في عالم الفلسفة

ليس هَنَةً هيِّنةً أن ينقُد صديقٌ كتابًا لصديقه؛ ذلك لأن هذا الصديق الناقد إما أن يكون مع الكتاب أو عليه، فإن كانت الأولى، قال الناس: إنه صديقٌ يمدح صديقه، وإن كانت الثانية، قال الصديق عن صديقه: إنه لم يَرعَ للصداقة حقًّا ولا حرمة!

والدكتور الأهواني صديق وزميل، ينزل من نفسي منزلةَ حب وتقدير، وقد قرأتُ كتابه «في عالم الفلسفة»، وأردت نقدَه، فأحسستُ بالورطة التي حدَّثتُكَ عنها منذ حين. لكن الذي يحدُّ من شدة الموقف أن صاحب الكتاب وكاتب هذه السطور هما معًا ممن يشتغلون بالفلسفة مهنةً وصناعةً، وأقل ما يُقال فيمن يمُتُّ إلى الفلسفة من قريب أو بعيد، أنه يُحاوِل أن ينظر إلى الأمور بعاطفةٍ باردة، وأن يزن الأشياء التي تخصُّه بمیزانٍ موضوعي، كأنها ليست شأنًا من شأنه. وعلى هذا الاعتبار سأتناول بالنقد هذا الكتاب، مُوقنًا أن صديقي الدكتور الأهواني سيكون «فیلسوفًا» في قراءة هذه الكلمة، كما كان فيلسوفًا حين كتَب كتابه هذا.

•••

قلتُ لنفسي: حاول أن تُجرِّد عن نفسِكَ صفة الاشتغال بالفلسفة قراءةً وكتابةً وتدريسًا، وألبس شخصيةَ رجلٍ غريب عن «عالم الفلسفة»، سَمِع بشيءٍ اسمُه الفلسفة، ولكنَّه لم يعرف ماذا عسى هذه الفلسفة أن تكون، كأن تتخيل نفسك — مثلًا — مهندسًا.

ها أنا ذا «مهندس» أمرُّ على إحدى المكتبات، فأرى كتابًا اسمه «في عالم الفلسفة»، كتبه كاتبٌ يُدرِّس الفلسفة في الجامعة، فيدور في نفسي هذا الخاطر: هل لك في كتاب يدخلك هذا «العالم» المجهول؟ إنكَ لا تدري إن كانت الفلسفة شيئًا يُؤكَل أو يُشرَب، فلماذا لا تشتري هذا الكتاب الذي لا تتجاوز صفحاته مائة وسبعين، فتُكِبُّ عليه ليلةً أو ليلتَين، فإذا بكَ قد أضفتَ إلى حياتك «عالمًا» جديدًا؟ وقد كان! اشتريتُ الكتاب، وعُدتُ إلى داري، وأخذت أقرأ.

قرأتُ في مُقدِّمة الكتاب ما يُبشِّر بالخير «فهذا الكتاب جولة في عالم الفلسفة، لا إحصاء لدقائق هذا العالم الفسيح، أو هو زهرةٌ من بستان الفلسفة أُقدِّمها للقراء باقةً يَشمُّون منها عبير الفكر.» فقلتُ لنفسي: ما شاء الله! تالله هذا هو كلُّ ما أريد، فإنه لتكفيني جولةٌ واحدة في هذا العالم الفسيح، والحمد لله الذي جعل كاتبنا الفاضل يختار لكتابه زهرة من البستان، لا حَسَكًا ولا شوكًا.

فتحت الفصل الأول، فوجدته عن «أورفيوس والنِّحلة الأورفية»، تُری من يكون أورفيوس هذا؟ «الغالب أن أورفيوس عاش في تراقيا قبل العصر الهوميري، ويعتقد أرسطو أن أورفيوس لم يكن له وجود.» هكذا استهل الكاتب فصله الأول، وأخذ يعرض أدقَّ الآراء عن وجود «أورفيوس» أو عدم وجوده، إلى أن قال: «ونَسَبُه إلهي؛ فأمه آلهة الشعر كاليوب … ويجعلون أباه تارةً أبولون، وتارةً أخرى وهو الأغلب أوجرس، وهو إلهٌ في تراقيا للخمر، خرج من صلب الإله أطلس، وهو الذي تَروي الأساطير أنه حمل العالم على كتفيه …»

