والكفاح دوَّار!

ولقد قدر للعبد لله أن يعود إلى ليبيا بعد الثورة، وكانت المرة الأولى خلال زيارة عبد الناصر لها. وكانت الثورة لا تزال بكرًا، وأُفق الثوار لا يزال محدودًا. كانوا ثوارًا لا يزالون، لم يتحولوا بعد إلى رجال حكم.

وأذكر أنني كتبت بالتفصيل عن زيارتي الأولى للقذافي، وهو نزيل مستشفى طرابلس العمومي لإجراء عملية الزائدة الدودية. ولم أكن وحدي حين ذهبت إليه، ولكني ذهبت مع الزميل الكبير الأستاذ أحمد بهاء الدين.

واكتفينا في البداية بتسجيل أسمائنا في سجل التشريفات، وعندما استدرنا عائدين، وقبل أن نصل إلى باب الخروج، اكتشفنا أن هناك من يجري خلفنا، ينادي علينا بأعلى صوت، يرجونا أن نعود للقاء العقيد القذافي. لم يكن الذي يجري خلفنا أي أحد، ولكنه كان بشير هوادي عضو مجلس قيادة الثورة ومعه عضو مجلس ثورة آخر هو محمد المقريف. وعدنا، الأستاذ أحمد بهاء الدين وأنا، ودخلنا حجرة القذافي، ولم أصدق أنها حجرة الرجل الذي قلب الأوضاع في ليبيا، وطرد الملك السنوسي منها، وجلس مكانه فوق القمة العالية. لم يكن في الحجرة شيء إلا سرير عادي من سراير المستشفيات، وبجانب السرير منضدة صغيرة مدهونة بطلاء أبيض، وعلى المنضدة إناء زجاجي به ماء، وكوب صغير به عدة ورود، وجهاز راديو صغير، ثم لا شيء بعد ذلك. وكان القذافي نفسه يتمدد على السرير، مرتديًا بيجامة عادية مقلمة، وقدماه عاريتان، وعندما أبصرنا قهقه عاليًا، ورفع يديه كأنما يهم باحتضان الهواء.

وجلسنا معه وفي نِيَّتنا أن نقضي خمس دقائق معه، ولكنه كان يصر على الجلوس كلما استأذنا بالانصراف. وامتدت جلستنا معه إلى ساعة ونصف الساعة، خلالها ناقش أحمد بهاء الدين في مقال كان قد نشره على صفحات (المصور)، ثم التفت نحوي وقال: لا تغادر ليبيا قبل أن أغادر المستشفى، فلي معك حديث طويل، فلما استفسرت من العقيد عن موعد خروجه، أجاب: بعد أسبوعين. فلما اعتذرت له عن عدم إمكاني البقاء في ليبيا كل هذا الوقت، قال ضاحكًا: إذن سأصدر أمرًا باعتقالك في ليبيا. ثم قال العقيد وهو يضحك: لقد قرأت لك كتابك الأخير (الشيخ لعبوط يتلعبط) وكنت أحيانًا أضحك وأنا جالس وحدي، واضطررت إلى ترك الكتاب، حتى لا يراني أحد وأنا في هذه الحالة فيتهمني بالجنون. ثم قال: سأعطيك مفكرة الملك السنوسي، وستجد فيها ما هو أعجب وأغرب من يوميات الشيخ لعبوط. ثم قال لبشير هوادي: اذهب مع محمود إلى دار الحكومة وأعطه مفكرة الملك السنوسي. وعندما أبدى بشير هوادي بعض الفتور، قال له العقيد بلهجة آمرة: اذهب معه الآن وأعطه المفكرة.

