الفصل الثامن والعشرون

ترك بارني عربته ذات الحصانَين في رعاية خادمه وغادر إلى لندن بالقطار. جلس متجهمًا في أحد أركان مقصورة تدخين بالدرجة الأولى يصب اللعنات على العالم. وتمكن من تدخين كمٍّ كبيرٍ من السجائر خلال الفترة التي أمضاها القطار من البحر، وصولًا إلى محطة تشارينج كروس، وبينما كان يدخِّن، اتخذ قراراتٍ صارمةً وبطوليةً تتعلَّق بمسيرته المهنية. سيأخذ الأمور الآن على محمل الجد. سيُدير أعمالَه بنفسه. وأدرك في الضوء الساطع لخيبة الأمل الكبيرة التي مُني بها أنه، حتى هذه اللحظة، أولى الكثير من الاهتمام إلى إنتاج الأعمال الفنية، دون أدنى اهتمامٍ بالترويج لها. ولم يكن ثمَّة أملٌ من انتظار التقدير لأعماله من جمهورٍ أحمق لا يملك حس النقد الفني، ولم يظهر بعدُ الناقد العظيم الذي كان يبحث عنه وبداخله يقين أنه سيجده. إذن بما أن الناقد لم يظهر بعد، فعليه أن يجعله يظهر. سوف يشتري أكثرَ ناقدٍ فنيٍّ باهظ الثمن في السوق، وحينئذٍ سيعلم العامة المتخلفون أن ثمة عبقريًّا كان يعيش بينهم دون أن يلحظه أحد.

عندما أصبح لخططه الشاملة شكلٌ نهائي، كان القطار قد وصل إلى النفق ذي السقف الزجاجي في محطة تشارينج كروس. قفز بارني في عربةٍ واتجه إلى المصنع مباشرة. حدَّث بارني نفسه بينما كان يحدِّق حوله إلى الأنقاض التي خلَّفها الحريق قائلًا: «يا لبشاعة المكان!» فقد كانت الأرض مغطاةً بأكوامٍ متناثرةٍ من حديدٍ محترقٍ وملتوٍ، فيما تناثرَت أكوام أخرى من مواد بناءٍ جديدة في كل مكان. آذَت الفوضى والقبح اللذان عمَّا المكان برمته حسه الفني المرهف، وشكر حظه الحسن على أنه ليس مضطرًّا لقضاء أيامه في هذا المكان. توجَّه إلى سارتويل الذي كان يناقش مسألةً ما مع المهندس المعماري وصافح مدير المصنع بحرارةٍ ومودة.

وصاح قائلًا: «سيد سارتويل، لقد أتيت بمجرد أن علمت بأمر الحريق.»

فرد عليه مدير المصنع بجفاء: «آه. هل كنت في أمريكا؟»

ضحك بارني قائلًا: «لا، لم أكن في مكانٍ بعيد إلى هذه الدرجة، ولكني لا أقرأ الصحف على الإطلاق، كما تعلم، وسمعت بأمر الحريق بمحض الصدفة. وها أنا ذا رهن إشارتك بالكامل، وعلى استعدادٍ لفعل أي شيءٍ وكل شيءٍ تريده مني. أفضِّل ألَّا أحمل الطوب، إذا كانت ثمة مهمة أخرى يمكنني القيام بها، فأنا على استعدادٍ للمساعدة بأي شكلٍ كان. ولا مانع لديَّ أن أخبرك يا سيد سارتويل، أني بوضع نفسي رهن إشارة الشركة، إنما أضحِّي بالكثير؛ فالفن يحتاج إلى وقت طويل والوقت يمر سريعًا كالريح، ولديَّ عمل لأؤديه في مرسمي، عمل ربما لا ترى أنه يستحق الاهتمام، ولكني آمل ألَّا تتفق معك الأجيال القادمة. ولكن هذا لا يمنع أني قد أتيت. فمرني.»

