آك سوري إكواني!

ومن البحرين عبرت أنا الخليج، وعبرت السعودية، وعبرت البحر الأحمر، وحطَّطت الرحال في السودان. وإذا كان شعب البحرين يسيل رقة، فالرقة نفسها هي شعب السودان. فأنت في الخرطوم مثلًا تستطيع أن تنام مفتوح الأبواب، ولن يجرؤ أحد أن يمس طعامك أو متاعك:

والحزب الشيوعي السوداني مثلًا يصرخ بالحناجر طوال النهار ضد حزب الأمة، وحرب الأمة يشهر الخناجر طوال النهار ضد الحزب الشيوعي، والحزب الوطني يستنكر أعمال الطرفين. ولكن الجميع سيجتمعون في الليل حول مائدة العشاء، وسيشربون جميعًا من نهر الويسكي الذي يجري تحت الأقدام. ولما أبديت إعجابي بهذه الظاهرة، همس أحدهم في أذني … هذه هي الطريقة السودانية. فالخصام لا يتحول في السودان إلى كراهية، والخلاف لا يتحول إلى حقد، والنقاش لا يتحول إلى شجار لا يتحول إلى معركة، والكل أصدقاء وأحبة.

والرجل في السودان اسمه (زول) والمرأة اسمها (حبوبة)، وكل شيء في السودان فسيح وعريض وممتد: الأرض الزراعية بلا حدود، والغابات تسد عين الشمس، والأنهار تجري بإذن ربي، وبينها قنوات وروافد، والخير على قفا من يشيل، والسعي على المهل، والرزق مضمون عند السماء الصافية، والدنيا حظوظ … ومزاجات!

هكذا كانت الأحوال عندما هبطت السودان أول مرة، وشعرت منذ أول لحظة أني رأيت هذا المكان من قبل. ولقد حدث لي في السودان حادث لم يحدث لي مثله من قبل، ولم يحدث لي بعد ذلك قط. جلست على رصيف في أم درمان مع مجموعة من الأصدقاء، كان بينهم سبت دودو حارس مرمى السودان الشهير وأعظم حراس المرمى في أفريقيا يومًا ما، و(سبت دودو) معناها بالعربي أسد يوم السبت. وقد امتدت السهرة بنا وطالت، وكنا قد أكلنا فولًا وبصلًا وكسرة وشرموت. وفجأة استأذنت، وبعد أن صافحت الجميع، انصرفت مسرعًا لا ألوي على شيء، ولم يسألني أحد منهم إلى أين أنت ذاهب؟ فقد كان من المفروض أن أسهر معهم إلى أي وقت، فإذا رغبت في العودة إلى (الجراند أوتيل)، ذهبت في سيارة أحدهم. المهم أنني استأذنت فجأة، وانصرفت على عجلٍ، ووقفت على بُعد عشرة أمتار منهم بجوار ما تصورت أنه محطة أتوبيس، لماذا؟ لأنني ألغيت تمامًا مسألة وجودي بالسودان، وتصورت نفسي على الرصيف في حي عابدين! وما دامت الساعة قد أصبحت الثانية صباحًا، فلا بد من عودتي إلى الجيزة قبل أن تتوقف وسائل المواصلات. ولكني عدت إلى رشدي بعد دقائق، واكتشفت أنني على بُعد آلاف الكيلومترات من القاهرة، وأن الرصيف الذي كنت أجلس عليه منذ خمس دقائق، هو في أم درمان وليس في عابدين! وعندما عدت أدراجي إلى شلة الأصدقاء السودانيين انفجروا ضاحكين، فقد اكتشفوا ما حدث للعبد لله من تداخل في الزمان والمكان.

إلى هذا الحد أنسى نفسي في السودان؟! نعم. وأنا مثلًا وقفت عند المجرن، حيث يلتقي النيل الأزرق والنيل الأبيض ليخرج من عناقهما الخالد نهر النيل العظيم، يتدفق مخضوضرًا معشوشبًا نحو الشمال. أنا وقفت هناك ذات أصيل، وإذا بي أشم رائحة الأرض في المنوفية. عند الشجرة، أنا تصورت نفسي عند القناطر الخيرية! أنا في قرية الكدرو تصورت نفسي في قرية بهناي في المنوفية، أو في قرية العزيزية بالجيزة، أو في ميت يعيش في الدقهلية! الجو هو نفسه، والطين نفسه والرائحة نفسها، وكل شيء هناك له مثيل هنا، حتى الشجر والحجر والبني آدمين!

