الفصل الرابع والثلاثون

كان العمل الذي أنجزه مارستن خلال العام مشجعًا له بدرجة كبيرة. فقد توصل إلى اتفاق ودي مع الكثير من النقابات، ليس في الوطن فحسب، بل أيضًا في أمريكا والمستعمرات، كما كوَّن تحالفًا نشطًا مع العديد من المجتمعات العمالية في المملكة المتحدة. كانت الأحوال جيدة، والعمل مزدهرًا، وكان عدد العمال العاطلين عن العمل قليلًا نسبيًّا. وأدى كل ذلك إلى نشر شعور بالثقة في نجاح أي إضراب؛ إذ تزداد أرجحية النظر بعين الاهتمام إلى مطالب العمال في أوقات ازدهار السوق عن أوقات هبوطه. كما أصبح من الصعب كثيرًا حاليًّا ملء المصانع بالأيدي العاملة الماهرة؛ إذ أصبح توظيف العمال غالبًا في عموم البلاد عما كان عليه الحال في الأعوام السابقة.

مرت ثمانية عشر شهرًا على مارستن منذ توليه منصب أمين النقابة، قبل أن يقرِّر بَدْء المعركة. قرَّر أن يطالب بزيادة عشرة بالمائة في أجور جميع العمال، وحال رفض الطلب، سيستدعي العمال على الفور. عقدت اللجنة جلسةً سرية ووُضعت صياغة للطلب. وصدر أمر بعقد اجتماع للعمال يوم السبت ليلًا دون الإعلان عن موضوع النقاش. وأكَّد مارستن على أعضاء لجنته ضرورة التزام السرية، إلا أن جيبونز، الذي كان ضمن الأعضاء، قال إنه لا يفهم الهدف من ذلك؛ فقد كانت رغبتهم هي الحصول على الزيادة في الأجور، ولن تتحقَّق تلك الرغبة إلا عبر طرحها علانية. ولكنه أضاف قائلًا إن مارستن هو من يقود الحملة، ومن الصواب أن يُسمح له بقيادتها كما يتراءى له؛ ولهذا السبب أبدى جيبونز اعتراضه دون أن يصر عليه.

شُكل وفد بغرض عقد لقاء مع مجلس إدارة الشركة وعرض الطلب عصر يوم السبت. وبعد انتهاء الاجتماع، كانوا سيعدون تقريرًا لعرضه في اجتماع العمال.

في يوم الجمعة، جمع سارتويل موظفيه وأعلن لهم أنه في ضوء حالة الشركة الراهنة، قرَّرت الشركة طوعًا أن ترفع الأجور بنسبة عشرة بالمائة حدًّا أقصى، وأضاف أنه يأمل أن تستمر العلاقات الودية بين الرؤساء والمرءوسين في المصنع إلى أمد طويل. قوبل الإعلان بالتهليل والهتافات، وتفرَّق العمال، الذين لم يكن لديهم أي علم باجتماع اللجنة حينئذ، مستبشرين بالمستقبل.

كان أوان التراجع عن الاجتماع المزمع عقده ليل السبت قد فات، وعندما عُقد الاجتماع، كانت قد انتشرت بعض التلميحات عما حدث، وكان الرأي العام السائد بين العمال أن مارستن اغتر بذكائه، والآن يواجه عقبةً غير متوقعة.

غير أن مارستن وقف أمام الجمع بروح معنوية طيبة، وهنَّأ العمال على زيادة الأجور التي حصلوا عليها. وكان العمال في مزاج مرح، وكانوا يهلِّلون لكل ما يُقال بلا استثناء. وأخبرهم مارستن صراحةً بالغرض من الاجتماع، وأنه سعيد بحقيقة أن المسار غير المتوقع الذي نحته الأحداث مؤخرًا قد جعل أي نقاش غير ضروري.

