النقد الأدبي بين الذوق والعقل

١

من أمتَعِ المطالعة كتابٌ تُطالِعه لكاتبٍ بينك وبينه ما بين الصديقَين من وُدٍّ وإخاء؛ عندئذٍ تمثُل حركاتُه أمام ناظرَيك، ونبراتُه في مسمعَيك، فلا يكاد يُخيَّل إليكَ أنكَ فيما تُطالِع إزاء كتابٍ منشور، بل يَتمثَّل لك الصديق الكاتب مُسامرًا مُتحدثًا، هادئًا حينًا غاضبًا حينًا، وخصوصًا إن كان هذا الصديق الكاتب مُتحمِّسًا لموضوعه، يكاد القلم يرتعش في يده من حرارة تحمُّسِه، ويقذف أمام قارئه بالرأي متحديًا حينًا بعد حين، كأنما يقول له وعيناه حادَّتان وشفتاه مزمومتان: هذا رأيي أزعمه لك بعد درسٍ طويلٍ عميق، فماذا أنت قائل؟!

ذلك هو موقفي من كتاب «النقد المنهجي عند العرب» لصديقنا الكاتب الأديب الدكتور محمد مندور، وهو كتابٌ يتتبَّع فيه مؤلفه الفاضل حركة النقد الأدبي كما تتمثَّل في أعلامها من تاريخ الأدب العربي، فاتخذ «مركزًا لهذا البحث الناقدَين الكبيرَين أبا القاسم الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي، صاحب كتاب «الموازنة بين الطائيين»، والقاضي أبا الحسن علي بن عبد العزيز بن الحسن بن علي بن إسماعيل الجرجاني، صاحب كتاب «الوساطة بين المتنبي وخصومه»، ولكنَّنا مع ذلك تتبَّعْنا موضوع بحثنا منذ أوَّلِ كتابٍ وصل إلينا في النقد وتاريخ الأدب وهو كتابُ «طبقات الشعراء» الذي كتَبه ابنُ سلامٍ الجمحي في القرن الثالث الهجري، كما تتبَّعْناه إلى أن تَحوَّل النقد إلى بلاغةٍ على يدَي أبي هلال العسكري مُؤلِّف «سر الصناعتَين» في القرن الخامس، بل وانحدَرنا به قرنَين آخرَين حتى لاقينا ابن الأثير في «المثل السائر».»

ثم يقول المؤلف الفاضل: «وفي خلال هذه الرحلة الطويلة عَرضَ لنا الكثيرُ من أمهات المسائل التي لم يكن بُدٌّ من إيضاحها لكي نَتبيَّن معالمَ الطريقِ ونُدرِكَ تسَلسُل علوم اللغة العربية المختلفة وتاريخ نشأتها كالبلاغة والبديع والمعاني والبيان، كما عَرضَت جملةٌ من النظريات العامة في الأدب، فضلًا عن عددٍ كبير من المناقشات الموضعية في النقد التطبيقي فتناوَلْنا كل ذلك بالغربلة والتمحيص.»

هذا مجمل البحث كما وصفه المؤلف في «تقديم» الكتاب، وقد استغرق الكتاب ثلاثمائة وثلاثًا وأربعين صفحة من القطع الكبير، قسَّم فيها الكاتب موضوعَه جزأين، أما أكبرهما فجزءٌ يتعقَّب تاريخ النقد من ابن سلام إلى ابن الأثير، وأما أصغرهما فيتناول بالبحث موضوعاتِ النقد ومقاييسَه. ويقع أكبر الجزأين في سبعة فصول، فيُحدثُك المؤلف في الفصل الأول عن النقد الأدبي عند ابن سلام وابن قتيبة، وفي الفصل الثاني عن نشأة النقد المنهجي عند ابن المعتز وقدامة، وفي الفصل الثالث يُحدِّثُك الكاتب الأديب في براعةٍ تستوقف النظر عن الآمدي في مُوازنَته بين أبي تمام والبحتري، كما يُحدِّث في الخامس والسادس عن القاضي الجرجاني ونقده المنهجي حول المتنبي، ثم يذكر لك في الفصل السابع كيف تحوَّل النقد إلى بلاغة على يدي أبي هلال العسكري.

وأما أصغر الجزأين فيقع في ثلاثة فصول: في الأول بحث حول الموازنة بين الشعراء، وفي الثاني حديثٌ عن السرقات الأدبية، وفي الثالث عرضٌ لمقاييس النقد الأدبي.

•••

كِدتُ لا أقرأ صفحةً من هذا كله دون أن أجد موضعًا أُعجب فيه بكاتبنا الأديب، أو موضعًا أجادله فيه الرأي؛ فهو يُرغِمُك إرغامًا على الإعجاب به في مئات المواضع من كتابه، تارةً بسداد فكرته، وطورًا بجودة عرضه لفكرة سواه.

وعندي أن أظهر ما ظَهرَت فيه براعة المؤلف الفاضل هو عرضه لمذهب الآمدي في النقد الأدبي وفي طريقةِ دفاعه عنه، يقول: «إننا نستطيع أن نستخلص من أقواله روحه في الدراسة، فهي روحٌ ناضجة، روحٌ منهجيةٌ حذرةٌ يقظة، وهو يتناول الخصومة كرجلٍ بعيدٍ عنها يُريد أن يَجمَع عناصرها ويعرضها ويدرُسَها، فإن حَكَم قَصَر حُكمَه على الجزئيات التي ينظر فيها؛ فقد يكون البحتري أشعر في بابٍ من أبواب الشعر أو معنًى من معانيه، وقد يكون أبو تمام أشعر من ناحيةٍ أخرى. وأما إطلاقُ الحكم وتفضيل أحدهما على الآخر جُملةً فهذا ما يرفُضُه الآمدي» (ص٧٧)، ثم انظر كيف يُلخِّص استعراضُ الآمدي للمُحاجَّة التي أدارها حول المُفاضَلة بين أبي تمام والبحتري، تلخيصًا لا يستطيعه إلا رجلٌ يستوعب ما يقرأ استيعابًا يجعله جزءًا منه، يقول في صفحة ٢٩٩ وما بعدها:
يبدأ فيُقرِّر أن أصحاب البحتري هم الميَّالون إلى الشعر المطبوع المتمسكون بعمود الشعر، بينما أصحاب أبي تمام هم أهل الصنعة وتوليد المعاني، وأما عن نفسه فهو يرفُض أن يُفضِّل أحدهما على الآخر تفضيلًا مطلقًا، وبفراغه من وصف طرفَي الخصومة يُورد مناظرتَهم في إحدى عشرة نقطة نُلخِّصها قبل أن نأخذَ في مناقشتها، والذي يبدأ المناظرة هو صاحب أبي تمامٍ يُورِد الحجة وصاحب البحتري يرُدُّ عليها:
  • (١)

    البحتري أخذ عن أبي تمام وتَتلمذَ له، ومن معانيه استقى، حتى قيل الطائي الأصغر والطائي الأكبر؛ واعترف البحتري نفسه بأن جيِّد أبي تمام خيرٌ من جيِّده، على كثرة جيِّد أبي تمام.

    - يَرُدُّ صاحب البحتري بإيراد بَدْء تعارُفِهما، ويظهر أن البحتري كان إذ ذاك يقول الشعر الجيد، وإذن فهو لم ينتظر حتى يُعلِّمه أبو تمام صناعة الشعر؛ وإذا كان البحتري قد استعار بعض معاني أبي تمام فهذا غير مُنكَر لقرب بلدَيهما وكثرةِ ما كان يطرقُ سمعَ البحتري من شعر أبي تمام، ولهذا نظائره؛ فكُثيرُ أخذ عن جميل، ثم إن استواء شعر البحتري مَزيةٌ يفضل بها أبا تمام الذي تفاوَتَ شعرُه تفاوُتًا يقدح في صحةِ طبعه، وتفضيل البحتري لجيِّد أبي تمام على جيِّده هو، ليس إلا تواضعًا يُحمَد عليه لا حُجةً تُساق ضده.

  • (٢)

    إن أبا تمام رأسُ مذهبٍ عُرف به، وهذه فضيلةٌ عَرِيَ عن مثلها البحتري.

    - لم يخترع أبو تمامٍ شيئًا، وإنما أَسرفَ فيما سَبقَ إليه من أوجه البديع، ورأس المذهب ليس أبا تمام بل مسلم بن الوليد، الذي قِيل عنه إنه «أوَّلُ من أفسَدَ الشعر …»

وهكذا يأخُذ الدكتور مندور في تلخيص هذه المُحاجَّة تلخيصًا حيًّا واضحًا حتى نهايتها.

