الفصل الثامن والثلاثون

اتجه سارتويل إلى ويمبلدون مرةً أخرى على متن القطار الأخير، ولكنه سار، رغم إرهاقه، إلى منزله من المحطة بخطًى نشيطة كما لو كان شابًّا. سمعت إدنا، التي جلست تنتظر والدها على الرغم من نهيه لها عن ذلك، صوت خطواته وقد سرت في جسدها رعشة أمل. عندما دخل والدها إلى المنزل، كان على وجهه ابتسامة لم ترَها منذ أسابيع.

صاح قائلًا: «آه، ابنتي، لا يمكنك أن تخمني ما حدث أبدًا!»

فأجابته: «بل يمكنني ذلك؛ لقد أنهى مارستنُ الإضراب.»

«لا، بل أنهى الإضرابُ مارستن. لقد عُزل من منصبه، وانتُخب جيبونز مكانه. وعلى الفور حضر جيبونز، ذلك الرجل الإيثاري، ليتوصَّل إلى اتفاق معي يصب في مصلحته. ومن ثم، سيُفتح المصنع غدًا، وعندما يحل الإضراب القادم، لن أكون موجودًا لأراه، دعينا نأمل ذلك، حتى لا أتجنَّب ما حدث لجون جيلبين.»

«وما رأي السيد مارستن في هذا التغيير المفاجئ؟»

«لم ألتقهِ. أعتقد أنه ذهب إلى غرفته ليتأمل في طبيعة العمال ومدى تقلبها.»

«أنا سعيدة أنك لم ترسل هذا الخطاب.»

«آه، ولكن الشيء المضحك أني أرسلته بالفعل. وربما كان حارسي يطوف أنحاء لندن في هذه اللحظة بحثًا عن مارستن ليستعيده. وسوف تنقلب الأوضاع تمامًا إذا ما نشر مارستن الخطاب بدافع الانتقام. لا أعتقد أنه سيفعلها، ولكن لا أحد يعلم. أعترف بأنني كنت سأجد إغراءً قويًّا في ذلك لو كنت مكانه، ولكني آمل الأفضل، وكلَّفت الحارس بأن يُخبره بألَّا يفعل أي شيء حتى يلتقيني.»

«أما زلت تنوي أن تعرض عليه وظيفةً في المصنع؟»

«ربما. إذا طردت التجربة التي مر بها كل ذلك الهراء الخيالي عن نهضة العمال من رأسه، فسيكون رجلًا ذا قيمة كبيرة لأي شركة يعمل بها. وعندما أتحدَّث إليه سأكتشف حقيقة الموقف.»

«إذن، أنت لا تُكن ضده أي ضغينة يا أبي، أليس كذلك؟»

«بلى على الإطلاق. على العكس. أنا معجب أشد الإعجاب بالطريقة التي أدار بها النزاع.»

«أنت لن تستقيل، أليس كذلك؟»

ضحك سارتويل.

«أعتقد ذلك. سيكون ثمة الكثير من العمل، وأرغب في أن أكون في قلب الأحداث. لا، إن رحلتنا إلى أوروبا مؤجلة يا إدنا. يا إلهي، لقد كنت جالسةً بمفردك تبكين يا ابنتي! لا، لا، يا إدنا، هذا لا يليق! حسبتك أشجع مني، ولا أعني بذلك الأيام الأخيرة التي لم أمتلك أي شجاعة خلالها. اذهبي إلى الفراش يا فتاتي، ونامي جيدًا. أريد أن أغادر مبكرًا في الصباح؛ ومن ثم ستحظَين بشرف أن تكوني مرافقتي الوحيدة على الفطور.» وأضاف وهو يقبِّلها: «ليلة سعيدة يا عزيزتي، وليكن الحظ حليفنا في جميع معاركنا القادمة!»

كانت إدنا أول من استيقظ في الصباح، وبدَّد نوم الليل، على الرغم من قصره، كل أثر لانفعال الليلة السابقة. يملك الشباب قدرةً رائعة على التعافي، وأثبت سارتويل، وهو يهبط الدرج متعبًا بعد قليل، أن النوم لم يغمره في ينبوعه. حتى المنتصر لا بد أن يدفع ضريبةً لانتصاره. فقد بدا عليه التعب وهو يهم باتخاذ مقعده على طاولة الفطور وفتح جريدة الصباح. فقد طوَّرت لديه سنوات من الحياة الزوجية التي غاب عنها الود والوفاق تلك العادة السيئة، وهي قراءة الصحف أثناء رَشْف القهوة، وحتى جلوس ابنته أمامه لم يتمكَّن من تحريره من تلك الرذيلة، ولكن كان لديه من الكياسة ما كان يجعله يعتذر عن ذلك، الأمر الذي كان ينساه في بعض الأحيان عندما تصب له زوجته القهوة.

