الفكر العربي المعاصر

اتجاهه وخصائصه

١

ليس كل ما يُكتَب بالعربية فكرًا عربيًّا؛ فالفكر لا تتحدَّد قوميته باللغة التي كُتِب بها، بل ينتسب إلى قوميةِ مُنتجه، كائنةً ما كانت اللغة التي استخدمها ذلك المنتج في التعبير عن فكره؛ فلو نقلنا إلى اللسان العربي شيكسبير من إنجليزيته، أو راسين من فرنسيته، فلا يصبح الأدب المنقول أدبًا عربيًّا بسبب الثوب العربي الذي ألبسناه إياه، كما لا يُصبِح الرجل من الإنجليز أو من الفرنسيين أعرابيًّا إذا ما لبس العباءة العربية.

لقد نظَم طاغور بعض شعره بالإنجليزية، لكن هذا الشعر يُضافُ إلى الأدب الهندي رغم لغته؛ لأن القلبَ الشاعرَ هنديٌّ يشعر بما يشعر به الهنود. على أنه يجوز أن تستثني من هذا التعميم، الكاتب الذي ينشأ في وطنٍ غير وطنه فيصبح وكأنه من أبناء هذا الوطن الجديد، ويندمج مع أهله في أفكارهم ومشاعرهم، ومن أمثلة ذلك «كنراد» البولندي الذي كتَب قصصه بالإنجليزية بعد أن نشأ وتربَّى بين الإنجليز، فجاء أدبه فصلًا من تاريخ الأدب الإنجليزي، ولذلك أيضًا أمثلةٌ كثيرة لرجالٍ من الفرس كتبوا ما كتبوه باللغة العربية، وجاءت كتابتهم جزءًا من الفكر العربي؛ لتأصُّل الروح العربية في نفوسهم.

فلا مندوحة لنا — إذ نتناول بالتحليل فكرنا العربي المعاصر — عن اطِّراحِ ما نقلناه من اللغات الأجنبية على اختلافها لا فرق في ذلك بين قديمها وحديثها، ولا بين ترجمةٍ كاملةٍ وتلخيص؛ لكي نحصُر أنظارنا فيما هو فكرٌ عربيٌّ خالص.

ثم لا يكون هذا الفكر العربي الخالص الذي نخلُص إليه بعد تنحية الفكر المنقول فكرًا معاصرًا، إلا إذا كان أصحابه الذين أَنشَئوه وأنتجوه من أبناء الجيلَين أو الثلاثة الأجيال الأخيرة — وهي الأجيال التي يمكن أن نتفق على أنها تُحدِّد معنى المعاصرة — بحيث يجوز لنا أن نُطلِق لفظ «الفكر العربي المعاصر» على ما أنتجه أبناء الدول العربية في الثلث الأخير من القرن الماضي وفي هذا النصف المنقضي من القرن الحاضر؛ ولا مندوحة لنا مرة أخرى عن اطِّراحِ الكتب التي نشرناها في هذه الفترة من تُراثنا القديم، والتي ليس لنا من فضلٍ إلا فضلُ بعثها وهو كفضلِ الذي يُخرِج من جوف الأرض آثار آبائه الأقدمين، نعم إن الكشف كشفه، لكن فضل الكشف عن الآثار لا يجعلها من صنع يدَيه، فله إن شاء أن يفخر بمجد آبائه على ألا ينسى أن مجده هو من ذلك كلِّه لا يكون إلا لنسبته إلى هؤلاء الآباء.

نُريد — إذن — أن نُبعِد عن أنظارنا ونحن بصدد البحث في الفكر العربي المعاصر، كلَّ منقولٍ عن لغةٍ أجنبية؛ لأنه ليس فكرًا عربيًّا، وكلَّ قديمٍ منشور؛ لأنه ليس فكرًا معاصرًا؛ لنرى بعد ذلك ماذا يبقى بين أيدينا مما أنتجناه إنتاجًا مُبتكَرًا أصيلًا، فقد يسهُل علينا عندئذٍ أن نتعقَّب اتجاهنا الفكري وأن نَلمَح الخصائص التي تُميِّز فكرنا.

