الفصل السابع والعشرون

ثمة اعتقاد سائد بأن الفتيات في بلادنا يرحِّبن بالأحاديث التي يلقيها شباب الطبقة الراقية على أسماعهن، وأن سعادة الفتاة تزداد كلما زاد عدد عروض الزواج التي تتلقاها. غير أن هذا ليس سوى مجرد افتراض، وللأسف لا توجد أي إحصاءات يمكن لمؤرخ حريص على دقة العرض أن يعتمد عليها في تأكيد هذا الرأي أو دحضه. والمؤسف أن الإحصاء السكاني، الذي يجمع الكثير من الحقائق المثيرة المتعلقة بالجنس البشري في صورة جداول، لم يولِ اهتمامًا لهذا القسم الفرعي من البيانات الخاصة بالبشر، ما يجعله بعيدًا كل البعد عن تكوين أي تقدير حاسم للشعور الذي يراود الفتاة، عندما تتلقى مجاملةً لا شك فيها في صورة عرض زواج؛ ما يضعنا في جهالة بشأن عدد عروض الزواج التي تتلقاها المرأة في المتوسط ما بين سن السابعة عشرة والسابعة والثلاثين. الغريب في الأمر أن الحكومة الفضولية التي لا تجد غضاضةً في مطالبة النساء بتدوين أعمارهن بقلمٍ أسود على ورقةٍ بيضاء كل عشر سنوات؛ تبدو عازفةً عن التحقيق في مسألة مهمة يتوقف عليها رخاء الأمة في المستقبل إلى حدٍّ كبير كتلك؛ وبذلك لا يمكن لأحدٍ أن يقرِّر بصورة أكيدة أن عروض الزواج تلقى تقديرًا عاليًا ممن يتلقَّيْنَها، ويحسم الجدل بأن يوجه المشككين إلى الكتاب الأزرق محددًا لهم العدد والصفحة.

ومع استحالة تعميم هذا الوضع، يُضطر الكاتب الدقيق إلى العودة إلى الحالات الفردية، ولا بد من تسجيل أن إدنا سارتويل قد هُرعت عائدةً إلى مدرستها يملؤها الفزع واليأس، وبعيدة كل البعد عن أي شعور بالسعادة أو الفرح؛ لأن شابَّين طلبا منها في أسبوعٍ واحدٍ أن تشاركهما مستقبلهما، على اختلافهما. فبينما هي على مشارف الأنوثة، إذا بها فجأةً وبدون سابق إنذارٍ تُواجَه بأوضاعٍ جعلتها تتمنَّى لو أنها عادت إلى الحياة الهادئة التي لم يكن يعكِّر صفوها شيء، التي كانت تعيشها من قبل. وأصبح هذان الحدثان المزعجان، اللذان وقعا الواحد تلو الآخر مباشرة، يتملَّكان تفكيرها بما لا يتناسب مع ضآلة أهميتهما، وهدَّدا بإلقاء ظلالهما الداكنة على مستقبلها. فقد بدا أمرًا مفزعًا أن يصبح مصيرا رجلَين مرهونَين بها، وأن يُلقى على عاتقها مسئولية جسيمة كاتخاذ قرار، دون مساعدةٍ من أحد، بشأن مسألةٍ شديدة الخطورة سيترتَّب عليها عواقب بعيدة المدى. وإذا كان هذا هو تصرف أول شابَّين تتعرَّفهما، فماذا عليها أن تتوقع من الشبان الكثر الذين من المرجَّح أن تلتقيهم في المستقبل؟ فلم يكن يستهوي المسافرة الصغيرة أن تخطوَ بقدمها على طريق معبَّد بالقلوب المفطورة، ولم تكن الحياة التي تُقضى في جوٍّ من الزفرات الحارة تُحتمل. كانت الفتاة تخشى المستقبل الذي حمل لها الكثير من الحيرة؛ لأنها لا تستوعب إلا جزءًا منه فحسب. «غالبًا ما يكون مهمًّا أن تصنفي مشكلتك لتتمكني من حلها»، هكذا أخبرها والدها ذات مرة؛ إلا أن الحل والتصنيف بدوَا على القدر نفسه من الصعوبة بالنسبة إليها.