واستطرد قائلًا: «سمعت بعض التلميحات عن أن السيد سارتويل قد تغلب عليَّ، ولكن من الممكن أن نتغلب على الكثير من العقبات والانتكاسات في طريق الكفاح من أجل قضيتنا. يبدو جليًّا أن السيد سارتويل أصبح يخشى النقابة «الآن». فإذا كانت مجرد شائعة بسيطة عن أننا بصدد المطالبة بشيءٍ ما قد دفعت رجلًا عنيدًا، مثل سارتويل، على الاستسلام قبل أن نُقدم على أي تحرك، فهذا دليلٌ قويٌّ على التأثير الكبير الذي يمكننا تحقيقه عبر التآزر معًا بقوة.»

يُقال إن وضع فاصلة في المكان الخاطئ في أحد القوانين التي أقرها البرلمان ذات مرة؛ كلَّف الدولة مائة ألف جنيه. وكلمة «الآن»، التي قالها مارستن دون تفكير، جعلَت جيبونز يُصر على أسنانه في غضبٍ وقلة حيلة. فقد رأى مارستن أمام عينَيه منتصرًا يهين إدارته. وقرَّر أن يجعل مارستن يدفع ثمن تلفُّظه بتلك الكلمة الصغيرة المكوَّنة من خمسة أحرفٍ غاليًا، إذا ما سنحت له فرصة الانقلاب على هذا الشاب المفعم بالثقة في نفسه. ولكن لم ينبس جيبونز ببنت شفة، وانفض الاجتماع وسط الهتافات.

لم يقع سارتويل في وهم الاعتقاد بأن الزيادة التي قدَّمها للعمال ليست نهاية المطاف. فقد كان يعلم أنه لم يفعل شيئًا سوى تأجيل المعركة، ولكنه أراد أن يُظهر لمجلس إدارة الشركة أنه بذل أقصى ما في وسعه لتجنُّب حدوث أي صراع. وبعد مرور ستة أشهر، دعا سارتويل مجلس الإدارة للانعقاد.

وقال لهم: «أود أن أعرض عليكم معلوماتٍ مهمةً حصلت عليها. ثمة سبب يدعوني إلى الاعتقاد بأن ثمة مطلبًا بزيادةٍ أخرى في الأجور بنسبة عشرة بالمائة سيُقدَّم. إذا كنتم بصدد الموافقة على تلبيته، أود أن أعرف، وإذا كنتم بصدد اتخاذ موقفٍ ضد مثل هذه المطالب، أود أن أعرف. وحينها سوف أضع خططي على هذا الأساس.»

قال السيد هوب: «إذا لبينا هذا المطلب، فماذا ستكون النتيجة في اعتقادك؟ هل سيُجنِّبنا المتاعب، أم سيكون بدايةً لعمليات ابتزاز جديدة في المستقبل؟ لا يمكننا أن نستمر في تقديم تنازلات هكذا بلا نهاية.»

«إن منح العمال هذه الزيادة سوف يؤجل المتاعب ستة أشهر أخرى على الأرجح. فأنا واثق من أن مارستن يريد أن يفرض علينا معركة؛ فقد ظل يُعِد لها لما يزيد على العامَين. ما أريد تنبيهكم إليه أن هذا النزاع، عندما يبدأ، سيكون نزاعًا عنيفًا، وإذا ما أقدمتم على خوضه، فعليكم أن تفعلوا ذلك بأعينٍ مفتوحة، عازمين على مواصلة القتال حتى نهايته. يمكنكم أن تواصلوا تقديم التنازلات حتى تتضاعف أجور العمال، ولن يفعل كل تنازلٍ جديد تقدمونه شيئًا سوى تأكيد حتمية المواجهة الأخيرة.»

«هل تعتقد إذن أنه من الأفضل أن نتخذ موقفًا ضد هذه المطالب الآن؟»

«نعم؛ هذا إذا كنتم سترفضون الاستسلام تحت أي ظرف بعد أن تتخذوا هذا الموقف.»

