الفصل الرابع

لم يتخطَّ برنارد هوب، المعروف باسم بارني، أبدًا دهشته حين وجد نفسه ابنًا لجيمس هوب وزوجته إيوفيميا. كان جيمس هوب، الشريك الأصغر في شركة «مونكتون آند هوب»، رجلًا ضئيل الحجم تسلَّل إلى رأسه شيء من الصلع، ويتسم أسلوبه بالاعتذار المستمر. كان يبدو أنه يحاول إضفاء بعض المنطق على كل رأي ينطق به ولا يثق به؛ وكان سرعان ما يتراجع عنه على الفور عند الضرورة. وإن التقيته في الشارع، فستظنه رجلًا تعرض للكثير من التنمر، أو موظفًا من الموظفين المحدودي الدخل في المدينة. كان في مكتبه يعيش خائفًا من مدير شركته، وفي منزله يعيش خائفًا من زوجته. فقد كانت السمة الرئيسة لزوجته هي التعنُّت المستبد. كانت السيدة هوب أطول من زوجها بقليل، وعندما تقابلهما وهما في طريقهما إلى الكنيسة، ترى الزوج يتخذ تلك الوضعية الهادئة الوديعة لصبي صغير تعسٍ اكتُشف خطؤه، وتصطحبه معلمته المستقيمة الساخطة إلى الكنيسة معاقبةً إياه. لم تكن السيدة هوب تشارك في أيٍّ من مظاهر العبث الرائج في حي سربيتون، حيث كانت تسكن. فقد كان لديها مهمة وواجب تجاه أقرانها من بني البشر؛ أي تجاه الفقراء، وأولئك الذين لا يمكن بأي حال أن ينقموا على مساعداتها لهم التي لا تخلو من التفضُّل. كان لديها اعتقاد بأن الأثرياء لو أدَّوا واجبهم، لأصبح العالم مكانًا أفضل وأكثر إشراقًا، الأمر المشكوك في تحققه.

قد يكون علينا أن نشعر بالامتنان بصورة أو بأخرى؛ لأن السيدة هوب لم تتولَّ مهمة تغيير هذا العالم؛ فالكثير من السمات المشوِّقة كانت ستختفي في هذه الحالة. لم يكن هوب نفسه مثالًا على السعادة التامة. لطالما كانت السيدة تضع عددًا من النساء تحت رعايتها، لتكتشف فيما بعد، كالمعتاد، أنهن لا يستحققن رعايتها؛ ومن ثم كانت تتخلَّى عن رعايتهن من أجل حالاتٍ جديدةٍ لم تنجح أيضًا. كذلك كانت مطلوبةً دائمًا من قِبَل المؤسسات التي تحتاج إلى أعضاء أثرياء، إلا أن السيدة هوب كانت تملك موهبةً رائعةً في الإدارة، الأمر الذي لم يكن محلَّ تقديرٍ دائمًا من قِبَل مَن تعمل معهم. وكان هذا غالبًا ما يُؤدِّي إلى حدوث صدام؛ إذ كان الأعضاء الأقدمون يدَّعون، بأسلوبهم السوقي، أنها تريد أن تدير كل شيء بأسلوبها، ونصحها أحدهم صراحةً أن تذهب وتُصلح أحوال عمال مصنع زوجها، إذا كانت تريد رعايا يستحقون جهودها. وأدَّت هذه الملحوظة إلى تحوُّل انتباه السيدة هوب إلى مصنع «مونكتون آند هوب»، ودفعتها لزيارة السيدة سارتويل، في حي ويمبلدون المجاور.

كان من المفترض بابن هذَين الشخصَين الموقرَين، رغم التناقض بينهما، أن يكون شخصًا متزمتًا وقورًا، ولكنه كان في الواقع وغدًا مزعجًا، وهكذا تستمتع الطبيعة بالمفاجآت غير المتوقعة.

