مقدمة
المحيطات هي الموئل الطبيعي الأكثرُ تميزًا وروعةً على كوكبنا. فهي تُغطي ٧١ في المائة من سطح الكوكب، وتُشكِّل مساحةً شاسعة من المجال الحيوي السائل المتَّصل عالميًّا، وتدعم نظامًا من أشكال الحياة، فائقَ التنوُّع وبديعًا في تكيُّفه؛ بدءًا بالفيروسات المجهرية، والبكتيريا، والعوالق، وصولًا إلى أكبر الحيوانات التي لا تزال تعيش على كوكبنا الأرضي، وتضم العديدَ من أكثر نظم الأرض البيئية البالغة الأهمية، والباعثة على الفضول، والمتعذر سبرُ أغوارها. لهذه الأسباب وحدها، فإن علم الأحياء البحرية — أي دراسة طرق معيشة كائنات المحيطات وتفاعلها معًا ومع بيئاتها — هو موضوعٌ متأصل الأهمية وشديد الجاذبية، لطالما غذَّى لدينا التساؤل، والفضول، والدوافع الاستكشافية على مدارِ أجيال.
ولكن الآن بعد أن دخلت الأرض عصر الأنثروبوسين، تلك الحِقبة الجيولوجية الجديدة التي يُحدِث فيها البشرُ تغيرًا كبيرًا في البيئة العالمية، تشهد المحيطات تغييراتٍ سريعةً وعميقةَ الأثر. ومن ثَم تكتسب دراسةُ علم الأحياء البحرية أهميةً وإلحاحًا زائدَين؛ إذ يُناضل الناس من أجل فهْم هذه التغييرات وإدارتها. فنحن ندرك الآن تمامَ الإدراك أن النظم البيئية الفعالة في المحيطات توفِّر خدماتٍ ضروريةً لبقاء البشر ونفعهم؛ حيث تُنتج نصفَ الأكسجين الذي نتنفسه، وتعمل على استقرار المناخ على الكوكب، وتحافظ على النظم البيئية التي تحمي سواحلنا، وتُمدُّنا بغذاءٍ صحي وفير، وتضم مجموعةً متنوعة من الكائنات الحية التي تُزودنا بالمنتجات الطبيعية اللازمة في مجالَي الأدوية والتكنولوجيا الحيوية، وتَدعم العديد من أشكال الترفيه والسياحة.
وبذلك فإن قيمة النُّظم البيئية الصحية والسليمة للمحيطات لا تُقدَّر بثمن؛ فمِن دونها لا توجد الحياة كما نعرفها على الأرض. على الرغم من ذلك يحاول خبراءُ الاقتصاد وصانعو السياسات بانتظامٍ وضْع قيمةٍ نقدية على خدمات المحيطات الرئيسية؛ من أجل تسليط الضوء على أهمية الاستثمار في حماية المحيطات، ويُحقِّقون في ذلك نتائجَ مدهشة بالفعل. وقد قدَّمَت دراسةٌ حديثة تقديرًا غايةً في التحفظ لقيمة «الناتج البحري الإجمالي» السنوي لخدمات المحيطات، الذي يمكننا اعتباره معادلًا لإجماليِّ الناتج المحلي لإحدى الدول؛ إذ قدَّرَته بتريليونين ونصف التريليون دولار أمريكي، كما قدَّرَت إجماليَّ قاعدة أصول المحيطات بقيمة ٢٤ تريليون دولار أمريكي؛ فلو كانت المحيطات دولةً لعُدَّت أحدَ الاقتصادات السريعة النمو، ضمن أكبر اقتصادات العالم.
مما يدعو للأسف أن الأنشطة البشرية قد ألحقَت الضررَ بالمحيطات سنواتٍ عديدة. فقد بات من الواضح الآن أن الصيد الجائر، وتدمير الموائل، والتلوُّث، وانتشار الأنواع الغريبة، وانبعاث غازات الدفيئة المُغيِّرة للمناخ تُحدِث تغييراتٍ كبيرة في المحيطات وفي أشكال الحياة التي تعيش بداخلها وتُلحق بها أضرارًا جسيمة. يؤدي هذا إلى تدمير جمالها الطبيعي وتنوُّعها البيولوجي كما ينال بشدةٍ من قدرتها على توفير نُظم دعم الحياة والخدمات التي تُعزز من سلامتنا ورخائنا. وحيث إن عدد السكان سيزيد من ٧٫٧ مليار إلى نحو ٩٫٨ مليار على مدى الثلاثين سنةً القادمة، فستشتدُّ مثلُ هذه الضغوط وتُشكِّل تهديدًا متزايدَ الخطورة على رَفاهيَة البشرية.
غير أنه من المُبشِّر سرعةُ تنامي الوعي المجتمعي، والاهتمام، والانشغال بالمسائل البيئية البحرية؛ مما أدَّى إلى تصاعد الاهتمام لدى عددٍ أكبر من الناس في جميع أنحاء العالم بعلم الأحياء البحرية، وسعيهم إلى تعزيز فهمهم للتأثيرات التي نُلحِقُها بالمحيطات. يهدف هذا الكتاب إلى الإسهام في هذا الاتجاه الميمون بتوفيره لمقدمةٍ ميسرة، وشاملة، ومواكبةٍ لأحدث التطورات عن بيئة المحيطات وطبيعة الحياة فيها بحيث يتسنَّى للقرَّاء إيلاءُ تقديرٍ أفضل للجمال والتعقيد المتأصلَين في النظم البحرية، ولأهميتها لكوكبنا وللمجتمع البشري، ولبعضٍ من عواقبِ زيادة التأثيرات البشرية، وفي النهاية، لبعض الإجراءات اللازمة لوضعنا على الطريق الصحيح في سبيلِ إقامة علاقةٍ أكثرَ استدامة مع محيطاتنا؛ كي نتمكَّن من إعادتها إلى حالتها الأصلية، وحمايتها من أجل الأجيال القادمة.