لكن أين عسانا واجدون هذا الفكر الذي نُريد أن نضعه موضع البحث والتحليل؟ إن الفكر لا يكون هواء سابحًا في الفضاء بل هو شيءٌ مدون في الكتب والصحف، فإذا أردنا جمع الفكر العربي المعاصر، فعلينا بما أخرجَتْه المطابع خلال الفترة التي حدَّدْناها، مما كتبه أبناء الدول العربية عن ابتكارٍ وأصالة، غير أن المطابع العربية قد أَخرجَت خلال الثمانين عامًا التي ذكرناها، ألوفَ الكتب وعشراتِ الألوف من المجلات والصحف، وإنه ليتعذَّر علينا — بل قد يستحيل — أن نُغربلَ هذا الإنتاج كلَّه لنُميِّز بين ما هو أصيل وما هو دخيل؛ ولذلك فحسبنا إنتاج طائفةٍ قليلة من قادة الفكر، الذين أجمع الرأي على أنهم فينا صفوةٌ ممتازة، فإن وجدنا هؤلاء في جملتهم يتجهون وجهةً معينة، ويتَّسِم تفكيرهم بسماتٍ مميزة كانت لنا بذلك النتيجة المنشودة.

٢

ها أنا ذا أضع أمامي طائفةً من الأسماء التي لمعَت في مجالنا الفكري إبَّان الفترة التي حدَّدْناها، وأُحاوِل أن أستخرج ما بينها — أو ما بين أكثرها — من عناصرَ مشتركة، فأوَّل ما يستوقف النظر في إنتاجهم، جهادٌ متصل في سبيل الحرية، لكنه جهادٌ تختلف ألوانه فيما بينهم؛ فكثرتهم تدعو دعوةً صريحة إلى الحرية السياسية من المستعمر الأجنبي أو المستبد الداخلي، حتى لتجد نفرًا منهم قد وصلوا أنفسهم بالأحزاب السياسية صلةً جعلَتهم يرتفعون بارتفاعها وينخفضون بانخفاضها، بل إن منهم من أوغَل في هذه الصلة بالأحزاب السياسية إيغالًا حتى تبوَّأ من حزبه مكان الرئاسة.

استنفَد الجهاد السياسي شطرًا كبيرًا من جهدنا الفكري، فانطبع تفكيرنا — إلى حدٍّ ما — بالطابع الذي اقتضاه العراك الحزبي في ميدان السياسة، وهو أن يكون أصحابُ الأقلام على وعيٍ تام بتفصيلات الحوادث التي تتصل بقضايانا السياسية — الداخلية والخارجية — وأن يُرهِفوا قدراتهم الجدلية، بحيث يستطيع الكاتب أن يقرأ مقالةَ خصمه اليوم ليرد عليها غدًا، فلا عجب أن يتسم تفكيرنا بقِصَر المدى وسرعة الإنتاج، وارتَبطَ بالصحافة ارتباطًا وثيقًا، فجاءه من هذا الارتباط بالصحافة الخيرُ مرةً والشرُّ ألف مرة، وسنُرجئ الحديث في هذا لنعودَ إليه بعد قليل.

أقول إن الدعوة إلى الحرية طابعٌ يُميِّز الفكر العربي المعاصر، وإن هذه الدعوة قد جاءت صريحةً من الأقلام التي نهض أصحابها بخدمة الأحزاب السياسية، وأقول «خدمة الأحزاب السياسية» وأعني ما أقول بمدلوله الحرفي؛ لأن الأحزاب السياسية جاءت أولًا، ثم نهضَت أقلام المفكرين للدفاع عنها بعد ذلك، فلم يكُن المفكرون هم الذين أنشَئوا الاتجاهات السياسية كما كان ينبغي أن يكون. حدث ذلك — مثلًا — في فرنسا في القرن الثامن عشر، فظهر روسو وفولتير وديدرو ومن إليهم، وخلَقوا الجو الفكري الذي شقَّ للسياسة طريقها حتى كانت الثورة الفرنسية وما بعدها، وحدث ذلك في إنجلترا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حين جعل الكُتاب يكتبون في الاشتراكية قبل أن تكون الاشتراكية حزبًا سياسيًّا، حتى إذا ما خُلق الحزب السياسي ونهَض على قدمَيه، لم تعُد ترى أئمة الفكر عندهم يلحقون به كما يلحق التابع بمتبوعه والخادم بسيده. وفي رأيي أن انعكاس الوضع عندنا في البلاد العربية له مغزاه وهو أن شعلة الحرية قد أضاءها رجال العمل لا رجال الفكر؛ ومن هنا جاء ما كتَبه المفكرون في الحرية السياسية مقالاتٍ حزبيةً صحفية تسير وراء الحوادث اليومية، ولم يظهر بيننا المفكر الذي يكتُب فيها رسالةً لها نصيبٌ من عمق أو اتساع، كما فعل مُفكِّرو الغرب حين شقُّوا الطريق برسائلهم في الحرية السياسية لِما قام بعدهم من أحزابٍ سياسية تكوَّنَت في ضوء تعاليمهم وآرائهم.

