فُجَاءَة الذي … فجأة!

وإذا كنت قد اكتشفت جديدًا في ساحل عمان … فقد فشلت في اكتشاف أي شيء جديد أو قديم في قطر. كانت قطر هي آخر قرية كبيرة، وبدلًا من المعسكر كانت هناك شركة النفط، ثم عشرات من التجار الأقوياء، وإن كان أغلبهم من أصول غير عربية.

وإذا كان أهل الإمارات يمتازون بالدماثة والسماحة والدهاء الشديد، فالقطري جاف الطبع وحاد المزاج، وهو فخور بتاريخه القديم بمناسبة ومن غير مناسبة. كان القطري يفخر بأنه من نسل قطري بن الفجاءة. وتسأل عن أمجاد القطري، ويكون الجواب أنه من قطر، وأنه كان في رحلة إلى بلاد اليمن، ثم جاء فجأةً إلى قطر، فسُمِّي فجاءة!

والمثقف القطري يفخر أيضًا بأن حركة القرامطة ظهرت بوادرها الأولى في قطر، وإن كان هناك قول آخر للتاريخ بأن الحركة ظهرت في البحرين، إلا أن القطري المثقف يسوق لك ألف دليل على أنها هبَّت من قطر، وأن ابن قرمط كان قطريًّا يحمل الجنسية القطرية، وربما استبدت الحماسة بالمثقف القطري، فأكد لك أنه كان يعمل في شركة النفط في قطر.

وقد شهدت قطر في الخمسينيات والستينيات دعوات تنادي بعدم تدريس تاريخ مصر والعراق وسوريا وغيرها لطلبة قطر، والاكتفاء بتدريس تاريخ قطر، وعدم تدريس جغرافية الوطن العربي، والاكتفاء بتدريس جغرافية الخليج، ولكن حظ قطر الحسن أنها نجحت في التغلب على هذه الدعوات. وربما يمكن القول الآن — وفي منتهى الأمانة — بأن نظام التعليم في قطر يعتبر من أرقى نظم التعليم في الوطن العربي، وكان ذلك بفضل وزير التعليم السابق، وأيضًا بفضل عربي من مصر اسمه (كمال ناجي).

وسيبقى لقطر فضل على منطقة الخليج — بعد الكويت بالطبع — أنها كانت كعبة كل المهاجرين من إمارات ساحل عمان، ففيها شركة للنفط، وفيها حركة تجارية نشيطة. وأسباب العيش متوافرة إلى حدٍّ كبيرٍ. كما أنها كانت مقصدًا لطلاب العلم. فأحمد خليفة السويدي مثلًا، أقام وتعلم وعمل في قطر فترة طويلة من الزمان، قبل أن يعود إلى مسقط رأسه في أبوظبي. وعلي الشرفا أيضًا، وعشرات من المسئولين في دولة الإمارات. حدَّثني رئيس تحرير مجلة أسبوعية في أبوظبي، أنه عاش فترة من صباه وشبابه في قطر، وأنه كان يعمل (بوي) في شركة النفط. و(بوي) تعني فرَّاشًا بالعربي الفصيح. وقال لي مدير بنك في دولة الإمارات: إنه عندما اشتد الجدب والجفاف في ساحل عمان، هاجرت الأسرة في زورق شراعي من الخليج إلى قطر، ولكن الرياح كانت عاصفة، والبحر كان أكثر هياجًا، فانقلب الزورق وأشرفت العائلة على الهلاك، ولكنهم تمكَّنوا من النجاة بمعجزة بعدما فقدوا واحدة من بنات الأسرة. وفي النهاية استطاعوا الوصول إلى قطر حيث عمل رب الأسرة في البنك، وعمل أبناؤه في مهن شتى، واستطاعوا مواصلة الحياة حتى عادوا مرة أخرى إلى الإمارات. ولكن الحال كانت قد تغيرت والدنيا كانت قد تبدَّلت (رفع سماعة التليفون خلال الحديث ليبلغ عميلًا له في لندن بموافقته على صفقة بعشرين مليون درهم).