يا ميت حلاوة على السوداني الأصيل، إذا سكر فهو الشراب ذاته، وإذا ضحك فهو الفرحة نفسها، وإذا بادلك الصفاء والود، فلا صفاء ولا ود بعد ذلك. ولكن احذر السوداني إذا غضب، وهو لا يغضب إلا للشديد القوي. وكما أن في كل جماعة الطيب والخبيث، والصالح والطالح، إلا أنني عندما أصادف سودانيًّا خبيثًا، أبدو كمن صعقه تيار، وكأنه من المفروض ألا يوجد سوداني خبيث، وكأنه من البديهي أن كل أبناء السودان من الصحابة، ومن أولياء الله الصالحين!

وربما لهذا السبب، وأيضًا لأن كل السودانيين طيبون، فأنا أتصوَّرهم جميعًا لهم نفس الملامح، فالطيب الصالح يشبه علي شمو، يشبه الدكتور عقيل، يشبه فاروق أبو عيسى، يشبه الدكتور عبد الحميد عبد الرحمن، يشبه الدكتور محجوب، يشبه خالد عباس، يشبه الدكتور عبد الحميد صالح … فكلهم رجل واحد، ولأنه سوداني إذن فهو طيب، وهو إنسان بالرغم من اختلاف المذاهب والمناهج والطريق.

ولكن للحقيقة عرفت سودانيًّا اسمه (أبو آدم)، وهو مثقف من إياهم. ويومًا كان من أهل اليسار عندما كانت أعلام اليسار مرفوعة وأمواجه عالية، ولكنه خلع جلده فجأة، وانضم إلى يسار آخر، وإن كان يسلك عكس اليسار القديم. ولم تكن حركة الانتقال نتيجة دراسة ومقارنة واقتناع، ولكن لأن اليسار الجديد الذي انضم إليه كانت فلوسه كثيرة وشيكاته حاضرة، ولا أستطيع أن أقول بأن (أبو آدم) هذا هو أخبث سوداني، ولكني أستطيع القول بأنه أخبث بني آدم. وأغرب شيء أنه عض اليد التي امتدت له خلال محنته في الجيزة، وتنكَّر للناس الطيبين الذين احتضنوه أيام تشرده.

وعندما أبديت للصديق علي شمو دهشتي من وجود سوداني من هذا النوع، أجابني الصديق علي شمو مبتسمًا: هكذا السوداني، إما نموذج من السماء، وإما نموذج من الحضيض. ولأن الذين في الحضيض قلة، لذلك ستجدهم في حضيض الحضيض، ولأن الحياء هو ميزة السوداني، فإذا زال الحياء عن السوداني فقل عنه ما تريد.

وأنا لا أسوق مثال (أبو آدم) هذا لمجرد التفكُّه، ولكن لأن (أبو آدم) بتاع الجيزة سيجرنا إلى شيء أخطر، إلى (أبو آدم) آخر كان يحكم السودان منذ وقتٍ قريبٍ. وفي عهد (أبو آدم) النميري، تحوَّل السودان إلى ساحة معارك، وتحوَّلت الخصومة السياسية إلى حروب قبلية، وأصبحت كل أيام السودان من أيام داحس والغبراء. والسبب أن (أبو آدم) النميري استطاع أن يغير من طبيعة السودان. فلأول مرة في السودان يتعلق المخالفون في الرأي على المشانق، وتجري كل عدة أسابيع مذبحة في الشارع، ويُطلَق النار على المعارضين دون محاكمة. إنها أشياء جديدة على السودان، وهي من أفضال (أبو آدم) النميري، الذي تختلف طبيعته كثيرًا عن طبيعة شعبه، والذي جاءت به الأقدار التعيسة على رأس السودان، وعلى يديه تحوَّل البلد الآمن المطمئن إلى عش زنابير، وبفضله تحوَّل النيل الأبيض إلى النيل الأسود، وتحوَّل النيل الأزرق إلى أزرق نيلة.