قلتُ إن إعجابكَ بالمؤلِّف الفاضل يكون تارةً لحسن عرضِه لفكرة غيره، ويكون طورًا لصوابِ رأيه وما يُبديه من سلامةِ ذوقٍ وحُسنِ تذوُّق، فانظر مثلًا كيف يُوضِّح لك الكاتبُ الأديبُ في صفحة «٥» فكرته بأن التاريخ الأدبي شيءٌ يختلف كل الاختلاف عن النقد الأدبي، فيسُوق لك هذا المثل: «يدرُس النقد رثاء المهلهل لأخيه كليب والخنساء لصخر وابن الرومي لابنه والمتنبي لأخت سيف الدولة، كلًّا منهم منفردًا ثم يأتي تاريخ الأدب فيُؤرِّخ للمراثي عند العرب فيكون عمله تأريخًا لفنٍّ أدبي. ويدرُس النقدُ غزلَ جميلٍ وكُثيِّر أو غزلَ العرجي وعمر ابن أبي ربيعة، ويأتي التاريخ الأدبي فيُؤرِّخ للنسيب العذري أو لغزل اللذة الحسية، ويكون عملُه تأريخًا لتيارٍ فني أخلاقي. وأخيرًا يدرُس النقد شِعر مسلم بن الوليد وشِعر أبي تمام أو شِعر الحطيئة وشِعر زهير، ثم يأتي التاريخ الأدبي فيُؤرِّخ لتذوُّق الصناعة في الشعر أو تذوُّق الخيال الحسي، ويكون عمله تأريخًا لعصر من عصور الذوق المختلفة.»

أو انظر إلى هذه الموازناتِ الكثيرة التي يُبدِي فيها كاتبنا الأديب رأيَه فيدُلُّ على ذوقٍ أدبي ممتاز، نسُوق لك منها هذا المثَلَ الذي يذكُره في صفحة «٦٦» مُوازِنًا بين بيت امرئ القيس:

كأن قلوبَ الطير رطبًا ويابسًا
لدى وَكْرِها العنَّابُ والحشَفُ البالي

وبيت بشار:

كأن مُثار النقع فوق رءوسنا
وأسيافَنا ليلٌ تهاوَى كواكبُه

(ووجه المقارنة بين البيتَين هو أنهما يُشبِّهان شيئَين بشيئَين) فيقول الدكتور مندور: «لننظر في تشبيه امرئ القيس وتشبيه بشار لنرى كيف أن امرأ القيس لم يذهب بعيدًا، وإنما طلب إلى حَواسِّه المألوفة وإلى حياته الراهنة أن تأتيه بهذا الصادقِ القريب، تشبيه قلوب الطير التي افترسَتْها العقاب بالعنَّاب والحشَف البالي، العنَّاب للقلوب الرطبة والحشَف للجافة، ثم ننظر في تشبيه بشار التمثيلي كما يقولون، فنراه يُشبِّه النقعَ وقد انعقَد فوق الرءوس والسيوف تَضرِب، بالليل تتهاوى كواكبُه، وبشَّار لم يَرَ الليل تتهاوى كواكبُه ولا رآه حتى المبصرون، فهو تشبيهٌ بعيد ليست له في النفس صورةٌ ما؛ ونحن لا نكاد نتصوَّر ليلًا تسقُط نجومه فيُشبِه ذلك معركةً ترتفع فيها السيوف ثم تسقُط مُبرِقةً وسط النقع المثار. ولا كذلك تشبيه امرئ القيس.»

ولا ينفك أديبنا الفاضل ينثر أحكامه الأدبية الصادقةَ نثرًا في أرجاء كتابه، وحَسْبنا من ذلك مثلان، فهو يذكُر رأيَ ابنِ سلام القائل بأن المفاضلة بين الشعراء تكونُ على أساس كثرة الإنتاج، ثم يُعقِّب على ذلك برأيه قائلًا: «في ظننا أنه من الواضح أن الكَمَّ ليس مقياسًا صحيحًا لقيم الشعراء» (ص١١).

ويَعرِض للمذاهب الأدبية التي تسُود هذا العصر أو ذاك فتَتحكَّم في الأُدباء بقواعدها وأوضاعها، لكنه يُسارِع عندئذٍ إلى إثبات رأيه الصائب، فيقول: «… وعندما تقومُ في الشعر مذاهبُ نظريةٌ نرى دائمًا أنها لا تطغى إلا على الشعراء الغير الموهوبين (وكان الصواب أن يقول غير الموهوبين إذ لا تجوز أداة التعريف مع كلمة غير لأن غير نكرةٌ بطبيعة معناها) فهي — أي المذاهب النظرية — «عكاز الأعمى» وأما الشاعر الأصيل فإن المذهب لا يمكن أن يكون عنده إلا مجرد اتجاهٍ عام، فالرومانتيكية أو الكلاسيكية مثلًا غير موجودتَين بمبادئهما المحكَمة إلا عند الضعفاء من الشعراء والأدباء، وأما كبارهم فقد صدر كلٌّ منهم عن طبعه هو ولم يكن للمذهب تأثيرٌ عليه إلا في التوجيه العام؛ لهذا نجد الكلاسيكية الشكلية عند براون أكثر مما نجدها عند راسين، وكذلك الأمر في الرومانتيكية فهي أوضحُ — كمذهب — عند بريزيه مثلًا منها عند موسيه» (ص٤١).

•••

ولو مضيتُ في ذكر المواضع التي استثارت إعجابي في هذا الكتاب، لما بلغتُ النهاية في حيِّزٍ قليل، ولا بُد لي الآن أن أُجادِلَه بعضَ رأيه.

وأوَّلُ ما أجادله فيه هو هذا الرأي الذي أُشفقُ منه على أوساط القراء أن يضلوا به ضلالًا بعيدًا، هذا الرأي الذي يجعل ﻟ «الذوق» الشخصي الكلمة العليا في نقد الفنون؛ إننا يا سيدي الدكتور نعيش في بلدٍ لا تضبطه القواعد ولا تُلجِمه القوانين، وما أكثرَ ما يُصادفُكَ الفتى لم يكد يشبُّ عن طوقه، فيَتغنَّى لك بشعر زميله في حجرة الدراسة، زاعمًا لك أنه من غُر القصيد، فإذا ما أردتَ تأديبَه فطالبتَه بالدليل أجابكَ أنه يَطرَب له وكفاه ذلك دليلًا، ولستُ أذكر في هذا السياق عشراتٍ من أساتذة الأدب عندنا تأدُّبًا، فماذا لو طلع عليهم أديبٌ نقادةٌ مثل الدكتور محمد مندور برأيٍ كهذا قد يتسرعون في فهمه فيساعدهم على فَوْضاهم في الأدب والنقد؟ وأقول: «يتسرعون في فهمه.» لأني أُلاحظ أن أديبنا الفاضل قد تحفَّظ بعض الشيء، فاشترط أن يستند الذوق إلى أسباب (ص ب في التقديم)، ثم عاد فأكَّد لقارئه أن «النقد المنهجي لا يكون إلا لرجلٍ نما تفكيره فاستطاع أن يُخضِع ذَوْقه لنظَر العقل» (ص٧).

لكني أصارح أديبنا بأنني لا أكاد أفهم عنه حين يشترط للذوق «أسبابًا»، ولا حين يطالبنا بإخضاع الذوق ﻟ «نظر العقل»، «الأسباب» و«النظر العقلي» لا يكونان إلا في التحليل الموضوعي. فأنت يا سيدي بين أمرَين؛ إما أن يكون الحكم للذوق، وإما أن يكون للعقل بنظره وأسبابه، فأيهما تختار؟ إما أن تَحتفِظَ لنفسِكَ بهما معًا فذلكَ منكَ بمثابة النظر إلى الجنة بعين وإلى النار بعين كما يقولون. نعم، من حقِّكَ أن تُطالِب الناقدَ بذوقٍ أنتجه طولُ النظر في روائع الفن فَتضمَن له شيئًا من سلامته وحسنه، دون أن تقع في تناقُض القول؛ وذلك ما أخذ به الآمدي نفسه؛ وما ظَفِر منكَ بالتأييد حين عقَّبتَ على قوله بقولك: «ومن الواضح أنه في هذه الفقرة يُريد أن يُقرِّر الحقيقة الثابتة من أن النقد مَلَكةٌ مستقلة لا بُد من أن تُدرَّب على تلك الصناعة …» (ص٩٣)، بل ذلك هو ما أَثبتَّه أنت في مُستهَل كتابكَ حين قُلتَ في الصفحة الأولى منه: «أساسُ كل نقد هو الذوق الشخصي تَدعَمه مَلَكة تحصُل في النفس بطول ممارسة الآثار الأدبية.»

على أننا إذا سلَّمنا بخُلو هذا القول من التناقُض، فلسنا نُسلِّم بصوابه، ونعجب غاية العجب أن يُقال للناقد: «تذوَّق الأدب تذوُّقكَ الطعام والشراب، ثم اكتب!» ماذا تكتب يا سيدي في تفضيل الكمَّثْرى أو البرتقال، إذا أقمت المفاضلة على أساس الذوقِ وحده؟!

كلا، لسنا نرى هذا الرأي، و«نُصِرُّ» على أن يقوم النقد على تدليلٍ عقلي، نُصِرُّ على أن يكون النقد «علمًا»، ولا نُوافِق الدكتور مندور في رأيه الذي أثبته في صفحة (٢): «والنقد ليس علمًا ولا يمكن أن يكون عِلمًا، وإن وجب أن نأخذ فيه بروح العلم.» فها هنا كذلك ينظُر إلى الجنة بعينٍ وإلى النار بعين؛ فلستُ أدري يا سيدي ما العلم وما روحه؟!

