والداخل مفقود!

وكل بلاد العرب كوم وجنوب السودان كوم آخر. إنه غابة العرب الوحيدة (معذرة لأني لم أزر الصومال) وهو جنة الله في الأرض. وشعب الجنوب طيب وغلبان وعلى الفطرة، وهو لم يزل على حاله كما خلقه الله، ولولا مؤامرات الاستعمار على جنوب السودان، لكان لدينا الآن غابة بتتكلم عربي، مع الاعتذار للفنان الأرزقي سيد مكاوي.

ولكن الخواجة الذي كان يحكم ويتكلم، وضع ستارًا حديديًّا حول الجنوب، فلا أحد يدخل إلا بإذنه، ولا أحد يخرج إلا بإرادته. الأبواب مفتوحة للمبشِّرين ومغلوقة في وجه الوعاظ، الكنائس مباحة والمساجد ممنوعة، اللغة الإنجليزية متداولة واللغة العربية مطاردة، كأنها بعض لغات الشيطان. ولو كان الخواجة أصلح في الجنوب، لو أنه نشر التعليم، لو أنه أقام نظامًا للحماية الصحية، إذن لغفرنا له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر. ولكن كل شيء باقٍ على حاله: المرض يفتك بالسكان، والجوع يفري البطون، والجهل يعمي البصيرة والإبصار؛ أرادوا الجنوب غابة للصيد ومضطجعًا للراحة والاستجمام!

أغرب شيء رأيته في الجنوب تمثال للسيدة العذراء والسيد المسيح، الملامح زنجية واللون أسود، يريدون إيهام أبناء أفريقيا أن المسيح كان من أبناء القارة السوداء. ولقد وقفت أمام التمثال أتأمل وأتذكر قول شاعر أفريقي من غانا: «عندما جاء المستعمرون كان معهم الإنجيل ومعنا الأرض، وبعد وقت قصير أخذوا منَّا الأرض وأعطونا الإنجيل»!

رأيت في مدينة واو شابًّا عاريًا تمامًا من الجنوب، ولكنه يرتدي قبعة فوق رأسه، ويدخن البايب، ويرطن بكلمات إنجليزية، لعلَّه لا يفهم معناها! رأيت آخر يستند إلى جذع شجرة ضخمة ويغني أغنية أمريكية ذائعة الصيت (هابي بيرث داي)! وفي أحد شوارع جوبا استلفت نظري عدد من الشباب يرقص عاريًا تمامًا، وفي الطريق العام، وعلى أنغام موسيقى راقصة، تنبعث من جهاز راديو رقصة (الهاي لايف) وكانت هذه الرقصة هي الشيء الوحيد الذي تركه المستعمرون خلفهم في الجنوب. ولكن بالرغم من كل ما فعله الاستعمار في الجنوب، فقد اكتشفت تعاطفًا شديدًا لدى الجنوبيين مع عرب الشمال.

وأبكاني ذات مغربية ولدٌ جنوبي يغني داخل الغابة في مدينة جوبا لحنًا غاية في الأسى والشجن. كان الجو ساحرًا والشمس انحدرت وراء الغابة، وفي السماء قطع سحاب ضالة، ونسمة هواء منعشة، رائحة فواكه طازجة تحلق في الجو. وكان الولد الزنجي يغني بصوتٍ أشبه بصوت عبد الحليم حافظ مخلوطًا بصوت مطرب الخليج محمد زويد معجونًا بصوت عمنا القديم الشيخ يوسف المنيلاوي، وكانت كلماته هي عصير مأساته … خليطًا من العربية والإنجليزية والرطانة. (المندكورو) هم أبناء الشمال، ولا أدري في أي لغة تكون. و(ماتوا) معروفة بالطبع. و(سمبلة) أصلها إنجليزي ومعناها ببساطة. و… آك سوري إكواني! (آك) ومعناها آخ، حرف ندب ولطم، وتستطيع أن تجد أصلها وفصلها في قاموس أختنا الخنساء التي قضت العمر كله تندب أخاها صخرًا. و(سوري) هي سوري بالإنجليزية، بمعنى آسف، و(إكواني) هي إخواني بالعربي. والولد الجنوبي يعلن أسفه وأساه على إخوانه (المندكورو) من أبناء الشمال الذين ماتوا ببساطة، أو ماتوا أونطة، أو ماتوا بلا سببٍ. وهو يعض بنان الماضي، ويقضم أظافر الأمس، على هؤلاء الإخوة الذين ماتوا بلا ذنب، ودفعوا حياتهم بلا سبب.