تقبَّل بارني رفضها له على نحو سيئ. فلم يحاول أن يخفي حقيقة أن حياته كانت فاسدة، وأنه سيعاود دخول العالم رجلًا مختلفًا، ولكنه أصر بشجاعة على تحقيق أكبر استفادة ممكنة من التجربة السيئة التي مر بها. سيقطع الطريق القاسي الوعر الماثل أمامه، الذي لم يتسلَّل إليه ضوء الحب أو التعاطف الإنساني، بإصرارٍ جاد، وإن كان كئيبًا، مُزيحًا جانبًا توافه الوجود، وموليًا وجهَه شطر رحلة الحياة الكئيبة بإصرارٍ حزينٍ لا يخلو من العناد، دون انتظار أي مثوبةٍ سوى أن يجدَ العزاء في معرفة أنه ترك العالم أفضل، ولو قليلًا، بفضل عيشه فيه.

ولأن خبرة إدنا في الحياة محدودة، لم تتمكَّن من منع نفسها من المقارنة بين تصرفات هوب وتصرفات مارستن، والتي لم تكن في صالح الأخير تمامًا. لم يكن لديها أدنى شكٍّ في أن مارستن في الواقع أمامه طريق صعب وشاق، ولكنه لم يتفوَّه بأي عباراتٍ رنانةٍ أو ادعاءات بطولية مبالغًا فيها حيال ذلك، ولم يطلب منها شيئًا سوى أن تتذكره. شعرت بالأسف لأنها لم تُعطِ مارستن أي كلمة تشجيع، أما بارني فجعلها تشعر بطريقةٍ ما بأن اللوم في حالته يقع عليها، وأنه رجل تعرض للظلم. ومن ثم كان من الصعب إدراك الطبيعة الخطرة أو المشقة التي تكتنف مسيرة بارني المهنية المستقبلية، في ظل علم الجميع أنه يملك مالًا وفيرًا قد يُفسد حياته. ويبدو أن هذه الفكرة قد تبادرت إلى ذهن بارني عندما كان يتحدث إليها؛ إذ تحدث عن ثروته بمرارة وازدراء، وكم أنها تعيقه وتقيِّده، وعن نيته التخلي عنها بالكامل عندما تصبح الثروة بالكامل بين يدَيه، وسيبدأ حياته من جديد محققًا أمجاده الخاصة وما يكفي من المال، مهما كان قليلًا، لسد احتياجاته البسيطة، بمهارة يده اليمنى التي من المفترض أن تساعدها فرشاة الرسم، وبهذا القرار النبيل، لن يكون من العدل لومه على امتلاك ثروة لم يكن له يد في جمعها.

أسرعت إدنا الخطى في اتجاه المدرسة، لا يشغلها التوبيخ الذي ينتظرها، بقدر ما يشغلها أحوال هذا العالم المتناقضة. كانت بحاجة إلى النصح شأنها شأن بارني، ولكن لم يكن ثمة من يمكنها الوثوق به وائتمانه على أسرارها. فكَّرت في إرسال خطاب إلى والدها متذكرةً وعدها له بأن تُخبره بكل ما يؤرقها، ولكنها تراجعت عن الفكرة بمجرد أن تكوَّنت في ذهنها. علاوةً على ذلك، فقد تمَّت تسوية كلتا المسألتَين أخيرًا وإلى الأبد، فما الحاجة إذن إلى إزعاجه دون داعٍ بصفحة من حياتها طُويت وانتهت؟ وتأجج في قلبها اشتياق عميق جارف إلى أمها التي لم تلتقها في حياتها، والتي أصبحت تفتقدها في هذه اللحظة أكثر من أي وقت مضى. وعندما تذكرت صورة المرأة الجميلة ذات الوجه الحسن المعلقة في مكتب والدها، التي كانت عيناها الحانيتان تشعان حبًّا وعطفًا لها، اغرورقت عيناها فجأةً بالدموع التي كانت تحاول منعها، وأخذت تنتحب قائلة:

«أنا وحيدة … وحيدة!»

