الفصل الحادي والثلاثون

من الرائع قيادة عربة عبر طرقات قرية سَري في يوم صحو، ويجري أمامك حصانان جميلان، وفي المقعد الخلفي يجلس خادم بحُلة أنيقةٍ عاقدًا ذراعَيه أمام صدره. اختار بارني، الذي كان على دراية جيدة بالريف، الطرق الجانبية بدلًا من الطرق الرئيسية؛ فقد كان محبًّا للطبيعة ويُكن إعجابًا كبيرًا بمناظرها؛ إذ أصبح رجلًا ينسخ على قماش الرسم الكثير من المناظر الطبيعية.

عندما اقترب من وجهته، انعطف إلى الطريق الذي كان يعرف أنه الطريق المفضل للتمشية والتنزه لليدي ماري، وظل يستطلع الطريق أمامه بانتباه بالغ على أمل أن يلمح الفتاة من بعيد. وكان ينظر في ساعته أيضًا، وأبطأ من سرعة حصانَيه عندما أدرك أنه وصل إلى نهاية الطريق قبل الوقت الذي حدَّده لنفسه بقليل. كان بارني بالأساس رجلًا عمليًّا، وكان يدرك، بعيدًا عن الدراما، أن من النادر أن تحدث الصدف من دون دفعة بسيطة؛ لذا، وقبل أن يغادر تشيلسي، أرسل برقيةً إلى الليدي ماري، من باب الحيطة، يخبرها بأنه سيكون موجودًا عند نهاية الطريق في وقت محدد، وأنه إذا التقى أي شخص يعيش في الجوار وقدَّم له دعوةً ودودة لزيارة أحد البيوت الريفية، فسيقبل الدعوة بامتنان شديد، كما لو كان رجلًا مشردًا يجوب الريف بحصانَين وعربة. كان من النادر أن يكتب بارني خطابًا، وكان يعتمد اعتمادًا شبه تامٍّ على البرقيات وسيلةً للتواصل مع أقرانه. فكان يجد متعةً في إرسال برقية من عشر صفحات إلى أحد أصدقائه يحدِّثه فيها عن موضوع شديد التفاهة، وبعدما أصبح ثمة الكثير من الناس من جميع أنحاء البلاد يراسلونه طلبًا لتوقيعه، أصبح يرسل لهم دائمًا برقيات طويلةً يشرح لهم فيها أنه لا يكتب خطابات أبدًا؛ ومن ثم فإن أي توقيعٍ باسمه يُذيل أي خطابٍ لا بد وأنه مزور، ولن يكون أيٌّ من توقيعاته أصليًّا إلا إذا كان مُرسلًا عبر البرق. وأصبحَت توقيعات بارني الكهربية تلك تُباع بأسعارٍ مرتفعةٍ في المزادات.

وبينما كان يدخل الطريق، أخذ يتفقَّد الطريق أمامه بحثًا عن تحقق الصدفة التي رتَّب لها، وسرعان ما كُللت جهوده بالنجاح حين رأى الفتاة بقوامها الممشوق، قادمةً نحوه ممسكةً في يدها عصًا من خشب الأبنوس، ويتبعها ثلاثة كلاب ضخمة. ألقى بارني اللجام إلى خادمه، وأخبره بأن يستمر في قيادة العربة، وقفز منها.

كانت وجنتا الفتاة ورديتَين كلون الفجر في بدايته، إما من التنزُّه في الهواء النقي أو من السعادة بلقائه.

صاح بارني بعدما حياها:

«هل وصلتكِ برقيتي إذن؟»

«نعم. هل تبقَّى لك أي مال بعد إرسالها؟»

