العرب والأدب المسرحي

في فاتحة «فاوست» ترى مفستوفوليس يشكو إلى السماء ملل الحياة، لكن الملائكة لم تفهم عنه شكواه، وراحت تتغنَّى بما في الحياة من جدَّة ونضارة؛ ولعل مفستوفوليس في نظرته الباردة الفاترة يُمثِّل كل من تَمرَّس بتجارب الحياة حتى عَركَ عُودها وعَرفَ حُلْوها ومُرَّها، وخَيرها وشَرَّها، ولم يعُد فيها له من جديد، وأما الملائكة — ها هنا — فتُمثِّل النظرة اليافعة البريئة التي ترى في كل شيء جدَّةً لا تزول ولا تبلى؛ مفستوفوليس ينظر إلى الأمور نظرة الشيخ دقَّت نظرته واستقام رأيه واعتدَل في يده الميزان، والملائكة — ها هنا — تنظر إلى الأشياء نظرةَ الطفل الفرِح المرِح الذي يلهو بالحياة لهوًا يصرفه عن إدراك مُقوِّماتها وعناصرها.

وناقد الأدب — أو قل ناقد الفنون بصفةٍ عامة — ينبغي أن يجمع في نفسه نفس مفستوفوليس ونفوس الملائكة جنبًا إلى جنب، وإنما أردتُ بذلك شيئًا يمكن التعبير عنه بلغةٍ أبسط؛ إذ أردتُ أن أقول إن ناقد الأدب لا بُد له من قراءة القطعة الأدبية التي هو بصدَدِها مرتَين؛ فيقرؤها مرة أُولى قراءة الملائكة التي تنصرف بجمال الحياة عن حقيقة عناصرها، ثم يقرؤها مرةً ثانية قراءة مفستوفوليس الذي يغوصُ إلى أذنيه في تحليل الحياة إلى عناصرها فلا يلتفتُ إلى سِحْرها وجمالها؛ لا بد للناقد من قراءتَين؛ يستمتع بأولاهما ويتذوَّق، ويحلل بأخراهما وينقد؛ هو في القراءة الأولى يستسلم للمؤلِّف استسلام الطفل الغرير، وفي القراءة الثانية يتصدَّى له تصدِّي الخصم العنيد — وهي خصومة قد تنتهي بالوُدِّ والإخاء.

هذا مبدئي في نقد الأدب، وهذا ما صنعتُه في هذه المسرحية الجديدة التي أخرجها لنا أديبنا المبدع النابه الأستاذ توفيق الحكيم. قرأتُ «الملك أوديب» مرتَين على النحو الذي أسلفتُ لك. وجلستُ إلى مكتبي ونشرتُ أوراقي ورفعتُ قلمي، أُريد أن «أنقد» الكتاب. لكني لم ألبث أن وضعتُ القلم وفركْتُ جبيني بأصابعي، وهمستُ لنفسي قائلًا: ماذا أنت صانع؟ أتريد أن تقول للناس ما هي قصة «أوديب» وليس في قُرائكَ فردٌ واحد يجهل أنها قصة الرجل الذي تزوَّج من أمه وهو لا يدري أنها أمه، فأحبها حب الزوج لزوجته وأحبته حب الزوجة لزوجها، وأنجبا الأطفال، ثم كشفَت لهما الحوادث أنهما أمٌّ وابنها فكانت الفاجعة؟! أم تُريد أن تقول للناس إن الأستاذ توفيق الحكيم كاتبٌ مسرحيٌّ قدير، وليس في قُرائك فردٌ واحد لا يعرف هذه الحقيقة أكثر مما تعرف؟

لا، بل إني لم ألبث أن همستُ لنفسي همسةً أدق وأعمق: تُرى هل يتوجَّه الناقد بنقده إلى قُراء الكتاب، أم إلى كاتب الكتاب؟ الظاهر أن الثانية هي أدنى إلى الصواب، بدليل أنه يزعم لنفسه القيادة والهداية، كأنما يقول للكاتب: افعل هذا ولا تفعل ذاك، إذا ما حاولتَ مرةً أخرى أن تكتب!