عندما وصلت إدنا إلى المدرسة، توجهت إلى غرفتها مباشرةً حيث وجدت خطابًا ينتظرها من زوجة أبيها، ما ساعدها في طرد الأفكار الحزينة التي ملأت ذهنها أكثر من أي شيء آخر. وجاء نص الخطاب كالآتي:

عزيزتي إدنا المسكينة:

لا شك أنك قد علمت بخبر الفاجعة المؤلمة التي ألمَّت بشركة مونكتون آند هوب، الفاجعة التي أخشى ألَّا تتعافى الشركة من توابعها، على الرغم من أن والدك، كعادته، يسخر من توقعاتي ويقول إن التأمين سيغطِّي خسائر الشركة بالكامل، كما لو أن بإمكان بوليصة تأمين أن تغطِّيَ الآثار البعيدة المدى لكارثةٍ كهذه! يبدو أن ثمَّة بعض الشكوك في أن الحريق قد وقع بيد بعض العمال الساخطين، الذين ربما فاض بهم الكيل من المعاملة التي يتلقَّونها، على الرغم من أن هذا لا يُعتد به باعتباره مبررًا للجريمة. ولكننا جميعًا مخلوقات ضالة محدودة البصيرة في هذه الدنيا، كلٌّ منا ملوثةٌ نفسه بالخطيئة الأولى، لا نستطيع الإقدام على أبسط فعل يكون مقبولًا، من دون توجيه من قوة عليا، ودائمًا ما نكون عرضةً للزلل والعثرات إذا ما تجاهلنا هذه التحذيرات التي يُمطَر بها الصالحون والطالحون على حدٍّ سواء، من أجل نفعنا؛ ولكن إذا غضضنا الطرف عن هذه التحذيرات — أو سخرنا منها، وهو الأسوأ — فكيف لنا أن نأمل في الاستفادة منها وتصحيح مساراتنا، مثلما هو مقصدها الذي وضعته العناية الإلهية الدائمة التسامح، المتلهفة للغفران فقط إذا أظهرنا رغبةً فيه؟ وعندما سألت والدك بكل رفق واحترام (آمل أني قد أصبحت الآن أعرف واجباتي بوصفي زوجة!) عما إذا كان الحريق قد علَّمه أي دروس مهمة، ردَّ بصفاقة مؤسفة لم أرَها في حياتي من قبل — تلك الصفاقة التي كنت أحاول أحيانًا تقويمها في سلوككِ يا طفلتي المسكينة — أن الدرس الذي تعلمه هو الحاجة إلى تحسين التغطية التأمينية، ووضع سلالم هروب في الطوابق العليا من المصنع، كما لو أن ذلك الأسلوب البذيء مناسب تمامًا لاستخدامه في الحديث عن حدثٍ جلل، ذهبت على أثره روحان خالدتان إلى خالقهما من دون أي تحذير، حين احترقتا، على حد علمنا، بفعل نيران بائدة لتتحولا إلى ألسنة لهب نيران لا تخمد أبدًا! لم تترك جدوى هذه الفكرة أي انطباع لدى والدك، الذي لا يزال على عناده المعتاد، وأخشى ما أخشاه ألَّا يتحرى مزيدًا من العدل تجاه عماله بعد كل ما حدث. لقد طرد والدك شابًّا مسكينًا يُدعى مارستن من العمل دون رحمة، وربما أصبح هذا الشاب حاليًّا يهيم على وجهه في الشوارع باحثًا عن عمل ويتضور جوعًا، دون أن يعرف أحد أو يكترث لما ألم به. اسألي والدك عن سبب طرده من العمل إذا أردت أن تعرفيه، ولا تسأليني أنا. إنه لا يهتم إلا بالتفاخر، ثم التفاخر، ثم التفاخر! طفلتي العزيزة، خذي حذرك قبل أن يفوت الأوان؛ فالقادم لا يبشر بخير. ولا تسمحي للقسوة بأن تغزو قلبك.

سأواصل التضرع من أجلكما؛ فرحمة الرب واسعة لا تنضب.