قرأتُ هذا الكلام وهمستُ لنفسي: هوِّن على نفسك يا رجل وأرْخِ لأعصابِكَ عِنانَها، لقد كانوا أوهموكَ أن الفلسفة عالمٌ شائكٌ مُلغِزٌ غامض، وإذا بالفلسفة أسطورةٌ من نَسْج الخيال، تحكي عن الأرباب وأبناء الأرباب، كما يحكي شاعر الأساطير، هذا جميل، لكني في الواقع أَعتبُ على رجال الفلسفة عَتبًا شديدًا؛ فما كان لهم أن يُقطِّبوا الجبين ويَصطنِعوا الجِدَّ والوَقارَ في مشيهم وجُلوسِهِم، ويُرسِلوا اللِّحى والذوائبَ تنُوسُ على أعناقهم وأكتافهم، فيمَ هذا كله وبضاعتهم أُسطورةٌ تُرْوَى في دعة واسترخاء؟

وكدتُ أهمل بقية الفصل الأول؛ لأن أسطورته في الحق لم تُصادِف من نفسي قبولًا لدمها الثقيل، وكدتُ أتعجَّل الخُطى إلى الفصل الثاني لعله يحكي أسطورةً فيها شيء من الحب والغرام؛ لأن ذلك أحَبُّ إلى النفس وأقرب إلى الفؤاد، لكني عُدتُ فتمَهَّلتُ وواصلتُ قراءة هذا الفصل الأول نفسه، فإذا بالكاتب يعرض «آراء» أورفيوس، آراء؟ آراء من؟ آراء رجلٍ ليس له وجود؟ إن الشخصيات الوهمية في القصص الخيالية تجري ألسنتها بآراء الكُتَّاب الذين كتَبوا تلك القِصص، لكن بلسانِ من سيَنطِق هذا الشخص الخيالي بآرائه؟ اللهُم صبرًا، هات يا أورفيوس ما عندك من آراء.

مذهبه في أصل العالم هو: «… من الطين خرج الزمان، وكان الزمان وحشًا مخيفًا في صورة ثعبانٍ له رءوسٌ ثلاثة؛ رأس ثور، ورأس أسد، ووجهُ إلهِ بينهما … ونشأَت مع الزمان الضرورة …»

فوالله لقد انفتح فمي عن صيحةٍ لم أشعر بانبعاثها إلا بعد انطلاقها! ماذا يقول هؤلاء الناس؟ ما هذا الزمان الذي خرجَ من الطين؟ وما هذه الضرورة التي نشأَت مع الزمان؟ أيكونُ يا ربَّاه لهذا الكلام معنًى وقد أغلَقتَ لي نوافذَ رأسي فلم أعُد أفهم ما يفهمُه سائر الناس؟ اللهم إن كنتَ كتَبتَني عندك في أم الكتاب غبيًّا أو محرومًا من صَفاء الإدراك فامحُ اللهُم غَباوتي وحرماني، وأحمدُك اللهم حمدًا كثيرًا على أن جعلتَني مهندسًا أبني للناس العمائر والجسور؛ فذلك أجدى عليَّ وعليهم من قصة الزمان الذي خرج من الطين!

ومهما يكن من أَمرٍ فقد عرفتُ الآن ما الفلسفة، هي مزيجٌ من أساطيرَ وكلامٍ لم يُقصَد به أن يدُل على معنًی مفهوم. أأكتفي بهذا وأنصرف إلى عمائري وجسوري؟ لا، بل أقرأ الفصل الثاني.