قال سارتويل: «أريد فقط أن أرى إذا كانت الصحف قد ذكرت أي شيء عن إنهاء الإضراب يا عزيزتي.»

فابتسمت إدنا وطلبت منه أن يقرأ ما تقوله الصحيفة. بعد لحظات، جفلت بسبب صيحة أطلقها.

فقد صاح قائلًا: «يا إلهي! لم أكن أعلم ذلك! يبدو أن ثمة شغبًا قد وقع خلال الاجتماع، وأُلقي القبض على خمسة رجال، وأُودع اثنان منهم المستشفى … مارستن … يا إلهي! لقد دهسته الأقدام، ولم يَستعِد وعيه على الإطلاق، وحياته في خطر! إدنا، هذا خطب جلل!»

لم يتلقَّ منها ردًّا، فرفع سارتويل رأسه ورأى إدنا واقفةً وقد شحب وجهها، وفغر فمها، وتترنح قليلًا من جانب إلى آخر.

فهبَّ واقفًا وأسندها بذراعه.

وصاح قائلًا: «ابنتي، ابنتي الصغيرة! ما الأمر؟ ماذا ألمَّ بك؟»

سقط رأسها على صدره، وقالت بصوتٍ هامس متهدِّج قاطعته عبرات البكاء:

«إنه كل شيء بالنسبة إليَّ يا أبي، كل شيء!»

فربت بحنان على كتفها.

وقال: «هل الأمر هكذا يا حبيبتي، هل الأمر هكذا؟ في وقتٍ ما كنت أخشى أن الأمر هكذا، ولكني ظننت أنكِ نسيته. اهدئي، لا تبكي؛ أنا واثقٌ من أن كل شيءٍ سيكون على خير ما يرام. إن الصحف عادةً ما تهوِّل هذه الأمور. هيا، لنتناول فطورنا، وسنذهب إلى المستشفى معًا.»

كانت إدنا قد فقدت شهيتها للفطور، ولكنها تظاهرت بأنها تأكل ثم هُرعت لتستعد لمرافقة والدها. كان الوقت مبكرًا للغاية حتى إنهما اضطُرا لأخذ مقصورة خاصة لهما في الدرجة الأولى؛ إذ لم تكن رحلات السفر المتجهة إلى المدينة قد بدأت بعد.

ظلت إدنا صامتة، ولم يُقَل شيء طوال المسافة ما بين المنزل والمحطة. وعندما ركبا القطار، تحدث والدها ببعض التردُّد.

وقال: «إدنا، هل قابلت مارستن منذ وجدتكما معًا في الحديقة؟»

«نعم يا أبي، مرتَين.»

«لا أريدك أن تجيبي على أسئلتي يا عزيزتي إلا إذا كنت ترغبين في ذلك. متى قابلتِه؟»

«سأخبرك بكل ما حدث؛ فقد كنت أنوي أن أُخبرك في أي وقت … إذا ما سألتني. ولم أتحدَّث إليك عنه لأنني … لم يرُق لي ذلك.»

«بالطبع يا صغيرتي. أفهم ذلك. لا داعي للكلام الآن، إذا كنت لا ترغبين في ذلك.»

«أريدك أن تعرف. كانت المرة الأولى في إيستبورن، بعد ذهابي إلى هناك بقليل. كان قد تمكَّن من الدخول دون أن يراه أحد إلى حديقة المدرسة، وأخبرني بأننا … قال لي إنه يأمل … أن نتزوج ذات يوم. أخبرته بأن هذا مستحيل. كنت أعتقد ذلك … حينئذ.»

«هل كان ذلك منذ عامَين؟»

«نعم.»

ارتسم شبح ابتسامة على شفتَي سارتويل الحازمتَين، إلا أن ركنَي فم إدنا تدليا على نحو مثير للشفقة، وبدت على وشك البكاء. وأبقت عينَيها مثبتتَين على أرضية العربة.

فقال سارتويل: «لا فائدة تُرجى من تحذيرات أبٍ غاضب، أليس كذلك يا إدنا؟»

«لم أكن أعلم أنك كنت تعارض لقائي به حتى أخبرني هو بذلك. لو كنت أخبرتني برغبتك تلك، لَما تحدَّثت إليه في إيستبورن.»

«ما كنت لتفعلي بالطبع يا عزيزتي. لا تظني أني أُلقي عليكِ أي لومٍ على الإطلاق. كنت أفكِّر فقط في أني لست بالفطنة التي كنت أظنها. وماذا عن المرة الثانية يا إدنا؟»

«كانت ليلة أمس. ركبت العربة إلى قاعة الخلاص وطلبت منه أن يُنهي الإضراب. أخبرته بأن …»

بدأت إدنا تبكي من جديد. فنهض والدها الذي كان يجلس قبالتها، وجلس إلى جوارها، وأحاطها بذراعه.