قال سارتويل راسمًا ابتسامةً واجمةً على شفتَيه: «في الواقع إنك تُسيء فَهْمي. إني لأرى أن قيمتَك في المرسم أكبر بكثيرٍ من قيمتك هنا. لا شك لديَّ في أنني والأجيال القادمة سنتفق في تقديرنا لأعمالك. فالفنانون قلة والعمال كُثُر. وستكون كارثةً حقيقية أن تتداخل أزمتنا الحالية مع عملك الفني. لذا، على الرغم من سعادتي بعرضك الكريم بالمساعدة، لا يمكنني التفكير في قَبوله. لا، المرسم هو مكانك الحقيقي يا سيد هوب.»

«إنه لَلطفٌ غير معتادٍ يا سيد سارتويل أن تُبديَ كل هذا الإطراء اللطيف على جهودي، وأؤكد لك أني أُقدِّره للغاية؛ فأنا لا أتلقَّى الكثير من التشجيع، حقًّا لا أتلقَّى أي تشجيع. فنحن نعيش في عالمٍ مادي متوحش، كما تعلم. هل عاد أبي إلى الوطن؟»

«نعم؛ عاد ليلة أمس.»

«آه، لم أعلم بعودته. لا بد أنه منزعج للغاية، أليس كذلك؟»

«قلق بعض الشيء.»

«أمر طبيعي. حسنًا، إذن لا يوجد ما يمكنني تقديمه لك، أليس كذلك؟»

«لا شيء، إلَّا إذا تولَّيت مهمة تصميم ديكورات المصنع الجديد، وبذلك ستكون قد أرسلته إلى الأجيال القادمة، وسيصبح مخلدًا كجداريات الفاتيكان. ولكن لن نحتاج إلى ذلك قبل شهر أو اثنين من الآن.»

«قُضي الأمر إذن. سأفكر في الأمر. حسنًا، إذا احتجتني، فأنت تعرف عنواني. أرسل لي برقيةً وسآتي على الفور.»

«إنه لكرم منك أن تكون على استعداد هكذا لتهب إلى المساعدة في أي وقت، ولكن خذ بنصيحتي والزم مرسمك. ولكن على أي حال، سأتذكر عرضك بالمساعدة، وسأخبرك إذا ما واجهت أزمةً أعجز عن التعامل معها بمفردي.»

صاح بارني وهو يصافح سارتويل مرةً أخرى بودٍّ غير مصطنع: «أرجو أن تفعل. إلى اللقاء إذن!»

اتجه نحو البوابات وركب العربة التي كانت واقفة في انتظاره، وملأ قلبه شعور مستحق بأنه قد لبَّى نداء الواجب المُلح، بينما كانت العربة تغادر المصنع.

كانت الرحلة طويلةً إلى مرسم هالديمان، وأخبر بارني سائقَ العربة أنه قد يُضطر لانتظاره لساعةٍ أو اثنتَين، وانطلق مسرعًا عبر سلم المدخل ودقَّ الجرس. بعدما سُمح له بالدخول، سأل عما إذا كان هالديمان موجودًا، ثم صعد الدرج وقرع باب المرسم برأس عصاه قرعةً واحدةً مفزعة، ودخل.

كان هالديمان واقفًا عند حامل لوحاته واضعًا غليونًا أسود في فمه، ومرتديًا معطفًا قديمًا، وبدا من مظهره العام أنه لم يمشِّط شعره منذ أسبوع. كانت ثمة رسمةٌ غير مكتملةٍ بالأبيض والأسود تزيِّن لوحًا كبيرًا من الورق المقوى، موضوعة على الحامل.

صاح هالديمان قائلًا: «مرحبًا يا بارني! أظن أن هذه طريقتك الرقيقة في الإعلان عن وصولك. تبدو أنيقًا ومهندمًا كمشرفٍ في متجر. هل تخلَّيت عن الرسم واتجهت إلى هذا المجال؟»

فصاح بارني وهو يصفق الباب من خلفه ويدخل الغرفة كما لو كان إعصارًا: «لا يا صديقي، لم أفعل! كما أني لست مهندمًا؛ فقد جئت للتو من رحلةٍ بالقطار، وذهبت من محطة تشارينج كروس إلى المصنع، ومنه إلى هنا. ولم يتيسر لي ما يكفي من وقتٍ لأذهب إلى النادي لأهندم نفسي؛ فقد كنت متعجلًا للغاية لأراك. فلا تسخر مني يا هالديمان.»