ها هنا تبيَّنتُ في موقفي شذوذًا عجيبًا يستوقف النظر: أتريدُ أنت إذن أن تهدي الأستاذ توفيق الحكيم سواء السبيل في الأدب المسرحي؟! بل ماذا يستطيع أيُّ ناقدٍ في الدنيا أن يصنع لأي كاتب؟ إنه ليُخيَّل إليَّ الآن أنَّ من أشد الأوهام ضلالًا وتضليلًا أن يظن ناقد — كائنًا من كان — أنه مُستطيعٌ أن يصلح كاتبًا كائنًا من كان. لقد فهمتُ الآن معنى قول «لوكاس»: إن النقدَ طُفيليٌّ يعيش على غيره. نعم إنه طُفيليٌّ يتغذَّى بفُتات الأديب المنتج، بل فهمتُ الآن فقط معنى قول «تشيكوف»: إن النقد ذبابةٌ لاذعةٌ تلسع ثِيرةَ المحراث فتعوقهُا عن المضي في حرث الحقول؛ إنه قد يضر، ولكنه لا ينفع.

كيف تبلُغ بلاهة الناقد الأدبي هذا الحد البعيد بحيث يتوهم أنه سيُصلِح الكاتب؟ إن ذلك ليُذكِّرني بما رواه قصصيٌّ إنجليزي معاصر هو «فورستر» عن نفسه إزاء النقد الذي وُجِّه إلى إحدى قِصَصه، إذ لاحظ عليه الناقد أنه قد أسرف جدًّا في القضاء على شخصياتِ قصته بالموت المفاجئ، وذكر له أن أربعةً وأربعين في المائة من أشخاص قصته أصابهم الموت فجأة، وليس في هذا شيء من صدق تصوير الطبيعة، فقال الكاتب الأديب لنفسه: إي والله لقد صدق، ولا بد لي في قصتي التالية من مراعاة ذلك، فسأُحاوِل أن أُمهِّد لموت أشخاصي بالأمراض وغيرها من الأسباب الطبيعية للموت. وآن أوان قصته التالية، فإذا به كلما عَنَّ له أن يُميت شخصًا، لم يجد لنفسه مندوحةً في أكثر الأحيان عن أن يقضي عليه قضاءً مفاجئًا؛ لأن خياله لم يُسعِفْه أبدًا في تهيئة حياة أشخاصه تهيئةً تنتهي بهم إلى موتٍ يسبقه مرض. ها هنا كاتبٌ يُسلِّم بصحة الرأي الذي يُوجِّهه إليه الناقد، ومع ذلك يعجزُ عن إصلاح نفسه؛ لأن الأمر كله مرهون بالموهبة الفطرية، فهو أديب بمقدارِ ما هو موهوب، وهو عاجزٌ حيث هو عاجز، ولا أمل في إصلاح الموهبة إلا في التوافه التي لا تُقدِّم ولا تُؤخِّر.

•••

وإن صَحَّ ذلك في كل ناقدٍ وكل كاتبٍ بصفةٍ عامة، فهو أصحُّ بصفةٍ خاصة فيَّ ناقدًا بالنسبة إلى توفيق الحكيم كاتبًا مسرحيًّا.

فيمَ إذن كتابة النقد؟ أعتقِد أنه في كثيرٍ جدًّا من الأحيان يكون النقد لمصلحة الناقد نفسه، فإذا أنت قرأتَ كتابًا قراءة تُريد بها نقدًا، دعاك ذلك إلى كثيرٍ من الدقة والحرصِ وأنت تقرأ، كانا قمينَين أن يفلتا مِنكَ إذا قرأتَ للتسلية قراءةً عابرة، كما أن مناقشَتكَ للكاتب بعض رأيه فيها رياضةٌ عقلية لكَ أنت؛ وقد يُمتِع القُراءَ أن يقرءوا لفَتاتِك ولمحاتِك، لكنَّ الكاتب لن ينتفع بذلك كثيرًا ولا قليلًا.

وعلى هذا الأساس وحده أتوجَّه إلى القراء ببعض خواطري عن مسرحية «الملك أوديب»، التي أخرجها الأستاذ توفيق الحكيم.