•••

ومن كان يتصور أن الشعب السوداني سينتفض مرة كل عدة أشهر، وأحيانًا كل عدة سنوات ليقدم الشهداء تلو الشهداء، ولكي يزيح عن صدره كابوس الظلم والظلام. لعلي أستطيع أن أزعم بأني كنت أتصور ما حدث لمعرفتي بشعب السودان. والذي يريد أن يعرف شعب السودان على حقيقته، عليه أن يدرس على الطبيعة نيل السودان الأبيض ونيله الأزرق. فكلا النهرين ينحدران من الجنوب إلى الشمال، ويلتقيان عند أم درمان، ليتعانقا معًا وليكملا المشوار في نيل واحد لا هو أزرق ولا هو أبيض، ولكنه نيل فقط … والسلام.

ولكن ما أبعد الفارق بين النيلين! النيل الأبيض طيب هادئ فسيح ما بين الشاطئين ضحل المجرى، وحيواناته ضخمة مثله، طيبة مثله: أفراس بحر، فيلة، وقطعان هائلة من الغزلان والزرافات تشرب على الشاطئين. ويُخيَّل لمن يقف على شاطئ النيل الأبيض أنه نيل ميت، والسبب أن سطحه هامد وخامد، فلا موجة ولا دوامة ولا حتى سمكة تتلعبط، لأن السمك الذي تحت الماء سمك أهبل وطيب وعبيط وضخم الجثة. والسمكة الرشيقة في النيل الأبيض تزن مائة كيلو، وبعضها يصل وزنه إلى ثلاثة أطنان، واسمها (العجلة)، وهي أحيانًا ضعف حجم البقرة، ويبيعونها بالكيلو على شاطئ النيل!

وبالعكس تمامًا تستطيع أن تصف النيل الأزرق، فهو نيل هادر ثائر عميق الغور، ضيق المجرى، متوحش وعنيف، تستطيع أن تسمع صوته من مسافة بعيدة، وهو ينحدر بعنفٍ من فوق جبال الحبشة، دافعًا أمامه أطنانًا هائلة من الحجارة والصخور والطمي، وفي أعماقه تتصارع وحوش بحرية هائلة، وتماسيح عملاقة تخطف حتى الفيلة التي تدنو من الشاطئ، وأسماك متوحشة لها حراب ولا حراب مقاتل زنجي من مدينة واو. وفي النهر دوامات تبتلع من يقترب منها، وأمواج تلطم الشاطئ بشدة، وتيارات تسحب من يقف في وجهها، وأعشاب سامة ينشق عنها قاع النهر تقتل من يأكلها أو يلمسها.

ومن صفات النيل الأزرق وصفات النيل الأبيض، استمد السوداني صفاته، فهو طيب هادئ كالنيل الأبيض، وهو أيضًا هادر ثائر متوحش كما النيل الأزرق، وهو لا ينام عن ثأره، ولو نامت كل الأحياء، وهو لا ينسى الإساءة، وإن كان يبدو للسذج أنه حليم إلى ما لا نهاية، ولا أحد يستطيع أن يحكم السوداني بالقوة أو يفرض عليه نظامًا بقوة السلاح.

ولقد أخطأ النميري حين تصور أنه قادر على أن يحكم شعبًا رغم أنفه، وهو من أجل أن يبقى في السلطة، جعل في كل بيت قتيلًا، وجعل بينه وبين كل سوداني ثأرًا. ولأن الخطأ كان فادحًا، فالثمن كان أفدح. وعندما سقط النميري من فوق عرشه الذي أقامه على تل من جماجم الشهداء، كان السودان نفسه قد تغير؛ لم يعد السودان بعد النميري هو نفسه السودان قبل النميري، والفرق بينهما هو ذات الفرق بين هيروشيما قبل القنبلة الذرية وهيروشيما بعدها.

