الفصل الثلاثون

أثبت العباقرة أن الورقة النقدية فئة خمسة الجنيهات، عند توجيهها بالشكل الصحيح، يمكنها سداد قدرٍ لا نهائي من الديون. لنفترض، كما يقول علماء الرياضيات، أن أ مدين إلى ب، وب مدين إلى ج، وج مدين إلى د، ود مدين إلى أ، بمائة شلن في كل حالة. يعطي أ ورقةً بخمسة جنيهات إلى ب، الذي يعطيها بدوره إلى ج، الذي يعطيها بدوره إلى د، الذي يعطيها إلى أ. لقد تسببت رحلة الورقة النقدية نفسها في محو دَينٍ قدرُه عشرون جنيهًا، وحصل أ في نهاية المطاف على نفس الورقة النقدية التي بدأ بها.

بالمثل، يمكن للشخص الذكي أن يسدي شخصًا آخر معروفًا كبيرًا، وفي الوقت نفسه يؤدي خدماتٍ لآخرين كثر، جاعلًا الجميع مدينين له، بينما لا يحقِّق الأحمق شيئًا سوى خَلْق العداوات بدلًا من إسعاد الجميع.

ذكر هالديمان الداهية عَرَضًا لمحرِّر مجلة «أوار ناشونال أرت»، بينما كان يسلِّمه بعضًا من الأعمال التي وعده بها، أن برنارد هوب قد دُعي لإرسال بعض من لوحاته إلى باريس.

«ماذا؟! هل تعني ذلك العملاق الذي يسكن في تشيلسي؟ يا إلهي، هذا الأحمق لا يفهم أساسيات الرسم، وبالنسبة إلى الألوان … فليرحمنا الرب! لا يوجد رسام يرسم بالطباشير على الأرصفة لا يتفوَّق عليه.»

بدت الحيرة على وجه هالديمان، ثم قال ببعض التردد:

«أعترف بأنني كنت أعتقد ذلك، ولكننا درسنا معًا في باريس بالطبع، ونحن، معشر الطلبة، دائمًا ما يحطُّ بعضنا من قدر بعض. ثمة شيءٌ في لوحات بارني أُقر بأني لا أفهمه.»

«تفهمه! هذا هراء! لا شيء في هذه اللوحات سوى أحقر وأجهل لطخات وُضعت على قماش للرسم على الإطلاق.»

«كيف تفسِّر إذن حقيقة أن بعضًا من أبرز النقاد قد بدءوا يعتبرون بارني، جديًّا، عنصرًا جديدًا في عالم الفن؟»

«لم أسمع بذلك الأمر من قبل. من منهم على سبيل المثال؟»

«سمعت أن فيلييم يثني كثيرًا على أعماله؛ يقول إنه أسلوب جديد ومميز، وإن بارني هو العبقري الحقيقي الوحيد الذي أنجبته إنجلترا على الإطلاق.»

«هذا مذهل! ولا يمكن أن يكون حقيقيًّا! أيًّا كان ما يقال عن أخلاقيات فيلييم، لا يمكن لأحدٍ أن ينكر أنه يعرف اللوحة الحقيقية بمجرَّد رؤيتها.»

«بالطبع؛ أنا فقط أقول ما سمعت. أنا نفسي لا تعجبني أعمال بارني كما أخبرتك. ولكني على وَشْك السفر إلى باريس، وسأستكشف لك رأي فيلييم في سرية تامة. إذا كان بارني العبقري القادم، فسوف ترغب في معرفة ذلك، وتقديم اللمحة المبدئية على الأقل عن الصيحة القادمة، إذا كان سيتحول إلى صيحة، أليس كذلك؟»

«بالطبع. ولكن لا يمكنني تصديق ذلك!»

«لا أعرف إذا ما كان يجدر بي قول ذلك، ولكني أعرف أن بعضًا من لوحات بارني في طريقها إلى فرنسا، وأظن أنها ذاهبة خصِّيصى إلى فيلييم لفحصها وتفقُّدها.»

«هالديمان، هلَّا تحاول أن تكتشف كل ما يمكنك اكتشافه لأجلي؟ يبدو الأمر لا يصدَّق! ولكن الفن مليء بالمفاجآت، وأود أن أكون على علم بها. وإذا كان الأمر حقيقيًّا، فحاول أن تحثَّ فيلييم على كتابة مقالٍ عن الحقبة الفنية الحديثة لأجلي.»