كان هذا أول لقاء لي مع العقيد، وغادرت ليبيا مع الأستاذ بهاء قبل أن يغادر المستشفى. كان ذلك في عام ١٩٦٩م، ولم تُقدَّر لي العودة إلى ليبيا مرة أخرى إلا في عام ١٩٧٥م، وفي شهر أبريل بالذات، أي بعد ست سنوات من ذلك اللقاء الخاطف في حجرته بمستشفى طرابلس العام. ولقد كانت في ذهني صورة رسمتها لليبيا الثورة، تصورت أن كل ليبي تحوَّل إلى ثائر، وأن الصحراء تحوَّلت إلى جنات خضراء، وأن طرابلس أصبحت قطعة من أوروبا، وأن ليبيا بالثورة دخلت القرن العشرين من أوسع الأبواب. ولذلك كانت صدمتي شديدة عندما اكتشفت أن كل شيء بقي على ما هو عليه، الشيء الجديد الذي طرأ على الحياة هناك هو مجموعة شعارات، وعدة ميكروفونات، وصراع السلطة بين الثوار على أشده. بشير هوادي مُبعَد عن السلطة، ومحمد المقريف مات في حادث مريب. صحيح أن هناك أشياء كثيرة تغيرت، منها أن الثوار تحولوا إلى حكام. في الزيارة الأولى مثلًا، كان على الصحفي الذي يزور ليبيا أن يسدد فاتورة فندقه، لأن الثوار لا يرشون أحدًا، ولا يطمعون في استماله أحد؛ ولذلك سدد حسابي في الفندق صديقي أحمد الفتحلي، وسدد فاتورة الأستاذ أحمد بهاء الدين صديقه الأستاذ الغتوري. ولم يكن الحساب إلا عدة دنانير قليلة، فقد عشنا في تقشف شديد يليق بنبض الثورة ونهجها. ولكنهم في الزيارة الثانية استضافوني في فندق الشاطئ، وهو فندق يقع على مساحة كيلومتر مربع، ولذلك فهو أشبه بالمطار منه إلى الفندق، واكتشفت أنه مضيفة لجميع المناضلين من كل أنحاء الأرض.

ولما كان المناضلون أشكالًا على ألوان، فقد اكتشفت أن بالفندق عددًا من المناضلين نزلوا بالفندق عند افتتاحه منذ عامين، ولم يغادره بعد! وكان هؤلاء ينامون نهارهم بالفندق، ويسهرون الليل فيه، ولما كانت الخمور ممنوعة، فقد اكتفوا بعصير الليمون، وهو عصير مستورد من إيطاليا، كان له طعم الليمون، وليس له خصائصه، شيء أشبه بالنضال الذي يقوم به هؤلاء السادة المناضلون. وكان البعض منهم حسن النية، والبعض الآخر قليل الحيلة، والبعض الآخر أرزقي معتاد على الاسترزاق، وجد ضالته في فندق الشاطئ، وأقام على أمل أن تحقق له الأيام جزءًا مما يريد. الشيء الوحيد الذي كان يربط بين الجميع هو الأحلام: بعضهم يحلم بأمة عربية واحدة من الخليج إلى المحيط، وبعضهم كان أكثر تفاؤلًا، وهؤلاء كانوا يحلمون بوحدة من المحيط إلى المحيط، من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهندي، والبعض الآخر كانت أحلامه تمتد إلى أبعد من هذا، فيحلم باسترداد الأندلس والإسكندرونا، وبخاري، وسمرقند، ولم لا؟ والثورة في ليبيا قائمة والكفاح دوار! وسهرت ليلة واحدة مع المناضلين في فندق الشاطئ، ولم أعد إليهم بعد ذلك قط.

واجتمعت بالعقيد ذات ليلة عاصفة ومطيرة في مكتبه بالقيادة العامة، العقيد وأنا وليس معنا ثالث، وعندما سألني عن أحوالي في فندق الشاطئ قلت له ضاحكًا: الفندق عظيم، ولكن المناضلين فيه أكثر من اللازم. وضحك العقيد وهو يقول: والله يا محمود عندنا مناضلون أكثر من حاجة الأمة العربية. وبالرغم من أن الجلسة استمرت ساعات طويلة، وتشعب الحديث فيها، وذهب إلى اتجاهات شتى، إلا أن العقيد طلب خلال اللقاء عدة طلبات محددة:

  • أن أصدر جريدة في بيروت، فاعتذرت له بأن ذلك مستحيل لأنني سأقتل في اليوم التالي لصدورها. وقال العقيد: ولكني سأحميك في بيروت. وقلت للعقيد: أنا واثق أنك تستطيع حمايتي في بيروت، ولكن المأساة أن الخطر لن يكون من جانب الرأسمالية العالمية، أو الإمبريالية الاستعمارية، أو الشواشي العليا للبرجوازية … إلى آخر هذا الكلام الذي لا يضر ولا يفيد. الخطر الحقيقي يا سيادة العقيد سيكون مصدره أصحاب الصحف اللبنانية. فالجرائد التي من هذا النوع لها أصحابها، وسوق الصحف الخاضعة لنفوذ الأنظمة العربية لها زعماء وآباء روحانيون، وهم مستعدون لصنع كل شيء وأي شيء لمنع الغرباء والمتطفلين.