وهذه الأغنية كانت منتشرة في الجنوب عقب الحرب الأهلية التي نشبت بين الشمال والجنوب في عهد الفريق عبود. ولقد أُريقت دماء كثيرة في الغابة، وضاع المئات من زهرة شباب السودان من شماله وجنوبه، وانتهت الحرب بإطاحة نظام عبود. وبقي الشمال في حاله والجنوب على حاله، ولم تحل الحرب مشكلة واحدة من مشكلات السودان. آك سوري إكواني.

ولو كانت لدى أبناء قحطان وعدنان خطة، لو كان لديهم برنامج، لو لدى الأثرياء منهم بُعد نظر وعاطفة قومية حقيقية، فإن جنوب السودان يمكن أن يتحوَّل إلى جنة العالم خلال عشر سنوات. إنه يمكن أن يصبح حديقة العرب جميعًا، وحقل العرب عمومًا، وعماد مصانع العرب في كل مكان. وهنا أعظم أخشاب العالم، وألذ فواكه الأرض وأغنى مراعي الدنيا، وأغلى جلود عرفها البشر. وهنا الأناناس في حجم كرة القدم، ولكنه يُترك على الأرض حتى يتحوَّل إلى هباء، وهنا الصمغ يُهمَل حتى يجف على الشجر، وهنا مزرعة ثعالب الكرة الأرضية، ولكن جلودها تتعفن بعد الموت. وهنا حيوانات من كل صنف وعلى كل لون، عظامها تصلح أسلحة، وجلودها تصلح أحذية، ودهنها يصلح كترياق.

ولكن يبدو أن السادة العرب في وادٍ آخر عن أراضيهم وعن خيرهم. ولماذا المشقة وكل شيء حاضر في مخازن (هارولدز)، وكل شيء موجود عند مخزن (لافايت)، وكل شيء معروض في شارع (أكسفورد). وأخشى أن نبكي على الجنوب يومًا لو ضاع من أيدينا، كما نبكي اليوم على الأندلس؛ فالجنوب ليس أقل أهمية من الأندلس، إن لم يكن أخطر، فهو بوابة أفريقيا، وحدوده مفتوحة على الحبشة وزائير وأفريقيا الوسطى، وهي مفتوحة لأن الغابة ليس لها بوابة، فكل شيء سايح ومتجول وعابر سبيل. فهكذا طبيعة الغابة، لا شيء يحدها ولا شيء يتحكم فيها، ولكن للغابة حديث آخر، نرجو الواحد الستار أن يبقينا وإياكم حتى نهتك لكم هذه الأسرار.

•••

والغابة أحوال وأهوال ومصائب سودة، ورزايا ونوايب، والداخل فيها مفقود والخارج منها مولود، أو هي هكذا على الأقل في نظر الذين لا يعرفون الغابة. ولكنها في نظر الآخرين الذين يعرفون الغابة شيء آخر، جزء من الحياة، يجري فيها ما يجري في شارع (الشانزليزيه) في باريس أو شارع (ريجنت) في لندن. صحيح أن كل شيء فيها آكل ومأكول، ولكن من قال إن هذه ليست صفة المدن الكبيرة؟ الأسد آكل الذئب، والذئب آكل الثعلب، والثعلب آكل القنفذ، والقنفذ آكل الثعبان، والثعبان آكل الطير، والطير آكل الجميع عندما يتحول الجميع إلى جثة مطروحة في العراء!