«هل ستنشر مقالًا عن بارني إذا ما جعلت فيلييم يكتبه؟ ظننت أنك لا تهتم بأعمال بارني.»

«لست مهتمًّا، ولكن سيسرُّني نَشْر أي شيءٍ موقعًا باسم فيلييم. وبالطبع، من بين المدارس المختلفة، أسعى جاهدًا للحفاظ على الحيادية التامة. فأنا أُومِن بأن من حق الأطراف جميعها أن يكون لها صوتٌ مسموع.»

«حسنًا، سأبذل قصارى جهدي.»

«شكرًا لك يا هالديمان. سأكون ممتنًّا لك كثيرًا، وأي نفقات …»

«أوه، لا عليك. أنا ذاهب إلى باريس على أي حال؛ لذا لن تكون ثمة أي نفقات إضافية.»

•••

نُشر المقال في الوقت المناسب وكان مدعمًا بصور اللوحات على نحو رائع. وجاءت النتيجة موافقةً تمامًا لتوقعات بارني وما أنفقه، وانتشرت صيحة برنارد هوب في جميع أنحاء البلاد. أُجريت معه لقاءات صحفية، والتُقطت له الصور، وكُتبت عنه المقالات. ولفترة من الزمن، كان من غير الممكن أن تشتري جريدةً أسبوعية مصورة رخيصة، دون أن ترى فيها أحدث صور بارني الفوتوغرافية؛ فقد صار لدى الشاب براعةٌ عبقريةٌ في التموضع أمام الكاميرا كانَت ستصبح مصدر فخرٍ لأعظم الممثلين. وربما كانت الصورة التي يظهر فيها واقفًا وعاقدًا ذراعيه أمام صدره، وعلى وجهه تعبير من الجدية والسيطرة، من أكثر الصور التي أثارت إعجاب الفتيات، وإن كانت الصورة الأخرى التي بدا فيها شبيهًا بالرسام رامبرانت قد لاقت رواجًا كبيرًا أيضًا. وتوسل إليه أصحاب المعارض للحصول على لوحاته، وأقبل على شرائها الأثرياء، ولم يكن أحد يفهمها الأمر الذي كتب الاستمرارية للصيحة. كان الرسامون الحقيقيون ينظر بعضهم إلى بعض في دهشة ويتساءلون: «إلامَ سيئول هذا العالم؟» السؤال الذي كان يُطرح عادةً دون إجابة شافية.

لم تغير الشهرة العظيمة التي اكتسبها بارني من شخصيته على الإطلاق؛ فقد ظل ذلك الرجل الودود، كعهده دائمًا، وأصبحت دعواته إلى «حفلات الاستقبال» التي يقيمها شرفًا عظيمًا لمتلقيها. وكانت أمريكا، على وجه الخصوص، هي الأكثر شراءً لأعماله، وعُرضت عليه مبالغ خيالية للذهاب إلى هناك وإلقاء محاضرات. كان من شأن التملُّق الذي يتلقاه أن يصيب أي رجل بالغرور، ولكن لم يكن له تأثير يُذكر عليه؛ فهو لم يكن لديه أدنى شكٍّ على الإطلاق في أن سمعته العظيمة تلك مستحقة، وكان يعتبر نفسه أهم رجال عصره قبل أن يدرك العالم هذه الحقيقة بوقت طويل. كانت تصله خطابات من جميع أنحاء البلاد يقول فيها كُتابها، بعبارات عاطفية مؤثرة، إنهم شرفوا برؤية أعماله في هذا المعرض أو ذاك، ويأملون في عيش حياة أفضل وأعظم نتيجةً لذلك. أثَّرت بعض هذه الرسائل في بارني لدرجة البكاء، وكان يقرؤها على أصدقائه، حامدًا الرب في تواضعٍ أن أسبغ عليه موهبة نشر مثل هذه البهجة، وامتلاك مثل هذا التأثير الطيب على أقرانه من البشر.

ظهر مقلدون له بالطبع، ولكنهم لم يساهموا بالكثير في تشويه سمعته؛ لأنه، كما قال هالديمان، لا يوجد إلا بارني واحد، ولا يمكن أن يظهر في جيل واحد رجلان يرسمان بنفس السوء الذي يرسم به بارني. جلد النقاد الفنيون هؤلاء المقلدين بلا رحمة، وكانوا دائمًا ما يقولون إنه لو لم يأتِ برنارد هوب إلى الحياة، لما كانت هذه اللوحة أو تلك قد رُسمت، وهو التصريح الذي ربما كان صحيحًا تمامًا.