أمك المحبة الحزينة
سارة سارتويل

لم تفشل النوايا الخيرة لهذا الخطاب في تحقيق هدفها، ولا شك في أن السيدة سارتويل كانت ستسعد لو عرفت أن قراءته قد عادت بالكثير من الخير على من تلقَّته. فقد كان لهذا الخطاب مفعولٌ مقوٍّ ومنح إدنا شيئًا لتفكِّر به، وأزاح من ذهنها أيَّ أفكارٍ كئيبةٍ تتعلَّق بالدمار الذي ألحقته بحياة بارني.

مثَّل طرد مارستن من العمل صدمةً كبيرة للفتاة، ورأت للمرة الأولى في حياتها أن والدها لم يتصرف بإنصاف. وعندما فكرت إدنا في هذه المعلومة للوهلة الأولى، اعتقدت أن والدها عرف، بصورة أو بأخرى، بأمر زيارة مارستن إلى إيستبورن، ولكن بعدما فكرت في الموضوع بتأنٍّ، استنتجت أن طرده جاء نتيجة لقائهما في الحديقة وعثور والدها على مارستن هناك. إذن، كان السبب في أن الشاب كان لديه الوقت الكافي للحضور إلى إيستبورن هو أن وقته قد أصبح ملكه الآن. ولكنه لم يذكر لها شيئًا مما حدث حتى عندما سألته عن كيفية خروجه من ورديته. كما أنه تحدث عن والدها باحترام رغم شعوره بأنه قد تعرض للظلم، دون أدنى شك. لم تمعن التفكير في أي من كلماته الطيبة عندما قالها، ولكنها بدأت تتذكرها الآن. وقرَّرت أن تكتب خطابًا إلى والدها وتخبره بشأن زيارة مارستن ونتائجها، ولكن عندما جلست والورقة أمامها، وجدت نفسها لا تعرف كيف تبدأ رسالتها. كانت تريد أن تطلب من والدها أن يصحِّح الخطأ غير الضروري الذي ارتكبه في حق مارستن؛ فلم يكن ثمة أي احتمال أن تتزوج من هذا الشاب، ولكنها عندما همَّت بكتابة كل هذا على الورق، بدت المهمة شديدة الصعوبة. وزادت المهمة صعوبةً بعلمها أنه لا بد وأن بال والدها منشغل بقدر يفوق قدرة أي أحد على التحمل، وتخيلت هذا الرجل الصموت جالسًا في المنزل منهكًا من يوم متخم بالعمل والقلق، بينما صوت زوجته الرتيب يلقي على مسامعه الدروس الأخلاقية، المستفادة من كل عقبة جديدة عليه تخطيها. لا، لن تضيف إلى الأعباء الملقاة على كاهل والدها عبئًا جديدًا.

جلست إدنا مسندةً مرفقيها على المكتب وذقنها بين يدَيها، تحدِّق في الفراغ أمامها بعينَين قلقتَين، كما لو أن المشكلات التي تزعجها متجسِّدة في الهواء أمامها، وربما تُنوم مغناطيسيًّا لتتوصل إلى حلها. كان من السمات المحيرة للأمر أنها كانت مضطرةً مؤخرًا أن تعدِّل من أفكارها باستمرار، وتربطها بصورة صحيحة مع حقيقة جديدة نمت إلى علمها. وحملت حواراتها جميعها مع والدها، وكذلك الكثير من أفعاله، معنًى جديدًا تمامًا، بعدما علمت أن والدها كان يعلم بحب مارستن لها. ومرةً أخرى، ألقت حقيقة طرد مارستن من عمله في نفسها لوعة حزن شديدةً حين تذكرت إعلانه الحماسي بأنه سيجتهد، من أجلها، لإرضاء أي رئيس سيعمل تحت إمرته، كما لم يفعل رجل من قبل. لم تتفق إدنا مع زوجة أبيها في مخاوفها من أن مارستن لا يجد ما يسد به رمقه، إلا أن خيالها اتقد عندما فكَّرت في كلماته الحماسية الموجهة إلى ابنة الرجل الذي زج به إلى الشارع، قبل يوم أو يومَين، وإصراره الشديد على تحقيق النجاح. وكلما أطالت التفكير في تصرف والدها، زاد جَوره وضوحًا في عينَيها. حاولت أن تبدأ كتابة الخطاب مرات عدة، ولكنها في كل مرة كانت تعود إلى تأملاتها. وتلاشى بارني وأحزانه الوهمية تمامًا من ذاكرتها. وخلصت تدريجيًّا إلى أنها إن لم تتدخل لصالح مارستن، فستُحمِّل نفسها مسئولية استمرار الظلم الذي يتعرَّض له، وعلى الرغم من رغبتها في إعفاء والدها من كل ما يُساوره من قلق إزاء مشاعرها تجاه مارستن، كانت لا تزال تشعر بالخجل من التطرق إلى هذا الجانب من الموضوع. ربما يمكنها في وقت ما، عندما تجلس على ساق والدها، أن تُخبره بالأمر، متحاشيةً النظر في عينَيه، ولكنها لم تستطع أن تُخبره بما تريد مكتوبًا في خطاب.

