أوطان الآخرين!

وإذا كنت قد عشت في العراق ست سنوات، فالحق أقول إن هذه السنوات الست قد حفرت في نفسي علامات، وتركت في نفسي ندوبًا. وبالرغم من ذلك، فأنا مدين بالفضل لبغداد؛ فقد علَّمت أولادي، وتخرجوا في جامعاتها، ووفرت لأسرتي الاستقرار الذي كانت تنشده، وأيضًا عرَّفتني بغداد بشخصيات عربية لم تتح لي الظروف من قبل أن أتعرف عليها. وعلى رأس هؤلاء عمنا أمين الحافظ رئيس سوريا الأسبق، الذي دافع عن بيته عندما هاجمته قوات الانقلاب، بشكل أفضل مما دافع به البعض عن هضبة الجولان. وصديق آخر تعرَّفت عليه هو أخونا الدكتور عارف الكيالي، وهو عربي سوري ونموذج من الرجال أتمنى أن أرى مثله صورة العربي في كل مكان.

أما عبد الفتاح الزلط، الذي تعرفت عليه يومًا ما في حلب، وكنا وقتئذٍ في عنفوان الشباب، وكنا نحلم معًا بوطن عربي واحد وجيش عربي واحد، ومجتمع عربي واحد يضج بالحرية والنضال والحياة. أخونا المناضل عبد الفتاح الزلط الذي التقيت به أخيرًا في بغداد، أنكرني وأنكرته. لقد تغيَّر كما تغيَّرت، وترك الزمان بصماته على وجه كلٍّ منَّا، وترك أثره على شعره فصار في لون القطن، ولم يترك على شعري أثرًا، لأنه لم يجد على فروة رأسي أي شعر! شيء واحد فقط جمعنا واتفقنا عليه، وهو الازدراء الكامل لما صارت عليه الحال في الوطن العربي، والتشاؤم بالنسبة للمستقبل، والبكاء على أيام مضت، كنا نبكي فيها على ما نظن أنه اعوجاج، فصار انحرافًا، تلك الأيام غاية الاستقامة بالنسبة لما يحدث الآن في عواصم العرب الكبرى. ضاقت بنا السبل، وضاقت بنا الحيل، ولم يعد أحد يدري من أين؟ أو إلى أين؟

أما رجال السياسة في العراق، فقد جعلني بعضهم أشعر بأن العالم جميل والدنيا بخيرٍ. نعيم حداد عضو مجلس قيادة الثورة، وشجرة الجميز الطيبة التي أظلَّتْني في لحظات الهجير القاسية. ومنيف الرزاز الذي كان أقرب المسئولين إلى نفسي وعقلي. وشفيق الكمالي رئيس اتحاد الأدباء، الذي ترجع صداقتي به إلى أيام قهوة محمد عبد الله بميدان الجيزة، والذي كان كالبلسم لجراحي، التي أحدثها في جسمي وفي نفسي عشرات من الأرزقية الذين يشتغلون بالسياسة في بغداد. والشاعر حميد سعيد ابن (ريف الحلة) صاحب النفس الصافية والضمير الحي، والذي كان ملاذي في اللحظات التي أشرفت فيها على قتل نفسي. ونصيف عواد السياسي الفذ صاحب الأفق الواسع والنظرة المستقبلية، العروبي الحقيقي، الذي يؤمن إيمانًا لا يتزعزع بأن بعث أمة العرب لا يتحقق، إلا بأن يكون كل عربي حرًّا. والصحفي أمير الحلو، الذي كان أول وجه التقيت به في العراق، وكان نعم المدخل إلى بلد الرشيد والمأمون وأبي تمام. والمقدم أرشد ياور صدام حسين، الرجل الذي كان أشبه بفارس من فرسان العرب في صدر الإسلام، آخر شهامة وكرم واستبسال.