تعريفُ العلم هو منهج البحث، ولستُ أعلم للعلم تعريفًا غير هذا، فلتكُن مادَّتُكَ ما شئتَ لها أن تكون، لتكن أفلاك السماء أو أحجار الأرض، لتكن ماءً أو هواء، لتكن ذهبًا أو نحاسًا، لتكن أدبًا أو تاريخًا، ﻓ «هي علم» إذا اصطنعتَ في بحثها «منهجًا»؛ ليس العلم «حقائق» بعينها، بل هو «ترتيبٌ منهجي» لما شئتَ من حقائق، فإذا عَلِمنا أن الدكتور مندور تحمَّل عناء كتابه ليبين للناس قواعد «النقد المنهجي» عَلِمنا كذلك أنه أراد للنقد أن يكون علمًا — رضي أو كره — ولو جعلنا النقد منهجيًّا يا سيدي الدكتور — كما أردتَ له أنت أن يكون — إذن لجعلناه علمًا، وإذن لصَدَدْنا عنه رجالًا أدعياءَ يستَخِفُّون حملَه وإن حملَه لثقيل.

وإنه لتُعجبُني في هذا الصدد عبارةٌ ساقها الأستاذ المؤلف نقلًا عن لنسون (ص٦) تأييدًا لرأيه، والواقع أنها أقربُ إلى تأييد الرأي الذي أدعو إليه، في ختام العبارة المذكورة يُطالبنا لنسون بعدم الخلط بين المعرفة والإحساس، وهو في ذلك مصيب؛ فلنا أن نتذوَّق القطعة الأدبية، لكن هذا التذوُّق لا يكون معرفة؛ وبالتالي لا يجعل الناقد ناقدًا، وإنما تبدأ عملية النقد الفني بعد أن تنتهي مرحلة التذوُّق، فالتذوق يأتي أولًا، ثم يعقبُه تحليل — إذا أمكن — للعناصر الموضوعية التي أثارت هذا التذوُّق، وهذا التحليل الموضوعي هو المعرفة، وهو النقد بأدقِّ معناه، ولو وقفتَ عند مرحلة الذوق لما نطقتَ بكلمةٍ واحدة، بل لما كنتَ شيئًا على الإطلاق بالنسبة إلى سواك، وماذا عسى أن يقول لغيره المستدفئ بضوء الشمس في برد الشتاء؟!

وننتقل بعد ذلك إلى نقطةٍ أخرى أريد أن أُجادل فيها الكاتب أعنف الجدل، وهي هذا الرأي العجيب الذي يقوله في مواضعَ كثيرة وبصورٍ مختلفة، من أن «الشعر لا يحتاج إلى معرفةٍ كبيرة بالحياة ونظرٍ فيها، بل ربما كان الجهل بها أكثر مواتاةً له، وكثيرًا ما يكون أجوده أشده سذاجة» (ص٧)، وهو يُكرِّر مثل هذا الرأي في صفحة ٢٢ وفي صفحة ٩٦. أيَّة حياةٍ تريدُ يا سيدي، هذه التي لا يحتاج الشعر إلى معرفةٍ كبيرة بها؟ ما دمتَ لم تَعمِد إلى تحديد، فأنت بالطبع إنما تريد الكلمة على إطلاقها؛ فليس — في رأيك — بالشاعر حاجة إلى معرفة حياة أحدٍ من الناس ولا إلى معرفةٍ بأحاسيسه هو وخواطره؛ لأن هذه الأحاسيس وهذه الخواطر هي الجزء الأكبر من حياته، بل ليس بالشاعر حاجة إلى معرفة الحيوان والنبات من حيث هي أحياء، وسواءٌ لديه أكانت هذه حية أو جامدة، فماذا تريده أن يكتب إذن؟ وبماذا تريده أن يتَغنَّى؟ ثم ماذا تعني ﺑ «السذاجة» التي هي في الشعر علامةٌ على أجود الشعر؟ لو كنت تريدُ بها تعبيرًا عن عواطف الحياة الريفية أو البدائية، فنحن نوافقُك، لكنا نُذكِّركَ بما لا بد أنت عالم به، وهو أن الحياة الريفية حياة، والحياة البدائية حياة كذلك. أتعلَمُ يا سيدي أن الشاعر الإنجليزي وردزورث لم يصدُق في شعره «الساذج» إلا عن اطلاعٍ واسع أغرى بعض المؤرخين أن يقول عنه إنه أوسع الناس اطلاعًا في عصره؟ وها هنا أيضًا أُشفِق مرةً أخرى على أوساط القُراء في بلدنا من مثل هذا الرأي؛ فمعظم «شعرائنا» إنما يلتمسون قَرضَ «الشعر» لخلاء رءوسهم، فماذا لو طلع عليهم أديبٌ نقَّادة مثل الدكتور محمد مندور فأوصاهم بالزيادة فيما هم فيه من جهل وخلاء؟

٢

ردُّ الدكتور محمد مندور

تَفضَّل الدكتور زكي نجيب محمود بأن خصَّ كتابي «النقد المنهجي عند العرب» بمقالٍ ضافٍ عميق.

لقد أوضح الدكتور في مقاله موضوع الكتاب، وعَرضَ لطائفةٍ كبيرة من المسائل التي استوقفَت نظره، بل تكرَّم فقال في أكثرَ من موضعٍ إنها قد أثارت إعجابه، إما للفكرة التي تحتويها أو للروح التي ترقُد تحتها أو للقدرة على صياغتها في لفظٍ واضح مُركَّز.

على أن هذه الروح الكريمة التي أملت على الكاتب تقريظَه، لم تمنعه — كما يقتضي الواجب وكما تقتضي الرسالة الجامعية التي ينهض بها في تنشئة الأجيال الصاعدة — نعم لم تمنعه هذه الروح الكريمة، ولا مَنعَتْه صداقتُه للمؤلِّف من أن يتناول بالمناقشة الصارمة مسألتَين تُعتبَران من أمهات المسائل التي عالجناها في كتابنا. وهاتان المسألتان هما:
  • (١)

    طبيعة النقد الأدبي ومنهجه ووجوب اعتماده على الذوق أو نهوضه كعلمٍ موضوعي.

  • (٢)

    الشعر وطبيعته ومَلَكة إنتاجه من حيث حاجته إلى معرفةٍ عميقةٍ بالحياة أو استغناؤه عن تلك المعرفة.

ولمَّا كانت هاتان المسألتان أمرهما قديم، وكانت قد قامت بيننا وبين عددٍ من الأدباء وأساتذة الأدب منذ سنواتٍ مناقشاتٌ حادَّة حولهما، ولمَّا كنا قد أحسسنا بأن العناصر المُكوِّنة لهما لا تزال مختلطةً غير واضحة، فقد رأينا أن نعود إليهما وبخاصة وأنهما يدخُلان في صميم الأدب ونقده وتوجيهه، ونحن الآن في مرحلةٍ من تاريخ الحياة العقلية في مصر لا يمكن إلا أن تُفيدَ من مثل تلك المناقشات التي قد تنقدح منها شرارةُ الصواب.

•••

يقول الدكتور زكي نجيب محمود: إن ما نقول به من أن الذوق هو أساس النقد الأدبي فيه خَطرٌ بالغ على الشبان الدارسين للأدب أو المتعلقين به؛ وذلك لأنه يمُد لهم في حبل الغرور، ويُطلِق لأهوائهم العِنان، ويُعفيهم من ضرورة الحذر في الأحكام وتحصيل المعرفة وقراءة عيون المؤلفات … إلخ، قبل أن يتخذوا من أنفسهم فَيْصلًا للحكم على الأدب والأدباء.

ونحن مع اعترافنا بصدق هذه الحقيقة التي لمسناها أحيانًا كثيرة في قاعات التدريس بالجامعة، بل وفي الكتب والمجلات، نعم إننا مع تسليمنا بهذه الحقيقة لا نظُن أن كتابنا عن «النقد المنهجي عند العرب» يمكن أن يدفع على أيِّ نحوٍ في هذا الاتجاه؛ وذلك لأن الذوق الذي ندعو إليه كما لاحظ الكاتب نفسه أبعدُ ما يكون عن نزوات الغرور التي يخشاها عند الشباب.

لقد حدَّدنا نحن أنفسنا لهذا الذوق مجال عمله وأوضحنا مُقوِّماته فقلنا إن الذوق الذي يُعتَد به هو الذوق المُدرَّب المصقول بطول الممارسة لقراءة النصوص الأدبية وفهمها وتحليلها، ثم أضفنا أنه لا يكفي أن يكون هذا الذوق مُدرَّبًا، بل يجب أن تُبرِّره نظرات العقل القائمة على التفكير السليم والمعرفة الدقيقة، وذلك حتى يصبح الذوق وسيلةً مشروعة من وسائل المعرفة التي تَصِحُّ لدى الغير.

وأما أنَّ الذوقَ في ذاته هو أساسُ كل نقدٍ أدبيٍّ صحيح فتلك حقيقةٌ واقعة، بل هي ضرورةٌ إنسانية. ولمَّا كان إنكار الواقع لا يمحوه، وكانت مقاومة الضرورات الإنسانية لا تُجدي فتيلًا، فإنه من الخير للأدب وناقديه أن نُسلِّم بعِظَم الدور الذي يلعبه هذا الذوق في نشاطنا الأدبي.

