الفصل الثالث والثلاثون

كان المبنى الذي شُيد في موقع الجناح الذي دمَّره الحريق أكبر من المبنى الذي حل بديلًا عنه، وكان تخطيطه جيدًا لدرجة أن مستوى العملية والسهولة فيه تفوق المصنع المجاور له، وزاد من إنتاج الشركة بنسبة أكبر بكثير ممَّا يتيحه حجمه الكبير.

قال سارتويل مخاطبًا السيد هوب الضئيل الحجم: «كل ما نحتاج إليه الآن هو أن يحترق الجناح الآخر، وسنمتلك مؤسسةً نموذجية.»

رفع السيد هوب عينَيه نحو سارتويل منزعجًا، كما لو أنه توقع أن يرى مدير مصنعه يستعين بمُشعل لإحراق المبنى القديم. فلم يتمكَّن قط من فَهْم أسلوب سارتويل المقيت نوعًا ما في المزاح.

احتفظت الشركة بالمباني الأربعة التي استؤجرت لتكون ملحقًا مؤقتًا للورش أثناء تشييد الجناح الجديد، ولم يسبق للشركة على مدى تاريخها الطويل أن عقدت هذا الكم من الصفقات المربحة، ولم تعلن عن تحقيق أرباح بهذا الحجم، مثلما حدث خلال الأشهر التي أعقبت استكمال إنشاء المبنى الجديد. كان لدى الشركة سببٌ وجيه يجعلها تشعر بالامتنان إلى مديرها. فقد كان مونكتون وهوب يدركان أن الفضل في رفاهيتهما الآخذة في الازدياد المستمر يرجع إلى هذا الرجل المعتمد على نفسه الوطيد العزم، وكافآه كما يكافئ الرأسماليون عادةً من يخدمونهم جيدًا. فلم يُرفع راتبه الكبير بالفعل، دون طلب منه، فحسب، بل عندما تحوَّلت الشركة إلى شركة خاصة، منحاه عددًا من الأسهم بقيمة اسمية تبلغ ألف جنيه، والتي يكفي ريعها، إذا ما استمرت الشركة في تقدمها على المنوال نفسه، لأن يغنى سارتويل ماديًّا مدى حياته، وفي الاجتماع الأول لمجلس الإدارة الجديد، عُين سارتويل في منصب العضو المنتدب للشركة.

عُقد هذا الاجتماع بعد عامٍ ونيِّف من افتتاح الجناح الجديد، وفيه قال سارتويل مخاطبًا أعضاء مجلس الإدارة الآخرين:

«لست بارعًا في الرد على عبارات الشكر، بالكلمات على الأقل، ولكني، كما تعلمون جميعًا، سأحاول أن أجعل حصة الأسهم التي منحتموني إياها استثمارًا مربحًا للشركة الجديدة. قد يُفتَرض بي، في ظل الظروف الراهنة، أن أكون سعيدًا للغاية، ولكن من الصعب إرضاء النفس البشرية، وأنا الآن بصدد طلب المزيد من السلطات. أريد التوصل إلى اتفاق معكم يمنحني حرية التصرف الكاملة حال مواجهة إضراب آخر عن العمل. كما أريد أن يكون لي سلطة رفع أجور العمال — بما لا يتجاوز، مثلًا، نسبة عشرة بالمائة — في أي وقت، دون الحاجة إلى الرجوع إلى مجلس الإدارة.»

سأله مونكتون: «لماذا؟ من الممكن لمجلس الإدارة أن ينعقد في أي وقت.»

«في واقع الأمر، هذا ليس ممكنًا. طبقًا للنظام الأساسي لشركتكم، يجب إخطار مجلس الإدارة قبل سبعة أيام كاملة، ويجب ذكر الغرض من الاجتماع عند الدعوة لعقد الاجتماع. وقد تطرأ حاجة ماسة لاتخاذ إجراء فوري، وأريد أن تكون لي السلطة التي تخوِّل لي ذلك.»

قال السيد هوب قلقًا: «لا شك في أننا لسنا عرضةً لإضراب آخر. لقد لُقن العمال درسًا قاسيًا …»

«يظل العمال يتذكرون ما تعلموا من دروس ما دامت بطونهم خاوية، ونادرًا ما يستمر تأثيرها عليهم بعد أول وجبة مشبعة يأكلونها. إن النقابة العمالية تعمل حاليًّا على إعداد مطلب لرفع الأجور. فالشركة في حال جيدة، وهم يدركون ذلك. سنرفع أجور العمال لا محالة، وأريد أن تأتي هذه الزيادة طوعًا من الشركة دون أي إجبار. ثقوا بأني لن أقدم على أي تصرف أهوج، ولكني أريد أن أمتلك السلطة التي تمكِّنني من إعلان مثل هذه الزيادة في أي لحظة.»