«أوه، لديَّ الكثير من المال اليوم. فقد بعت لوحةً بالأمس إلى رجلٍ من شيكاغو مقابل ألف جنيه. أبناء الغرب الأمريكي بارعون في الشراء! لقد اشترى لوحةً لمَشاهد الليل ذات اللون البني المائل للحمرة، وجعلني أوقِّعها باسمي باللون القرمزي بأحرف بطول ثلاث بوصات، ثم قال ضاحكًا بعدما وقَّعتها إنه كان على استعداد لدفع مائتَي جنيهٍ أخرى مقابل التوقيع إذا ما رفضت توقيعها. هكذا يتطفل الآخرون علينا نحن الرسامين المساكين! ولكن غطَّت الحروف القرمزية على درجات اللون المتوسطة في اللوحة بالكامل، ودمرتها في رأيي، ولكنَّه قال إن التوقيع هو مبتغاه، وافترقنا راضيَين. كان الرجل همجيًّا صريحًا؛ فقد قال إنه كان يستطيع شراء لوحات أفضل في شيكاغو مقابل خمسة دولارات للواحدة، بل وقد يحصل على خصمٍ إذا ما اشترى كمية، ولكن الناس هناك لن يحاولوا الحصول على أعمال الرسامين المحليين أيًّا كان سعرها. وزعم بفخرٍ أنه لا يعرف شيئًا عن الرسم؛ فهو يعمل في مجال السلع المعلبة. فقلت له إنني أرى أن لا بأس في ذلك ما دامت السلع تجلب ربحًا، ورد عليَّ بأن هذا ما يسعى إليه.»

«حسنًا، تستحقُّ الآن أن أهنئك.»

«تهنئينني أنا؟ لقد جرحَتني كلماتك يا ليدي ماري. كنت أعتقد أنكِ صديقةٌ لي؛ كنت أعتقد ذلك حقًّا.»

«وأنا بالفعل صديقتك. ألَا يمكنني تهنئتك على بيع إحدى لوحاتك؟»

«لا، يا سموك، لا يا سيدتي! ولكن يمكنكِ تهنئة الرجل من شيكاغو. فأنا أشعر بأنه سلبني المائتَي جنيه. أوه، لقد حصل على صفقةٍ جيدة، وهو يدرك ذلك جيدًا! سأخبركِ بها، إن أسعار لوحاتي ترتفع بصورةٍ مطردة، حتى إنني بدأت أدرك أن تعليق الكثير منها على جدران مرسمي ضربٌ من البذخ الأرعن. يبدو الأمر بالنسبة إليَّ تفاخرًا، وأنا أكره التفاخر. لهذا السبب قبلت مبلغ الألف جنيه، فقط لأتخلَّص من اللوحة.»

«هل استغرقت وقتًا طويلًا في رَسْم هذه اللوحة؟»

«نعم، مدةً لا بأس بها. لا يمكنني بالطبع أن أخبركِ بالمدة التي استغرقتها بالضبط، فلا يمكن رسم تحفةٍ فنيةٍ كتلك دون توقُّف، كما تعلمين. أظن أني قضيت في رسمها نحو ست ساعات متقطعة. فكما تعلمين، لا بد من الانتظار حتى تجف الأرضية قبل مواصلة رسم بقية اللوحة. في البداية، غطَّيت اللوحة بالكامل باللون البني المائل للحمرة باستخدام فرشاةٍ كبيرة، ثم تركتها تجف. هذا هو الليل كما يبدو إذا لم تكن ثمة أضواء في أي مكان. ثم تضعين الأضواء الساطعة في صورة ضربات قليلة بالفرشاة من اللون الأبيض. قد يبدو ذلك سهلًا، ولكني أؤكد لكِ أنه يحتاج إلى عبقرية. ثم إذا كان ثمة ماء، حتى ولو لم يكن مرئيًّا للعيان، نضع خطوطًا صغيرة من اللون الرمادي تحت نقاط الضوء الساطع، وستحصلين على ما تريدين. قد يبدو كل ذلك بسيطًا للغاية عند وصفه بالكلمات، ويحاول الكثيرون تجربته، بعدما أريتهم الطريقة، ولكنهم لم يتمكنوا من محاكاته بطريقة ما. ولكن دعينا من الحديث عن العمل بينما نسير في إحدى طرقات سَري؛ فأنا أكره الحديث عن العمل على أي حال! هل سأحصل على دعوتي أم لا؟»

«ستحصل عليها بالطبع. فوالدي متشوق للقائك للغاية.»

«هذا لطف كبير منه. ولكني أقول يا ليدي ماري …»

صمت الشاب فجأة، ورفعت الفتاة بصرها نحوه. قرأت في عينَيه إعجابًا صادقًا وواضحًا بها، حتى إنها خفضت عينَيها وازدادت وجنتاها توردًا.