كان بارني عملاقًا عريض المنكبين دمث الخلق، أطول من والده القصير القامة بكثيرٍ مثلما يعلو النصب التذكاري لحريق لندن الكبير أقرب عمود إنارةٍ منه. وكان شخصًا ودودًا وغير متكلِّف، ولم يكن يُصافح مثل بقية البشر، بل كان يهوي براحة يده العملاقة من عند كتفه، كما لو كان يقذف كرة كريكت، وبعد تبدُّد صدى صوت ارتطام راحتَي اليدَين معًا، كان يضغط بقوةٍ على اليد التي يصافحها حتى يجفل صاحبها ألمًا. وكان أصدقاء بارني معتادين عند لقائه أن يضعوا أيديهم خلف ظهورهم ويقولوا: «أنا بخيرٍ يا بارني، شكرًا لك»، فكان بارني يضحك ويضربهم على أكتافهم، الأمر الذي كان أخفَّ الضررَين رغم صعوبة تحمُّله.

«حيوان مزعج»، هكذا كان يصفه رفاقه في غيابه، إلا أن المصافحة الحماسية من فوق الكتف أو الإطباق المحكم على اليد لم يكن يدل إلا على مدى سعادته البالغة والصادقة بلقاء صديق، ويريد من صديقه أن يعرف أنه لا يوجد أدنى فارق بينهما، رغم كونه فقيرًا للغاية بينما بارني ثري للغاية.

ربما كان في الغرب الأقصى، أو في أحراش أستراليا، حيث تكون للعضلات قيمة ما، مكان يسع شخصًا مثل بارني، بل ربما كان ثمَّة مكان يناسبه في لندن، ولكن حتى وإن توافر مثل هذا المكان، فالقَدَر وميول بارني نفسها جعلاه أبعد ما يكون عن ذلك المكان. كان بارني فنانًا؛ أي كان يمارس الرسم، أو بالأحرى، كان يمزج ألوانًا معينةً على لوحات القماش. وعلى مدار سنوات، ظل بارني محط أنظار مدرسة جوليان في باريس. فقد كان يعيش في جناحٍ مكونٍ من عدة غرفٍ في فندق جراند هوتيل، وكان يذهب كل صباح إلى المدرسة في شارع رو دو دراجون مستقلًّا العربة ومعه سائق وخادم، وكان الأخير يحمل حقيبة أدوات الرسم الخاصة ببارني، بينما كان الأول يظل جالسًا كالتمثال على مقعد القيادة، ممسكًا بسوطه مائلًا بالزاوية الصحيحة. بالطبع لم يكن لطلاب يدرسون الفن أن يتحملوا ذلك؛ فما كان منهم سوى أن أغلقوا بوابات المدرسة ذات يوم وأوسعوا الشاب ضربًا. ظن بارني في البداية أنهم يمزحون معه؛ إذ لم يكن يفهم اللغة الفرنسية جيدًا، وغطَّى زئيره القوي على صيحات خصومه الحادة. ثم أمسك بكل منهم على حدة، وكدَّسهم أفقيًّا في كومة، ثم أخذ يُدحرجهم مرارًا وتكرارًا، وكلما حاول أحد الطلاب أن ينهض، كان يعيده إلى مكانه بضربة من قبضة يده العملاقة.

وأيًّا كان مقدار الإعجاب بالرسم في مدرسة جوليان، فلا شك أنهم قد صاروا يُكنون احترامًا أعمق لقوة العضلات؛ ومن ثم تركوا بارني وشأنه بعد ما حدث. ودعاهم جميعًا لتناول العشاء في فندق جراند، ولم يتخلَّف أحد.

بعد انتهاء رحلته السريعة باعتباره طالبًا للفنون في باريس، جهَّز لنفسه مرسمًا ضخمًا في تشيلسي. فُرش المرسم بأغلى المفروشات دون الالتفات إلى التكاليف، وكان يحوي كل ما يجدر بمرسم أن يحوي؛ ستائر من الشرق، وجلود نمور من الهند، وسجاجيد شرقية، ودرعًا قديمة، وحوامل للوحات بجميع الأشكال، وأرائك فخمة مفروشة بأفخر المنتجات الفارسية.

صاح بارني في هيرست هالديمان وهو يصافحه بقوة: «أخبرني. ما رأيك في هذا؟»

كان هالديمان أحد أكثر الطلاب الذين التقاهم بارني في باريس موهبة، وأصبح يمتلك حاليًّا عُليَّة في لندن يمارس فيها الرسم عندما يتوفر له الوقت لذلك، وكان ينفِّذ رسومات بالأبيض والأسود لصالح المجلات والمطبوعات الأسبوعية المُصوَّرة ليدعم نفسه ماديًّا. كان بارني قد دعا جميع أصدقائه القدامى الذين تعرَّف عليهم في باريس، واحدًا واحدًا، لمشاهدة مرسمه الجديد.