الفصل الثاني عن أرستوفان شاعر الملهاة عند اليونان! الحق أني أُعجِبتُ بهذا الفصل أشدَّ إعجاب، لكني سألت نفسي حائرًا دهشًا: لقد ظنَنتُ من الفصل الأول أن الفلسفة أساطير الأولين، فإذا هي شيءٌ آخر، هي تاريخ للأدب. فيمَ إذن يجعل هؤلاء الفلاسفة أنفسَهم طائفةً قائمةً بذاتها وهم لا يصنعون سوى أن يُؤرِّخوا للآداب؟ ليس في هذا الفصل كلمةٌ واحدة لا تدور حول ذلك الشاعر المسرحي وفنه، فما الذي أَدخَل الشاعرَ وفنَّه في عالم الفلسفة إلا أن تكون الفلسفة اسمًا زائفًا بغيرِ مُسمًّى، وكان الصواب أن يُقال أدب وتاريخه؟

ثم فتحتُ الفصل الثالث وطالعتُه، فإذا هو عَرضٌ لتمثيليةٍ من تمثيلياتِ أرستوفان، هي تمثيليةُ السحب، ساقَها مؤلِّفنا الفاضل بهذا الإطناب والتفصيل؛ لأنها تصور شخصية سقراط، وسقراط فيلسوفٌ يظهر أن له مكانةً عليا لأني سمعتُ به كثيرًا، فقلتُ لنفسي: ها هنا في هذا الفصل رائحة طعام. لا بد أن يكون «عالم الفلسفة» مليئًا بهذه الشخصيات، وعَمَل الذي يدرس الفلسفة هو أن يستعرض صُور تلك الشخصيات.

لكن الفصل الذي يليه لم يمهلني كثيرًا حتى عاد فغيَّر لي معنی الفلسفة؛ لأنه يصف لنا مكانًا كان يُعلِّم فيه أحد الفلاسفة تلاميذه. لو أنه جاء بطَرفٍ من الآراء التي كانت تموج مع الهواء في ذلك المكان، لكان ذلك أقربَ إلى ما تصوَّرتُه عن الفلسفة بادئ ذي بدء، لكنه وصفٌ للمكان ولا شيء غير ذلك. صَوِّر لنفسك كاتبًا وصفَ لكَ جامعة القاهرة من حيث جدرانها وغرفها ومماشيها وقبابها وحدائقها، فهل ترى من حقِّ ذلك الكاتب أن يُسمِّي وَصْفه هذا «جزءًا من عالم الفلسفة»؟ لكنه على كل حالٍ وصفٌ جمیل.

•••

بذلك كاد ينتهي الجزءُ الأوَّل من أجزاء الكتاب، ليبدأ الكاتب في جزءٍ ثانٍ عن الفلسفة الإسلامية، وأقبلتُ إقبالَ من يُريد أن يفهم، فإذا بمؤلفنا الفاضل يعترف صراحةً في الصفحة الثانية أن الذي «سوف نتحدَّث عنه لا يُعَد في صميم الفلسفة بمعناها الخاص.» فضَربتُ على منِضدَتي بيدي ضربةً انفعالية، وقلتُ: «لكني اشتريتُ الكتاب لأدخل «عالم الفلسفة»، وها هو ذا الكاتب قد أوصد دوني الأبواب.» ومضَيتُ بعد ذلك سَطرَين أو ثلاثةً لأرى المؤلف الفاضل يقول: «إن كل إنسانٍ فیلسوف.» یا خبر أسود! ضاعَت عليك قروشُك يا بطل! أنت فیلسوفٌ ولا تدري أنك فيلسوف! أنت فیلسوفٌ منذُ وُلِدتَ، بل منذ كنتَ في جوفِ أُمكَ جنينًا؛ لأنك إنسانٌ منذ ذلك الحين! ولكن إلى الجحيم بقروشي وإنها لقليلةٌ معدودات، ما دُمتُ قد كسبتُ بها علمي بأني — فوق كوني مهندسًا — فيلسوف!

ومع ذلك فقد مضَيتُ أقرأ؛ لأرى الكاتب يَتتبَّع ما أسماه «أمواج الفكر الإسلامي»، والفكرة في غاية الروعة؛ إذ أراد المؤلِّف الفاضل أن يُؤرِّخ للفكر الإسلامي على نحوٍ طريفٍ جميل، وذلك بأنه يرى أن المسلمين كانوا يُديرون مجهودهم الفكري حول نقطةٍ معينة في كل فترةٍ معينة، فلو حصرنا هذه النقط المركزية في تتابُعِها، فقد تَتبَّعنا خطواتِ التفكير الإسلامي على صورةٍ نابضة بالحياة.