فسألته: «ما الأمر؟ هل نسيت شيئًا؟»

فقال في لهفةٍ وهو يمسك أصابع يدَيها الاثنتَين المستسلمة بين يدَيه دون أن يتحرَّكا من مكانَيهما: «لا. لا، لقد تذكَّرت الآن. يجب أن يكون ثمَّة شيء لأحادث والدك عنه، كما تعلمين. لا يمكننا التحدث عن الرسم، و… حسنًا يا ماري، لا بد من موضوع ذي أهميةٍ حيوية لكلَينا لنناقشه، أليس كذلك؟»

ضحكت الفتاة قليلًا، ولكنها لم ترد. وقفت الكلاب الثلاثة على مقربةٍ ينظرون بارتيابٍ إلى الزوجين، وصدرت زمجرةٌ خافتةٌ من أحدها دلَّت على أنه لم يعتد هذا الموقف، ويجب ألَّا يستمر أكثر من ذلك.

صاح بارني وقد تخلَّلت صوته الأجش رعشة ناعمة: «ماري، ماذا سأقول له؟ هل لي أن أُخبره بأني أهتم بابنته أكثر من أي شخص آخر في العالم؟ هل لي أن أقول له ذلك؟»

لم تحاول الفتاة أن تسحب يدَيها من يدَيه، ولم تفعل أي شيء آخر سوى أن رمقته بنظرة سريعة مقتضبة.

وغمغمت قائلة: «إذا كان هذا حقيقيًّا، لا أرى ما يمنعك من أن تخبره بذلك.»

صاح بارني في حرارة: «حقيقيًّا! لا شيء على سطح الأرض حقيقي يا حبيبتي ماري كحبي لك! وماذا عنك … هل تهتمين لأمر رجل ضخم أحمق مثلي ولو قليلًا؟»

قالت ليدي ماري: «دائمًا، دائمًا! منذ وقعت عيناي عليك لأول مرة. وقبل أن يدرك العالم بأسره عبقريتك بأمد طويل يا بارني، أدركتها أنا.»

وفجأة، ترك الشاب الجذل يدَيها اللتَين ظلَّتا في يدَيه حتى الآن، وضم الفتاة إليه وقبَّلها. إنه لأمر عجيب أن يشتهر المرء عادةً بفعل شيء يفعله المئات أفضل منه، بينما يظل العالم جاهلًا بإمكاناته التي يستحق أن يشتهر بفضلها. عندما أحاط بارني خصر ليدي ماري بإحدى ذراعيه، لمح الكلب الضخم بطرف عينه يقفز نحوه قاصدًا عنقه. ولكن ظل بارني يقبِّل الفتاة برقة ولطف بالغَين كما لو أن شيئًا لا يحدث على جانبه الآخر، وأراحت ليدي ماري، التي كانت مغمضة العينين في هذه اللحظة، رأسها على صدره وزفرت بعمق تعبيرًا عن رضاها. وأفاقت من حلمها القصير على صوت زمجرات وحشية فتذكرت كلابها وقفزت إلى الخلف في فزع. كان بارني مادًّا ذراعه المفتولة عن آخرها وفي نهايتها كانت يده القوية تقبض على طوق وحش أصغر قليلًا من مُهر، يمزق كُم معطفه بأنيابه الغاضبة. بينما وقف الكلبان الآخران يراقبان ما يحدث وهما يزمجران، ولكن بدا أنهما ينتظران أن تأمرهما سيدتهما بالهجوم. وصرخت الفتاة من هول المنظر.

فصاحت قائلةً: «تراجع يا نيرو، تراجع! كيف تجرؤ على ذلك أيها السيد!»

فقال بارني في لا مبالاة: «أوه، لا بأس. لا توبخيه. لقد تصرف وفقًا لطبيعته. كما أنه سيكتشف أمرَين قريبًا؛ الأول، والأهم، أني سأصبح أحد أفراد العائلة؛ والثاني، أنه قد التقى من يُضاهيه قوة. أرى يا ماري أن هذا المشهد سيكون مناسبًا تمامًا لتجسيده في الأكواريوم: سامبسون في مواجهة البرق، أم كان آياس هو من فعل؟ لا يمكنني تذكر تلك الأساطير مطلقًا.»