ولأكبرِ نُقَّاد فرنسا في العصر الحاضر الأستاذ لانسون مقالٌ عن المنهج في الأدب ترجمناه إلى اللغة العربية ونشرته دار العلم للملايين ببيروت في كتابٍ صغير بعنوان «منهج البحث في الأدب واللغة» وقد ضَمَّ هذا الكتابُ بين دفَّتَيه مقالَ الأستاذ لانسون المشار إليه، ثم مقالًا آخر للعالم العالمي المشهور الأستاذ مييه عن منهج البحث في اللغة، وكمْ كنتُ أوَدُّ لو اطلع الدكتور زكي على بضعِ صفحاتٍ من مقال الأستاذ لانسون عالج فيها المشكلة التي نتعرض لها اليوم، فأوضَحَ من معالمها وألقى عليها من الضوء ما كان خليقًا بأن يُغني الدكتور زكي عن كثيرٍ من الشكوك والمخاوف التي تُساوِره عن النقد والعلم.

وفي الحق أن الدكتور زكي قد أخذ الحقائق الأدبية والفلسفية، بل والحقائق الإنسانية العامة على نحوٍ مُسرفٍ في التبسيط. وآية ذلك أنه بالرغم من القيود والتحفُّظات التي وضعناها للذوق عندما يعمل في الأدب، نعم بالرغم من كافَّة تلك القيود والتحفُّظات، عاد الدكتور الفاضل إلى مناقشةٍ في الأُسس لا نراها تستند إلى شيءٍ ثابت من الحقائق المعقَّدة التي يزخر بها الأدب من جهة والحياة الإنسانية من جهةٍ أخرى.

عاد الدكتور الفاضل فتساءلَ عن كيفيةِ تعليلِ الذوق بأسبابِ وكيفيةِ إخضاعه لنظر العقل ورأى تناقُضًا في الجمع بينهما.

ومع ذلك فإننا نُحب أن يتدبَّر دكتورنا الفِقراتِ الآتية من منهج الأستاذ لانسون.

قال ذلك الناقد العظيم: «إذا كان النص الأدبي يختلف عن الوثيقة التاريخية بما يثير لدينا من استجاباتٍ فنية وعاطفية، فإنه يكون من الغرابة والتناقُض أن ندُل على هذا الفارق في تعريف الأدب، ثم لا نحسب له حسابًا في المنهج. لن نعرف قطُّ نبيذًا بتحليله تحليلًا كيمياويًّا أو بتقرير الخبراء دون أن نذوقَه بأنفسنا، وكذلك الأمر في الأدب؛ فلا يمكن أن يحل شيءٌ محل «التذوق». وإذا كان من النافع لمؤرخ الفن أن يقف أمام لوحاتٍ زيتية مثل «يوم الحساب» أو «حلقة الليل» وإذا لم يكن ثَمَّةَ وصفٌ في قائمة مُتحفٍ أو تحليلٍ فني يستطيع أن يحل محلَّ إحساس العين، فكذلك نحن لا نستطيع أن نتطلَّع إلى تعريفٍ أو تقديرٍ لصفات مؤلفٍ أدبيٍّ أو قوته ما لم نُعرِّض أنفسنا أولًا لتأثيره تعريضًا مباشرًا، تعريضًا ساذجًا.»

ثم يضيف: «وإذا كانت أُولى قواعد المنهج العلمي هي إخضاع نفوسنا لموضوع دراستنا لكي نُنظِّم وسائل المعرفة وَفقًا لطبيعة الشيء الذي نُريد معرفته، فإننا نكون أكثر تمشيًا مع الروح العلمية بإقرارنا بوجود التأثُّرية في دراستنا وتنظيم الدَّور الذي تلعبه فيها؛ وذلك لأنه لمَّا كان إنكار الحقيقة الواقعة لا يمحوها، فإن هذا العنصر الشخصي الذي نُحاوِل تنحيته سيتسلَّل في خُبثٍ إلى أعمالنا ويعمل غير خاضعٍ لقاعدة. وما دامت التأثُّرية هي «المنهج الوحيد» الذي يُمكِّننا من الإحساس بقوة المؤلَّفات وجمالها فلنستخدمه في ذلك صراحة، ولكن لنقصره على ذلك في عزمٍ ولنعرف مع احتفاظنا كيف نُميِّزه ونُقدِّره ونُراجعه ونحدُّه، وهذه هي الشروط الأربعة لاستخدامه. ومرجعُ الكل هو عدم الخلط بين المعرفة والإحساس واصطناع الحذر حتى يصبح الإحساس وسيلةً مشروعة للمعرفة.»

وإذن فأولى عمليات النقد هي التذوُّق، والتأثُّرية هي المنهج الوحيد الذي يُمكِّننا من الإحساس بقوة المؤلَّفات وجمالها، والقولُ بغير ذلك لا نظُنه يستقيم في بداهة العقول.

وأما أنَّ الذوق يجب بعد ذلك إخضاعه لنظر العقل من جهة وتعليله من جهةٍ أخرى، فذلك ما لا تناقُض فيه، وها هو ناقدنا العظيم لانسون يطالب بأن «نُميِّز» و«نُقدِّر» و«نُراجِع» و«نحدُّ» الذوق حتى يصبح وسيلةً مشروعة للمعرفة. وما نخال دكتورنا الفيلسوف زكي نجيب محمود إلا مُقرًّا بأن هذه العمليات من اختصاص العقل، مما يقطع بأننا لا نتناقَض عندما ندعو إلى إخضاع الذوق ﻟ «نظر العقل».

والواقع أننا عندما نقرأ نصًّا أدبيًّا «لا تكون استجابتنا الفنية في العادة تامَّة النقاء؛ إذ إن ما نُسمِّيه ذوقًا ليس إلا مزيجًا من المشاعر والعادات والأهواء التي تُساهِم فيها كل عناصر شخصيتنا المعنوية بشيء، ومن ثم يدخُل في تأثراتنا الأدبية شيء من أخلاقنا ومعتقداتنا وشهواتنا.»

وإذن فالمجال واسعٌ لإخضاع الذوق لنظر العقل؛ وذلك لأن الذوق — كما يقول لانسون — لا يقوم على الحاسة الفنية فحسب، بل تُداخِله كل تلك العناصر النفسية والأخلاقية والاجتماعية التي يشير إليها في الفِقرة السابقة.

وإذا لم يكن هناك تناقُض بين إعمال الذوق في الأدب وإخضاعه لنظر العقل، فكمْ يرتفع من بابِ أَوْلى ذلك التناقُض العجيب الذي زعمه الدكتور زكي بين الذوق وتعليله! أظُن أن الأمر لا يحتاج إلى جدل؛ فباستطاعة كلٍّ منا — بحسب قدرته على الاستبطان واتساع أو ضيق أفقه ومعرفته — أن يذكُر أسباب إعجابه بهذا البيت من الشعر أو ذاك دون أن يكون هناك تناقُضٌ بين الإعجاب وأسبابه، وإذا بقي بعد ذلك شيء — ولا بد أن يبقى ذلك الشيء — لا يمكن تعليله فهذا هو سرُّ العبقرية عند الشاعر، وهذا هو ما يُعبِّر عنه لانسون بقوله: «نحن لا نعرف قَطُّ كل العناصر التي تدخُل في تكوين العبقرية، ولا نسبة كل عنصرٍ في المركَّب، كما لا نستطيع أن نتنبأ بالناتج الذي سيصدُر عن ذلك التركيب.» وما عَبَّر عنه أيضًا من قبلُ إسحق الموصلي بقوله: «إن من الأشياء أشياءً تحيط بها المعرفة، ولا تؤديها الصفة.» إذ معنى المعرفة هنا هو «الاستبطان» Intuition و«الصفة» معناها «التعبير بالألفاظ».

وننتقل بعد ذلك إلى ما يراه الدكتور زكي ويُصِر عليه — كما يقول — من وجوبِ قيام النقد كعلمٍ وردِّه لقولنا «إن النقد ليس علمًا ولا يمكن أن يكون علمًا، وإن وجب أن نأخذ فيه بروح العلم.»

لقد تساءل الدكتور الفاضل تعليقًا على جملتنا السابقة تساؤلًا لاذعًا فقال: «لست أدري يا سيدي ما العلم وما روحه؟» ثم سارع فردَّ على تساؤله، فعَّرف العلم بأنه «منهج البحث» مضيفًا قوله: «ولستُ أعلم للعلم تعريفًا غير هذا.» وفي هذا ما يُدهش؛ لأن الدكتور الفيلسوف لا بد قد طالع عدة تعريفاتٍ للعلم، ولست أدري أين طالَع تعريف «العلم» بأنه «منهج البحث» أو «ترتيب منهجي للحقائق» — نعم لست أدري أين طالع هذا «التعريف الوحيد!» وذلك لأن الذي يعرفه الجميع تعريفًا للعلم هو «أنه مجموعة من القوانين التي تُفسِّر الظواهر الطبيعية» ووظيفته هي استنباط تلك القوانين — وأما أنَّ للعلم منهجًا ولكل علمٍ خاصٍّ منهجٌ فتلك مسألةٌ لا يعرف بها العلم.