وفي خلال زيارتي الأولى لقطر، اجتمعت مع الأمير السابق لمدة نصف ساعة، لم نتبادل فيها كلمة واحدة، ولكني تناولت خلالها الشاي مرتين والقهوة مرة واحدة، وشممت البخور في نهاية (الحديث). كان منطويًا على نفسه، ومرتابًا في كل الناس، وكان يقضي في قطر شهرين طوال العام، وفي القنص شهرين، وفي الاستجمام من عناء القنص شهرين، وباقي شهور السنة يقضيها في قصره على شاطئ الخليج في دبي.

وقد حضرت مباراة كرة القدم حُدِّد موعدها في الرابعة بعد الظهر، ولكنها لم تبدأ إلا في السادسة، بسبب عدم وصول الأمير الذي أقيمت المباراة تحت رعايته. وعندما وصل الأمير وعزفت الموسيقى السلام الأميري، لم أتمالك نفسي من الضحك! فقد كان الأمير طفلًا في الخامسة من عمره، وقف يصفق ويصرخ أثناء عزف النشيد. وبالطبع دارت المباراة في الظلام، وانتهت بانتصار فريق قطر، مع أنه كان يلعب في قطر مع بطل أندية أفريقيا، ولكن في ذلك الزمان، لم يكن أحد يستطيع أن يلعب في قطر ويفوز، ولو كان الفريق الزائر مكونًا من أحد عشر (بيليه). وعندما عاتبت الحكم الذي أدار المباراة لسوء تحكيمه ولجهله بقواعد اللعبة، رمقني بنظرة ذات مغزى، وقال لي في حكمة غريبة: «لسنا هنا في كأس العالم، المهم أن تنتهي المباراة في سلام، وأن نجلب السعادة إلى قلوب الحاضرين.»

ولكن موقفًا عظيمًا يُذكَر لقطر، وهو ندرة العنصر الأجنبي على أراضيها، ووفرة العنصر العربي، وهي ليست مسألة عشوائية، ولكنها جاءت نتيجة تخطيط سليم، وربما نظرة قومية من أعلى. وبالرغم من أنها لا تزيد في المساحة والسكان عن بنها في مصر، أو حمص في الشام، أو الحلة في العراق، إلا أنك ستجد فيها محطة إذاعة ولا محطة (صوت أمريكا) وتليفزيونًا ملونًا، ومدينة رياضية، وحفنة صحف ومجلات، ومصنعًا للحديد والصلب.

•••

سألت جاري في الطائرة — وهو إنجليزي من لندن — عن المسافة بين قطر والبحرين، فأجابني بأن المسافة بينهما هي نصف قرن بالتمام والكمال! والذي قاله الرجل الإنجليزي الخبير هو الواقع. ففي البحرين حضارة وتاريخ ومجتمع، وفيها حكومة قوية عفية كحكومة قطر، ولكن فيها أيضًا حركة ثورية، أحيانًا فوق الأرض، ودائمًا تحت الأرض. وصوت الناس له زئير في البحرين، أحيانًا يشتد كزئير أسد جائع في غابات كاتنجا، وأحيانًا يلين كزئير أسد أفلام مترو. ولكنك ستستمع إلى الزئير في كل مرة تطأ فيها قدماك أرض البحرين. وناس البحرين أذكياء، وهم أشطر تجار الوطن العربي، وأعلم أهل الخليج، ومنهم الفنانون والممثلون والراقصات.