وإذا كان هذا هو السودان السياسة، فالسودان الناس ما أحلاه. والسوداني كالمصري سيصبح صديقك بعد أول كأس، وسيصبح أصدق الأصدقاء بعد الكأس الثالثة، وقد يموت من أجلك بعد أن تفرغ الزجاجة. وإذا أحبك السوداني فكل شيء فيك جميل، حتى النهار الذي وصلت فيه هو أجمل الأيام، والمناسبة التي جئت من أجلها هي أحلى مناسبة.

والمرأة السودانية إذا أحبَّتك ستمنحك كل شيء، وهي رقيقة وعذبة وحبابة ومغرقة في الرومانسية، ومتأثرة بعض الشيء بروايات الحب في السينما، وبعضهن يمثِّل في الحياة أدوارًا سبق لهن مشاهدتها على الشاشة. حتى المرأة السودانية المبذولة للراغبين في حي الامتداد تختلف عن أي امرأة مثلها على ظهر الأرض، فالونسة هي الشيء الأهم، والمناقشة تأتي في المرتبة الأولى، وقبل كل شيء. وقد يزدرد الزبون عشر زجاجات بيرة قبل اللقاء والعناق، فلا شيء يدعو إلى العجلة.

والبنت السودانية العادية تقطر خفرًا وحياءً، وهي تتعثَّر حين تمشي، وتتكسر حين تميل، وتصاب برصاصة إذا صوَّبتْ نظرتها إليك، وليس أجمل من هذا العصير العربي الأفريقي، ولا أمتع من هذا المزيج السامي الزنجي الذي أنتجه عرب قحطان وزنوج الدنكا، وكانت نتيجته هذا الجمال (العربيقي)، أو هذا الجمال (الزنجعربي) إذا صح التعبير!

ولعل هذا يفسر لماذا تزوج كل أفراد الجيش المصري الذين خدموا في السودان أو بعضهم من بنات الجنوب، وبعضهم أقام هناك فلم يبرح مكانه، ولم يعد إلى شمال الوادي. تعرَّفت هناك على مصري عجوز يفتح دكان بقالة في الخرطوم. كان قد ذهب جنديًّا في جيش مصر وتزوج هناك وأنجب أولادًا، وعاش في التبات والنبات، فلما انتهت خدمته آثر البقاء في الخرطوم، واشتغل بالتجارة، وازدهرت أعماله، ولكنه في الخامسة والخمسين أصبح وحيدًا، فقد ماتت زوجته، وتفرق عنه أولاده، وعندئذٍ قرر العودة إلى مسقط الرأس. وعندما التقيت به في الخرطوم، كان قد تجاوز السبعين ولكنه لم ينفذ حلم العودة قط، بالرغم من أنه كان يذهب كل عام إلى محطة السكة الحديد ويقطع تذكرة العودة، ويذهب إلى السوق فيشتري كل ما يحتاجه من أغراض، ويعد الحقائب ويجلس في انتظار يوم السفر، إلا أن يوم السفر هذا لم يأتِ قط، كأنما في الأرض خيوطٌ تجذب الرجل فلا يستطيع فكاكًا، أو كأن قدميه انغرستا في طين السودان فلا يستطيع الحركة. لقد كان قدره أن يبقى هناك حتى آخر أيام العمر. ولم تكن هذه قصة (عم سليمان) وحده، ولكنها قصة ألف سليمان على الأقل، كلهم تمنوا العودة وكلهم همُّوا بها، ولكنها لم تتحقق لأحدٍ منهم قط.

وإذا كان هذا هو السودان العربي الشمالي، سماحة من غير تفريط، ومحبة بكرامة، وصبر ولكن بدون يأس، فإن السودان الأفريقي الجنوبي شيء آخر. وإذا تصورت جنة الله فهي ستكون حتمًا على غرار واو أو جوبا، حيث الغابات الفسيحة تجري من تحتها الأنهار، وحيث فاكهة الجريب فروت تداس بالأقدام، وحيث كل شيء وأي شيء بازغ وآفل، وأي شيء آكل ومأكول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