•••

يُقدِّم الأستاذ توفيق الحكيم مسرحيته لقارئه بمقدمةٍ طويلة تقع في أربعٍ وخمسين صفحة، يُعلِّل فيها نفور الأدب العربي قديمًا من هذا اللون الأدبي، فلماذا لم ينقل العرب عن اليونان أدبهم المسرحي؟

ومضى أديبنا يذكر التعليلات المختلفة لهذه الظاهرة العجيبة، ويرد عليها، أيكون هذا النفور مرجعه إلى ما في المسرحية اليونانية من «روح الصراع بين الإنسان والقوى الإلهية؟ أتُرى هذه الصبغة الدينية هي التي صدَّت العرب عن اعتناق هذا الفن؟» (ص١٨) «هذا رأي جماعة من الباحثين … فهم يزعمون أن الإسلام هو الذي حال دون اقتباس هذا الفن الوثني … إني لست من هذا الرأي … فالإسلام لم يكن قَطُّ عسيرًا على فن من الفنون … فقد سمَح للناقلين أن يترجموا كثيرًا من الآثار التي أنتجها الوثنيون …» (ص١٩). إذن فما علة هذا النفور؟ «أتُراها صعوبة فهم ذلك القصص الشعري، وكله يدور حول أساطير، لا سبيل إلى فهمها إلا بشرحٍ طويل، يذهَب بلذة المتتبع لها، ويقضي على متعة الراغب في تذوقها؟ … ربما كان في هذا التعليل شيء من الصواب …» (ص١٩)، «لكن … على الرغم من وجاهة هذا التعليل فإني لا أعتقد أن هذا أيضًا يحول دون نقل بعض آثار هذا الفن» (ص٢٠).

لماذا — إذن — لم ينقل العرب عن اليونان أدبهم المسرحي؟ التعليل الصواب عند أديبنا توفيق الحكيم هو «أن التراجيديا الإغريقية ما كانت حتى ذلك الحين تعتبر أدبًا معدًّا للقراءة … إنها لم تكن وقتئذٍ شيئًا مما يُقرأ مستقلًّا كما تقرأ جمهورية أفلاطون؛ فقد كانت تُكتب لا للمطالعة بل للتمثيل …» (ص٢١)، «لم تخلُق الرواية المسرح … ولكن المسرح هو الذي خلق الرواية … وما دام المترجم العربي قد أيقن أنه أمام عملٍ لم يُجعل للقراءة ففيمَ ترجمته إذن؟» (ص٢٣).

في رأي الأستاذ توفيق الحكيم — إذن — أن العرب لم ينقلوا الأدب المسرحي من اليونان، ولا قلَّدوهم فيه؛ لأنه لم يكن لديهم مسرح، ولم يكن للعرب مسرح؛ لأنهم بدوٌ رُحَّل لا يستقرون في مكان، وطنهم «مُتنقِّلٌ على ظهور القوافل يجري هنا وهناك خلف قَطرة غَمام … وطنٌ يهتز فوق الإبل … كل شيء في هذا الوطن المتحرك كان يُباعِد بينه وبين المسرح … لأن المسرح يتطلب أَوَّلَ ما يتطلب: الاستقرار» (ص٢٤).

لكني لا أرى رأي أديبنا في ذلك؛ فأولًا: لم ينقل العرب عن اليونان سائر علومهم حين كان «وطنهم يهتز فوق الإبل»، بل نقَلوا عنهم حين استقَروا في بغداد وغيرها من أرضٍ مستقرة ثابتة، وثانيًا — وهو المهم عندي الآن — لم يقتصر النفور من الأدب المسرحي على العرب، حتى على فرض أن الحضارة العربية كلها كانت «متنقلة على ظهور القوافل»، ولكنه كاد يشمل الحضارات الشرقية كلها، وفيها مصر والهند والصين؛ كان الناس في مصر، وفي الهند وفي الصين، لا تَضطَرُّهم ظروف البيئة إلى «الجري هنا وهناك خلف قطرة غمام»، بل كانوا مزارعين يضربون بجذورهم في مكانٍ بعينه لا يكادون يتحوَّلون عنه مدى الحياة، فلماذا لم تظهر المسرحية في أيٍّ منها كما ظَهرَت في اليونان؟ أأقول إن الأدب المسرحي طَورٌ لا بد أن يسبقه طَوْر الأدب الغنائي وأن يَلحَقه أدب التفكير؟ لكن ذلك إن صح في مصر على اعتبار أن حضارتها القديمة كلها بدأت وانتهت في طور الطفولة الأدبية، فهو لا يصدُق بالنسبة إلى الهند أو الصين؛ لأن الحضارة فيهما امتدَّت حتى عاصَرَت اليونان وما بعدهم.

