بتوع الفريكيكو!

الحق أقول: إنني انبهرت بشدة بجمال المغرب العربي، جمال جاء نتيجة امتزاج الحضارة العربية بالحضارة الأوروبية. هذا الامتزاج نتج عنه عصير سكلانس من حضارتين متناقضتين ومختلفتين على طول الخط، حضارة أوروبية ترى أن الحياة فرصة يجب أن يستمتع بها الإنسان، ولأنها فرصة واحدة وأخيرة فلا بد للإنسان أن ينتهزها ويمصمصها حتى النخاع. وحضارة عربية إسلامية ترى أن الحياة مجرد كوبري إلى حياة أخرى أجمل وأكمل. والسعيد هو الذي لا يتوقف عند هذا الكوبري أو يتلكأ. المحظوظ هو الذي يمضي سريعًا وبعيدًا عن هذا الكوبري، ليلقي بنفسه في أحضان الجنة حيث الراحة الأبدية والنعيم المستديم.

ولذلك رأيت في بلاد المغرب العربي جامعات علم كجامعة الأزهر، ورأيت أحياء متعة ولا حي البيجال في باريس، ولا حي سوهو في لندن. ورأيت في مدينة فاس المغربية رجالًا أتقياء في مستوى السلف الصالح، وعرفت في مدينة المحمدية — المغرب أيضًا — ما لم تره عين ولا حتى في هونج كونج. وتعرفت في حي الزيتونة بتونس على رجال يقومون الليل ووجوههم في المصحف، ويسجدون النهار ووجوههم نحو القبلة. ورأيت في بوسعيد نسوان زلط ملط، ورجال من بتوع الفريكيكو. وتناقشت حول هذه الظاهرة مع بعض المثقفين من المغرب العربي، وخرجت من المناقشة بأن السبب في وجود الظاهرة وانتشارها هو تأثير الشاطئ الآخر من البحر، هناك في الأندلس حيث عاش العرب مئات السنين، ووصلوا في زحفهم حتى أبواب باريس، ثم تراجعوا إلى كتالونيا، وحطوا رحالهم في الكوستابراقا، وتمرغوا في حدائق الأندلس، وتمددوا في سهول غرناطة. هناك، وعبر مئات السنين، نشأ نموذج العربي الجديد.

وأشهد أن العرب لم يضيعوا وقتهم هدرًا خلال القرون التي عاشوها في إسبانيا. فقد أنتج الاندماج العربي الأوروبي صنفًا من البشر ليس له مثيل في أي مكان. وأي بنت إسبانية ستجد لها ألف بنت تشبهها في طنجة وتونس والإسكندرية وبغداد والشارقة وصنعاء. والشعر المرخي على الأكتاف، والعينان اللتان تطلقان رصاصًا في القلوب، والقوام الذي هو شيء بين غصن البان وعصا الخيزران.

واللغة العربية لا تزال باقية. وكل كلمة إسبانية تبدأ ﺑ (ال) التعريف هي كلمة عربية أصابها بعض التحريف، لكنها بقيت عربية على كل حالٍ. فالقاضي هو (الكالدي)، والزيت (الثيت)، والزيتون (الزيتونث)، والثور (الطورس)، والوادي (الجوادي)، والحجارة (اليخارا)، والقصر (الكازار)، والحمراء (الهمبرا). و(التروبيدور) معناها الطرب يدور، و(الفلامنجو) معناها فلاح مغنٍّ؛ أو المطرب الشعبي بلغة هذه الأيام، و(أوليه) هي الله باللغة الإسبانية، وألوف من الكلمات العربية تجري على ألسنة أفراد الشعب الإسباني دون أن يدركوا حقيقتها.