على أن الدعوة إلى الحرية السياسية لم تكن كلَّ شيء؛ إذ ظَهرَت دعواتٌ أخرى إلى حرياتٍ أخرى، وها هنا نجد لمفكرينا فضلًا في الابتكار والإبداع؛ فلئن فات قادة الفكر منا أن يمسكوا بزمام الدعوة إلى الحرية السياسية، بأن تركوا هذا الزمام في أيدي الساسة واكتفَوا هم بالسير في مواكب الأحزاب، فهم في سائر أنواع الحرية أئمةٌ ورُوَّاد، ولنا في ذلك عزاءٌ أي عزاء، إذا علمنا أن هذه الحريات الأخرى أبقى أثرًا وأدومُ حياة.

لقد شغلَتنا المطالبة بالحرية السياسية حتى أوشكنا أن نفهم «الحرية» بهذا المعنى وحده، لولا جهودٌ مُوفَّقةٌ لقادة الفكر عندنا، عَلمَّتنا أن الحرية تكون في التعبير عن الرأي تعبيرًا لا تُقيِّده القيود؛ قُل الرأي الذي تراه، وقُله مخلصًا صادقًا، واحتمل في سبيله صُنوفَ الأذى التي ربما نزلَت بك نتيجة إعلانك لرأيك، تكن نصيرًا للحرية أكبر نصير، مهما يكن نوع ذلك الرأي، ولو لم تذكر كلمة «الحرية» أبدًا من أول المعركة إلى آخرها. ولا شك أن كثيرين من قادة الفكر العربي المعاصر، قد وقَفوا دون آرائهم وقفاتٍ عنيدةً فكانوا بذلك دعاةً للحرية بمعناها الصحيح.

إننا إذ نقول إن الدعوة إلى الحرية سِمةٌ تميز فكرنا العربي المعاصر، نضع في اعتبارنا مظاهر قد تبدو تافهةً إذا أُخِذَت فرادى، لكنها هي القطرات التي يتكون منها التيار الدافق، فإذا رأيت الشعراء يجاهدون في تحطيم التقاليد الشعرية الموروثة ما استطاعوا إلى تحطيمها من سبيل، وإذا رأيت ألوانًا جديدةً تُخلق في أدبنا خَلقًا من العدم أو شبهه، كالقصة والمسرحية، وإذا رأيتَ البائع في الطريق يُحاول أن يُحدِّد حقوقه إزاء الشرطي الذي يمثل الحكومة، والشاب الناشئ يريد أن يُثبِت شخصيته أمام أبيه أو مُعلِّمِه، والزوجة تُجاهِد في اكتساب حقها كاملًا في محيط الأُسْرة، إذا رأيت هذا كله مُمثَّلًا فيما ينشره المفكرون بينا، فاعلم أنه تيَّارٌ فكري واحد يَدفعُنا نحو الحرية ونحو الكرامة الإنسانية، مهما تعدَّدَت ألوانه فيما أنتجه هؤلاء المفكرون.

٣

وأعود فأنظر إلى إنتاج هذه الصفوة الممتازة من مفكرينا خلال الفترة التي حدَّدْناها فألحظ إلى جانب جهادهم في سبيل الحرية بشتى ألوانها، ميلًا قويًّا ظاهرًا نحو «التعقيل»؛ أعني نحو أن يقيموا النهضة العربية الحديثة على أساسٍ من منطق العقل، بدلَ أن يركنوا إلى عاطفة القلب وحدها، وذلك اتجاه — بغير ذلك — نحو ما هو خير وأفضل.

