربعة أعوام، من الآن، فلن أطلب …»

«هل يعلم والدي؟»

«نعم. أخبرته في تلك الليلة … تلك الليلة التي تحدثتِ إليَّ فيها لأول مرةٍ، وهذا سبب غضبه مني.»

«هذا إذن هو سبب أنك … هذا هو السبب … حين أتيت لمقابلتي في الحديقة …»

«نعم، لهذا السبب كنت أخشى أن يجدني هناك.»

وخيَّم عليهما صمت طويل مجددًا. عادت الفتاة بأفكارها إلى ما مضى من حياتها، منذ اليوم الذي حرَّم والدها عليها فيه الذهاب إلى مكتبه حتى اللحظة الحالية، ملقيةً ما يشبه الضوء الكاشف على الأحداث التي لم تكن مفهومةً حتى هذه اللحظة، ما جعلها تتضح بأبعادها الحقيقية. كان عليها أن تُعيد التفكير في كل ما فعله والدها وقاله. استنبطت معانيَ من عبارات قيلت سابقًا كانت خافيةً عنها؛ فقد صارت الآن تمتلك المفتاح الذي يفتح الغرفة التي تنيرها المعرفة، وعلى الرغم من أن قلبها كان يتوق إلى والدها، وتميل إلى التعاطف معه عندما يواجه مشكلةً مفاجئة، والصفح التام عنه على الانعدام الواضح لثقته فيها بتركها تجهل موقفًا يرتبط بها ارتباطًا وثيقًا، وتشعر بأن عليها أن تؤازره، وتصد ذلك الغريب الذي جاء بهذه الجرأة ليفرِّق بينهما بطلب مستحيل بأن تبادله الحب، لم تستطع استدعاء شعور الاستياء البحت تجاه مارستن من أي جزءٍ من كِيانها كي يُغيثَها من تيهها، وهو الأمر الذي كانت تعلم أنها قادرة عليه كما كانت تفترض.

وأخيرًا، تحدَّثت إدنا ببطء قائلة: «أنا آسفة للغاية، آسفة للغاية. أنا معجبة بك بالطبع؛ فأنا أعتقد أنك رجل نبيل وجاد، وأنك ستبلي بلاءً حسنًا في حياتك وتتغلَّب على الكثير من الصعوبات، ولكن لا يمكنني أن أُكن لك المشاعر التي تتمناها، ولن يكون من الصواب أن أخدعك. كم أود أن أراك تنجح في حياتك، وأنا واثقة أنك ستفعل. ويومًا ما ستراسلني وتحكي لي عن انتصاراتك، وسأكون في غاية السعادة. وسيسعدني حينئذٍ أن أعرف أنك قد نسيت … هذا الموقف. والآن، يجب أن تنصرف. إلى اللقاء!»

ثم مدَّت يدها له لتصافحه، ورأى الدموع تترقرق في عينَيها.

فقال لها: «إلى اللقاء!» واستدار لينصرف.

جلست إدنا ولكنها لم تلتقط كتابها. ظلَّت تحدق في السماء الزرقاء تفكر، وقد وضعَت يدَيها في حجرها مرتخيتَين. وبعد قليلٍ فُوجِئت بمارستن يعود.

فقالت وقد ظهرت ابتسامةٌ حائرةٌ مرتجفةٌ على شفتَيها: «لقد نسيت مكنستك.»

فقال: «بل نسيت شيئًا أهم، لقد نسيت المهمة التي جئت من أجلها.»

«مهمتك؟»

«نعم، إن خداعي يتجاوز مجرد تسلق الأسوار. أنا رسول خائن حقًّا؛ فالوسيلة التي مكَّنتني من الدخول إلى هنا رُتبت بواسطة رجل آخر أراد مني أن أوصل لك خطابًا. إنه هنا في إيستبورن، وكتب لك خطابًا، إلا أن خطابه رُد إليه. فكتب خطابًا آخر، ها هو ذا.»

«عمن تتحدث؟»

«السيد برنارد هوب.»

«أوه!»