مُنح سارتويل سلطة التصرف الفوري، وتلقَّى تأكيدات بأنه في حال حدوث إضرابٍ آخر، ستكون الشركة بكامل قوتها خلفه، ولكن رجاه السيد هوب أن يتجنَّب أي مشكلاتٍ إذا كان بالإمكان تجنبها.

بعد الاجتماع، توجَّه سارتويل إلى إيستبورن، واصطحب ابنته في نزهةٍ طويلةٍ سيرًا على الأقدام وسط التلال ذات النسيم المنعش.

قال لها بعد أن أخبرها بالمكافأة السخية التي منحَتها له الشركة: «حسنًا يا فتاتي، لقد أصبحتِ وريثةً الآن، وإن لم يكن لثروة كبيرة. لقد نقلت ملكية تلك الأسهم التي تساوي ألف جنيه إليك، وبما أني أرى أنها تساوي في الواقع عشرة آلاف جنيه، فأنا أعتقد أنه مبلغ كبير من المال لتملكه فتاة صغيرة لم تشبَّ عن الطوق مثلك.»

صاحت إدنا: «ولكني لن أقبله يا أبي. سأنقل ملكيتها بالكامل إليك مرةً أخرى.»

«إذن سنظل نداول الأسهم فيما بيننا ككرة الريشة. إن لي طريقتي في التعامل مع الأمور يا إدنا؛ لذا من الأفضل أن تستسلمي للمحتوم في هدوء. كما أن هذه الأموال جاءتني بلا سابق إنذار، ولم أكن أضعها في حسباني؛ لذا فأنت لم تتسببي في إفقاري ولو ببنس واحد عما كنت عليه قبل شهر مضى. لقد ادخرت بعض المال في شبابي، وتخلصت أخيرًا من شبح الخوف الذي ظل يلازمني طوال حياتي؛ شبح الخوف من أن أهرم فقيرًا. لهذا السبب أملأ صدري بهذه الأنفاس العميقة المريحة من نسيم البحر الرائع هذا. لقد اشتعل الرأس شيبًا قبل أن يلوح الهدف يا إدنا، ولكن ها هو ذا يلوح الآن يا بنيتي.»

قالت إدنا وهي تمسك برأس والدها وتقبِّله: «كم يسعدني ذلك يا أبي!»

«هل ستقبلين هذه الثروة المفاجئة إذن يا إدنا؟»

«سأقبلها بشرط واحد يا أبي.»

«وما هذا الشرط؟»

«إذا فعلتُ أي شيء لا توافق عليه، فاسمح لي بأن أعيدها إليك.»

كانت الفتاة تحدق بعيدًا إلى حيث تلتقي السماء الزرقاء بمياه البحر الأكثر رزقة. بينما ظل والدها يحدق إليها بحدة للحظات.

«فسري ما تقولين، ماذا يعني ذلك يا إدنا؟»

«لا يمكنك أن تتوقع أبدًا ما قد تقدم عليه امرأة.»

«بالتأكيد يا عزيزتي. ولكنك لست امرأة؛ أنت ابنتي الصغيرة.»

تنهدت الفتاة الصغيرة.

وقالت: «أشعر بأني كبرت كثيرًا، بل أشعر بأنني عجوزٌ في بعض الأحيان.»

«أوه، هذه حالنا جميعًا في سن الثامنة عشرة. انتظري حتى سن الأربعين وستعرفين معنى الشباب الحقيقي. لو كنتِ فتًى في هذه السن، ولست فتاة، كانت ستراودكِ شكوكٌ خطيرة في وجود الرب، وأفكار سوداوية للغاية عن الجنس البشري بوجهٍ عام. لمَ قد أرفض أي شيء تفعلينه؟»

«أوه، لا أعلم. لطالما توقعَت أمي أن إرادتَينا العنيدتَين ستتعارضان ذات يوم، و…»

«بالطبع، بالطبع. وسيظهر مدعو النبوة. لا تدعي ذلك يؤرقك يا إدنا. إذا ما تعارضت إرادتانا على نحو خطير، فسنحضر إلى هذه التلال ونناقش الأمر. وأنا واثقٌ من أننا سنتوصَّل إلى حل وسط.»