  • أن أعيش في طرابلس، وأكتب في جريدة ليبيا اليومية، وهي جريدة الفجر الجديد. ومصيبة العبد لله أن النكتة تحبُك معي أحيانًا، وقد حبكت معي في تلك اللحظة فقلت له: أكتب فين في الفقر الجديد؟ ويبدو أن النكتة لم تعجب العقيد فغاب عني فترة، وغاب بعيدًا عن الحجرة التي كنا نجلس فيها، وتبدلت ملامح وجهه وبدأ عليه أنه يكظم غيظًا شديدًا في داخله.

  • أن أصدر كتابًا عن السادات، وعن حقيقة ما دار قبل وحول وأثناء يوم ١٥ مايو الشهير؛ وأفهمت العقيد أن الوقت لم يحِن بعد لكشف أسرار هذا اليوم العجيب، وأنني سأكتب هذا الكتاب عندما تأتي الفرصة ويحين الوقت المناسب.

وعندما انتهت المقابلة في الفجر ودَّعني العقيد عند الباب الخارجي، وقال: هذه بلادك تستطيع أن تقيم فيها كما تشاء، وتستطيع أن تغادرها كما تشاء، وسأراك مرة ثانية عما قريب. ولكن مقابلتي له لم ترُقه بالتأكيد. كنت صريحًا أكثر من اللازم وجلياطًا في بعض الأحيان، وشعرت بفتور من جانب المسئولين الصغار الذين كانوا يبدون للعبد لله عواطف مبالغًا فيها في أول أيام الزيارة. وزاد الفتور عندما دعوني إلى ندوة في الإذاعة، وحضرت الندوة بالفعل، ولكني اعتذرت عن الكلام. ولأنه رُبَّ ضارة نافعة، فقد كان فتور هؤلاء المسئولين الصغار سببًا في الإقلال من الزيارات التي كانوا يقومون بها للعبد لله، ووفَّر هذا الفتور وقتًا للعبد لله لكي يسرح في الشارع الليبي.

كان دليلي إلى الشارع الليبي، محاميًا في الأربعين من العمر، وهو خريج كلية الحقوق المصرية، وكان يتصور أن المحاماة هي أرقى مهنة في الوجود، وأن المحامي هو رسول الله على الأرض. وكان يعيش على أمل واحد، هو أن يعيش حتى يرى اليوم الذي يتحرر فيه الشعب الليبي من حكم السنوسي، ليتولى الشعب حكم نفسه، وليعيد صياغة الحياة على أرض ليبيا وعلى النحو المطلوب. وكارثة المحامي الشاب أنه عاش حتى رأى ذلك اليوم، وعاش حتى جاء (سنوسي) آخر أصغر سنًّا، ويرتدي زيًّا مختلفًا، ويقود ليبيا في مهمة ليست مؤهلة لها، ولم يرشحها أحد للقيام بها! ومأساة المحامي الشاب أنه عاش حتى رأى المحاماة مهنة غير مرغوب فيها، وحتى رأى المحامي مجرد صعلوك فضولي طفيلي لا يريده أحد.

ودخلت مع المحامي الشاب عددًا من البيوت الليبية، من مختلف الصنايع والطبقات. قضينا ليلة في بيت محامٍ أكبر سنًّا، وقضينا ليلة أخرى في بيت فلاح، وقضينا ليلة ثالثة في بيت صحفي مفصول من الخدمة وممنوع عليه العمل في مهنة الصحافة، وقضينا ليلة حافلة في بيت تاجر يبيع الملبوسات المستوردة من إيطاليا. وعلى اختلاف الصنايع والرتَب كان الجميع يتكلمون لغة واحدة، ويشعرون بنفس المرارة، ولهم أمنية واحدة وهي: أن يغادروا ليبيا اليوم قبل الغد، وأن يذهبوا إلى أي مكان … لا شيء يهم. وأدركت من خلال الدردشة مع الجميع، أن أحدًا في ليبيا لا يستطيع أن يتنبأ — حتى ولو كان عرافًا — ما الذي سوف يأتي به اليوم، ولا ما الذي يخبِّئه الغد؟ ولكن الحياة تمضي بهم دقيقة بدقيقة، وثانية بثانية.

وجهاز التليفزيون هو الذي يصدر القوانين، وهو الذي يسنُّ الضرائب، وهو الذي يذيع أخبار الإعدامات التي تمت بالأمس! ويفاجأ المواطن الليبي وهو جالس أمام التليفزيون، بأن أحد أقربائه أو أحد أصدقائه أو أحد معارفه قُتل. ليه؟ وما هي التهمة؟ وأين جرت المحاكمة؟ ومن هو القاضي؟ ومن هم الشهود؟ وما هي الأدلة؟ كل هذا لا أحد يعرفه، وما جدوى أن يعرفه أحد؟ يكفي أن الإعدام قد تم تنفيذه، ومن فضل الله أن التليفزيون يذيع الخبر على الناس!