«ولكن إذا اكتشفنا، بعد مرور بضعة أسابيع من استمرار الإضراب، أننا لا نستطيع الصمود، فسيكون من الحماقة أن نستمر.»

«بالضبط. أنتم تعلمون حدود مواردكم، وأنا أعلم حدود موارد العمال. لذا، فأنتم في موقفٍ جيد يُتيح لكم اتخاذ قراركم سواء الآن، أو بعد أسبوعَين، أو بعد شهر، أو بعد سنة. إذا ما دخلنا هذا النزاع، فعلينا أن ننتصر، وإلا فسأُضطر إلى الاستقالة.»

تنهَّد السيد هوب وقال: «إنه لموقفٌ محير للغاية.»

«أوه، الموقف بسيط للغاية. إما أن تستسلموا وإما لا. أي الخيارَين تختارون؟»

«ما احتمالات ملء المصنع بعمال جدد، إذا تأكدنا من استحالة التوصل إلى اتفاق مع الموظفين الحاليين؟»

«لم تعد الاحتمالات جيدةً كما كانت في السابق. يمكننا القيام بذلك تدريجيًّا، ولكن سيمر بعض الوقت قبل أن نعود إلى العمل بكامل طاقتنا مجددًا.»

«وهذا سيعني رفض الطلبيات الجديدة، وربما إلغاء الكثير من الطلبيات التي لدينا الآن.»

«باﻟتأكيد. هذه ضريبة الحرب. وعلينا أن ندفعها إذا ما قرَّرنا القتال. وربما يتعطل عملنا تمامًا لستة أشهر قادمة.»

«هذا أمر في غاية الخطورة. ألَا يمكن التوصل إلى تسوية؟ ألَا يمكنك الاجتماع بمارستن ومعرفة ما يريد؟»

«أنا أعرف ماذا يريد.»

«وهل تعتقد أن من المستحيل التوصل إلى تسوية؟»

«صراحة، أعتقد ذلك.»

«هل تعارض لقاء مارستن مثلما كنت تعارض لقاء جيبونز؟»

«من حيث المبدأ، أنا أُعارض مناقشة أمور عملنا مع أي شخص غريب. ولكن لم يُثِر مارستن هذه النقطة قط. وعندما تقتضي الضرورة الاجتماع معي، كان دائمًا ما يرسل وفدًا من عمالنا. إنه خصم أخطر بكثير من جيبونز.»

«هل أنت على استعداد إذن، إرساءً للسلام، أن ترتب لاجتماع مع مارستن، وتناقشا المسألة، وتتوصلا إلى اتفاق، إن أمكن؟»

«نعم. سأُرسل إليه على الفور، ولكن لا أظن أن ذلك سيكون له أدنى جدوى، وقد يُشكل سابقةً سيئة.»

اتفق الجميع على أن هذه الخطوة من جانب سارتويل ستُحكم قبضته على زمام الأمور، وأنهم سيخوضون النزاع، إذا لم يتمكنوا من تفاديه، بروح معنوية أعلى كونهم جميعًا يعلمون أنهم قد فعلوا كل ما يمكن فعله لتجنب العداوات.

دعا سارتويل مارستن للقائه في مكتبه في تمام السابعة مساءً. وعندما دخل مارستن إلى المكتب، كانت أولى كلماته:

«لقد أخبرتني أني لن أضع قدمًا في هذا المكتب إلا إذا أُمرت بذلك؛ لذا عليَّ أن أعتذر لك على حضوري بناءً على مجرد دعوة منك.»

فقال سارتويل ضاحكًا: «آه، لم تنسَ بعد! ولكن يبدو أنك نسيت أنك حضرت إلى هنا من قبلُ بناءً على دعوة أثناء الإضراب كما تعلم.»

«نعم، حدث.»