«كل شيء نسبي يا بارني، وأنت تبدو في نظري كائنًا متألقًا من عالم آخر أفضل من عالمنا، حيث يملك المرء حسابًا غير محدودٍ مع الخياط الخاص به. ألن تجلس؟»

«هذا ما جئت من أجله. هيا يا هالديمان، أين مشروباتك المنعشة والصودا؟ أنا منهك تمامًا. فكن مضيافًا. ثمة الكثير يشغل فكري هذه الأيام. لقد دمرت النار جزءًا من المصنع، وبصدد إعادة بنائه وأمور من هذا القبيل التي من شأنها أن تُنهك المرء، بما في ذلك رعاية العمال والتأكد من عدم وقوع أخطاء.»

قال هالديمان وهو يضع طاولةً صغيرةً بجوار صديقه، ويضع فوقها زجاجة شراب، وزجاجة صودا، وكوبًا: «أوه، لقد قرأت الخبر في الصحف، وتساءلت عمَّا إذا كانت هذه شركتك. اعتبر نفسك في بيتك يا صديقي. هل تمانع لو عدت لمواصلة عملي؟»

صاح بارني: «نعم، أمانع! اجلس يا هالديمان. أريد أن أتحدَّث إليك في موضوع مهم.»

«أنا متأخر عن موعد تسليم هذه اللوحة يا بارني. يمكنني أن أسمعك أثناء العمل. هيا، هاتِ ما عندك.»

«اسمع يا هالديمان، كم تتقاضى مقابل لوحة مبهمة المعالم كهذه؟»

تراجع هالديمان إلى الخلف قليلًا ونظر إلى اللوحة بعين ناقدة، ثم قال متشدقًا:

«حسنًا، آمل أن أتمكَّن من نهب أربعة جنيهات إسترلينية من القرصان الذي يحرر المجلة التي طلبَتها مني. ستُنشر في صفحة كاملة.»

«يا إلهي! تخيَّل رجلًا يرسم لوحةً مقابل مبلغ كهذا! لم أكن لأرسم خطًّا واحدًا لو قلَّ المقابل عن مائة جنيه.»

رد هالديمان مفكرًا: «لطالما فكرت في رفع مقابل خدماتي إلى هذا الرقم الخيالي، ولكني تراجعت خشية أن تعلن المجلات إفلاسها. فعلى المرء أن يراعي الصحافة الرخيصة بعض الشيء.» دس بارني يده عميقًا في جيب سرواله وأخرج حفنةً معتبرة من العملات المعدنية، وتخيَّر منها أربعة جنيهات ذهبية وأربعة شلنات، ووضعها على الطاولة وهو يقول: «ها هي الجنيهات التي تأمل الحصول عليها يا هالديمان. سأشتري هذه اللوحة. والآن، اجلس وتحدث إليَّ. أريد منك أن توليني انتباهك كاملًا.»

وقف هالديمان في مكانه لحظات وهو ينقل بصره ما بين المال والرجل الذي وضعه. ثم تحدث أخيرًا ببطء وهدوء قائلًا:

«بارني، إن كرَّرت هذا الفعل ذات يوم، فستتعرض للضرب بسببه. للأسف لا يمكنني أن أُلقي بك من النافذة بنفسي، ولكن ثمة سائق عربة يتسكع أمام المبنى، وسأستدعيه ليساعدني إذا لم تضع هذا المال في جيبك على الفور. لا تجبرني على كسر قواعد الضيافة المقدسة.»

«لقد كسرتها بالفعل يا هال عندما غضبت. أراك غاضبًا، فلا تحاول الإنكار. كما أن سائق العربة لن يأتي؛ فأنا من استأجرته، وإذا أتى، يمكنني التغلب عليكما.»

«أنت تعلم أنه لا يمكنك استئجاري مثلما فعلت مع سائق العربة يا بارني.»