كان ذوو بارني فخورين به للغاية بطبيعة الحال. فلطالما كان والده يوليه ذلك الإعجاب الشديد الذي يُكنه رجل ضئيل الحجم لقريب له ضخم الجثة، وكانت والدته تشير إليه ﺑ «ابني، برنارد هوب، الرسام الشهير.»

كان بارني ظاهريًّا مثار حسد بالغ، ولكن لا يعلم العامة، مع الأسف، إلا القليل عن الحياة الشخصية لأحد حتى رسامهم المفضل! قد يبدو كل شيء على خير ما يرام من الخارج، بينما في الداخل يقبع هم كئيب. كان بارني يعاني من مشكلة سرية لم يفصح عنها لأحد، سببت له اضطرابًا ذهنيًّا خطيرًا. كان قد أخبر إدنا سارتويل بأنها دمَّرت حياته، وكان مقتنعًا تمامًا بهذا التصريح الموجع حين قاله. كان يرى نفسه بعين الخيال الكئيبة في المستقبل رجلًا محبطًا، ربما كان ناجحًا، ولكنه يضيق ذرعًا بالحياة، يعيش حياة النساك، ويرعى قلبه المفطور. كان يشفق على نفسه كونه ضحية عشق لا أمل منه، ولكنه وجد متعةً ممزوجةً بالحزن في تأمل حطام مسيرة مهنية ربما كانت ستحقِّق له السعادة. وشعر بالصدمة حين وجد استحالةً في العيش وفقًا لرؤيته المثالية تلك. فلم يكن التظاهر بالضحك، أو رسم ابتسامة مشمئزة على وجهه، أو ذلك الدثار الداكن الكئيب من التحفظ الشديد الذي كان يأمل في إحاطة نفسه به، أمورًا طبيعية في شخصيته؛ ومن ثم كان يرتد باستمرار إلى شخصيته الصاخبة المرحة، والاستمتاع بوقته، بينما كان يجدر به أن يتحسر وحيدًا على هذا الفراغ الموجع. وفوق كل ذلك، كان يتوقع من نفسه أن ينبذ عالم النساء، وألَّا ينجر مرةً أخرى أبدًا إلى الأحاديث الخفيفة، والبذيئة، والمجاملة المعروف ببراعته فيها، ولكن ما أحزنه هو اكتشافه أنه لا يزال يجد متعةً كبيرة في صحبتهن، بينما كنَّ، المسكينات، يهمن حبًّا ببارني دون حياء مثلما كن دائمًا. كان دخوله إلى أي مكان يضفي بهجةً على الحدث، وكان أكثر شباب طبقته شعبيةً بلا منازع. كان بارني في البداية يشعر بالقلق من عدم قدرته على أداء الدور الحزين الذي حدَّده لنفسه، ما جعله يشك في أنه ليس بالعمق الذي كان يتخيله، ولكن انحسرت هذه الفكرة المزعجة، عندما أدرك أخيرًا أن العزلة الصامتة في الأدب والدراما لم تكن سوى مجرد هراءٍ كئيبٍ لا وجودَ له في الحياة الواقعية. وساهَمَ هذا الاكتشاف المريح كثيرًا في مصالحة بارني مع نفسه من جديد، ومع الوقت تخلى عن محاولته لارتداء ثوب الضحية المسكينة لجحود امرأة، وعاد مجددًا المُضَيف اللطيف الودود والضيف الذي يُستقبل بالترحاب.

وبمرور الوقت، واستمرار انتشار شهرته، بدأ يقع تدريجيًّا في شباك الليدي ماري فانشو، التي كانت فتاةً متواضعة، وراقية، وفاتنةً في مُجملها. كان إعجابها بقوة ورجولة بارني لا حدود له، وحظيت أعماله الخيرية العديدة وكرمه الواسع، الذي لم يتحمل هو نفسه عناء إخفائه، ببالغ التقدير من جانبها. لم تتظاهر بأنها تفهم لوحاته، ولكنها كانت على استعداد تام لأن تصدق ما بدا تقديرًا عالميًّا لها باعتبارها أعمال العبقري الأعظم.