قال هالديمان: «رائع! ويمكنني القول دون حرج إنه لا يوجد في لندن مرسم يضاهيه.»

رد بارني قائلًا: «كان هذا بالضبط هو هدفي. قيل لي إن السير ريتشارد دوبس يمتلك أفخم مرسم في لندن. لم أقل شيئًا، ولكني بدأت العمل، وها أنا ذا. هل رأيت مرسم دوبس من قبلُ يا هيرست؟»

«لا، إنه ليس ودودًا مثلك يا بارني؛ فلم يدعُني إلى مرسمه من قبل.»

«لا بأس، سأُحضر لك دعوة، وأريدك أن تخبرني صراحةً عن رأيك في مرسمي مقارنةً بمرسمه.»

«شكرًا لك يا صديقي، ولكن لا تكلِّف نفسك عناء الحصول على دعوة من أجلي. فليس لديَّ أي وقت؛ لقد حضرت لزيارتك هنا، كما تعلم، فقط لأننا كنا ندرس معًا في باريس. إن مرسم دوبس يملك ميزةً كبيرة لا يملكها الكثيرُ من المراسم، وهي أن به رجلًا يجيد الرسم.»

«أوه، نعم يا هالديمان، هذا صحيح. كل هذا بسبب ما حدث في باريس، كما تعلم. فمنذ أن كدَّست الطلبة بعضهم فوق بعض، انتقموا لأنفسهم بادعاء أنني لا أجيد الرسم؛ ولكن يجب عليك أن تترفع عن مثل هذه الأمور يا هالديمان. أنت تعلم أنني رجل واضح وصريح، وأصبحت أملك أفضل مرسم في لندن بشهادة الجميع؛ ولكن هل يشكِّل ذلك فارقًا بيني وبين أصدقائي القدامى؟ إطلاقًا، وجلوسك هنا معي يثبت صحة ما أقول. أنا بوهيمي بطبيعتي، أحتقر الثراء، وأقرب أصدقائي فقراء لا يملكون من حطام الدنيا شيئًا. وأنت تعلم ذلك يا هالديمان.»

أشعل هالديمان سيجارةً أخرى من سجائر هوب الفاخرة. كان بارني قد استورد هذه السجائر بنفسه من مصر، وقال إنها من نفس النوع الذي يدخنه الخديوي حتى أخبره أحد المراسلين الحربيين بأن الخديوي لم يكن مدخنًا. فعدَّل بارني قليلًا من إطرائه عليها.

«خذ ما يحلو لك يا صديقي العزيز. ستكتشف بنفسك أنها ليست سيئةً مثل بقية أنواع السجائر. أنا أستوردها بنفسي؛ فلم أعد أثق في أولئك المستوردين الأوغاد. إن الخديوي ليس مدخنًا، ولكنه لا يحتفظ إلا بأفضل أنواع السجائر من أجل ضيوفه، وهذا هو النوع نفسه الذي يُورَّد له.»

واستطرد بارني قائلًا: «والآن، دعنا نتحدث عن الرسم. إني لأجرؤ على القول إن دوبس لم يكن معروفًا على الإطلاق في وقت ما. حسنًا إذن. أنا أيضًا غير معروف على الإطلاق. ولن يشتري أحد لوحاتي. ولا أخفي هذه الحقيقة. ولمَ أخفيها؟ لقد أرسلت لوحةً إلى معرض برمنجهام؛ لا أقول إنها رائعة، ولكن يمكنني أن أزعم أنها تحمل طابعي الخاص. ولكنهم رفضوها!»

«أنت تُذهلني!»

«أقسم لك بشرفي إنهم فعلوا يا هالديمان. برمنجهام! فكِّر في الأمر! إنها مدينة تصنع المسامير ومواسير البنادق.»

قال هالديمان في حزن: «الفن في إنجلترا ينحدر إلى الحضيض.»

«لا أعتقد أن الأمر بهذا السوء. لا، لقد ضحكت عندما أعادوا لي اللوحة التي لم أبذل فيها الكثير من الجهد، مع الأسف. قلت إني قادر على انتظار الفرصة المناسبة، ويمكنني ذلك حقًّا. سيأتي الناس يخطبون ودي يا هالديمان، أراهنك أنهم سيفعلون.»