«بالطبع لا، بالطبع لا. ولا أحاول أن أفعل يا صديقي. اجلس وتعقَّل. لقد أتيت إليك باعتبارك صديقًا؛ فمسيرتي المهنية تمر بأزمة. أنا بحاجة إلى المساعدة، فارفق بي. لقد صرت أتعامل مع الحياة من منظور جاد الآن، و…»

«منذ متى؟»

«منذ صباح اليوم إذا أردت. لا يهم «منذ متى». لقد خلصت إلى أنني أضيع حياتي هباءً. ستسخر مني بالطبع، ولكني أعلم أني عبقري، لست مجرد موهوب، لا، بل عبقري. ولا طائل من محاولة إثبات ذلك، أو التظاهر بتواضع زائف، إذا كان المرء عبقريًّا، فهو يعلم ذلك. إذن، لمَ لا يقولها صراحة؟»

«لا أرى ما يمنع ذلك.»

«بالضبط. أخبرني يا هالديمان، كم تجني من المال سنويًّا؟»

«تعني، كم من مال قليل تجني؟»

«فلتَصغ السؤال كما يحلو لك. اذكر رقمًا.»

«ما شأن هذا بعبقريتك؟»

«لا تشغل نفسك بذلك. كم المبلغ الذي تجنيه؟»

«بارني، إذا كنت تُعِد لإهانة جديدة لي بالمال، فأنا أحذِّرك من أنني لن أتحملها.»

تجرَّع بارني شرابه دفعةً واحدة، وبدأ يذرع أرجاء الغرفة مفسحًا طريقًا لنفسه عبر ركل كل ما يعترضه جانبًا. وجلس هالديمان في مقعد وثير ممددًا ساقيه أمامه، وواضعًا يدَيه في جيبَيه، وراح يراقب صديقه وهو يذرع الغرفة جيئةً وذهابًا بنشاط.

ثم صاح بارني قائلًا: «لطالما كانت مهنة الرسام مثار ازدراء العالم منذ بدايات الرسم. اقرأ أي رواية وستجد أن بطلتها، حال معاناتها من زيجة فاشلة، تقع دائمًا في حب رسام، دائمًا.»

«حسنًا، إنهن يتزوجن منا عمومًا.»

«نعم، ثم يعشن في تعاسة دائمة.»

«أوه، نحن كرماء ونشاركهن تعاستنا.»

«أنت تدرك ما أعنيه. دائمًا ما يتعرض الرسام للازدراء، وستجد جميع الشخصيات المحترمة في الرواية مشمئزين من اختيار الفتاة للرسام. ولكن لماذا؟»

«الإجابة سهلة. لأن من المعروف عن الخيال أنه لا يمت للحياة الواقعية بصلة. إن زوجات رسامي الأكاديمية الملكية للفنون يعشن في عظمة ورفاهية لا تحلم بهما سيدة أرستقراطية عادية.»

«هذا ليس صحيحًا تمامًا. إن السبب هو أن الرسامين لا يُديرون أعمالهم بأنفسهم. ولا يملكون أي حس تجاري. لهذا السبب هم فقراء. إذا ما اخترع أحد صابونة، ماذا سيفعل؟»

«يغتسل بها.»

«يروِّج لها. ويصبح ثريًّا. وإذا ألَّف رجل كتابًا عظيمًا، ألَا يجدر به أن يُعلن عن نفسه وعن كتابه بشتى الطرق المتاحة أمامه؟»

«أعتقد أنه يجدر به أن يفعل يا بارني. أين كنت تعيش طوال هذه الفترة لتكون جاهلًا لهذه الدرجة بأساليب الفنون والأدب المعاصرة المعترَف بها؟»

«ألَا تُعد لوحة عظيمة أعلى قيمةً بالنسبة إلى العالم من صابونة تحظى بترويج جيد؟»

«حسنًا، إذا أردت رأيي، فسأقول لا. فأنا أدعم الصابون كأداة أكثر قيمةً للتمدن والحضارة ضد متحف اللوفر.»

توقف بارني عن السير، ورفع ذراعيه فوق رأسه، ثم تركهما تسقطان بقوة على جانبيه.