وعندما أمعنت النظر في التجربة الليبية أدركت أن التبسيط هو مأساتها؛ فالزعيم عبد الناصر كان زعيمًا للعرب لأنه حاول توحيدهم، إذن … فليحاول الزعيم الآخر توحيد العرب أيضًا، وما دام يحاول، سيصبح حتمًا زعيمها. والزعيم عبد الناصر كان زعيمًا وطنيًّا لأنه حارب الاستعمار، إذن … فليحاول الزعيم الآخر محاربة الاستعمار، وما دام يحارب — ولو حتى في الإذاعة — فقد صار زعيمًا وطنيًّا! وإذا كان في العالم نظريتان، الشيوعية والرأسمالية، فلماذا لا يكون هناك نظرية ثالثة؟ ويكفي أن تُكتب النظرية، وأن تُطبع في كتب ملونة، وتُردَّد فصولها في الإذاعة، ليصبح صاحبها هو زعيم القوة الثالثة! وهي عملية عبيطة أشبه بأن يقوم الممثل عادل إمام بأدوار يوسف بك وهبي، أو يتدرب فاروق جعفر ليأخذ مكان مارادونا، أو ينهمك الفيلسوف زكي نجيب محمود في التدريب لينازل البطل محمد علي كلاي! فالزعيم عبد الناصر صار عبد الناصر لأنه كان في مصر، ومصر لها دور تلعبه منذ قديم الأزل، وستظل تلعبه إلى أن يشاء الله. والعبد لله مثلًا يمكنه أن يصبح بطل العالم في يوم من الأيام … ولكن في لعب الكوتشينة! أما في المصارعة والملاكمة وشد الحبل، فالمحاولة لن تكون أكثر من عملية جنون، ولن تؤدي في النهاية إلا لمستشفى الصدر، وعلى أحسن الفروض، مستشفى الخانكة!

وبعد عدة مشاوير في الشارع الليبي أدركت عمق المأساة وفداحتها … كانت الشوارع خالية تقريبًا، وفي بعض الأماكن كان هناك زحام. فإذا اقتربت من الزحام اكتشفت أنهم جميعًا وافدون من مصر، جاءوا إلى ليبيا سعيًا وراء الرزق. وعجبت لهذه المحاولات المستمرة لحشد الجماهير، فأين الجماهير التي تريد هذه الأجهزة أن تحشدها؟! الجماهير الليبية؟! إذا كان المقصود هؤلاء، فملعب كورة واحد يكفي لحشدهم! هل هي الجماهير المصرية الموجودة في ليبيا التي يريدون حشدها؟ الحقيقة أن هناك خطأً في التحليل بالنسبة لهذه الجماهير، ليس في ليبيا وحدها، ولكن في أماكن أخرى كثيرة. فهذه الجماهير التي تركت مصر إلى بقاع شتى في الأمة العربية، هدفها الأول هو البحث عن عمل، والسعي وراء الرزق، ومحاولة تحسين الأحوال. ولكن بعض فلاسفة النظم العربية إياها يتصورون أن هذا الكم الهائل من الجماهير، لم يخرج فقط من أجل الرزق، ولكن في أعماقه ثورة مكبوتة ضد الأوضاع في مصر، فهم ثوار دون إدراك، وهم مناضلون دون وعي. وكان نتيجة هذا التحليل الخطأ، فضائح ومصائب وأخطاء سياسية فادحة … ومع ذلك لا يتعلمون!

وكان أعظم مثال على خطأ التحليل من جانب النظم إياها هو حزب الكهرباء. وكان بطل حزب الكهرباء المصري هو رجل اشتغل خادمًا في مكتب عبد الناصر، وكانت مهمته في المكتب هي تقديم الشاي والقهوة، وفتح الباب للضيوف والزوار. وفي زمن السادات هاجر الرجل من مصر وتسكع في بلاد كثيرة في العالم العربي، وأخيرًا اصطاده نظام عربي من إياهم، فصار الرجل زعيمًا لحزب مصري في المنفى، يرفع شعارات ثورية وتقدمية، ويشجب كل المخططات الاستعمارية والمؤامرات الإمبريالية، ويدعو إلى قيام الثورة العربية … وبقيادة حزب الكهرباء! ما هو سر تسمية الحزب بحزب الكهرباء؟ السبب أنهم بحثوا عن وسيلة لتمويل الحزب، دون أن يتورط النظام الذي يرعاه مباشرة في هذا التمويل. وهداهم التفكير إلى إنشاء شركة كهرباء لتمويل هذا الحزب الحديدي، والذي كانت لجنته المركزية تتألف بالإضافة إلى الخادم إياه، من مهندس أرزقي، ومحامٍ أرزقي، وشاب يشتغل بالسياسة باعتبارها أسهل طريق للرزق. وعندما وقع حادث المنصة يوم ٦ أكتوبر عام ١٩٨١م، أعلن رئيس حزب الكهرباء مسئوليته عن الحادث، وتفرغ عدة أيام بعد ذلك للإدلاء بأحاديث ثورية، عن رأيه في كل المشاكل، من أول مشكلة البحر الكاريبي، وإلى مشكلة فيتناو! حتى شركة الكهرباء التي أنشئت خصيصى لتمويل الحزب الحديدي اكتشفوا أنها سُجِّلت في جزر الباهامز، وباسم زعيم الحزب وزوجته والمهندس الأرزقي وحرمه!