أخذت الخطاب. ورفع مارستن مكنسته من على الأرض وانصرف. كان يريد مغادرة المكان والعودة إلى لندن، إلا أن البستاني حذَّره من أن يعود قبل أن يفرغ من الكنس، بينما أكَّد عليه بارني ضرورة عدم السماح بإثارة أي شكوك؛ إذ قد تطرأ حاجة إلى إرسال رسول آخر في مهمة مماثلة. فظل يكنس مكوِّمًا المخلفات في كومات صغيرة على جانب الطريق. دخلت الطالبات إلى المنزل في مجموعات زوجية وثلاثية حتى وجد نفسه بمفرده مرةً أخرى، ولكنه لم يرَ إدنا تأتي من جهة المنزل الصيفي. فواصل العمل مقتربًا أكثر فأكثر من المكان حيث التقيا، على أمل أن يلقيَ عليها نظرة وداعٍ خاطفةً أثناء سيرها باتجاه المنزل. وأخيرًا خرجَت إدنا من المنزل الصيفي، ولكن بدلًا من أن تسلك الطريق المؤدِّي إلى المنزل مباشرة، اتجهَت نحوه حاملةً في يدها الكتاب النحيل الذي كانت تقرؤه. كانت حمرة وجنتَيها أشد قليلًا من المعتاد، ولكن، فيما عدا ذلك، نجحت في إخفاء أي أثرٍ لمشاعرها. نظرت إلى مارستن بطريقةٍ بدَت في البداية وكأنها استعادَت صراحتها السابقة، ولكن عندما الْتقت نظراتهما، رأى أنها ليست النظرة نفسها تمامًا، كانَت ثمة لمحةٌ غامضةٌ من الاختلاف تغشى عينَيها الصادقتَين اللتَين تشبهان عينَي والدها إلى حدٍّ كبير، ولكنهما أكثر عطفًا وحنوًّا بكثير.

قالَت إدنا وهي تمدُّ يدها نحوه بالكتاب: «أحضرت لك هذا الكتاب، وأريدك أن تحتفظ به. إنها قصة رسولٍ كان أهلًا لثقة مَن أرسله، ولكنه فشل في مهمته.»

ردَّ عليها وهو يأخذ منها الكتاب: «ولكنك لم تقرئي الكتاب بعد، أليس كذلك؟»

«أوه، بل قرأته. كنت أقرؤه للمرة الثانية اليوم.»

أخفى مارستن الكتاب في عجالة تحت ثوبه وقد بدا عليه القلق من أن يراهما أحد؛ فلم يكن مستعدًّا لتعريضها لأي خطرٍ كان. نادرًا ما يرقى دهاء الرجل إلى دهاء المرأة مهما كانت حداثة سنها. فقد ابتسمت إدنا عندما لاحظت قلقه.

وقالت: «لا أحد يرانا، وحتى إن رآنا أحد، فلا يهم. سيعتقدون ببساطة أني أهدي كتابًا تثقيفيًّا ونصيحة مفيدة لمساعد البستاني، وهذا، في الواقع، ما أفعله بالضبط عندما أنصحه بأن يكد في عمله، و… أنسى الأمر!»

وبينما كانت إدنا تقول هذا، فتحت يدها فوق كومة القمامة القابعة تحت عند قدمَيه، ليتساقط منها خطاب مُزق قطعًا صغيرة أخذت تتساقط في الهواء إلى أسفل، كما لو كانت نموذجًا مصغرًا لتساقط جليدي، وانصرفت قبل أن يتمكن مارستن من وداعها للمرة الثانية.

وقف مارستن في مكانه ينظر إلى بقايا الورقة الممزقة المتناثرة فوق كومة القمامة، والتي كانت بلا شكٍّ بقايا الخطاب الذي سلَّمه لها، وعلى الرغم من أنه لم يتلقَّ منها ولو كلمةً واحدة تبعث على الأمل، وقد كان يتوق لسماعها، رغم ادعائه عكس ذلك، كانت كل قصاصةٍ من الورقة البيضاء الممزَّقة تعكس في عينَيه شعاعًا من الأمل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