«إنهم يفعلون بالفعل يا بارني؛ أولئك الذين يريدون اقتراض المال منك.»

«اسمع يا هيرست، لا تلُمني على أموالي البغيضة. هل ذنبي أنني ثري؟ هل أسمح لثرائي بأن يميز بين رجلٍ وآخر؟ نحن نتحدث عن الفن وليس المال.»

«هذا صحيح. كنا نتحدث عن لوحاتك. استمر.»

«كل ما أردت توضيحه هو أن على المرء أن يتعامل مع الأمور برصانة. إذا رفضَت برمنجهام إحدى لوحاتك، كنت ستكتئب أسبوعًا كاملًا.»

«لقد عاملتني برمنجهام بطريقة مختلفة يا بارني. فقد قبلوا اثنتَين من لوحاتي. إن كآبتي سببها ما أخبرتني به الآن.»

ابتسمَ بارني في وجه ضيفه. فها هي حجته قد أُثبتت، ولكنه كبت رغبته في قول «لقد قلت لك ذلك»، ولكنه لم يستطع أن يدع الموقف يمر دون تزيينه بالقليل من الحكمة.

«لقد فهمت ما أعنيه يا هالديمان، فهمت ما أعنيه. ألَا تدفعك حقيقة قَبول برمنجهام للوحاتك إلى التوقف والتفكير؟»

«لا أدري ماذا أقول. إن ما تقول حلَّ عليَّ كالصاعقة. سألتحق بالأكاديمية في القريب العاجل.»

«أوه، الأمر ليس بهذا السوء. أتعلم يا هالديمان، أنت تملك موهبةً من نوعٍ معين …»

«بارني، أنت تبالغ. لا شك أنني أحب الإطراء، ولكن من الأفضل أن يكون بكياسة. إن طريقة إطرائك فظة.»

«أنا لا أُطري عليك يا هالديمان، حقًّا لا أُطري عليك. قد يغضب معظم الزملاء الآخرون مما سأقول، ولكنك رجل عقلاني …»

«ها أنت تعيد الكَرة مرةً أخرى.»

«اسمعني. إن لديك موهبةً من نوع معين … ربما أسلوب كما يجدر بي أن أدعوها؛ مهارة متواضعة في الأسلوب.»

«آه، هكذا أفضل. والآن، استمر.»

«لقد حصلت على الإطراء والجوائز في باريس بفضل أسلوبك، وهذا وجهك إلى الوجهة الخاطئة. إن ما تؤديه بصورة جيدة ما هو إلا ما أدَّاه الكثير من الرجال الآخرين بصورة جيدة من قبلك. أنت مجرد شخص عادي وسط حشد من الأشخاص. أما أنا فأكافح من أجل التفرد.»

«أنت محق يا بارني.»

«لست أنا من يقرر ذلك؛ على أي حال، التفرد والقوة هما ما أرغب في رؤيتهما في لوحاتي، ويومًا ما سيظهر ناقد يملك فكرًا غير منحاز بما يكفي ليلاحظ هاتَين المزيتَين. وحينئذٍ سيكون يوم سعدي قد حلَّ. تذكر كلماتي هذه، سأؤسِّس مدرسةً يومًا ما.»

«مثل مدرسة جوليان؟»

«لا، مثل مدرسة ويسلر. أنت تعي جيدًا ما أعنيه. تلك هي طريقتك المزعجة لإظهار شعورك بالغضب؛ لأنني كنت صريحًا بما يكفي وأخبرتك بالحقيقة.»

«ظني أنه لا أحد منا يُحب الصديق الصريح مهما تظاهرنا بذلك. حسنًا، لا بد أن أذهب. فلديَّ عمل لإحدى المجلات.»

«لا تذهب الآن. فأنا لم أصل إلى نصف ما أريد قوله بعد. إليك ما أريد عَرْضه عليك. اترك غرفتك وتعالَ اسكن معي. إن الميزة الكبرى التي تميزني عليك أنني أستطيع الانتظار. وإذا طلبَت مني إحدى المجلات رسومات بالأبيض والأسود، فسأقول لهم «لا، اذهبوا إلى أولئك الرسامين الفقراء الذين لا بد أن يعملوا وإلا تضوروا جوعًا. أما أنا، فأعمل من أجل المستقبل، وليس من أجل الحاضر!» هذا ما سأقوله لهم. سأمنحك غرفة نوم، دون أن تدفع إيجارًا، وركنًا في هذا المرسم. لن يكلِّفك هذا بنسًا واحدًا، ولا حتى لوحة الرسم. يمكنك أن ترسم ما يحلو لك، وليس ما يطلبه العامة. وبذلك ستكون مستقلًّا.»