ولقد زادني دهشةً تساؤلُ الدكتور الفيلسوف عن الفرق بين العلم وروحه؛ وذلك لأن هذا الفرق أيضًا من البديهيات.

يقول فردريك رو — الفيلسوف الأخلاقي المعروف — في صدَد العلم والأخذ به في الدراسات الأخلاقية ما يأتي: «الشي الذي يجب أن نأخذه عن العلم، ليس هذه الوسيلة أو تلك … بل روحه … وذلك لأنه يلُوح لنا أن ليس هناك علمٌ عام أو منهجٌ عام، وإنما هناك منحًى علميٌّ عام … لقد خلَط الناس لزمنٍ طويل بين الروح العلمية في ذاتها وبين منهج هذا العلم أو ذاك، بسبب النتائج الدقيقة التي انتهى إليها ذلك المنهج، وبذلك أصبحت وحدة العلوم الطبيعية والعلوم الأخلاقية ليست إلا فرضًا أوليًّا Postulate، ومع ذلك فهناك منحًى نفسي نُواجِه به الطبيعة وهو منحًى مشترك بين العلماء.»

ويُفسِّر لانسون هذه العبارات ويُطبِّقها على الأدب ونقده فيقول: «(منحًى نفسي نواجه به الطبيعة) هذا هو ما نستطيع أن نأخذه عن العلماء فننقل إلينا النزوع إلى استطلاع المعرفة والأمانة العقلية القاسية والصبر الدءوب والخضوع للواقع والاستعصاء على التصديق، تصديقنا لأنفسنا وتصديقنا للغير، ثم الحاجة المستمرة إلى النقد والمراجعة والتحقيق.»

وإذن فهناك شيءٌ اسمه «العلم» وهناك شيء اسمه «روح العلم» وروح العلم هي تلك الصفات العقلية والأخلاقية الرفيعة التي عدَّدَها لانسون في الفقرة السابقة.

وأمَّا أن يكون النقد علمًا وأمَّا إصرار الدكتور زكي على ذلك فقد أغناني لانسون أيضًا عن الردِّ عليه عندما قال: «لقد كان تقدُّم علوم الطبيعة خلال القرن التاسع عشر سببًا في محاولة استخدام مناهجها في التاريخ الأدبي غيرَ مرة؛ وذلك أملًا في إكسابه ثبات المعرفة العلمية وتجنيبه ما في تأثُّرات الذوق من تحكُّم وما في الأحكام الاعتقادية من مسلماتٍ غير مؤيَّدة، ولكن التجربة قد حكَمَت بإخفاق تلك المحاولات.» ثم يضرب لذلك أمثلةً بما حاوله نين وبرنتيير في فرنسا.

ويضيف ذلك الناقد العظيم: «استخدام المعادلات العلمية في أعمالنا بعيدٌ عن أن يزيد من قيمتها العلمية. إنه على العكس ينقص منها؛ إذ إن تلك المعادلات ليست في الحقيقة إلا سرابًا باطلًا عندما تُعبِّر في دقةٍ حاسمة عن معارفَ غيرِ دقيقةٍ بطبيعتها؛ ومن ثَمَّ تفسدها … لنحذر الأرقام. الرقم لا يمحو الفَضْفاض والعائم في تأثُّرنا بل يستره … الاصطلاح العلمي عندما ننقلُه عندنا لا يُلقي غير ضوءٍ كاذب، بل قد يحدُث أن يُلقي ظلمة … إلخ إلخ.»

ونحن في الحق لا ندري ماذا يقصد الدكتور زكي بأن يكون النقد «علمًا»، فإذا كان ما يقصد إليه هو قيام النقد على منهجٍ فذلك ما نُقِرُّه عليه، وقد كتبنا كتابنا كله على هذا الأساس. وإذا كان يقصد الأخذ بروح العلم في النقد الأدبي فذلك أيضًا ما نُقِرُّه، بل ندعو إليه. وأما إذا كان يقصد محاولاتِ القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين عندما جاهد رجل كتين مثلًا في أن يُفسِّر الأدب والأدباء بالزمان والجنس والبيئة، ولا يترك لأسرار العبقرية الفردية شيئًا، أو رجل كبرونتيير عندما أخذ يُطبِّق التطوُّر على الأدب وتسَلسُل أنواعه في تكلفٍ سقيم. نعم إذا كان يقصد دكتورنا أمثال تلك المحاولات فذلك ما نأباه ونُصِرُّ فيه على إبائنا هذا؛ لأنه خطأٌ جسيم، ولا فائدة من العودة إلى تجاربَ قطَع الزمنُ بفشلها.

وأمعَنٌ في الخطأ والتكلُّف من كل هذا تلك المحاولاتُ التي نُشاهِدها أحيانًا في مصر بنوعٍ خاص عندما نرى جهودًا تُبذَل لإقحام الفلسفة باصطلاحاتها المعروفة في علم النفس أو علم الاجتماع أو غيرهما على الأدب إقحامًا لا معنى له غير الإفلاس الأدبي والعُقم في الإحساس المباشر وفي الحاسَّة الفنية التي لا يمكن أن يُغني عنها شيءٍ في إدراك المفارقات الدقيقة التي يتميز بها الأدب والأدباء.

٣

ردٌّ على رد

عجيبةٌ هذه المصادفات …

لم أكد أفرغ من كتاب «النقد المنهجي عند العرب» للدكتور محمد مندور، وأسجل رأيي في بعض ما جاء فيه — وهو رأيٌ عارضَه الدكتور مندور — أقول إنني لم أكد أفرغُ من ذلك الكتاب، حتى طالعتُ كتابًا آخر لأديبٍ آخر، ليس بين موضوعه وموضوع الكتاب السابق من أواصر القربى إلا ما يذهب إليه الأديبان من أن النقد الأدبي مردُّه إلى الذوق. وأما هذا الكتاب الجديد الذي أعنيه، فهو «على هامش الأدب والنقد» للكاتب الأديب المُطَّلِع الذوَّاقة الأستاذ علي أدهم.

وكم كنتُ أُحب أن أستعرض هذا الكتاب للقارئ، وأن أُقدِّم له قبساتٍ منه تُظهِره على ما فيه من غزارةِ مادة وجمالِ صورة؛ ففيه خمس وعشرون مقالةً أُضيفت إليها مقدمة، كل مقالةٍ منها — أستغفر الله — بل كل صفحةٍ من صفحاتها، وأستغفر الحق، بل كل فقرةٍ من كل صفحة، تضيف إلى علمك علمًا جديدًا.

نعم، كم كنتُ أحب أن أستعرض هذا الكتاب للقارئ، لولا أني آثرتُ شيئًا آخر لنفسي ولقارئي معًا، وهو أن أُجادل أديبنا الكاتب رأيه في اعتماد النقد الأدبي على الذوق، في كلمةٍ أُوجِّهها كذلك إلى الدكتور مندور وإلى كل من يأخذ بهذا الرأي في أساس النقد. أريد أن أبسُط رأيي في شيء من التفصيل، لأُبيِّن للقارئ ما أذهب إليه وأَدين به، من وجوب اعتماد النقد الأدبي على العقل دون الذوق …

•••

يا ويحَ نفسي من هذه الألفاظ تلُوكُها الأفواه، ويشتد حولها الجدال والقتال، دون أن يتمهل المجادلون المقاتلون لحظةً واحدة يتبيَّنون فيها معاني هذه الألفاظ التي شمَّروا عليها السواعد وأرهفوا الألسنة وشرعوا السيوف! يرحمك الله يا سقراط رحمةً واسعة، إنك لم تطلب إلى الناس إلا هذا المطلب المتواضع، تحديد الألفاظ التي يستخدمونها في أحاديثهم ونقاشهم، ولو قد فعلوا، لاستراحت ضمائرهم، واطمأنَّت أفئدتهم في صدورهم.

إن موضوع الخلاف بيني وبين الأديبَين الكبيرَين هو أنهما يريدان للنقد الأدبي أن يعتمد على الذوق، وأريد أن يعتمد على العقل، بعبارةٍ أخرى، هما يريدان للنقد الأدبي أن يكون فنًّا، وأُريد له أن يكون علمًا. انظر — نشدتك الله — إلى هذه الكلمات التي حشرناها حَشرًا في سطرٍ واحد، ولو تناولنا واحدةً منها بالتحليل والتحديد، لجاز أن نُنفِق أعمارنا دون أن نبلغ المدى! «فن»، «علم»، «ذوق»، «عقل».

ما معاني هذه الكلمات الأربع على وجه التحديد؟ ألا يجوز أن ينحسم الخلاف إذا ما اتضحَت لنا تلك المعاني؟ ذلك ما أنا فاعله الآن، غير زاعم أني أقول الكلمة الأخيرة في شيء، وكلُّ ما أدعيه هو أني حين أقول إنني أريد للنقد الأدبي أن يعتمد على العقل دون الذوق، فإنما أقول ذلك وفي ذهني ما سأُثبته الآن من معانٍ لهذه الألفاظ.