وقد كان لهذا «التعقيل» وجهان؛ الأول اغترافٌ من المدينة الأوروبية، والثاني مجهودٌ جبار نحو إعادة التراث العربي القديم مصحوبًا بدفاعٍ عقلي يُحاوِل أن يُبرِّر له مكانًا من ثقافة العصر الحاضر وفكره.

لقد قدَّمتُ لهذا البحث بمقدمةٍ أقولُ فيها بوجوبِ استبعاد الفكر المنقول ترجمةً أو تلخيصًا، واستبعاد الفكر المنشور من التراث القديم، لكي نخلُص إلى ما هو فكرٌ عربي معاصر، فنتبين خصائصه على ضوء التحليل الصحيح، فإذا ما عُدتُ الآن أذكر اغترافنا من المدينة الأوروبية وإعادة تراثنا العربي على أنهما وجهان لحركة «التعقيل» التي تُميِّز اتجاهنا الفكري المعاصر، فإنما أذكرهما لما نشأ عنهما من «اتجاه» الأنظار نحو وجهةٍ معينة، لا لمحصولهما الفكري في ذاته؛ وذلك شبيه بمن يُدير جسدك نحو الشمال — مثلًا — ثم يتركُكَ فتمشي في هذا الاتجاه الجديد من تلقاء نفسك، وبالخُطى التي تستطيعها قدماك وساقاك.

فلما كان أوضح جوانب المدنية الغربية اليوم هو إنتاجها العلمي — من حيث النظريات العلمية وتطبيقها تطبيقًا عمليًّا على السواء — كان من الطبيعي أن يؤدي اتصالنا بتلك المدنية وأهلها اتصالًا مباشرًا — أخذ يتزايد زيادة مطردة في القرن الأخير — إلى نقلِ كثيرٍ من علومهم، وإلى اصطباغ التعليم عندنا بتلك الصبغة العلمية إلى الحد الذي استطعناه؛ نقلنا عنهم علوم الطب والهندسة والرياضة والطبيعة والنفس والاجتماع والاقتصاد وغيرها، وفوق هذا كله نقلنا عنهم المنهج العلمي ذاته وأخذنا نُطبِّقه في ميادينَ جديدةٍ عندنا، إلى هنا نحن ناقلون لفكر غيرنا، لكن أنظارنا قد اتجهَت بهذا النقل وجهةً جديدة، وهي أن ننظر إلى شتى أمورنا الإصلاحية الهامة نظرةً عقليةً علمية، فكانت هذه الوجهة الجديدة بغير شك طابعًا يميز فكرنا المعاصر.

فها هو ذا — مثلًا — مُفكِّر من طليعة رجال الفكر المعاصر عندنا، يكتب كتابًا في الشعر العربي القديم، فيُقدِّم له بمقدمةٍ طويلة يزعم فيها أن البحث الأدبي القويم ينبغي أن يُقام على المنهج الديكارتي في التشكك وبلوغ اليقين؛ وهذا إمامٌ فكري آخر، يفسر القرآن أو جزءًا منه تفسيرًا يُراعَى فيه أن تظهر أحكامه للناس مُنسَّقة مع العقل العلمي الحديث، وهكذا وهكذا. وإنك لتقرأ مئات المقالات التي يكتُبها قادة الأدب عندنا، فتراهم جميعًا يَصدُرون عن رغبةٍ أكيدةٍ شديدةٍ في أن نُلقي بزمامنا في كل أمورنا الاجتماعية إلى منطق العقل دون اندفاع العاطفة.