والأسد هو ملك الغابة … خرافة، صحيح هو ملك الغابة بمرسوم أصدره الإنسان، ولكن هذا المرسوم سيظل حبرًا على ورق، لأن حيوانات الغابة لم تسمح به قط. وأعجب العجائب أن ملك الغابة هو الحيوان آكل الأعشاب: الفيل والجاموس ووحيد القرن. هؤلاء جبابرة الغابة، وهم أبطال الوزن الثقيل فيها، ولهم من الجميع المهابة والتقدير والاحترام. ووحيد القرن هو أقوى الجميع وأغباها، وهو مثل ليستون، مصرعه في غبائه. وتأتي الجاموسة بعده في القوة والغباء، ويحتل الفيل في الغابة مكانة محمد علي كلاي في الملاكمة، القوة والذكاء. ولذلك سيبقى متربعًا على عرش الغابة وإلى آخر الزمان. والأسد المهاب أبو الزئير إذا التقى بالفيل في الغابة، تنحى عن الطريق وضرب للفيل تعظيم سلام.

والأسد هو أكسل حيوان في الغابة، وهو في أسرة الأسود لا عمل له إلا النوم والتثاؤب، أما القنص والعراك وحماية الأسرة وتدبير غذائها فمن واجبات اللبؤة، وهي إذا هبرت فريسة أعطت الأشبال أولًا، وما تبقى فللزوج النائم الوخمان، وتبقى هي الرمز الأبدي للفداء، أول من يصطاد وآخر من يأكل. وإذا أكل الأسد فهو آخر نوم وأحلى أحلام، وتستطيع أن تمر به وأنت آمن، وأن تلعب له بأصابعك في فروة رأسه أو تزغزه في بطنه، فهو لن يتحرك ولن يتململ، وهو لن يصير خطرًا إلا إذا جاع.

وفي قانون الغابة، أنك إذا أردت أن تصطاد أسدًا، سمحوا لك بالدخول وحدك ما فيش مانع، مع آخرين زي بعضه، لأن أي مخلوق يحمل بندقية في استطاعته أن يعود من الغابة وعلى كتفه جثة أبو السباع. أما إذا أردت أن تصطاد فيلًا، فهناك سيضعون لك ألف شرط وشرط، لأنه آه وألف آه إذا انطلقت الرصاصة نحو الفيل ولم تصب منه مقتلًا عندئذٍ نهار الصياد أزرق، وليل الغابة كحلي، وستقوم القيامة على الجميع ولن تقعد أبدًا. وليس في الوجود أخطر من فيل يسيل منه الدم، سيتحوَّل هذا الوديع إلى بركان تقذف منه الحمم تحرق ما حوله، فقد يخرج من الغابة ليهاجم القرى والمدن أيضًا، وسيحتاج الأمر عندئذٍ إلى كتيبة من الجيش لوقفه عند حده. لذلك فإدارة الغابة تشترط عليك أن تصطحب معك عشرة رجال مدرَّبين على صيد الفيل وبأسلحة حديثة. وكاذب من يدعي أنه اصطاد فيلًا في الغابة. صحيح أنه أطلق النار، ولكن الرصاصة القاتلة حتمًا سيطلقها هؤلاء المدربون العشرة، ولكنهم يتركون للصياد أن يعود إلى المدينة حاملًا على كتفه سن الفيل، وماذا يهم، ما دام يدفع الصياد تكاليف الرحلة وأجْر الحراس، ويقدم الطعام والشراب أيضًا.