•••

ماذا أفهمه من كلمة «فن»؟

أنا الآن جالس إلى مِنضدةٍ صغيرةٍ أكتُب هذا المقال، فخانت مني التفاتة من نافذةٍ صغيرة إلى يساري، ورأيتُ غرابًا يَرفُّ بجناحَيه، نَعَق نَعقَتَين كان في صوتهما تهدُّج، ثم هبط على غصنٍ من شجرة لا أعرف نوعها، ولعله هبط على مكانٍ من الغصن أوراقه متهافتة، فسقَطت ورقة تأرجحَت في الهواء، وهوت إلى الأرض هُويًّا بطيئًا.

هذه صورةٌ مركبة من جُملة عناصر، نكتفي الآن منها بثلاثة؛ أنا، والغراب، والشجرة (لأنك تستطيع أن تُضيف عشرات العناصر الأخرى مما أراه وأسمعه وأُحِسُّه بجلدي وأُفكِّر فيه في هذه اللحظة عينها).

أما أنا، فبديهي أنني كنت في هذه اللحظة من لحظات حياتي في حالةٍ مُعيَّنة فذَّة فريدة، لم يسبقها قطُّ منذ ولادتي، ولن يلحقَها قَطُّ إلى مماتي لحظةٌ أخرى تطابقها كل التطابق من جميع الوجوه، فلا يعقل أن يتكرر موقفي إذ ذاك بما فيه مما يحيط بي من أشياء وملابس، وما أرى، وما أسمع، وما يدور في نفسي من خواطر، وأقلُّ ما يُقال في هذا الموقف الفريد الفذ، هو أنني كنتُ قبل الآن أصغر مني الآن، وسأكون بعد الآن أكبر مني الآن.

وأمَّا ما رأيته من الغراب فبقعةٌ سوداء، تحركَت حركةً مُعيَّنة ثم سكنت في مكانٍ مُعيَّن، على هيئةٍ معينة، بقعة سوداء! لكن السواد يا صاحبي له ظلالٌ تُعد بالألوف، فأيُّ ظل من هذه الظلال رأيت؟ والبقعة السوداء تحركَت! الحركة كذلك يا صاحبي لها ألوفُ الألوف من الصور، فبأيٍّ منها تحركَت تلك البقعة السوداء؟! ثم سكنَت البقعة السوداء في مكانٍ معين! حتى السكون يا صاحبي صنوفٌ وأشكال، فليس سكون النائم مثل سكون الميت، وليس سكون الصخرة مُلقاةً على سفح الجبل كسكون غُرابك هذا على الفنَن، وقل مثل هذا فيما سمعتُ من الغراب، سمعته ينعق نعقتَين في صوتهما تهدج، كم درجة من الصوت سمعَت أذناك؟ وفي أية درجةٍ من الدرجات أردتُ أن أضع نعيق الغراب؟ الحقُّ أن ما رأيتُ من الغُراب وما سمعتُ مُركَّبٌ فريد من عناصرَ اجتمعَت على نحوٍ يستحيل أن يكون له ما يماثله مماثلةً تامة في كل ما رأيتُ وما سأرى من الغربان.

وما قلتُه في نفسي وفي الغراب، أستطيع أن أقوله في الشجرة والورقة التي سقطَت منها وهوت إلى الأرض، ثم يزيد الأمر كلُّه في درجة التركيب والتعقيد حين نُضيفُ هذه الأشياء الثلاثة بعضها إلى بعض في صورةٍ واحدة، هي صورةٌ فذة فريدة — كما أسلفتُ — لم تعرف، ولن تعرف الحياة لها مثيلًا آخر، بكل ما في التماثُل من دقة وتطابق.

وكأني ألمح في قارئي علائم الدهشة من هذه المبالغة في قولي، ولكن ليس في الأمر يا صاحبي غرابةٌ ولا عجب! هكذا الحياة في شتى صورها، الحياة لا تعرف تَكرار الأفراد. كل كائنٍ حي — والكائنات الحية ملايين الملايين — فيه ما يجعله فردًا بذاته يختلف ولو قليلًا عما عداه، خذ ورقة من شجرة، وَدُرْ بها الأرض من قُطبها إلى قُطبها، فلن تجد لها مثيلًا بمعنى التماثُل الذي تنتفي فيه كل الفروق المميزة انتفاءً تامًّا. وانظر إلى ألوف الناس من حولك، هل رأيت قطُّ فردَين يتشابهان إلى الحد الذي تنمحي فيه المُميِّزات جميعًا؟ لا، بل الاختلاف بين الأفراد أدقُّ من هذا وألطف، فبصمات الأصابع لا تتشابه في الأفراد، ودع عنكَ دقائق الجسم الباطنية من حيث الشكل والحجم والتركيب.

هكذا الحياة يا صاحبي في شتى صورها، فلا موضع لغرابة منك أو عجب، الحياة لا تعرف تكرار الأفراد، بل لا تعرف تكرار اللحظات في الفرد الواحد، فيستحيل أن يكون الكائن الحي في هذه اللحظة هو بعينه ما كان في لحظة مضت، وهو بعينه ما سيكون في لحظةٍ تالية.

والفن كما يقولون تصوير للحياة! مقياس الفن، بل معنى «الفن» هو التقاطُ موقفٍ فردٍ مما يعجُّ به العالم من حولنا. لو قلت كلامًا يُصوِّر حقيقةً عامة تنطبق على هذا وذلك فقولك بعيد عن الفن الرفيع، ومن هنا كانت ثورتي النفسية، وكان غيظي الشديد، كلما قرأتُ لكاتب من كتابنا يقول عن هذا الشاعر أو ذاك من أسلافنا إنه شاعرٌ لحكمته، أو لصدق حكمه أو ما إلى ذلك. الحكمة يا سيدي القارئ والحكم الصادق أدخلُ في باب العلم لأنها تُعمِّم القول ولا تُخصِّصه في تصوير موقفٍ فريد، وإلا فخبِّرني — أثابك الله — ما الفرق بين شاعرهم حين يقول: «والظلم من شيم النفوس»، وبين عالم الطبيعة حين يقول: «التمدُّد بالحرارة من شيم الحديد»، و«الغلَيان من صفات الماء»، كلاهما يُعمِّم الحكم، وإذن فكلاهما عالمٌ وليس بأديبٍ، ولا يكون ذلك الشاعر شاعرًا إلا إذا صوَّر حالةً جزئية فريدة من حالات الظلم، أو صوَّر ظالمًا معينًا يتجسَّد الظلم في أعماله.

إننا نقول إن شيكسبير كان شاعرًا فنانًا حين كتب مسرحيته عن كليوباتره، وشوقي لم يكن شيئًا حين كتب؛ لأن الأول قد استطاع بقوة فنه أن يجمع عناصرَ جزئيةً بعضها إلى بعضٍ بحيث تتكون صورةٌ فذة فريدة لشخصيةٍ تجعلها كهؤلاء الأشخاص الذي تراهم حولك أحياء، وأما الثاني فربما حاول ذلك ولم يُوفَّق، ونجعل كتاب «الأيام»، للدكتور طه حسين خير كتبه جميعًا لما فيه من تصوير لطفولةٍ واحدة فريدة لا تجتمع عناصرها إلا مرةً واحدة، ونجعل «سارة» خير ما أنتجه الأستاذ العقاد لإبرازه فيه شخصيةً واحدة كذلك، ونُرجِّح للدكتور أحمد أمين أن يُخلَّد في دولة الأدب بكتاب «حياتي» أو كتاب «زعماء الإصلاح» أكثر من أي كتابٍ آخر؛ لأنه وُفِّق فيهما إلى هذه الفردية التي ينشُدها الفن، حين رسم صورةَ نفسه أو صورةَ هؤلاء الزعماء.

لو أحسنتَ لجعلتَ مقياسكَ في الحكم دائمًا على القطعة الفنية كائنةً ما كانت هو هذا، إلى أيِّ حدٍّ أخرج الأديب أو الفنان مركَّبًا من عناصر الحياة يستحيل أن يقع إلا مرةً واحدة؟ إن تغزَّل حبيب في حبيبته ولم تلمح في عبارته ما يُفرِد حبه عن حب سائر الناس، بل لم تلمح فيه ما يُفرِد تلك اللحظة الواحدة من حياته الغرامية عن سائر لحظات حياته الغرامية أيضًا، فاعلم أنه شاعرٌ زائف لا يصدر عن شعورٍ صحيح؛ لأن شعوره الصادق الصحيح في تلك اللحظة إزاء حبيبته شيءٌ فريد لم يتكرر، ولن يتكرر له مثيلٌ إلى أبد الآبدين.

وقد قلتُ هذا الكلام يومًا لأستاذٍ يحاضر في الأدب، فضحك مني ساخرًا وقال: إنكَ تجعل الأدب أضيقَ من سَمِّ الخياط، وأنا الآن أردُّ عليه بقولي إنه فعلًا كما وصف، وإلا فليُحدِّثني لماذا يزخر كل جيلٍ من الناس في البلد الواحد بآلاف «الأدباء» و«الشعراء» ثم لا يُبقي الزمان من هؤلاء إلا أديبًا واحدًا أو شاعرًا واحدًا من كل عدة أجيال؟ ذلك لو نظرنا إلى العالم كله جملة، ولم نقصر نظرنا على قُطرٍ بعينه؛ لأننا قد نحصُر النظر — يا سيدي الأستاذ — في قُطرٍ واحد، ولا أقول ما هو، قد نحصُر النظر الصارم الصادق في هذا القطر الواحد فلا نراه قد أنجب أديبًا واحدًا ولا شاعرًا واحدًا في طول الزمان من مولده، ولن أقول إلى منتهاه!