«في البداية يا مارستن، هل تحمل في قلبك أي ضغينة ضدي بسبب فصلك دون سابق إنذار من العمل؟»

«إطلاقًا. ربما كنت سأفعل مثلما فعلت في ظل الظروف نفسها.»

«إنه لكرم منك أن تقول ذلك، ولكني أشك في أنك كنت ستفعل مثلي. ولكن عليَّ أن أقول إن الأمور لم تجرِ كما كنت أتوقع، ولا أحاول بذلك أن أجد لنفسي عذرًا على الإطلاق. كنت آمل أن تأتيني، وأن … أن نتوصل إلى اتفاق هدنة، إذا جاز التعبير.»

«ظننت أنك تعرفني أكثر من ذلك.»

«لم أعرفك جيدًا، كما ترى. ولكن لندع الماضي جانبًا. دعنا نلتفت إلى الحاضر والمستقبل، وسوف أبدأ بسؤالك: هل لديك أدنى شك في أنك أحمق؟»

«بداية دبلوماسية وملطفة للأجواء يا سيد سارتويل. ولكني أعتقد أننا جميعًا نملك لمحةً من الغباء، زادت أو قلَّت؛ فدعنا نترك الاختلاف على المسميات، ولكن يبدو أننا نرى عيوب الآخرين بصورةٍ أوضح ممَّا نرى عيوبنا.»

«هذا صحيح دون أدنى شك. إنني أراك تضيِّع عمرك هباءً، وكنت أود أن أُقنعك بذلك قبل فوات الأوان.»

«وماذا بعد؟»

«حسنًا. أنا بحاجة إلى مساعد للمدير. ولا بد أن يكون هذا المساعد رجلًا ذا قدرات ويمكنني أن أثق به. إن العمر يتقدم بي، وسوف أتقاعد عما قريب. وسيحل مساعدي محلي إذا ما امتلك المؤهلات والقدرات المناسبة، وسيصبح المستقبل له. أنا أعرض عليك هذا المنصب.»

«وأنا لا يمكنني قَبوله.»

«لماذا؟»

«لأني كرَّست حياتي للعمال.»

«ولكن ستتاح لك فرصة لخدمة العمال في ذلك المنصب أفضل من التي ستتاح لك في منصبك الحالي، الذي يدفعون لك فيه على مضضٍ ما يكفي لسد رمقك بالكاد.»

«أنا لا أقصد عمال هذه الشركة، بل جميع العمال في كل مكان.»

«إنه حلم بعيد المنال يا مارستن.»

«أعلم ذلك، ولكني أشعر بأني أهل لتحقيقه.»

«أظنك لا تتخيَّل أني أعرض عليك هذا المنصب خوفًا منك، كونك أمينًا للنقابة العمالية.»

«أوه، لا. أعلم جيدًا أنك ترغب في تجنُّب نشوب معركة، كما أعلم أنك لا تخشى شيئًا سوى عدم مساندة مجلس إدارتك لك حتى النهاية.»

«هل تعتقد أن مَن يدعمونك لديهم هذا القدر من الإصرار؟»

«لا. إن نقطة ضعفي هي جيبونز وجماعته. أما نقطة ضعفك فمجلس الإدارة. وكلتاهما تلغي الأخرى؛ لذا ستكون معركةً مثيرة.»

«ثق تمام الثقة يا بني في أن الرأسمالي يستمر في دعم رجله أكثر ممَّا يستمر العامل في دعم رجله بعشر مرات.»

«لا أشاركك هذا الإعجاب الشديد بالرأسماليين. لقد وعدني السيد هوب، والدموع تكاد تنهمر من عينَيه، أنه سيؤمِّن لي مستقبلي عندما وجدني أعمل على تسوية الإضراب السابق الذي كان يرعبه. ونجحت وأصدقائي في إنهاء الإضراب، ولكنك طردتني من العمل بعد ذلك بأسبوعٍ واحد، ولا أعتقد أن السيد هوب قد فكَّر مجرد تفكيرٍ في الوفاء بوعده لي، منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا. إن الرأسمالي الذي يُعجبك يشتهر بالجبن والأنانية المفرطة. بالطبع لا يخلو العامل من العيوب، وهو نفسه أكثر مَن يعاني منها، ولكن فيما يتعلَّق بالسخاء، فإنه يتجاوز أي رأسماليٍّ جاء إلى هذه الحياة بكثير.»