ثم صاح بنبرة بائسة: «لا صديق لي في هذا العالم! لا أحد، لا أحد!»

«بارني، إن هذه المحادثة تحيِّرني. ما الذي ترمي إليه على أي حال؟ ما خطب الرسم، والصابون، والأدب، والدعاية، والصداقة، والزواج؟ من هي المرأة التي تقصدها؟»

«لا تحدثني عن النساء! فأنا أكرههن!»

«كنت أعتقد أنك الأكثر نجاحًا في هذا المجال. أعتقد أنك أنت من صرَّح بذلك.»

«النجاح! إن المرء يحقق النجاح حتى مرحلة معينة، ثم تحدث خيبة أمل تريه كم كان هذا النجاح زائفًا. لن أتحدث إلى امرأة مرةً أخرى أبدًا.»

«لقد مررت بمثل ما تمر به عدة مرات. ولكننا نعود دائمًا إليهن، إن لم يكن إلى الحب الأول، فإلى الحب الرابع أو الخامس. أما بالنسبة إلى الأصدقاء، فلا أعرف رجلًا لديه أصدقاء أكثر منك.»

«ليسوا أصدقاء حقيقيين يا هالديمان. ليس لديَّ صديق واحد حقيقي، أؤكد لك ذلك. كنت أظنك صديقًا حقًّا، ومع ذلك لا تفعل شيئًا سوى السخرية مني. تعتقد أني لا أدرك ذلك، ولكني أدركه على أي حال. أنا رجل شديد الحساسية، رغم أنه لا أحد يُقدِّر ذلك على ما يبدو.»

«أنا لا أسخر منك يا بارني. ما الذي غرس هذه الفكرة في رأسك؟ أعتقد أنك لا تقدر حساسية الآخرين في بعض الأحيان. إنك تميل قليلًا إلى التباهي بأموالك في وجوه أولئك الذين لم يبتسم لهم الحظ حين تكون برفقتهم. ومن ثم تتمرد الروح الحساسة.»

«هذا طبعي المؤسف يا هالديمان. لا أقصد فعل ذلك حقًّا. إذا كان لي ساق عرجاء أو قدم حَنْفاء، وجئتك هنا وأنا أعرج بها، لم تكن لتسخر من عجزي، أليس كذلك؟ بالطبع لن تفعل. حسنًا إذن، لمَ تمتعض من عيب في الشخصية رغم علمك بحسن نواياي؟»

«أنا لا أمتعض من أي شيء فيك يا بارني، من وقت لآخر فقط على الأقل.»

«أنت تعرف أني على استعداد للذهاب إلى نهاية العالم في سبيل خدمة صديق؛ صدقني! ولكني تعس الحظ. ثمة موسيقي فقير بارع أحاول مصادقته. ولكني أرى بوضوح أنه يمقتني بشدة. حتى إنني استعنت بناشر لينشر بعضًا من موسيقاه — وتحملت كل التكاليف — ولكني ذقت الأمرَّين لأُقنع عازف الأرغن هذا بالسماح لي بمساعدته، وهو عبقري دون أدنى شك. وجمعت جمهورًا مختارًا يقدر الفن الراقي ليستمع إلى عزفه. ولكنه لم يحضر، رغم وعده لي بالحضور، وظن الناس أني كنت أحاول السخرية منهم. لا بد أن كل هذا بسبب طبعي اللعين. أما أنت، فتعرف دائمًا الشيء المناسب الذي يجب قوله؛ أما أنا، فلا. عبقريتي لا تعمل في هذا الاتجاه. أنا فنان.»

أرجع هالديمان رأسه إلى الخلف وضحك. فحدَّق إليه بارني وقطب جبينه في استياء.

«ما الذي يُضحكك الآن بحق الجحيم؟»

«معذرةً يا بارني؛ أنا أضحك على عرج قدمك الحنفاء، وإن كنت لم تظن أني قادر على السخرية من شيء كهذا.»