أمرت الفتاة كلبها قائلة: «تراجع أيها السيد! تعال هنا واعتذر!»

أرخى بارني قبضته من على طوق الكلب الضخم الذي اتجه صاغرًا نحو ليدي ماري في خزيٍ وكآبةٍ شديدَين. كان جليًّا على الرغم من انصياعه لسلطة سيدته، أنه لم يغير رأيه في أن ما رآه الآن أمرٌ غير معتاد على الإطلاق، وعلى الرغم من لعقه يد الفتاة في خضوع، فقد رمق بارني بطرف عينه بنظرات لا تمت للود بصلة، ولم يخفف من وحشية تلك النظرة الشرسة، إلا الاحترام لتلك القوة المُثبتة التي يشعر بها الحيوان عندما يجابه كائنًا أقوى منه. جثَت الفتاة على ركبتها وربتت على فرائه الأشعث، وبدأت تشرح له الموقف قَدْر ما استطاعت، ما بين تأنيبٍ تارةً ومداعبةٍ تارة، والتمسَت من نيرو أن يعامل بارني أخًا له.

وعندما وقفَت مرةً أخرى — فليبارك الرب صنَّاع السلام! — قال بارني:

«هل نرى إن كان قد فهم أم لا؟»

فصاحت الفتاة: «بارني، تأدَّب! لا يمكنك أن تعرف مَن قد يأتي في اتجاهنا في أي لحظة.»

«سنخاطر بأن يرانا أحد القادمين مصادفةً، فقط لصالح الكلب يا ماري.»

لم يتحرك الكلب الضخم قيد أنملة هذه المرة، ولكن لمعت عيناه الغاضبتان ببريق وحشي خطر، وارتجفت زوايا شفتَيه الثقيلتَين كاشفةً عن أسنانه.

فقال بارني: «أوه، إنه يغار عليكِ بشدة. يمكنني رؤية ذلك. من المستحيل أن أكون أنا ونيرو صديقَين.» ثم سارا جنبًا إلى جنبٍ ببطءٍ على الطريق والكلاب تتقدمهما. بدا نيرو مكتئبًا إلى أقصى مدًى، وسار بخطواتٍ واسعة مطأطئ الرأس غير عابئٍ بالكلبَين الآخرَين اللذَين كانا يطاردان الأرانب الخيالية، بجوار صفوف الشجيرات عبثًا، ويتشقلب أحدهما فوق الآخر في أثناء مسيرهما الذي امتلأ لهوًا وصخبًا، ويقابلان استياءه المتجهم لما يفعلان، والذي كان يُعبر عنه من وقتٍ لآخر بزمجرات لومٍ خافتة، بمرح وفكاهة.

قال بارني: «ماري، أعتقد أنه يجدر بنا أن نشبك أيدينا ونؤرجح ذراعينا بينما نسير. أريد أن أصرخ في صخب مثل الهنود الحمر، ولكن التفكير الهادئ يخبرني بأن هذا لا يليق. أشعر أن بداخلي روح العامة الدهماء وأتوق إلى التعبير عن سعادتي بطريقة عشوائية. ولولا أنني أخشى الكلب — أعني أني أخشاه معنويًّا؛ إذ يمكنني أن أتغلب عليه بدنيًّا — لنزعت هذا الدبوس من قبعتك الجميلة تلك، ووضعتها على رأسي، وأعطيتك قبعتي. في واقع الأمر، أود أن أرقص.»

ضحكت الفتاة.

وقالت: «أنا نفسي لا أمانع الرقص.»

«أوه، رائع إذن! كنت قد بدأت أخشى أن أكون منحدرًا من نسل بائع خضراوات متواضع، ولكن بما أنك لست مصدومةً من أفعالي، فربما كنت، طبقًا لمعلوماتي، أنحدر من نسل ويليام الفاتح.»

«حسنًا، إذا أردت الصراخ، فلتصرخ الآن؛ فأنا أريدك أن تكون في غاية التأني واللياقة عندما نصل إلى الشارع الرئيسي.»

لم يصرخ بارني، ولكنه أحاطها بذراعه، وكان مبتهجًا للغاية أن وجد من يتولى زمام أموره، ويُخبره كيف يتصرف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