•••

حسبي هذا في تحديد الفن — ومنه الأدب بالطبع — لأسأل نفسي: وماذا تريد بكلمة «العلم»؟

العلم — كما قلتُ في كلمتي للدكتور مندور عند التعليق على كتابه — هو منهج لا موضوع، فقد يختلف الموضوع عند مختلف العلماء، فيكون النبات عند هذا وطبقات الأرض عند ذاك، قد يكون الموضوع هو أجرام السماء عند عالم وماء البحر عند آخر، قد يُنفِق أحد العلماء عمره في حشرة يدرُسُها، وقد ينصرف عالمٌ آخر يجهده كله إلى إشعاع الراديوم، وكل هؤلاء علماء! لماذا؟ لأنهم جميعًا يصطنعون منهجًا معينًا في فرض الفروض وتحقيقها. وليس هنا مجال التفصيل في ذلك.

ولكن الدكتور مندور لم يعجبه منا هذا القول، فأنكره، قائلًا: «إن الذي يعرفه الجميع تعريفًا للعلم هو أنه «مجموعة من القوانين التي تُفسِّر الظواهر الطبيعية» …» وقد كنتُ أُحب يستثنيني على الأقل من هؤلاء الجميع، لأن «القوانين التي تُفسِّر الظواهر الطبيعية» تتغير وتتبدل في مختلف العصور، قد يقول هذا بقانونٍ ما، يُفسِّر به ظاهرةٌ طبيعية، وقد يقول غير ذلك من زملائه المعاصرين — ودع عنك من سبقوه ومن سيلحقون به — قد يأخذ زميلٌ له بقانونٍ آخر يُفسِّر به الظاهرة عينها، ومع ذلك فكلاهما عندنا عالمٌ إذا اتبع منهاج العلم الصحيح، بغَضِّ النظر عن القوانين التي وصل إليها هذا أو ذاك. ولو كانت العبرة في تعريف العلم بالقوانين التي تُفسِّر الظواهر الطبيعية، للزم أن تخرج من قائمة العلماء كلُّ من لم تثبت قوانينه التي وصل إليها ثبوتًا يدوم على مر الزمن، وبعبارةٍ أخرى، لزم أن تمحو كل العلماء من قائمة العلماء!

ولو كان العلم منهاجًا — لا موضوعًا معينًا — كما نعتقد، لما كان مستحيلًا أن ينصَبَّ هذا المنهاج على الآثار الأدبية فيُصبِح النقد علمًا. وسنعود إلى تفصيل ذلك.

أقول إن المجال لا يسمح بذكر تفصيلات المنهج الذي يجعل العلم علمًا، لكني أذكر من خصائص هذا المنهج خصيصةً لا بد من ذكرها في سياق هذا الحديث، ليتكامل الرأي الذي ندافع عنه:

من أخصِّ خصائص المنهج العلمي أن يُسقِط ما هو خاصٌّ من جوانب الموضوع الذي يبحثه، فلا يستبقي إلا ما هو عامٌّ بين الناس، ومن هنا يتضح الفرق بين الفن والعلم؛ فبينما الفن — كما قلنا — يلتقط من الموضوع تلك العناصر التي تجعله فردًا فريدًا لا يتكرر في أشباه، نرى العلم يستبعد هذه الجوانب الخاصة من موضوعه ليحصُر نظره في العام المشترك؛ فمثلًا، إن طالعتَنا بأوصافٍ تتجمَّع في أذهاننا فتَتكوَّنُ منها صورةٌ فريدة لشخصٍ مُعيَّن كما فعل شيكسبير مثلًا في تصوير هاملت أو الملك لير أو غيرهما من عشرات الأشخاص الذين رسمهم بقلمه، أقول إنْ طالعتَنا بمثل هذه الصورة الفذة الفريدة التي لا تجد ما يُطابِقها تمام التطابُق في سائر أفراد الناس، كنتَ أديبًا فنانًا، أما إن أتيتنا بقواعدَ عامةٍ لسلوك الناس على اختلافهم، فأنتَ عالمٌ يشاهد الجوانب المشتركة بين الأفراد، فيُجرِّدها ويُسجِّلها، ولا يُغيِّر من الموقف أن تضَع علمكَ هذا في قصيدٍ منظوم.

وها هنا نضَع إصبعنا على مميزٍ واضح للعلوم في شتى صورها، يُميِّزها من الفنون في مختلف ألوانها، وهو «التجريد». العلوم موضوعاتها جوانبُ مجرَّدة انتزعناها من المفردات التي نُشاهِدها، والفنون موضوعاتها هي هذه المفردات في تفَرُّدِها، فلو لحظتَ صفةً تُميز البقر — مثلًا — فعزلتَها بذهنكَ جانبًا، فقلتَ إن البقر يَجتَر، كنتَ بمثابة العالم، لأنكَ جرَّدتَ صفةً واحدة من مجموعةِ صفاتٍ لا تُوجد في العالم الواقع إلا مُركَّبةً مشتبكة؛ أي انتَزعتَها وحدها، مع أنها لا تُوجد في الدنيا الحقيقية وحدها، ثم لأنكَ عمَّمتَ هذه الصفة بين البقر جميعًا، أما إذا استَوقفَت نظرك بقرةٌ واحدة بشيء، فصوَّرتها رسمًا أو كلامًا أو نحتًا، بحيثُ تُثبِت لها فَرديَّتها التي لا تشترك فيها مع سائر البقر، فأنت ها هنا بمثابة الفنان.

•••

وننتقل في هذا الموضع إلى صميمِ ما أردنا أن نَعرِضه على القارئ، وهو الذوق والعقل، ما معناهما، لنرى أيُّهما يصلُح معيارًا للنقد الأدبي؛ وبالتالي لنرى هل يكون النقد الأدبي فنًّا أو علمًا.

سأُعرِّف الذوق بأنه تأثُّر أية حاسةٍ جسديةٍ بأيِّ أثَر من الآثار. إن الذوق في أصله تأثُّر حاسةٍ مُعيَّنة عضوها اللسان، لكنا في هذا السياق سنُعمِّم استعمال الكلمة على سائر الحواس، فلو نظرتَ إلى شجرةٍ أمامك، فلنُسمِّ انطباع صورة الشجرة على شبكيةِ عينك وتأثُّرك بها ذوقًا، على غرارِ ما يتأثَّر اللسان بذوق الطعام الذي يمَسُّه، وكذلك قل في سمعِكَ لصوت، أو لمسِكَ لشيء، أو شَمِّكَ لرائحة.

وبديهيٌّ أنَّ الحاسةَ لا تتأثَّر إلا بما هو فردٌ فريد، فليست «الحرارة» بصفةٍ عامة هي التي تلسع أصابعَك، لكنها «هذه القطعة المُعيَّنة من الحديد» هي التي تلسَعُك، وأنت لا ترى «الشجر» بصفة عامة، بل ترى هذه الشجرة الواحدة المعيَّنة في هذه اللحظة الزمنية المعينة، وهكذا قل في سائر المدركات الحسية.

وسنسمح لأنفسنا أن نستعمل كلمةً «الذوق» في تأثُّر الإنسان بما هو فريد من المشاعر، على نحوِ ما أطلقناها على تأثُّره بما هو فريدٌ من الإحساسات، فمثلًا — إذا أُصيبَ إنسانٌ بموت ولده، فسيحزن، لكنه لن يَحزَن «حزنًا عامًّا» بل حزنًا خاصًّا فريدًا في ظروفه وفي الشعور به، وإذا رأيتَ منظرًا جميلًا، شروق الشمس أو غروبها مثلًا، فستَشعُر بفرحةٍ قوية أو ضعيفة حسب استعدادك، لكنكَ لن تفرح «فرحًا عامًّا» بل فرحُكَ فريدٌ فذ يتعلق بمنظرٍ فريد كذلك، وحتى لو فَرحتَ بشروق الشمس أو غروبها كل يوم، فالمنظرُ في كل مرة من هذه المرات واحدٌ متميز لا ينطمسُ مع أقرانه في سائر الأيام.

هذا التأثُّر الفريد المتميز، الذي تنطبع به نفسُك استجابةً لموقفٍ فريد متميز كذلك، هو الذوق، وهو كما ترى شيءٌ خاص بك، يستحيل أن تنقلَه إلى سواك، يستحيل أن تنقل إليَّ ما تشعر به أنت من ألمٍ في ضرسك أو حزنٍ على فقيدك الذي تُحبه وتُعزه، كما أنه يستحيل أن تنقل إليَّ تذوُّقَكَ للطعام، وكلُّ ما في مُستطاعِك أن تقول لي كلماتٍ لتثير في نفسي إحساساتٍ ومشاعرَ أستمدها من تجاربي الخاصة أيضًا، فإن قلت لي مثلًا: إني حزينٌ على ولدي الذي مات. فربما حزنتُ لحزنك، لكني سأحزن حزنًا ثانيًا خاصًّا بي، سأستثير من ذكرياتي شعور الحزن، إنك لم تنقل إليَّ حزنكَ وإنما أثَرْتَ في نفسي جانبًا من سابق خبرتي.