وأشهر مطرب في الخليج بحريني اسمه محمد زويد، استمعت إليه في جلسة خاصة، وأشفقت عليه؛ فقد كان يغني بقطرات الدم المتبقية في عروقه، وبخفقات قلبه الذي أصابه الوهن بفعل السنين الطويلة، فقد كان الرجل يزحف نحو الثمانين، وقد شرب ليلتها حتى ثمل، وجلس على الأرض وراح يدندن على العود، ويحاول أن يستخرج صوتًا من داخل تلافيف تجاويف صدره، يهتز وهو يغني كعصفور أصابه البلل، ويرتعش كقطة تلِد في زمهرير الشتاء. ولكن صوت محمد زويد، بالرغم من كل شيء كان قويًّا ودافئًا وصادقًا، وقد سرحت مع صوته إلى سحيق الماضي، وطويت القرون القهقرى إلى صدر الإسلام، إلى شعاب مكة وجنات المدينة، وإلى مَعْبَد وابن سريج. وكان محمد زويد يغني الكلمات نفسها التي غناها كلٌّ منهما في أرض الحجاز، كلمات الشاعر الشقي عُمر بن أبي ربيعة، والألحان، لعلها هي نفسها، والجو هو نفسه.

وما الفرق بين العوالي في البحرين والحفائر في مكة؟ وما الفرق بين المنامة في البحرين ومرج ابن سعد في المدينة؟ وما الفرق بين مَعْبَد والزويد؟ ثم ما الفرق بين جمهور المستمعين في المدينة زمان وبيننا نحن الذين اجتمعنا تلك الليلة نستمع إلى محمد زويد في البحرين؟ لعل الفرق الوحيد هنا، أننا كنا ليلتها مجموعة عرب نحمل أكثر من جنسية؛ (أبو فيصل) من الكويت، و(الدرويش) من قطر، و(فخرو) من البحرين، وآخر لا أعرف اسمه من اليمن، وأنا من مصر، وكنا مهزومين؛ فقد كانت حرب الأيام الستة تلملم أذيالها، وكان بعضنا يحاول أن ينسى، وبعضنا يحاول أن يشمت. ولكن الهزيمة كانت تطحننا جميعًا، والعار يرفرف على رءوسنا كلنا، والخزي هو طابع الجميع.

ما أبعد الفارق بيننا وبين سميعة زمان … في الزمان، وفي واقع الحال. كانوا — عكسنا — يحتفلون بالنصر، وكانت جيوشهم تزرع أعلامها في أرض الروم والفرس، وكانت لهم دولة واحدة وجواز سفر واحد، وكان موتاهم شهداء، وأحياؤهم سادة. وكانت لياليهم ليالي الملاح والأفراح، بينما ليالينا هي الهستيريا والعصبية والارتداد إلى داخل النفس ولعق الجراح. تبدَّلت الأمور والأحوال يا ولداه، وتقطَّعت الأوصال والصلات، لم يبقَ فينا من السلف الصالح إلا كلمات ابن أبي ربيعة. وهي ظاهرة صحية على أية حال، ثم هي ظاهرة فريدة ليس لها مثيل في أي مكان؛ فليس هناك شعب يغني أغنية عمرها ألف وأربعمائة عام إلا شعب العرب. حضارة متصلة تضرب جذورها في بطن التاريخ إلى غور بعيد، كشجرة الجميز الطيبة التي تضرب جذورها في الأرض إلى عمق عميق. وا أسفاه! الجذور طيبة، والأفرع سامقة، ولكن الأوراق ذابلة، والثمار بعضها فاسد، وبعضها أصابه العطب والعطن.

ولكن ها هي البحرين، على أي حال، تحاول أن تصل الحاضر بالماضي، وهي بالفعل تعيش في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل! وها نحن ومعنا سيدات والميني جيب فوق الركبة، وأحيانًا فوق الرقبة. والاختلاط مباح. والمرأة لها في البحرين وجود، والناس بالإنجليزية ترطن وبالفرنسية تتلاعب، والتجار شطار، ولكن بشرفٍ.