على أن ذلك ليس شيئًا مذكورًا في حركة «التعقيل»، بالقياس إلى موجةٍ آخذة في الاتساع والقوة، تميل بنا نحو اطِّراح الارتجال في تَناوُلِنا للأمور العامة كلها، فترانا اليوم في أغلب الميادين الفكرية والعملية على السواء، أَمْيَل إلى الأخذ بالمنهج العلمي في شئون الإصلاح؛ فهنالك تجاربُ في الزراعة وتجاربُ في التعليم، وهناك إحصاءاتٌ رسميةٌ تنبني عليها أحكامنا في شئون الصناعة والتجارة وغيرهما، على أننا بطبيعة الحال لا نزال في أول الشوط، ولا يزال حكم العاطفة يُعاوِدنا آنًا بعد آن، لكننا مع ذلك لا نُخطِئ إذا زعَمنا ما زعَمناه من أن محاولة الركون إلى أحكام العقل سمةٌ أخذَت أخيرًا تظهر في تفكيرنا، وهي في طريقها إلى أن تكون طابعًا مُميِّزًا للفكر العربي المعاصر.

ذلك كله يُقال في الأثَر الذي تركَتْه فينا حركة النقل عن المدنية الغربية، وبقي أن نرى كيف يظهر طابع «التعقيل» في نشرنا للتراث العربي القديم. إن فتح النوافذ والأبواب أمام المدنية الغربية لم يُصادِف هوًى عند طائفة من الناس ليست بالقليلة الشأن أو العدد؛ فبين ظَهرانَيْنا فريقٌ كبير جدًّا كان يتمنى بحكم تربيته ونشأته أن يكون نهوضنا كله نُموًّا من الداخل ورجوعًا إلى الماضي، فلما رأَوْا بأعينهم أن تيار الحضارة الغربية العلمية جارفٌ يمس أوضاع الحياة كلها، لم يَرَوْا بُدًّا من النشاط والحركة في اتجاههم وهو الجري إلى الوراء لاستخراج كنوز الماضي لعلهم يجابهون بها الغرب الدخيل، لكنهم لم يقتصروا في هذا على مجرد نشر القديم نشرًا مُزوَّدًا بالشرح والتعليق — وحركة هذا النشر الآن على أشُدِّها — بل أضافوا إلى ذلك «تعقيل» هذا التراث ما استطاعوا إلى ذلك من سبيل، وأقصد بالتعقيل هنا صياغة القديم صياغةً جديدة، لعله يبدو متَّسقًا مع أوضاع المدنية العلمية الحديثة، وإن شئتَ فانظُر كمْ من طليعة المفكرين اليوم قد شغَل نفسه بعرضٍ جديدٍ لأعلام الإسلام وحوادثه البارزة، وانظُر كمْ منهم قد اتجه بقلمه إلى شرح القديم والتعليق عليه، شرحًا وتعليقًا يقصدان إلى عقل القارئ الحديث بنزعته العلمية وميوله العقلية. ولسنا بحاجة إلى القول بأن التطوُّر الذي أصاب نظام التعليم في الأزهر والمعاهد الدينية بإضافة المواد «الحديثة» إلى برامجها، هو بابٌ من أبواب «التعقيل» الذي سار في هذا الاتجاه الثاني.

فلئن كان فكرنا العربي الحديث يتسم بطابع «العقل» الذي يحاول كبح جماح العاطفة في شتى ألوانها، إلا أن هذا الطابع نفسه يتفرع فَرعَين — كما أسلفنا — ففرعٌ منهما يبُثُّ في نهضتنا الفكرية «عقلًا» خلال ما ينشره من العلوم المنقولة من الغرب، وفرعٌ آخر يفعل الفعل نفسه بوسيلةٍ أخرى، هي عرض البضاعة القديمة في ضوء جديدٍ «معقول»؛ ومن ثم كان هذا الصراع الفكري العجيب عندنا؛ إنه صراع بين الجديد والقديم، لكني أراه يختلف عن كل صراعٍ من نوعه؛ لأن الفريقين لا يختلفان على المعيار الذي تُقاس به الأمور، فكلاهما يحتكم إلى منطق العقل، وكلاهما يُحاوِل أن يُبيِّن أنه إلى ذلك المنطق أدنى من خصومه، ولو سمحتُ لنفسي بإبداء رأيٍ شخصي هنا، لقلتُ إن الفريق الأول يصدُر عن منطقٍ أسلم وأصدق، فموقفهم يخلو من التناقُض الذي يعيب موقف الآخرين، وموضعُ التناقُض عند هؤلاء الآخرين هو أنهم يأخذون بالأساس نظريًّا — أعني أساس العقل في الحكم على الأشياء — ثم يجفُلُون مما يترتب على ذلك من نتائج.