تمكنت أخيرًا من كتابة خطاب أرسلته عبر البريد سريعًا؛ خشية أن تؤدي إطالة التفكير في المسألة أكثر من ذلك إلى عدم إرساله على الإطلاق.

أبي العزيز:

أنا واثقة من أنك مشغول للغاية، وربما قلق للغاية أيضًا في الوقت الحالي. أنت تعلم أني لا أريد أن أزيد من أعبائك، بل أريد أن أخفِّفها عنك إذا استطعت، ولكني في هذا الأمر عاجزة بقدر ما أنت قوي. لقد عقدنا اتفاقًا منذ فترة، وهذا ما دفعني لكتابة هذا الخطاب. لقد حدث أمر ما أشعر بأني مسئولة عنه جزئيًّا. وصلني خطاب اليوم من زوجة أبي تخبرني فيه بأنك طردت السيد مارستن من العمل، وتعتقد أنه ربما يبحث الآن عن عمل دون جدوى. وأخشى أنك غضبت حين وجدته يتحدث إليَّ في حديقة منزلنا، ولكن هذا خطئي أنا وليس خطأه. إذا كان هذا هو سبب طرده من العمل، أفلَا يمكنك أن تعيد التفكير في هذا القرار وتعيده إلى عمله؟

ابنتك المحبة
إدنا

جاء الرد على خطابها خلال وقت أقصر من الوقت اللازم لوصوله إلى لندن، طبقًا لتقديرها.

ابنتي العزيزة:

كان يجب أن أُرسل لك منذ أيام، ولكن للأسف، لا يمكنني أن أُملي خطابًا عاطفيًّا على موظف الآلة الكتابة لديَّ، وكلما تقدم بي العمر، زاد عزوفي عن الكتابة بيدي. تقولين إنني قلق؟ أوه، لا! ما الذي يجعلني قلقًا؟ أخشى أن والدك المقاتل المسن لا يزال يهوى القتال، سواء ضد الظروف أو ضد البشر. قبل أن تُطفأ النار، أُرسلت طلبيات عبر البرق إلى ثلاث شركات لبيع الماكينات في الشمال. وبينما كانت سيارات الإطفاء لا تزال تهيل المياه على الأنقاض، كنت قد أجَّرت المنازل الأربعة المجاورة للورش، وأخليتها من مستأجريها رغم شغلهم لها. وفي تلك الليلة، بدأ الرجال يهدمون الأبواب التي تفصل بين الأقسام ويقوون الأرضيات. لحسن الحظ، لم تُمس المحركات والغلايات بسوء؛ إذ كانت في مبنًى منفصل، وتمكَّنا بالفعل من نقل أكبر عدد ممكن من الماكينات إلى هذا المكان، ومددنا حبلًا حديديًّا طويلًا متدليًا دائم الاهتزاز لإمدادها بالكهرباء عبر الفناء. طلب أمين النقابة الجديد أن يعقد اجتماعًا معي لمناقشة ما تنوي الشركة تقديمه إلى العمال الذين أصبحوا عاطلين بسبب الحريق. ورفضت مناقشة أي شيء مع أمين النقابة الجديد، كونه ليس أحد موظفي شركتي. إنه أذكى من جيبونز؛ فشكَّل على الفور وفدًا من عمالي وأرسلهم إليَّ. واستقبلتهم بالطبع، وسألوني عما إذا كنت على استعداد لأن أدفع لهم خمس عشرة بالمائة من أجورهم أثناء فترة بطالتهم. قلت لهم: «لا، يمكنني أن أتفوق على النقابة العمالية دائمًا. سأدفع لكم أجوركم كاملة، وليس خمس عشرة بالمائة منها؛ فأنا أتوقع أن تعودوا جميعًا إلى وظائفكم بحلول يوم الإثنين.» ظني أنني استطعت إدهاش العمال إلى حدٍّ ما. سيعود العمل إلى مساره الطبيعي في غضون أسبوع، ولن نتأخر في تسليم طلبية واحدة. وسيُبنى المصنع الجديد، الذي بدأ بناؤه بالفعل، وفقًا لأحدث الأفكار، وأتوقع أن يستطيع توسيع نشاط شركتنا، بحيث نحتفظ بالمنازل الأربعة المستأجرة عندما يصبح المبنى الجديد جاهزًا. اغفري لي رضاي عن نفسي، ولكن على المرء أن يفتخرَ بنفسه من وقتٍ لآخر أمام شخصٍ ما، وأنت يا عزيزتي إدنا الوحيدة التي يمكنني التباهي أمامها.