«كلٌّ منا ينظر إلى الأمور من منظور مختلف يا بارني. وإني لأرى ذلك أسوأ صور التبعية. هذا كرم كبير منك، ولكنه مُحال، كما أنك لم تفكر في خطر أن أصبح مجرد مقلد لك؛ ظِل للمتفرد الجديد. لا يمكن أن أخاطر بأن أكون كذلك، كما تعلم.»

«أن تكون ظلًّا لرجل واحد أفضل من أن تصبح ظلًّا لكثيرين، وهذا ما أنت عليه الآن.»

«ربما أكون كذلك بالفعل؛ ولكن على كلٍّ منا أن يهتم بشئونه بطريقته الخاصة. إلى اللقاء يا بارني.»

هبط هالديمان الدرج دون أن يشعر بالبهجة من فيض الود والجود الذي أبداه هوب كما كان متوقعًا. وعلى الدرج التقى بوالدة بارني التي رمقته من قمة رأسه حتى أخمَص قدمَيه بنظرة استهجان. فلم تكن الأم راضيةً عن الرفقة المنخرط فيها ابنها، وكانت تخشى أن يكون تأثيرهم عليه ضارًّا.

صاح بارني عندما دخلت والدته قائلًا: «أماه! لم أتوقع حضوركِ اليوم. ما رأيكِ في المكان؟»

رفعت الأم نظارتها اليدوية إلى عينَيها وأخذت تتفحص الغرفة في صمت.

وأخيرًا قالت: «هذا هو المرسم إذن يا برنارد. لا يعجبني كثيرًا. لمَ كلُّ شيء مهمل وغير منظم هكذا؟ أم لم يكن لديك ما يكفي من الوقت لترتيبه؟»

«تلك هي المتعة بالنسبة إلينا نحن الفنانين يا أمي. إنه مرتب هكذا، وسيظل هكذا دومًا.»

«إنه لا يعجبني إذن. لماذا لم تُحضر أحدًا ليفرش لك سجادةً كما ينبغي؟ وكل هذه البُسُط مبعثرة بهذه الطريقة الفوضوية، وقد يتعثَّر بها أحد. وما الغرض من قطعة الحديد البالية التي هناك؟»

«إنها درع يا أماه.»

«أوه، حقًّا؟ لا أعرف كيف يمكن لأحدٍ أن يؤدي أي عمل مفيد في مكان مثل هذا، ولكني أعتقد أنه مناسب تمامًا للرسم، لقد عثرتُ عليه بسهولة. فلا شك أن سكان أي حي يعلمون جيدًا أين يُمارَس أي حُمقٍ جديد يُضاف إليه. لا شك أنك تعرضت للاحتيال في كل ما اشتريت. ولكن هذا لا يهمني من قريب أو بعيد. لقد جئت للتحدُّث معك عن الشركة.»

«أي شركة تقصدين يا أمي؟»

«أي شركة؟! أقصد الشركة بالطبع. شركة والدك وشركتك، فلديَّ أمل في أن يأتي الوقت الذي يزداد فيه اهتمامك بها عمَّا هو عليه الآن. يبدو أن العمال ينوون الدخول في إضراب.»

«يا لهم من متسولين حمقى! ما السبب الذي يدفعهم إلى ذلك، وماذا تتوقعين مني أن أفعل؟ آمل أنكِ لا تتوقعين مني أن أتحدث إليهم؛ فأنا أبغض طبقة العمال. فهم عادةً ما يكونون حمقى، وإلا فما عملوا مقابل هذه الأجور الهزيلة التي يتحصَّلون عليها. ثم يُنفقون ما يجنون من مالٍ على البيرة الرديئة، ويعودون إلى منازلهم ليضربوا زوجاتهم. لا يمكنني أن أتحدث بالمنطق مع العمال، كما تعلمين، يا أمي.»