«ولكن ماذا لو لم يكن الحل الوسط ممكنًا؟»

«يا إلهي، ماذا يدور بخَلَدك يا إدنا؟ إنكِ تتحدثين بوجهٍ عام ولكنكِ تفكِّرين في أمرٍ معين. ما الأمر يا ابنتي؟»

هزَّت إدنا رأسها.

وأخيرًا قالت: «لا أعلم لمَ أقول ذلك، ولكني أخشى المستقبل. فهو يبدو غامضًا للغاية، ولا أود أن يفرق بيننا شيء على الإطلاق.»

«هذا هراء يا إدنا. ما الذي قد يفرق بيننا؟ إن كل ما تفكرين به لا يتعدى كونه لمحةً بسيطة من تشاؤم الشباب، فاقمته الحقيقة الكئيبة بأنكِ أصبحتِ الآن امرأةً تملك سُبل الاستقلال بنفسها. ولنفترضْ أن إرادتَينا العنيدتَين قد تعارضتا، كما تخشين، هل تعلمين ماذا سيحدث؟»

«ماذا؟»

«حسنًا، من المؤسف أن يقول أب ذلك لابنته، ولكني سأستسلم. فكِّري في الأمر! إنها لإهانةٌ لي أن أعترف بذلك! أنا رجل رفض التراجع قيد أنملة في مواجهة المطالب الموحدة لبضع مئات من العمال، المدعومة بمناشداتٍ مؤثرةٍ للإذعان لهم من أرباب عملي. وإذا لم يُعد ذلك نصرًا مُظفَّرًا لفتاة صغيرة مثلك، فماذا يُعد إذن؟»

صاحت إدنا وقد ملأت الدموع عينَيها سريعًا: «أوه، لا! أنا من سيستسلم … أنا من سيستسلم … حتى وإن حطَّم ذلك قلبي!» فتوقَّف والدها عن السير وأمسكها من كتفَيها. فأحنت الفتاة رأسها ووضعت إحدى يدَيها على عينَيها.

فقال لها والدها: «آه، إدنا، إدنا، هناك شيء وراء كل ذلك؛ لن أسألك عنه يا صغيرتي، ولكن ربما ستخبرينني به ذات يوم.» ثم ضمها إلى صدره وأزاح قبعتها جانبًا، وداعب شعرها الأشقر في حنان. وقال: «لو كانت أمك على قيد الحياة يا حبيبتي، كنا … حسنًا، لا طائل من الأحزان أو الأماني. علينا أن نخرج بأقصى استفادة ممكنة من الأشياء كما هي. ولكن لا تهتمي بأمر إرادتَينا العنيدتَين يا إدنا؛ فلنترك الأمر حتى يحين وقته. إن كلَينا يتنافس على مَن سيستسلم للآخر أولًا كما ترين، ولا أرى أيَّ عناد في ذلك. معذرةً يا ابنتي، لقد عبثت بهذه القبعة الجميلة، وقد يعتقد أي غريب يمر بنا أنكِ كنت تبكين. وهذا لن يليق أبدًا. دعينا نتحدث بعقلانية؛ فظني أنه لن يمر وقت طويل قبل أن أخوض كل ما أحتاج إليه من قتالٍ ومعارك لأظل في كامل لياقتي، دون الدخول في خلافٍ مع ابنتي الوحيدة.»

«ماذا تعني يا أبي؟»

«أوه، إنها الثورة المعتادة التي تعتمل في نفوس العمال. إنهم يرغون ويزبدون ويُجعجعون، وينتابني شعور مؤكد بأن ثمة إضرابًا آخر عن العمل يلوح في الأفق.»

«تحت قيادة السيد مارستن؟»

«تحت قيادته بالطبع. ولكني سأهزمه! سأُذيقه هزيمةً نكراء حتى يعض أنامل الندم أنه قد بدأ النزاع من الأساس. يُؤسفني أن أراه يضيِّع طاقته وذكاءه هباءً في نزاعٍ لا أمل فيه. إنه شابٌّ ذكيٌّ لا يكل، ولكنه حالمٌ وحماسي، وعندما يتوقف عن أحلامه بتحقيق المستحيلات، سيصبح رجلًا مهمًّا للغاية.»

سألته الفتاة بصوتٍ شبه هامس محدقة إلى الأرض: «ما هي تلك المستحيلات يا أبي؟»

«استحالة أن يتفق العمال على أي موضوعٍ لمدةٍ تزيد على أسبوع واحد. استحالة درء الخيانة بين صفوفهم. استحالة كبح الغيرة الراسخة في قلوبهم تجاه أي رجلٍ يفوقهم تعليمًا ومهارة. ومارستن يمتلك أخلاق وغرائز رجل نبيل بالرغم من خلفيته المتدنية. ولن يتحمل العمال ذلك، وسيخذلونه عندما تتأزم الأمور.»