نعم، لا يزال اتفاقنا ساريًا، وأنا سعيد أنك ذكرت خطاب زوجة أبيك، وإن كنت أتمنى ألَّا تأخذي أيًّا من تعليقاتها شبه الهستيرية عن طغياني على محمل الجد؛ فعلى المرء أن يتصرف، ومن يتصرف فلا بد أن يرتكب أخطاءً. ربما كان طرد مارستن من العمل خطأً. لا أرى أنه خطأ من وجهة نظري، ولكن زوجة أبيك تراه كذلك بالطبع، ولأن الحقائق تُربكها دائمًا، فهي ترى أنه أصبح يتضور جوعًا، وأمورًا من هذا القبيل تحدث الآن. كل شيء يعتمد على نظرتك للأمور يا إدنا. عود ثقاب يسقط سهوًا أو عن عمد على مواد قابلة للاشتعال، ثم تحدث تغييرات كيميائية معينة، وينتج غاز حمض الكربونيك، فيتهاوى المصنع إلى أنقاض متحولًا إلى وقود للنار. يبدو كل هذا طبيعيًّا تمامًا بالنسبة إليَّ، ويتفق تمامًا مع الأبحاث العلمية. ولكن وجهة نظر زوجة أبيك مختلفة. إنها ترى تدخُّل القدر، ولأني لا أرى المثل، تراني أستهزئ بالذات الإلهية. إنني أومن بالقَدَر وأثق به مثل أي شخص، ولكن في اعتقادي أن القدر يعمل بتعقل. فهو لا يدمر مصنعًا ويقتل رجلَين لمجرد أن يريني أنني مخطئ؛ فهو قادر على أن يحقق هذه الغاية بتكلفة وعناء أقل. لا أعتقد أن القدر أقل تعقلًا من ابنتي الصغيرة التي تتبع النهج الصحيح دائمًا. إنها تقول برقة وحنو: «أبي، أعتقد أنك مخطئ، وأريدك أن تعيد التفكير في الأمر.» لا تحاول أن تُثبت أني طاغية عديم الرحمة. سأعيد التفكير على الفور، وأعيد مارستن إلى عمله، ولكن هذا لم يعد ضروريًّا. فهو الآن الأمين الجديد للنقابة العمالية، ويتقاضى أجرًا أكبر من أجره في مصنعي، وصار وقته ملكه فعليًّا، ويمتلك فرصةً كبيرة للإيذاء إذا ما اختار أن يمارس سلطته. وينتابني شعور قوي بأني سأكون مضطرًّا إلى مواجهته في غضون سنة أو اثنتين أو ثلاث. ستكون مواجهةً مثيرة، ولكني سأنتصر. وبهذا التباهي الأخير، أختتم خطابي الطويل. آمل أن أتمكن من القدوم لرؤيتك يوم السبت، وحتى ذلك الحين، أغدقي كل ما لديكِ من تعاطفٍ على ذلك الطاغية ذي القبضة الحديدية.

والدك

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