«لا، لا أعتقد أنك تستطيع ذلك. بل وأشكُّ في بعض الأحيان أنك تستطيع التحدُّث بالمنطق مع أي شخص. إن كدح هؤلاء العمال هو ما يمكِّنك من قضاء وقتك عاطلًا في مكان كهذا. هناك أشخاص كثيرون يستحقون بين الطبقات العاملة، وإن كان غالبًا ما يكون من الصعب العثور عليهم. لقد وضع العمال بعض المطالب التي لن يكلِّف سارتويل، مدير الشركة، نفسه عناء سماعها حتى. ويبدو لي أنه لا يتحرى العدل في تعامله معهم. كان يجدر به، على أقل تقدير، الاستماع لِما يريدون قوله، وإن لم تكن مطالبهم ستكلِّف الشركة أي شيء، فلا بأس من تلبيتها.»

صاح الشاب متحمسًا: «أي عقلية إدارية تلك التي تملكينها يا أمي!»

ردت عليه السيدة بفخر مبرر: «لقد نشأت في عائلة حقَّقَت الثراء عبر امتلاك عقليات إدارية متميزة. ما أريد منك أن تفعله الآن هو أن تقابل هذا المدعو سارتويل؛ فلا شك في أنه سيوليك اهتمامه لأنه يعلم جيدًا أنك ستصبح في وقتٍ ما وليَّ نعمته؛ ومن ثم سيتعامل معك باحترام.»

قال بارني مشككًا في كلامها: «لست واثقًا من هذا. ظني أنه يراني مجرد أحمق.»

«حسنًا، حانت فرصتك إذن لكي تريه أنك لست كذلك، هذا إن بلغت به الوقاحة أن يفكر فيك بهذه الطريقة. لا بد أن تقابله في منزله وليس في المكتب، هذا عنوانه. أخبره بأن يلتقي العمال وأن يتوصل معهم إلى حل وسط. أخبره بأن يقدِّم تنازلات غير مهمة، وهكذا سيتوصل إلى تسوية. الأمر لا يحتاج إلا لقليل من الكياسة والذكاء.»

«مني، أم من سارتويل يا أمي؟»

«من كليكما. إنني أتوقع الكياسة منك لأنك ابني.»

«ولكن، لمَ لا يتحدث أبي إلى سارتويل؟ أنا لا أعلم شيئًا عن الشركة، على النقيض من أبي؛ يبدو أنها تقع في نطاق اهتماماته تمامًا، أليس كذلك؟»

«إن والدك يا برنارد رجل جبان، ويخاف من مدير شركته بالفعل. إنه يرى أن ذلك يُعد تدخلًا في إدارة الشركة ولا يريد أن يتطفل، على حد قوله، كما لو أن اهتمام المرء بشئونه يُعد تدخلًا! إنه يخشى أن يستقيل سارتويل، ولكن هذا الرجل يعرف مصلحته تمامًا. سأخاطر بإقدامه على الاستقالة، وأريد منك أن تقابله في منزله؛ فلا طائل من محاولة إشراك والدك في هذه الأمور.»

«لا تعجبني هذه المهمة يا أمي، إنها تبدو تدخلًا بالفعل.»

رفعت السيدة هوب نظارتها اليدوية إلى عينَيها مرة أخرى من حاملها الطويل المنقوش على هيئة قوقعة السلحفاة، وأخذت تتفحص المرسم مرةً أخرى.

ثم قالت بنبرة لا تحمل أي تحيز: «لا بد أن هذا المكان قد كلفك الكثير من المال يا برنارد.»

أقر الشاب بصحة قولها: «نعم.»

«ظني أني سأُضطر لأن أكتب لك شيكًا آخر عما قريب. بكم تريده؟»

رد عليها الشاب قائلًا: «من المؤسف أنني أُزعجكِ دائمًا هكذا يا أمي؛ لذا من الأفضل أن تكتبي هذه المرة ثلاثمائة.»

قالت الأم وهي تنهض من جلستها: «حسنًا إذن، ستجد الشيك جاهزًا من أجلك عندما تعود إلى سربيتون بعد أن تزور سارتويل في ويمبلدون. إنه في طريقك، كما تعلم.»

«حسنًا يا أمي. ولكن يجب ألَّا تلوميني إن لم أنجح في مهمتي. سأبذل قصارى جهدي، ولكن سارتويل ليس سوى متسول أخرق من الصعب التعامل معه.»

أجابته السيدة وهي تنهض: «كل ما أطلبه منك يا برنارد هو أن تبذل قصارى جهدك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