وإن كنت محظوظًا لأني التقيت بالصديق صالح شهاب في البحرين. وصالح وهو وكيل وزارة الإعلام في الكويت، ولكنه في البحرين أشهر من سبع كوبري قصر النيل في القاهرة، ولو يرشح صالح نفسه في البحرين لصار نائبًا عن عموم الأمة. والسبب أنه درس أيام الشباب في البحرين، ولذلك فهو معروف على مستوى الحكومة، وعلى مستوى السوق، وعلى مستوى المتسولين الذين يحيطون بالمساجد.

ومن خلال أبو فيصل، دخلت البحرين المخملية، ورأيت البحرين المرتاحة، وعشت مع البحرين الممتلئة الثرية، ولكن بحرين النوادي والثورة والطلبة، أنا رأيتها بنفسي، ودخلتها بمعرفتي. وقد بهرني ما رأيت وهزَّني ما شاهدت. شباب كالورد يحلم ببحرين عربية، وببحرين قوية، وببحرين مركز إشعاع، تؤثر في شبه الجزيرة ولا تتأثر، وتصوغ مستقبل المنطقة وتلعب فيها دور الضمير والفؤاد.

والحق أقول إن الفرصة كانت مواتية والظروف كانت مناسبة. والبحرين الصغيرة كانت تموج بالأفكار والآراء، وتضطرب بالحياة والأحياء، وكان فيها أكثر من رأي، وأكثر من صوت، بينما كل شيء حولها كان مجرد صحراء تمتد عشرات الألوف من الأميال كعملاق فارقته الروح، وفي المواجهة تقف إيران تتربص وتتلمظ.

البحرين الصغيرة كانت واحة شبه الجزيرة، و(باريس صحراء العرب)، ومرفأ بحر الظلمات الذي ليس له شواطئ.

•••

ولكن البحرين التي عرفتها لم تستمر، حاصرَتْها مشاكل المنطقة وتغلبت عليها في النهاية وفرضت عليها قوانينها! ومأساة البحرين تحتاج إلى شاعر عظيم كالمتنبي يخلِّدها على طول الزمان، وتحتاج إلى أكثر من مطرب يشدو بها في السهرات، ويسرح بها في الأسواق. وقد يسأل سائل: وما هي مأساة البحرين؟ وهل حدث لها مكروه لا قدر الله؟ والجواب كما سبق وأن قلت: إن البحرين كانت واحة شبه الجزيرة، وكانت حديقة الخليج، وكانت بمثابة الرئة التي تتنفس منها صحراء العرب المحرقة. وكان عشمنا في الله كبيرًا، أن تتسع دائرة الضوء التي تشع من البحرين لتشمل الخليج كله. ولكن الذي حدث كان عكس ما توقعناه، وأصبح النظام في البحرين جزءًا من النظام في الخليج، وإن كانت لا تزال تتميز بأن العنصر الأجنبي فيها نادر للغاية، وبأن الأمن فيها أحكم من الأمن عند جيرانها، كما أن الجسر الذي ربطها بالسعودية جعلها في مأمن إلى الأبد من أطماع الجالس على عرش فارس، سواء كان يُدعى الشاه أو يتلقب بالإمام. ومع ذلك أرجو أن تعود البحرين إلى سالف عهدها القديم، حيث كانت ممرًّا ومقرًّا للأفكار الحرة وللفن العظيم.

وإذا كان الحديث عن البحرين، فلا بد أن نذكر بالخير حاكم البحرين، أطيب الحكام العرب الذين عرفتهم والذين لم أعرفهم، وإن كان أفقرهم. ولكن ما أشد غناه في السماحة واللطف وحرارة الاستقبال. ولا بد أن نذكر أيضًا كوكبة الشباب المثقف الذي يشترك في توجيه دفة السفينة التي تقف الآن في مواجهة أطماع إيران، وترفع راية العروبة في وجه التحديات والمؤامرات.

وهتفت وأنا أغادر البحرين في آخر زيارة لها: «يا رب، احفظ بإرادتك القاهرة أرض البحرين الطاهرة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