وفي المقابل، كان هناك عشرات من الوحوش الكاسرة، تصوروا في لحظة جنون وغرور أن اللاجئين السياسيين هم أسرى وقعوا في أيديهم. وتصوروا في لحظة طيش أنهم قادرون على إخضاع الجميع بإغرائهم، وبمحاولة تقزيمهم. على رأس هؤلاء، رجل مسئول، حجمه وشكله لا يرشحانه إلا لمنصب صبي في قهوة أو دلَّال في سوق. كان وجهه يشبه — إلى حدٍّ كبيرٍ — وجه ممثل كوميدي عربي مشهور، وكان هذا الشبه هو عقدة حياته. وكان يتصور أنه فيلسوف هذه الأمة ومبعوث العناية الإلهية لبعث هذه الأمة من رقادها الطويل. والحقيقة أنه كان أجهل من دابة، وكان الفشل هو رفيق دربه على طول الخط. اشتغل صحفيًّا فلم يحقق شيئًا. واشتغل كاتبًا يكتب مقالات من نوع (الحنجوري المتهالك في الشنجوري) فلم يقرأها أحد إلا أهل بيته، وبعض المنافقين من بطانته. واشتغل وزيرًا فجعل من وزارته أضحوكة للجميع. هذا المسخ المشوَّه تصور أنه قادر على تنصيب نفسه أستاذًا للمثقفين والكُتَّاب المصريين الذين لجئوا إلى العراق! ولقد نجح في إخضاع البعض بفلوسه. وجُنَّ جنونه عندما قاومه البعض الآخر، فسلَّط زبانيته عليه، وانكشف من خلال سلوكه السلطوي، فإذا به لا يؤمن بشيء مما يردده، وإنما هو مجرد مستبد صغير، سيذهب في النهاية إلى زبالة التاريخ.

وغير هذا الدعي، كان هناك عشرات من الخنافس الصغيرة، تصوروا في لحظة جنون أن القومية هي أن يتولوا قيادة القوم. وتوهموا أن العروبة هي أن تركب في عربتهم. واعتقدوا أن الاشتراكية هي أن تشترك معهم في كتابة التقارير. خنافس حقيرة وعناكب سامة لها أسماء: (جبار) و(الدهش) و(باصي) و(أبو سعد) … وآخرون. والمؤسف حقًّا أنه يوجد لهذه الخنافس شبيه في كل أجزاء الوطن العربي، فهناك جبار وباصي والدهش في دمشق وفي طرابلس الغرب وفي تونس وفي الجزائر وفي عدن، وحتى في القاهرة. والمؤسف أيضًا أن مصريين كثيرين مشوا في ركابهم، وركبوا في عربتهم، واشتركوا معهم في تحرير التقارير، وأصبحوا من مليونيرات العصر وسكنوا لندن وروما وباريس! على رأس هؤلاء زعيم حزب الكهرباء، الذي أسس لحساب هؤلاء حزبًا كهربائيًّا، ضم زوجته وخادمته ومهندسًا كهربائيًّا في حجم التيس، وولدًا أرزقيًّا خرج من مصر بلا سبب، ولم يكن مطلوبًا من السلطة ولا مطاردًا من البوليس … خرج قاصدًا بلاد العرب لهدف واحد ووحيد، هو الحصول على الفلوس بأي طريقة ومن أي طريق، وانهمك في كتابة التقارير وتجنيد المصريين الذين يقصدون العراق من أجل لقمة العيش، وكان هؤلاء هم أعمدة الحزب.

وكانت مهمة حزب الكهرباء في الحقيقة، هي اصطياد الشباب المصري وتهيئته وإعداده وتسليمه لجبار، ثم بعد ذلك لا أحد يعلم ما الذي يجري لهم أو يجري عليهم. ولكن الأكيد أن هؤلاء الشباب ضاعوا جميعًا بسبب المسافة البعيدة بين الشعارات والتطبيق، وبين الحلم والحقيقة. وبينما ضاع هؤلاء الشبان الصغار، أصبح رئيس حزب الكهرباء مليونيرًا يشار إليه بالشيكات، وتحول الكهربائي وكيل الحزب إلى مليونير يشار إليه بالدولارات، أما الأرزقي إياه، فقد هبر هبرته وعاد إلى مسقط رأسه، ويتصرف الآن كواحدٍ من ملوك الانفتاح!

أيام مضت وأرجو ألا تعود، ليس بالنسبة للعبد لله فقط، ولكن بالنسبة إلى كل صاحب رأي، أو صاحب قضية، أو صاحب وجهة نظر. وإذا كنا قد فضحنا هؤلاء الخنافس وحفنة الأرزقية الذين خضعوا لهم مقابل أكياس الدنانير، فالأمانة تقتضينا أن نذكر بالخير الرجل العراقي الأول صدام حسين. والحق أقول إنه أنقذني من براثن هؤلاء، وحماني من بطشهم. ولقد حرَّضني مرة على أن أقاوم هؤلاء بعنفٍ، وأن أقف أمامهم بقوة، وقال قولًا مأثورًا ما زلت أتذكره وسأظل أذكره حتى آخر يوم من أيام العمر. قال: «ما عليك يا محمود من هؤلاء، فهؤلاء الصغار موجودون في كل مكان على الأرض العربية، وعلينا أن نقاومهم في كل مكان، لكي نشق الطريق إلى المستقبل الذي نحلم به للأمة العربية.»