ولذلك ستبقى هواية صيد الفيلة وقفًا على السادة أصحاب الملايين؛ لأن صيد فيل واحد قد يكلف إقامة شهر داخل الغابة وعدة ألوف من الجنيهات، ولكن الفيل إذا لم تعترضه لا يعترضك، وهو ذوق ومؤدب ودمث للغابة. وهو إذا شعر بدنو الأجل سار مئات الأميال داخل الغابة ليعود إلى مسقط رأسه؛ لأنه ينبغي أن يلقى حتفه هناك. ولحمه يأكله سكان الغابة، ويقسمون لك إنه ألذ من لحم الجاموس، ولكن ألذ لحم في الواقع وأغلى لحم أيضًا هو لحم القرود. والصيادون إذا اصطادوا القرود، أرسلوا الشباب منها إلى حدائق الحيوانات، والعجائز باعوها للقرداتية يسرحون بها على المقاهي والحانات. أما النسانيس الصغار فهي تُذبَح وتُعلَّق في محل جزار، وهي أغلى اللحوم سعرًا في أفريقيا. وليس في الغابة إلا المشاحنات والمشاجرات والافتراس، ولكن أخطر عراك هو الذي يدور بين الفيل ووحيد القرن، إنه صراع الجبابرة، وهي معركة ليس فيها غالب ولا مغلوب، وفي الأغلب ينتصر الفيل، ولكنه حتمًا يموت بعد المعركة بأيام وأحيانًا بساعات.

ولكن المباراة الحقيقية هي بين الوحش والإنسان، وهي مباراة عامرة بالإثارة، غنية بالفن، والنصر فيها غالبًا للإنسان؛ لأن العقل أقوى من العضلات، والذكاء فوق الأظافر والأنياب. وأي وحش في الغابة يفرُّ هاربًا إذا رأى شبح الإنسان. لا يهجم على الإنسان إلا من ذاق لحم البشر. ويقال — والعهدة على الآكل — إن ألذ لحم في الوجود هو لحم الإنسان؛ والسبب أنك لا تستطيع أن تتذوق اللحم، أي لحم بدون ملح، ولكن لحم البني آدم لا يحتاج إلى ملح؛ إن ملحه منه فيه، على رأي الممثل سعيد صالح عبيط الفن العظيم. ولذلك إذا تذوق الوحش لحم البني آدم، صار من آكلي لحوم البشر، وهو عندئذٍ سيعزُف عن أكل لحوم الحيوانات، ويبقى كل همِّه أن يظفر بواحدٍ من بني آدم يفطر به ويحمد الله، وسيبقى بعد ذلك غريبًا عن أهل الغابة، وهو سيهجر الغابة بعد ذلك، ويعيش على أطرافها، وستصبح القرى الآهلة بالسكان هي مجال عطه بعد ذلك. ولكن الحيوان لن يكتب له أن يعيش طويلًا، فسيلقى حتفه بيد الإنسان الذي عشقه كثيرًا، وتمنى لو يغرس أسنانه في لحمه ليل نهار.

وهناك خطر انقراض وحيد القرن والجاموس الوحشي: هنود حمر الغابة، كل غابة وفي كل مكان. وإذا كان الجاموس موجودًا بكثرة في كل الغابات، فإن وحيد القرن لا وجود له الآن إلا في غابات السودان؛ السبب هو الغباء، وأنت إذا هربت من وجه جاموسة وصعدت فوق شجرة، فإنها ستربض لك تحت الشجرة، لا تأكل ولا تشرب ولا تنام، وستموت الجاموسة حتمًا، بينما يكون الذي فوق الشجرة قد هبط منها خلسة واختفى في زحام الغابة عن الأنظار، أما وحيد القرن، إذا وقع في كمين داخل الغابة، فإنه لا يسعى إلى تخليص نفسه، لكنه سينتحر على الفور، وسيتكفل النمل الأبيض بلحمه، وتبقى عظامه مادة رئيسية لصنع السلاح.

حكايات الغابة ما أعجبها وما أغربها، حكايات تقشعر منها الأبدان، وسبحان مدبر الأكوان!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