وقال: «لا تتفوَّهي بكلمة أخرى يا عزيزتي، ولا تفكِّري في الأمر. لن أطرح عليك أي أسئلة أخرى. يجب ألَّا تجعلي الناس يعتقدون أنك كنت تبكين. فسيتخيلون أني أوبِّخك؛ ومن ثم ستدمرين السمعة التي استحققتها عن جدارة كوني أرق رجل في لندن.»

ابتسمت الفتاة وسط عبراتها، ولم يقولا أي شيء حتى وصلا إلى بوابة المستشفى.

سأل سارتويل الطبيب الذي استقبله: «كيف حال مارستن الذي أُحضر إلى هنا ليلة أمس؟»

«أوه، إنه في تحسُّن، في ظل الظروف الراهنة.»

«تقول الصحف إن حالته خطرة.»

«لا أتوقَّع وجود أي خطر، إلا إذا كانت ثمة جراح داخلية لا نعلم عنها شيئًا. لقد كُسر بعضٌ من ضلوعه، وتلقَّى ضربةً قويةً على مؤخرة رأسه. إنه يبدو ضعيفًا ومكتئبًا هذا الصباح، ولكنه واعٍ. كنت قلقًا إلى حدٍّ ما بشأن ذلك؛ فقد ظل فاقد الوعي مدةً طويلة.»

قال سارتويل مخاطبًا ابنته التي وقفت فاغرةً فاها، تستمع باهتمام لِمَا يقوله الطبيب: «أرأيتِ؟ لقد أخبرتكِ أن الصحف تعرض الأمور بصورةٍ أسوأ مما هي عليه بالفعل. هل يمكننا رؤية السيد مارستن؟»

«نعم، ولكن لا ينصح بأن تجعلاه يتحدث كثيرًا.»

«سنكون حذرَين للغاية. أعتقد أنه سيسعد كثيرًا برؤيتنا، ولكن يجدر بك أن تسأله عما إذا كان يفضِّل أن نحضر في وقت آخر. اسمي سارتويل.»

عاد الطبيب ليقول إن مارستن سيسعد برؤيتهما. ووجداه موضوعًا في تجويف محجوب بالستائر عن بقية الجناح، مثل التجاويف الأخرى. لم يكن وجهه مشوهًا، ولكنه كان شاحبًا للغاية. ألقى نظرةً سريعةً صوب إدنا التي توارَت خلف والدها، ثم ثبَّت ناظرَيه على مديره السابق.

قال سارتويل في مرح: «حسنًا يا بني، يؤسفني أن أراك راقدًا، ولكني سعيد لأني عرفت من الطبيب أنك ستستعيد عافيتك في غضون بضعة أيام.»

«هل عاد … هل … عاد العمال إلى المصنع؟» طرح مارستن هذا السؤال بصوتٍ خافت وواهن.

«لا عليك من العمال. أنا أتولى أمرهم. نعم، لقد عادوا إلى المصنع.»

حاول مارستن بوهن أن يرفع يده، ولكنها سقطت إلى جواره مرةً أخرى.

وهمس قائلًا: «الخطاب، ما تبقى منه … تحت الوسادة على ما أظن.»

وضع سارتويل يده تحت الوسادة وسحب الوثيقة الممزقة.

وقال: «هل تنوي إعطائي إياه؟»

أومأ مارستن برأسه إيماءةً واهنة دلالة على الموافقة، فوضع سارتويل الخطاب في جيبه وقد بدا عليه بعض الارتياح.

وقال: «والآن، يا بني، لا بد أن تُشفى سريعًا. ستكون ثمة أوقات عصيبة في المصنع، وسأكون بحاجة لأفضل مساعدة يمكن أن أتلقَّاها. أنا أعتمد عليك لتكون مساعدي، كما تعلم.»

اختلج جفنا الشاب للحظة قبل أن ينغلقا على عينَيه. وتسلَّلت دمعتان من ركنَي عينَيه وانزلقتا على وجنتيه. وارتفع حلقه وانخفض.

وهمس أخيرًا قائلًا: «أنا محطم للغاية. أشعر بأني لست أنا، ولكني أشكرك.»

«لا بأس يا بني. سأتركك مع شابة يمكنها أن تتحدث إليك مثل ممرضة أكثر مما أفعل أنا. لا بد أن أذهب لأرتب لحصولك على غرفة خاصة، وعلى كل وسائل الراحة أثناء إقامتك هنا.»

أمسكت إدنا يد مارستن عندما غادر والدها الغرفة. فرفع بصره نحوها، حيث كانت تقف بجواره.

وقال بابتسامة خفيفة مرتعشة: «لقد بلغتُ ما أتمناه — في النهاية — أليس كذلك؟»

فأجابته إدنا بأن انحنت فوقه وطبعت على شفتَيه قبلةً رقيقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