والحق أقول، كان صدام ودودًا وعطوفًا، وكان يشعر بأنه مسئول عن كل من لجأ إلى العراق في ظلِّه. ولكن … كم من هؤلاء استطاعوا الوصول إليه؟ ولقد كان العبد لله حسن الحظ، لأنني استطعت اختراق دفاعات هذه الخنافس، واستطعت المرور من بين خنادقهم، وتمكَّنت في النهاية من الوصول إليه. وبالرغم من ذلك لم تتوقف الحرب. أصدر صدام ذات مرة أمره بإعداد مسكن لائق للعبد لله بعد أن قضيت خمسة أعوام أسكن في بيت شبه مهجور، وينام أفراد أسرتي على الأرض. ومع ذلك مرَّت خمسة أشهر ولم ينفذوا أمر الرجل. وعندما حملت متاعي وأوشكت على مغادرة العراق، نصحني أحد الإخوة العراقيين بألا أتسرع وأن أتصل بصدام أولًا. وتطوع الصديق العراقي وأبلغه بالأمر، وثار الرجل ثورة عارمة واستدعاني في اليوم التالي، وفي اليوم الثالث كان كل شيء قد تم. ولم يقدر للعبد لله الحياة في البيت الجديد إلا شهرين. فقد اضطررت إلى ترك العراق هاربًا مصطحبًا ابني الوحيد معي، تاركًا أسرتي وحدها في بغداد. والسبب أنهم بعد انتقالي إلى المنزل الجديد، تصوروا أنني انتصرت عليهم، فقرروا الانتقام. وبدأ الضغط يشتد، وعندما أحكموا الحصار، قررت أن أغادر العراق. وفاتحت الدكتور يحيى الجمل الذي كان في زيارة خاطفة لبغداد في الأمر، وأقرني على ذلك، ثم أبلغت الأستاذ محمد صبري مبدي أيضًا.

وعشت عشرة أشهر خارج العراق، متنقلًا بين لندن ودولة الإمارات، وكانت فترة من العذاب المتصل والأرق المستمر. فأنا في الإمارات وأسرتي في بغداد، ووطني بيني وبينه حواجز دونها حواجز، وأهوال دونها أهوال. وفي النهاية تدخلت السماء لتضع حدًّا لآلامي وضياعي. وتولى حسني مبارك أمر مصر، وكان لا بد أن أعود. وعدت ولكن عن طريق بغداد، وكان لقائي مع صدام حسين قبل الرحيل هو مسك الختام، أما العناكب والخنافس، فقد دخلوا الشقوق بعد أن تأكدوا بأنني عائد إلى القاهرة.

وإذا كان لا بد من كلمة تقال لشباب اليوم، فكلمتي لكم: احذروا مغادرة الأوطان، وتجنَّبوا اللجوء إلى أوطان الآخرين مهما كانت الشعارات براقة والكلام معسولًا؛ لأنك يا ولدي لن تستطيع ولن يُسمح لك بأن تلعب سياسة على أرض الآخرين. وإذا لعبت فسيكون لحسابهم ولمصلحتهم، ولن تكون أكثر من كاتب تقارير أو مخبر نشيط، أو في أفضل الأحوال عضوًا في حزب الكهرباء، تكتب التقارير وتجنِّد الأفراد لحسابهم مقابل أكياس الدنانير!

وتسألني الآن يا ولدي: وما الحل؟ إذا تورط الإنسان في عمل سياسي داخل بلده، وفي غياب الديمقراطية، وفي ظل نظام يعتمد البطش والقمع والتقتيل؟ وجوابي هو كما قلت لك: تقدم إلى السجن في بلدك، أو تعلق بحبال المشنقة في مسقط رأسك، هذا أفضل وأشرف مما سوف تلاقيه في بلاد الآخرين. وآه من الضياع وخيبة الأمل في بلاد الآخرين!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