«إذا كانت نظرتك له جيدةً هكذا، فلمَ لا تعرض عليه وظيفةً جيدةً في المصنع، وتدعه يوجِّه قدراته نحو مساعدتك؟»

«ابنتي العزيزة، لقد خمنتِ إحدى الأوراق التي أحتفظ بها في جعبتي حتى يحين وقتها. فأنا أنوي تعيين مارستن في منصب مساعد المدير، ولكن ليس الآن. سيكون ذا قيمة عندما يفيق، ولكن ليس وهو لا يزال غارقًا في أحلامه. لا بد أن يتعلم الدرس أولًا، والضربات القاسية وحدها هي التي ستعلمه. يعتقد هذا الصبي أنه سيصبح قائدًا للعمال، بينما هو في واقع الأمر يُمضي فترة تدريبه ليصبح مساعدًا لمدير شركة «مونكتون آند هوب» المحدودة.»

«ولكن ماذا لو نجح؟ ماذا لو لم يفشل الإضراب القادم؟ لقد تآزر العمال لمدة زادت على الأسبوع في المرة السابقة.»

«هذا لأنهم كانوا تحت قيادة شخص فوضوي على شاكلتهم. ثمة قطاع كبير بينهم يكرهون مارستن، وعلى رأسهم جيبونز. لقد واجهت جيبونز، وهزمته، وأهنته، ودسته بقدمي، أما اليوم، فصار جيبونز يكره مارستن ويحترمني أنا؛ فرجل مثل هذا دائمًا ما يحترم من يُذيقه طعم الهزيمة. وستندهشين الآن عندما أقول لك إنني قد عيَّنت جيبونز في الشركة، وأعطيه أجرًا لم يحصل عليه من قبلُ في حياته. علاوةً على ذلك، عندما يزكي أحد العمال، أرقِّي هذا العامل، وأصبح الجميع يدركون أن لجيبونز نفوذًا قويًّا لدى المدير. وهذا يقوِّي من قبضته على جماعته.»

«وما النتيجة المرجوة من ذلك؟»

«لا يمكننا تحديد النتيجة، ولكن من الجيد دائمًا أن تدب الفرقة بين صفوف العدو. أنا ألعب لعبة، وأحرك القطع هنا وهناك بما يصب في مصلحتي. ثمة خط حاد الآن يفصل بين الجماعتَين، وستزداد الفجوة اتساعًا بمجرد أن تبدأ المتاعب. من المرجح أن يخرج جيبونز وجماعته حال الدعوة إلى إضراب، ولكنهم سيكونون مصدر ضعفٍ بين صفوف مارستن لا مصدر قوة، وبمجرَّد أن يُقدم على خطوةٍ خاطئة — وهو ما سيفعله بالتأكيد؛ فهو ليس معصومًا من الخطأ — سيحدث انشقاق.»

«هل ثمَّة اتفاق سري بينك وجيبونز إذن؟»

«أوه، بارككِ الرب، لا! إن المرء لا يناقش القِطع عندما يحركها. فكل قطعةٍ تؤدي إلى نتيجةٍ معينةٍ فقط بفضل تحريكها إلى مكانٍ معين، وليس بفضل أي إرادة حرة من قبلها. لقد أصبح مارستن على درايةٍ تامةٍ بنفوذ جيبونز المزعوم لديَّ، ومن المرجح أنه سيقع في خطأ الاعتقاد بأن ثمَّة اتفاقًا بيني وبين أمين النقابة السابق. وخلال إحدى المناقشات المحتدمة، قد يفصح عن اعتقاده هذا، وحينئذٍ سيكون قد أخطأ؛ فلا أحد يحقُّ له أن يستاء من مثل هذا الاتهام أكثر من رجلٍ فاضلٍ على استعدادٍ لبيع ذمته إذا استطاع. سيكون نزاعًا مثيرًا يا إدنا.»

تنهَّدت الفتاة وقالت: «مسكين يا مارستن!»

«نعم، أنا مشفق على مارستن أيضًا، ولكن سيُفيده الدرس الذي سيتعلَّمه كثيرًا. إنه شاب إيثاري للغاية، وجيبونز رجل أناني للغاية. والرجل الإيثاري دائمًا ما يخسر كل شيء في هذا العالم الانتهازي. دعينا نعُد الآن يا بنيتي. أعتقد أن والدك العجوز قد هيأ الكون برمته وفقًا لهواه؛ لذا لا يوجد المزيد ليُقال.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