«أنت مُصر على المضي قدمًا في النزاع يا مارستن، أليس كذلك؟»

«أوه، بلى! ليس إذا استسلمت أنت.»

«كم مرةً علينا أن نستسلم؟»

«حتى يأتي الوقت الذي تُصبح فيه أجور العمال مساويةً على أقل تقديرٍ لِمَا يتحصَّل عليه أصحاب الشركة المزعومون.»

«آه، إنه تفكير مثالي، وما هو في نظري إلا مرادف للهراء. لمَ لا تكون صريحًا تمامًا معي الآن وتخبرني بأنك عازمٌ على محاربتنا؟»

«سيد سارتويل، إن موقفي كالآتي: أنا لا أريد القتال لمجرد القتال، كما أني لا أُكنُّ أي رغبةٍ ثأريةٍ لإذلالك، أو هزيمة الشركة لمجرد تحقيق النصر، ولكني مقتنعٌ بأن العمال لن يحصلوا على نصيبهم العادل من حصيلة عملهم إلا بخوض معركةٍ وتحقيق نصرٍ حاسمٍ فيها. قبل بضع سنوات، كانت فكرة اتحاد العمال مثاليةً وسخيفةً في نظر الرأسماليين، ولكن هذا الحق بات اليوم واقعًا لا يقبل الجدل. ولن يُقدِّم الرأسماليون أي تنازلات حتى يجبروا على ذلك. لهذا السبب، لا بد من كفاح، وأنا ملزم باختيار الوقت وأرض المعركة المناسبَين لي. نحن جاهزون للقتال الآن، وسنقاتل، وأومن بأننا سننتصر.»

«بالضبط. هذا ما أردت معرفته. وبالنسبة إلى النصر، فالأيام بيننا. أنا أتفق معك تمامًا أنه لا شيء على المدى الطويل يمكن أن يكون مرضيًا، سوى قتالٍ عادلٍ ومباشرٍ وجهًا لوجه، ولينتصر الأفضل. ولا يتبقَّى بعد ذلك سوى الاحترام المتبادل بين الخصمين. تكمن المشكلة في أن النزاع نادرًا ما يخلو من أمور جانبية تؤثر على النتيجة النهائية. في حالتنا هذه، أنت لست واثقًا من داعميك، وأنا كذلك. لو كنت أنا مالك هذه المؤسسة، لأعلنت الحرب على الفور، وخضتها بلا هوادة مثل قرصان بربري، وانتصرت فيها بالطبع، ثم وظَّفت أكثر العمال قناعةً في إنجلترا. ولكن في الواقع لن تُحسم المشكلة بالمهارة القيادية لأيٍّ منا، بل بمدى استمرارية داعمينا في دعمنا. إذا ما انقلب عليك العمال قبل أن يتصاعد خوف مجلس إدارتي عما هو عليه الآن، فسوف تُهزم. أما إذا أصاب الذعر مجلس الإدارة أولًا، فستكون الهزيمة لي. وفي كلتا الحالتَين سيكون نصرًا أجوف، ولن يُحسم بناءً على حيثيات الموقف ووقائعه. إن المعركة برمتها رهن بالحظ، وإذا ما كنا رجلَين عقلانيَّين، لسوينا الأمر الآن بقذف بنس في الهواء، علاوةً على ذلك، إذا انتصرت، فسيكون نصرًا بلا طائل؛ إذ ستخسر كل شيء تجنيه بمجرد أن تواجه الصناعة أي عثرة. إن السبب الوحيد الذي يجعلك ترى النصر يلوح في الأفق أن أوضاع الشركة في ازدهار، وأن مجلس إدارتها يريد الخروج بجني أقصى قدرٍ ممكنٍ من المكاسب، بينما لا تزال الأوضاع مزدهرة. إنهم لا يريدون أن يتعطَّل عملهم وتُثار حولهم جلبة، بينما يجني منافسوهم ثمار موقفهم الحرج. وبمجرد أن تعود الصناعة إلى ركودها المعتاد، ستنخفض الأجور، ولا توجد قوةٌ على الأرض يمكنها مَنْع ذلك. فالأمر برمته يعتمد على العرض والطلب. ومن ناحية أخرى، أحذِّرك أني لو انتصرت، فلن تطأ قدم أمين نقابة آخر أرض هذا المصنع مرةً أخرى أبدًا. لذا، إذا كانت مصلحة العمال تُهمك بالفعل يا مارستن، فعليك أن تفكِّر قليلًا قبل أن تمضي في المعركة.»