ليبيا المسكينة هي الأخرى وقعت في هذا المطب، وأنشأت عدة أحزاب مصرية ثورية وعلى غرار حزب الكهرباء، كان أشهرها حزب تحرير مصر، ومن المضحك حقًّا أن أعضاء هذا الحزب يحررون الآن بعض الصحف داخل مصر وخارجها.

المهم عشت في ليبيا أيامًا أتناول المبكبكة والبازين مع أفراد الشعب الليبي، وأغادر الشارع مسرعًا مع حلول المساء، فهكذا يتصرف الشعب الليبي، وكأن حظر التجول مفروض عليه. ومنذ حلول المساء لن تجد ليبيًّا في الشارع، ومن يقبض عليه في الليل ولو كان في طريقه إلى الطبيب، فسينام في السجن مدة قد تصل إلى أسبوعين، هذا إذا كان الليبي وديعًا وليس من هواة المشاكل. إما إذا اشتبك مع الشرطة في عراك، أو سبَّ أحدهم، أو تهور فركل أحدهم، فالنتيجة الحتمية هي إذاعة اسمه ضمن قائمة الإعدامات في التليفزيون.

وفي تلك الأيام التي عشتها في ليبيا، والتي امتدت ثلاثة أسابيع بالتمام والكمال، اكتشفت أيضًا أن السلطة التي تحكم ليبيا ليست واحدة، ولكنها عدة سلطات. فبينما أبدى بعض المسئولين الصغار فتورهم نحوي بعد لقائي بالعقيد، أقبل على العبد لله مسئولون آخرون صغار أيضًا، ولكنهم يعملون في أجهزة منافسة. فهناك في ليبيا أكثر من دولة، وأكثر من حكومة، وأكثر من مسئول. وقد تلقى حنقك ليس لأنك معارض، ولكن لأنك تعمل مع مسئول منافس يدبرون لخلعه أو تحجيمه. وكم من مسئول ليبيي كان في القمة، ثم هوى فجأة إلى القاع، وكم من مسئول كان في القاع، ثم طفا فجأة على السطح. صراع السلطة على أشده بين الجميع ولن يتوقف قط، لأنه الأساس الذي تقوم عليه قيادة العقيد، كما أنه الضمان الوحيد لبقاء العقيد فوق القمة.

مأساة نعم، لكنها مأساة متشابهة ومتكررة في أنحاء الوطن العربي، ضحيتها الوحيدة هو المواطن العرب. وتخسر الأمة بعض أجزائها، وتفقد خطاها على الطريق، بسبب ممارسات مجنونة، ولكن كل شيء يهون ما دام النظام موجودًا ومستمرًّا. والإذاعة كفيلة بتغيير الحال، فالثورة مستمرة والوحدة على وشك القيام، والرايات مرفوعة والمعارك مستمرة، والكفاح دوَّار!

ما الفرق بين النظام أيام السنوسي والنظام أيام مؤتمر الشعب العربي؟ لا شيء سوى أن أيام السنوسي كانت الحياة روتينية وخاملة وميتة ومملة، لا يقطع هذا الملل إلا مجيء شهر رمضان أو حلول عيد الأضحى. في عهد اللجان الشعبية الحياة مخيفة ومروعة ومفزعة ومملة أيضًا وكئيبة، لا يقطع هذا الملل إلا صوت المسيرات الشعبية، أو حلول موعد تنفيذ الإعدام في وجبة جديدة من الخونة، الذين لم يقرءوا الكتاب الأخضر، ولم يباركوا الوحدة مع مالطة، ولم يذهبوا مع الجيش الشعبي للقتال في أحراش بوروندي. وبعد ثلاثة أسابيع غادرت ليبيا … وإلى الأبد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