«ما المضحك فيما قلت؟»

«لا شيء، لا شيء. أنا أحبك يا بارني! أنت برنارد هوب الوحيد الأوحد، والآخرون ما هم إلا نسخ مصطنعة منك. والآن، استمع إليَّ. لا أملك أدنى فكرة عما تريده مني. لقد تطرَّقنا خلال هذه المحادثة إلى الكثير من الموضوعات، ولكني سأفعل من أجلك ما سوف تفعله من أجلي، فيما عدا جرائم الاختطاف أو الاغتيال. فأنا أفضِّل ألَّا أزج بنفسي إلى السجن، إذا لم يكن لديك مانع، ولكني على استعداد للمجازفة بذلك من أجلك. ماذا تريد مني؟ هاتِ ما عندك!»

«ولكن بمجرد أن أبدأ حديثي، ستقول إنك تشعر بالإهانة. أنت ترهبني يا هالديمان؛ أقسم لك أنك ترهبني!»

«هيا استمر. الإهانات ممنوعة لعشر دقائق. هل ستستمر أم لا؟»

«عظيم. لقد سألتك كم تجني من مال سنويًّا، وسخرت مني.»

«أنا لا أحتفظ بسجلات حسابات، ولا أدفع دينًا إلا بعد تدخُّل وسطاء؛ لذا ليس لديَّ أدنى فكرةٍ عن ذلك حقًّا. ولن يكون تخمينك للمبلغ أفضل من تخميني. فخمن واستمر.»

«حسنًا. أريد أن أدفع لك ضعف دخلك السنوي مقابل مساعدتك لي في هذه المسألة.»

«هذه ليست صداقة، هذه صفقة تجارية مرةً أخرى. معذرة، لقد نسيت. لا تنظر لي شَزْرًا هكذا يا بارني؛ قبلت عرضك. هل يمكنني تقاضي المال مقدمًا؟»

قال بارني وهو يصيح في جذل: «بالطبع يمكنك ذلك»، واضعًا يده في جيبه، ولكن حين دخل هالديمان في نوبة من الضحك، تحوَّل تعبير السعادة على وجه بارني إلى سخط شديد، واتجه نحو الباب مطلقًا سبة. فهب هالديمان واقفًا وأمسك بكتفَي بارني الممتعض.

وصاح: «كف عن ذلك! عد إلى هنا أيها الوغد! لا يمكنك أن تعرض عليَّ ثروةً ثم تتسلل خارجًا هكذا. اجلس يا بارني، اجلس وواصل حديثك العذب!»

فقال بارني بنبرة حزن عميق: «أوه، لا طائل من الحديث! قلت لك لم يكن لي يومًا صديق في هذا العالم، ولم أكذب.»

«هراء! أنت تنزعج من الدعابات أكثر من الأطفال. إذا لم يُسمح للمرء بالضحك في بيته، فأين له أن يضحك إذن؟ أنا مهتم للغاية، وأريد أن أعرف الجريمة التي تنتظر مني ارتكابها. لا عليك بالمال، ولكن أفصِح عمَّا لديك.»

«المال جزءٌ من المسألة. سأدفع وإلا فلن أُخبرك بشيء.»

«بالطبع. أفهم ذلك. أنا أقبل. هاتِ ما عندك!»

«أنت تعرف جميع محرري المجلات والدوريات الأسبوعية المُصوَّرة.»

«هذا صحيح للأسف!»

«سأدخل في صلب الموضوع إذن وليكن سرًّا بيننا؛ أريد أن أشتري ناقدًا كبيرًا، ومحرر مجلة مُصوَّرة كبرى.»

«هل تعني أنك تريد أن تشتري مجلةً رائجة؟»

«لا أعني أي شيء من هذا القبيل. لا أعني إلا ما أقول.»

«أنا لا أفهمك تمامًا إذن. فسِّر ما تعنيه.»

«ما أريده كالآتي: أريد ناقدًا فنيًّا كبيرًا ليكتب مقالًا في دورية كبرى يقول فيه إن برنارد هوب أعظم رسام رآه العالم.»

«أوه، أهذا كل ما تريد؟»

«لا، ليس كل ما أريد. أريد أن يكون المقال مصورًا بشكل بديع — بالألوان الطبيعية إن أمكن — بنسخ من أفضل لوحاتي.»