الرأي عندي هو أن الأدب المسرحي — والقصصي أيضًا — يستحيل قيامه بغير التفاتٍ إلى تميز الشخصيات الفردية بعضها عن بعض؛ لو نشأ الكاتب في جوٍّ ثقافي لا يعترف للأفراد بوجود، ويطمسهم جميعًا في كتلةٍ واحدة من الضباب الأدكن، فلا سبيل إلى تصويره هؤلاء الأفراد يصطرعون في مأساة، والشرق كله — في رأيي — قد طمس الفرد طمسًا ولم يترك له مجالًا يتنفس فيه؛ الأفراد في الثقافة الهندية كلها «مايا»؛ أي وَهْمٌ لا وجود له، والموجود الحق هو الكون كُلًّا واحدًا لا تفرُّد فيه ولا تكثُّر، وقُل مثل هذا في الصين وفي كل بلاد الشرق بصفة عامة؛ الحضارات الشرقية كلها تُغفِل شأن الفرد وتجعله جزءًا من شيءٍ أعمَّ منه، فهو عند العرب — وهم الآن موضوع بحثنا — جزء من القبيلة، فلا وزن له إلى جانبها ولا قيمة له بالقياس إليها، ولا كذلك اليونان؛ فالفرد عندهم هو محور التفكير، حتى الآلهة عندهم أفراد لهم مميزاتهم ومشخصاتهم، ومن هاتين النزعتيَن المختلفتَين، نشأ الدين في الشرق والعلم في الغرب؛ لأن معظم الديانات أساسها التوحيد بين تلك الظواهر المختلفة، وأما العلم فأساسه التمييز بين تلك الظواهر ما دام فيها ما يُميِّزها، لم يعرف الشرق أشخاصًا، فلم يعرف المسرحية ولا القصة.

يقول الأستاذ توفيق الحكيم: إنك لو أعطيتَ المسرح للعرب لكتبوا المسرحية «وكما أن العرب في عهد الإبل كان لسان حالهم يقول: «أعطونا الجواد ونحن نركب!» فإنهم كذلك قد يقولون: «أعطونا المسرح ونحن نكتب!»» (ص٢٩). وهذا في رأينا تفكيرٌ دائري؛ لأننا كما نسأل: لماذا لم يكتب العرب مسرحيةً حين استقر بهم المقام في المدن، نستطيع أيضًا أن نسأل: لماذا لم يُقم العرب لأنفسهم مسرحًا عندئذٍ؟ أُريد أن أقول إن الأستاذ توفيق الحكيم لم يُعلِّل بقوله ذلك شيئًا، إنما وضع السؤال الواحد في صيغتَين مختلفتَين، ولم يأتِنا بالجواب.

أراني قد أطلتُ القول حتى قاربتُ الغاية التي يجبُ أن أقف عندها، دون أن أقول كلمةً واحدة عن المسرحية ذاتها! وإني لأُقلِّب الآن صفحات الكتاب أمامي وأراها مليئة بالتعليق الذي أردتُ أن أعرضه، والظاهر أنْ ليس إلى هذا العرض من سبيل؛ فقد كنتُ أُحب أن أعرض لتصوير الأشخاص، وأُثبِت رأيي في مدى توفيق الكاتب في ذلك التصوير؛ لأني أراه أَبرعَ فنًّا في تصوير «جو كاستا» منه في رسم «أوديب»، وكنتُ أُحب أن أسأل سؤالًا يتناول الأساس الذي أقام عليه الكاتب بناءه كله، وهو الأساس الديني، فقد أراد أديبنا الفاضل أن يُصوِّر الإنسان معتمدًا في سلوكه على قوةٍ أعلى منه، لكني لا أكاد أرى اختلافًا جوهريًّا يقع في حوادث المسرحية لو أني جعلتُ سلوك الإنسان مُستمدًّا من عواطفه ومُؤثِّرات بيئته، فكأن الكاتب قد اشترط لنفسه أساسًا، ثم استغنى عنه عندما أراد البناء.

وكنتُ أُريد أن أقولَ أشياءَ كثيرةً أخرى، لا أُوجِّهها إلى الكاتب ناقدًا — فليس إلى ذلك من سبيل — بل أقولها لأُعلِّم بها نفسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