٤

قلنا فيما أسلفنا من حديث، إن الدعوة إلى الحرية طابعٌ يُميِّز فكرنا المعاصر، ثم أضفنا إلى ذلك أن الحرية السياسية بوجهٍ خاص، تستنفد الشطر الأعظم من مجهود المفكرين، وأن رجال الفكر في هذا الميدان — لسوء الحظ — ليسوا ذوي أصالة؛ لأن الزمام في أيدي الساسة وهم لهؤلاء تابعون، فنشأ عن ذلك أن باتت الصحف اليومية أوسعَ ميدانٍ لأقلامهم، ومن هنا تأثَّرت الحركة الفكرية المعاصرة بالصحافة أبلغ الأثر وأعمقه. وقد ذكرنا فيما مضى أن الصحافة قد عادت على حركتنا الفكرية بالخير مرة وبالشر ألف مرة، وها هنا نعود إلى شيء من التفصيل.

أما الخير الذي أصابه الفكر من الصحافة، فأهمُّه سهولة تدريب الكاتب على بَلْورة أفكاره؛ فلو كان كل كاتبٍ ناشئ لا بد أن ينتظر حتى يفرغَ من تأليفِ كتابٍ بأكمله، لكان الأرجح أن ينثني كثيرٍ من الكُتَّاب عن الكتابة والتفكير، وكذلك كان للصحافة إلى جانب ذلك فضلٌ آخر على الحركة الفكرية المعاصرة، وهو أنها عَمِلَت على ليونة الأسلوب وسهولته وانسيابه وسلاسته ليتمشَّى مع مقتضيات الحوادث اليومية، وهذا لا شك كسبٌ عظيم؛ لأن الأسلوب الذي لا تكلُّف فيه علامة على صدق التعبير، والصدق في التعبير عن الرأي هو بدوره علامةٌ قوية على الحرية التي ننشُدها.

وأما شر الصحافة على فكرنا المعاصر فهو مستطيرٌ جسيم؛ لأنها طبعَت الفكر العربي المعاصر بالسطحية والتفاهة وقلة النضوج؛ فهذه هي الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية تفتح صفحاتها لأقلام الكُتَّاب كلما أشرقت الشمس مع الصباح أو غَربَت مع المساء، وهؤلاء هم الكُتَّاب المفكرون يسرعون كل يوم إلى مكاتبهم يلقَفُون نتفةً من هنا ونتفةً من هناك لتكون لهم مقالةٌ في هذه الجريدة أو تلك، فكاتب من ألف كاتب هو الذي يُصِمُّ أذنيه عن نداء الصحف السيارة، ليهدأ إلى مكتبه عامَين أو أكثر، حتى يُنضِج كتابًا كاملًا في موضوع؛ إن الثمرة الطيبة بحاجة إلى زمن حتى تنضج، ولا بد أن تكون طوال هذا الزمن في مأمن من الزعازع والأعاصير ومن المطر والحشر، لكن الصحافة عندنا قد جُنَّ جُنونها فأطاحت بعقولِ المفكرين معها في سرعة دورانها.

إنني لا أقصُر القول هنا على الإنتاج الأدبي وحده، بل إنه ليشمل أبحاثنا العلمية ومشروعاتنا الإصلاحية كذلك؛ فكم من باحثٍ علمي لا يجد في نفسه الأناة التي تدعوه إلى التمهُّل والرويَّة والتثبُّت؛ لأنه أمام صحافةٍ مستعدةٍ لنشر بحثه ممهورًا باسمه، فسرعان ما يزيغ بصره، فيُضحِّي بالأمانة العلمية في سبيل النشر السريع والشهرة العاجلة، وكم من رجلٍ مسئول من رجال الدولة، لا يتأنى بمشروعه الذي قد يُكلِّف الخزانة ملايين الجنيهات؛ لأنه يخشى أن تفوته فرصة النشر السريع.

حُبٌّ للحرية والتسامُح وسَعَة الأفق، وترجيحٌ لأحكام العقل أو محاولةٌ ذلك، ثم سطحيةٌ دعت إليها الصحف؛ تلك هي السمات البارزة التي تطبع الفكر العربي المعاصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