«آه! لم أكن لأفعل ذلك يا بارني لو كنت في مكانك. فستفضح اللوحات كذب مديح الناقد الكبير.»

«نعم، كنت أعلم أنك ستقول ذلك. إن وضوح مثل هذه الملحوظة سيجعل إبداءك لها منطقيًّا. ولكني صريح معك تمامًا كما ترى. والآن هل يمكنك أن تؤدي هذه المهمة من أجلي؟ تذكر أنني لا يهمني كم سأنفق من مال.»

أخرج هالديمان الغليون الأسود من فمه، ونفضه ليخرج منه الرماد، ثم أعاد ملأه بالتبغ وهو يفكر.

ثم قال أخيرًا: «حسنًا، أرى هذا العرض وقاحةً سافرة يا بارني …»

«نعم، أعلم ذلك، أعلم ذلك، أعلم ذلك. ولكن هذه الأمور تحدث كل يوم؛ أو فلنقل كل يومَين تجنبًا للمبالغة. سيحقِّق لي ما فعله راسكين من أجل ترنر. لقد ظل ترنر يرسم طوال حياته، ولم يجد تقديرًا من أحد، ومات في تشيلسي. وأنا أعيش الآن في تشيلسي وأريد أن أحظى بالتقدير في حياتي. بالطبع سيظهر ناقد على غرار راسكين ويعرفني بعد موتي، ولكني لن أكون على قيد الحياة لأستمتع بذلك كمن حُكم عليه بالإعدام. نادرًا ما تحدث الأمور في الأوقات المناسبة في هذا العالم، وعرضي السافر هذا يهدف إلى أخذ الأحداث غلابًا وتعجيلها قليلًا. هل تفهم ما أعنيه؟ كما أني أعظم كثيرًا من ترنر.»

ظل هالديمان بضع لحظات يدخِّن غليونه ويفكر، ثم قال:

«لست واثقًا من ذلك، ولكن الخدعة يمكن تنفيذها، وإن كنت لا أعلم إذا ما كانت الرشوة الصريحة السافرة ستؤدي الغرض. هل تناسبك مجلة مثل مجلة «أوار ناشونال أرت»؟»

«لا أرى أفضل منها.»

«وهل ترتضي بناقد فني فرنسي مثل فيلييم؟»

«أرتضيه تمامًا. إن كلماته إنجيل في جميع أنحاء العالم.»

«حسنًا، علمت بالصدفة أن محرر مجلة «أوار ناشونال أرت» كان يحاول طوال عام كامل أن يقنع فيلييم بالكتابة عن الفن الإنجليزي، إلا أن الناقد الفرنسي لن يأتي إلى لندن، ولو ليوم واحد مهما كان الثمن. إن فيلييم كاتب عظيم دون شك، ولكنه مبذر أعظم. سأذهب إلى باريس لجس نبضه. لن يمكنك أن ترشو محرر مجلة «أوار ناشونال أرت»، ولكنه سينشر أي شيء يكتبه له فيلييم. كما أعلم أن الرجل الفرنسي لا يهتم بما يكتبه لإنجلترا، رغم أنه يدقِّق كثيرًا فيما يُنشر في باريس ويُنسب إليه. فهو يعتقد أنه لا وجود للفن في إنجلترا.»

«إنه محق في ذلك أيضًا بناءً على ما يعرفه عنه، ولكنه لم يرَ أيًّا من أعمالي.»

«حسنًا. إذا وافق فيلييم إذن، فستتكرم بإرسال بعضٍ من أعمالك الخالدة إلى باريس ليفحصها.»

«سأرسلها جميعًا يا صديقي، سأرسلها جميعًا.»

«اتفقنا إذن. سأبذل أقصى ما في وسعي.»

صاح بارني بعاطفة جياشة: «حفظك الرب يا صديقي العزيز! حفظك الرب!» واعتصر يد هالديمان المجفل حتى كاد أن يحطمها، معلنًا إياه صديقه الأوحد على الأرض. وهبط درجات السلم مُحدثًا جلبةً كما لو كان جنديًّا مغوارًا، وقفز في العربة التي تنتظره، وانصرف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