هذا جميلٌ جِدُّ جميل، لكني لم يَسَعْني سوى أن أسأل سؤالَين؛ الأول أن هذا الكلام الذي راح يقولُه، لا يمكن أن يستغني تحصيلُه عن دراسة، فلماذا إذن خَدعَني منذ حينٍ قصير وأوهمَني بأنني فیلسوفٌ ما دمتُ إنسانًا؟ والسؤال الثاني هو: ما علاقة هذا الكلام الذي أثبتَه بعالم الفلسفة؟ إنه دِينٌ وفي صميم الدراسات الدينية. أيكون هؤلاء الفلاسفة جماعةً بغير عمل فراحوا يتطفَّلون على كل شجرة يقطفون منها زهرة؟ فالموجة الأولى والموجة الثانية من موجات الفكر الإسلامي، يُلخِّصهما المؤلِّف بعد تفصيلِ الكلام فيهما، فيقول: «والخُلاصة أنه بعد موت النبي ظَهرَت موجتان قويتان تهتم الأولى بالكفر والإيمان، والثانية تتجه نحو الإمامة …»

ولستُ أدري ما الذي يُبرِّر للفيلسوف أن يحتضن الحديث في الكفر والإيمان والإمامة فيجعلها فلسفة؟!

•••

وفي الكتاب جزءٌ ثالثٌ عن الفلسفة الحديثة، وكنتُ أريد أن أَعرِضَ لبعضِ ما جاء في الجزأين الثاني والثالث من آراءٍ بعد أن أتخلَّى عن شخصية المهندس المستعارة وأعود إلى نفسي، لكني آثرتُ أن أختم كلمتي بصَيحةٍ أَبعثُها من أعمقِ أعماقِ نفسي إلى كل من يشتغلون بالفلسفة — وأنا واحدٌ منهم — فإما أن تكون لنا مادةٌ محدودة القَسَمات معروفة الملامح، وإما أن نُصارِح العالم بأننا فئةٌ من الناس لا خير فيها، تعيش كَلًّا على غيرها؛ حرامٌ أن تضيع الأعمار في كلامٍ يستحيل بطبعه أن يُؤدِّيَ إلى معرفةٍ صحيحةٍ بالعالم الذي نعيش فيه.

إنني أُومن إيمانا قويًّا بأن كل عبارةٍ يقولها قائل، زاعمًا أنه يُريد بها أن يصف جانبًا من جوانب العالم، وكل سؤالٍ يُلقيه إنسانٌ على نفسه أو على غيره، يُريد الجواب عنه جوابًا يُفيدُه شيئًا، هو من عمل العالم واختصاصه. إن التفكير المُنتِج كائنًا ما كان میدانُه الذي يتحرك فيه، يتحتَّم عليه حتمًا لا مفَر منه أن يَتبعَ مناهج العلماء في بحثهم، وأن يَتعرَّض لطرائقِ العلماء في التحقيق والإثبات. إن أُضحوكة الأضاحيكِ في هذا العالم أن يجلسَ إنسانٌ على كُرسيهِ ويُرسلَ القول إرسالًا في الحديث عن الطبيعة أو عن الإنسان، فإذا ما طُولِبَ بالأدلة «المادية المحسوسة» اعتذَر عن ذلك بأنه فيلسوف!

للفلسفةِ مجالٌ واحدٌ ليس لها سواه، وهو تحليلُ الألفاظِ والعباراتِ تحليلًا منطقيًّا، لتُميِّز ما يُمكِن قَبولُه من أصنافِ القول وما لا يُمكِن. وإن سقراط ليَضرِب لنا أروعَ مثالٍ لما ينبغي أن يصنعه الفيلسوف.

سنقول: ماذا نَصنَع بهذه الأكداس من الفلسفة، التي تضَع لنا مذاهبَ وآراءً في هذا وفي ذاك؟ وسأُجيب بما أجاب به «هيوم» غير هيَّابٍ ولا وَجِل: ألقُوا بها في النار!

(تمَّتْ والحمد لله.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