هذا هو الذوق، وأما العقل يا سيدي القارئ، فلسنا نريد أن نُصوِّره سحرًا غامضًا، ليرتع كلُّ متكلم وكل كاتبٍ في معانيه كيف شاء. العقل هو ألا يكون في قولك تناقُض، هو ألا تقول قولًا ينقُض بعضه بعضًا.

وبديهيٌّ أن التناقُض لا يعني شيئًا إذا طبَّقناه على الأفراد؛ إذ لا معنى لقولك إن هذا الكتاب الذي أمامي يناقُض هذا القلم، أو إن شعوري بالحزن في هذه اللحظة يناقض شعوري بالفرح عصر الأمس، أقول إن التناقض لا يكون بين المفردات الواقعة، وإذن فهو لا يكون أبدًا فيما أتلقَّاه عن العالم بالذوق؛ لأن الذوق — كما أسلفنا — هو وسيلة تأثُّرنا (بالحس أو بالشعور) بتلك المفردات الواقعة. من هنا استحال علينا أن نقول لشاعرٍ صدقتَ أو كذَبْت، هذا إن كان الشاعر شاعرًا حقيقيًّا يُعبِّر عن أثَرٍ شعوري فريد.

وإنما يكون للتناقُض معنى إذا وصفنا الموضوع الواحد بصفةٍ ما ثم نفينا عنه تلك الصفة في الوقت نفسه، فإذا قلتَ عن شيء إنه فوق المنضدة، فمن التناقُض أن تعود فتقول عنه في الظروف نفسها إنه تحتَها.

•••

وبعد، فهل يكون النقد الأدبي للذوق أو للعقل؟ هل يكون فنًّا أو علمًا؟ هذه هي المشكلة — كما يقول هاملت.

وأعتقد أن الأمر لم يعُد عسيرًا بعد تحديد الألفاظ الذي أسلفناه. فهَبْكَ قرأتَ قصيدة فأشاعت في نفسك لذة، إلى هنا أنت بمثابة المُتذوِّق الذي يتأثر بشعورٍ فريد خاص به، ولسنا نحرمُكَ ولا نحرم أحدًا من هذه اللذة الذوقية بأي معنًى من معاني الحرمان، لكن اذكر — أستحلفك الله — أن ذلك التذوق يستطيعه الأبكم، فلا تقل: إني ما دمتُ قد قرأتُ القصيدة وذقتُ فيها حلاوة فأنا ناقد! لا تقل ذلك بربك العظيم؛ لأن الأبكم يستطعم القصيدة كما استطعمتَها أنت، ثم لا ينطق، والناقد بالطبع لا بد فيه من كلام يقوله لنسمع.

لكنكَ لست مصابًا بالبكم، وتُريد أن تتكلم بعد استمتاعِك بما قرأت؛ عندئذٍ أنت بين أمرَين، فإما أن تقول ما شئتَ من كلام تقصد به أن تُثير في نفس سامعك مثل الأثَر الذي وجدتَه أنت، وقد تُفلِح وقد لا تُفلِح في تحقيق بغيتك، لكنك — على فرض توفيقك — بمثابة الأديبِ المبدع، لا الناقد؛ لأنك تؤدي ما يؤديه الأديب، وهو أن يقول كلامًا يرصُّه على الصورة التي يهوى، ليُؤثِّر في السامع، وقد نجحتَ، وسَمِّ هذا الضرب إن شئتَ نقدًا تأثريًّا، إذا ضمِنتَ لنفسك حرصًا لا يُنسيكَ أنه لا يصف حقيقة القطعة الأدبية، بل يصف وَقْعَها في نفسك.

وأعجَبُ العجب في هذا الصدَد أن نفتح «منهج البحث في الأدب واللغة» للانسون، وهو الذي يُوصينا به الدكتور مندور لنهتدي سواء السبيل، فنرى الرجل يفتتح بحثه قائلًا: «فالنقد التأثُّري نقدٌ مشروع لا غبار عليه، ما ظل في حدود مدلوله، ولكن موضع الخطر هو أنه لا يقف قطُّ عند تلك الحدود، فالرجل الذي يصِف ما يشعُر به عندما يقرأ كتابًا مكتفيًا بتقرير الأثَر الذي تُخلِّفه تلك القراءة في نفسه، يُقدِّم بلا ريبٍ للتاريخ الأدبي وثيقةً قيمة … ولكن مثل هذا الناقد قلَّما يُمسِك عن أن يزُجَّ بأحكامٍ تاريخية خلال وصفه لأثَر الكتاب في نفسه، أو أن يتخذ من ذلك الأثَر وصفًا لحقيقة الكتاب الذي يقرؤه … ولذا كان من أهم وظائفِ المنهج أن يُطارِد هذا النقد التأثُّري.»

كلا، أيها القارئ الكريم، لسنا نحرمُكَ بأي معنًى من معاني الحرمان، أن تقرأ وتتذوَّق ثم تسكت، فلا تكون شيئًا بالنسبة إلينا، ولسنا نحرمُكَ بأي معنًى من معاني الحرمان أن تقرأ وتتذوَّق ثم تُكلِّمنا لتثير فينا أثرًا مثل الذي تأثَّرت به، وعندئذٍ تكون أديبًا من المرتبة الثانية؛ فليس هنالك فرقٌ جوهري في طبيعة الموقف بين تأثُّر الأديب الأصلي بالطبيعة مباشرة فيكتب، وبين أن تتأثَّر أنت بالأثَر الأدبي فتكتب، وفضلُه عليكَ هو أنه أسبقُ منكَ إلى إدراك الجمال في الطبيعة، لكنَّ كلَيكما مع ذلك أديبٌ يتأثر فيُنشئ ليُحدث في القارئ أثرًا شبيهًا بأثره.

أما إذا أصررتَ على أن تكون ناقدًا، فلا مندوحة لك عن خطوةٍ بعد قراءة التذوُّق، خطوة هي وحدها التي تجعلُكَ ناقدًا، وهي أن تسأل نفسكَ ماذا في هذه القصيدة من العوامل الموضوعية التي أثارت في نفسي هذا الشعور أو ذاك؟ وقد ينتهي بك البحثُ — مثلًا — إلى أن اختيار الشاعر للبحر الطويل جاء موفقًا لأنه يُناسِب موضوعه فأحدثَ ما أراد أن يُحدِثه من أثَرٍ في نفس القارئ أو السامع، أو إلى أنَّ كثرة الراءات في هذا البيت جعلته جميلًا، وكثرة السينات والصادات في ذاك … لكن هذه وأشباهها قواعدُ عامة، فكأنكَ تقول: كل بيتٍ يصف خرير الماء وتكثُر فيه الراءات فهو جميل في هذا الجانب منه، وكل بيتٍ يصف الحربَ بالسيوف وتكثُر فيه السينات والصادات فهو جميلٌ كذلك في هذا الجانب منه، وهكذا. أنت هنا لا تنقُل إلينا عناصر تجتمع فتُكوِّن موقفًا فريدًا لا يتكرر، بل تُحدِّثنا عن قواعدَ عامة تتكرر في كل حالةٍ شبيهة بالحالة التي أنت بصدَد تحليلها وما دُمتَ في مجال التعميم فأنت عالم وإذن فالنقد علم، ثم يقتضيك المنطق — أي العقل — ألا تُناقِض ما تقوله في موضع، بما تقوله في موضعٍ آخر، فلا تقل مثلًا في موضعٍ ما: إن البحر الطويل يناسب التعبير عن الحزن لأنه بطيء والحزين بطيء الحركات والكلمات. ثم تُناقِض ذلك في موضعٍ آخر وتزعم لنا أن البحر الطويل لا يناسب الحزن، وإن كان هذا هكذا فأنت تصدُر فيما نقول عن عقل، إنك حين تنقد، عالمٌ لا فنان، يبني كلامه على عقل — أي يُخلِّصه من تناقُض أجزائه — لا على الذوق الذي يتأثَّر بهذا الفرد الجزئي أو ذاك وكفَى.

ولأنكَ في نقدك عالمٌ يبني قوله على العقل، أمكَنَ أن نُناقِشَك الحساب فيما تقول، فنعترف لك بصدق قولكَ أو ندَّعي عليك الكذب، ولا يكون كذبٌ أو صدقٌ إلا فيما يُصوِّر شيئًا موضوعيًّا بعيدًا عن ذَوقِكَ الخاص وشُعوركَ الخاص، بل يستحيل استحالةً قاطعةً أن تُفيدَني شيئًا على الإطلاق بكلامك، إذا أردت أن تنقلَ إليَّ هذا الذوقَ الخاص وهذا الشعورَ الخاص؛ لأنه خاصٌّ بك مصبوبٌ في أعصابك.

لستُ إذن أوافقُ أديبَينا الكريمَين؛ الدكتور مندور في كتابه «النقد المنهجي عند العرب»، والأستاذ علي أدهم في كتابه «على هامش الأدب والنقد» فيما ذهبا إليه من أن النقد فنٌّ ومرده للذوق، وأُصِرُّ — كما قلتُ — على أن يكون علمًا، مَرجعُه إلى العقل، على شرطِ أن تُفهَم هذه الألفاظ بما حدَّدتُ لها من معانٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