في معية الليدي ماري، كان إصرار بارني البطولي على عيش حياة النساك يفتر أكثر فأكثر. وعندما رأى بارني المسار الذي ينجرف إليه، وقف وقفةً جادة مع نفسه. كان قد مضى ستة أشهر على ما حدث في إيستبورن، وكانت هذه الفترة مصيريةً للغاية في حياته برمتها. وعلى الرغم من استمرار شعوره بخيبة الأمل من الحقيقة التي أصبح معترفًا بها لنفسه الآن بأن حياته لم تتحطَّم، فقد شعر بأنه ملتزم أمام كرامته بألَّا يتقدم إلى الليدي ماري بعرض زواج، حتى مرور عامٍ على الأقل بين محاولتَي الزواج. فإقدامه على طلب يدها للزواج قبل انقضاء هذه المدة سيكون إقرارًا منه بأنه لا يعرف ما يريد، وهو من كان يفخر خصوصًا بقدراته الذهنية. فالتصرف الذي يُرى تعجلًا غير لائق حين يؤتى به في ستة أشهر قد يُرى مثالًا على التروي والهدوء، حين يتم في اثنَي عشر شهرًا. وثمَّة حالات غيَّر فيها أناسٌ آراءهم السياسية التي كانوا يتمسكون بها بشدة في غضون عامٍ واحد، وعبَّرت الدولة في امتنانٍ عن تقديرها لصدق هذا التحول عبر الإنعام عليهم بألقاب النبالة أو الفروسية. ماذا إذن قد يمنع رسامًا عظيمًا من الوقوع في حب فتاتَين فاتنتَين، إذا مرَّت فترةٌ كافية بين إفصاحه لكلٍّ منهما عن حبه؟ كان بارني يقول لنفسه إنه من الخطأ، بلا شك، أن يقع في حب امرأتَين أو أكثر في الوقت نفسه، واضطُر لأن يُقر بأنه كان على شفا الوقوع في هذا الوضع المعقَّد في وقتٍ سابق، ولكنه كان حديث السن في ذلك الوقت، وحداثة السن ستار يمكن إخفاء الكثير من الأخطاء خلفه. قال بارني بحزم: «في مثل هذا اليوم بعد ستة أشهر، سأطلب يد الليدي ماري للزواج.» وبعدما هداه تفكيره إلى ذلك القرار النهائي الحاسم، انتابه ذلك الشعور بالرضا الذي يشعر به المرء دائمًا عند حَسْم مشكلةٍ محيرة نهائيًّا بشكل أو بآخر. فلا شيء أكثر إحباطًا من الحيرة. حتى هذه اللحظة، كان يخشى لقاء الليدي ماري، على الرغم من سعادته الكبيرة بصحبتها، ولكنه الآن لم يعُد يرى أي سببٍ لتجنبها. لذا، بعدما دوَّن التاريخ الذي سيقدِّم فيه هذا العرض المصيري، ارتفعت معنوياته للغاية وشعر بسعادةٍ بالغة، وقرَّر أن يحتفل بهذا القرار بأن يقود عربته إلى قرية سَري الجميلة التي يعيش والد الليدي ماري بالقرب منها. وكان قد تخلَّص من عربته ذات الحصانَين وأصبحت شيئًا من الماضي.

وجد بارني أن رؤية هذه العربة تُثير فيه أشجان إيستبورن المؤلمة، فباعها، واقتنى بدلًا منها مركبةً رائعة ذات أربع عجلات أسماها «جراولر»، يجرُّها حصانان أسودان نشيطان. كان يتحدَّث عن عربته جراولر بنبرة أسف أمام أصدقائه، وكان يقول إنها لا تُضفي كفاءةً خاصة على قدرة المرء في القيادة، ولكنها ستؤدي الغرض حتى الانتهاء من صنع العربة التي طلبها من أشهر صانعٍ للعربات في لندن. كان يرى أن العربة التي تجرُّها أربعُ خيول هي العربة الوحيدة التي يمكن للمرء أن يقودها، وتضفي عليه رونقًا وفخرًا وتسر أعين جميع الناظرين. وهكذا رجَّت عربته جسر تشيلسي وهو ممسكٌ بلجام حصانَيها الأسودَين اللذَين يتراقصان أمامه بيدٍ من حديد، متجهًا إلى داخل قرية سَري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