«هل تشكِّك في اهتمامي بمصلحة العمال؟»

«لا، لا أشكِّك في ذلك. أنا أرى أنك شابٌّ إيثاريٌّ إلى أبعد الحدود، ولكني أعتقد أيضًا أنك تُضحِّي بنفسك دون داعٍ. أنت ترى أننا من الصعب أن نتوصَّل إلى اتفاق؛ لأن كلًّا منا يرى العالم من منظورٍ مختلفٍ تمامًا. أنت لا تزال عند سفح التل، وضباب وادي الشباب يحيط بك، ويشوِّه رؤيتك، ولا يجعلك ترى المسار الصحيح. أما أنا، فقد بلغت قمة الجبل، حيث الرؤية أوضح. أنت ترى الناس أبطالًا ونبلاء، فيما أراهم أنا وضعاء وأشرارًا. أنت تؤمن بالعمال، وأنا لا أُومِن بهم. من المحتمل أن كلَينا لا يرى الأمور بدقةٍ تامة، وأن الحقيقة قابعة في نقطة ما بين هذَين النقيضَين. ولكني أرى أن زمن الشهامة والإيثار قد ولَّى، وأن كل إنسان لا بد أن يهتم لأمره فقط في عصرنا الحالي.»

«لا أفهم سبب حديثك بهذه الطريقة يا سيد سارتويل. لقد رأيتُ أعمالًا بطوليةً تحدث خلال حياتي القصيرة. رأيت رجلًا يخرج من هذا المصنع وحده ودون حمايةٍ رغم علمه بأن الحشد المجتمع في الخارج يطلب دمه، ولكن لم يبدُ عليه أيٌّ من أمارات الخوف أو التظاهر بالشجاعة. وكاد هذا الرجل نفسه يخسر حياته خلال إنقاذ الآخرين عندما احترق المصنع، وكذلك برونت، العامل الأمي، ذهب إلى حتفه بنفسه بإيثارٍ وشهامةٍ للسبب نفسه.»

«آه، برونت رجلٌ قلَّما يجود الزمان بمثله! حسنًا، ربما لا يزال ثمة شيء في الطبيعة البشرية يستحقُّ الاحتفاظ به رغم كل شيء، ولعل الأمر كلَّه أن العمر يتقدم بي وأزداد تشاؤمًا. على أي حال، النقطة الأهم في الوقت الحالي هي أنه لا بد أن يكون هناك اختبارٌ للقوة؛ لذا أعتقد أنه لا مفر أمامنا سوى التصافح مثل اثنَين يتنافسان على جائزةٍ قبل بَدْء المباراة. وأنت تعلم أني أراك أحمق؛ لأنك لم تقبل منصب مساعد المدير.»

تصافح الرجلان، وغادر مارستن المكتب تحت ستار الليل. بينما جلس سارتويل في مكتبه بضع دقائق يفكِّر في الموقف بأكمله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