ولكن الإسبان للأسف الشديد يشعرون بمرارة نحو العرب، ويقولون: إن العرب فتحوا إسبانيا مرتين، مرة بقيادة موسى بن نصير ومرة بقيادة فرنكو! وأصل الحكاية أنه عندما نشبت الحرب الأهلية الإسبانية، كان فرنكو قائدًا عامًّا للفرقة الإسبانية في المغرب. وعبر فرنكو البحر إلى إسبانيا بقواتٍ مغربية، وعندما تحقق له الانتصار أباح لجنوده المغاربة مدينة مدريد لمدة أسبوع. ولا يزال الأحياء من أهل مدريد يذكرون تلك الأيام ككابوس ثقيل. وحفظ فرنكو الجميل لهؤلاء، فاحتفظ بالفرقة المغربية كحرسٍ خاص حتى يوم وفاته. وكان أهم قادة الجيش الإسباني مغربيًّا يُدعى محمد مزيان، وظل في منصبه حتى بلغ الثامنة والسبعين، ولم يترك منصبه إلا بالموت!

وتجولت طويلًا في الأرض التي كانت عربية، أطوف بعواصم المجد القديمة، قرطبة، وطليطلة، والأندلس، ومجريط (مدريد في لغة أهل الأندلس). ولا تزال قصور العرب القديمة شاهدة على حضارتهم العظيمة، ولا تزال جامعاتهم ومعاهدهم الموسيقية تحكي للأجيال قصة المجد الذي كان. مساكين القيسية واليمنية من أهل ذلك الزمان، تحاربوا بالسيوف حتى تكسرت، وبالرماح حتى تحطمت، وبالنبال حتى تمزقت، ثم تجاذبوا بالشعور والأظافر والأسنان!

يُحكى أن حاكم الأندلس يوسف بن فهري، كان له أعداء ينافسونه على السلطة، ولكنه تمكَّن منهم أخيرًا، وذبحهم جميعًا، ثم أمر بأن يمد له السماط على جثث لم تبرد بعد. ويقال إنه تناول طعامه وهو جالس على الجثث الغارقة في الدماء، وإنه تجشأ بعدما انتهى من طعامه، وقال قولة شهيرة: «والله ما ذقت طعامًا أهنأ من هذا قط!»

وقفت أتفرج عل أطلال مدينة توليدو، وفي العين دمعة، وفي القلب حسرات! لقد رأيت مثل هذا المنظر كثيرًا: في القاهرة القديمة، وفي بغداد القديمة، وفي دمشق القديمة؛ الهندسة والرسوم والأطلال ذاتها! وكدت أركع، وأقبِّل الأرض التي صافحَتْها أقدام أبطال العرب القدامى عندما كانوا رجالًا، وأمعنوا غربًا إلى أن وصلوا إلى ميناء طولون الفرنسي، ثم عادت أقدامهم فانسحبت من الأرض عندما تحوَّل أحفاد هؤلاء الأبطال إلى أشباه رجال، وظلوا ينسحبون منها في كرم زائد إلى أن خرجوا منها في مشهد ذليل، ولم يخلفوا لنا إلا الذكريات البغيضة مكللة بالعار!

يا للأيام التعيسة الحزينة التي عشتُها في الأندلس، أكاد أبكي على المجد الذي ولى، والعصر الذهبي الذي ضاع! من هذه النافذة التي فتحها العرب، تعلمت أوروبا الموسيقى ونقلت (ألف ليلة وليلة) ودرست تعاليم ابن رشد، وتتلمذت على الفارابي وابن الهيثم وابن خلدون! تصوروا … لو بقيت شبه جزيرة أيبيريا — إسبانيا والبرتغال — عربية حتى يومنا هذا فأي عزٍّ لنا، وأي ظهر نستند إليه؟ وليتنا نتعلم من أخطائنا! ولكن فلسطين ضاعت منا كما ضاعت الأندلس بسبب ألاعيب نوري السعيد وغباء الملك فاروق، وتدبير الخونة والجواسيس، وجهل الأئمة في اليمن، وخيبة الجميع! ثم ضاع النصف الآخر بسبب نظم الانفتاح والتصحيح والتلقيح، والسعي إلى تسوية تضمن كراسي الحكم لحكام لفظتهم شعوبهم، ومستعدين للتضحية بكل شيء إلا السلطة وصولجان الحكم! وضاعت فلسطين أيضًا بفضل نظمٍ ثورية اكتفت بإعلان الحرب ضد العدو في الإذاعة، ومقارعته بقصائد الشعر، وحشد كتائب الأناشيد، وتحقيق النصر عن طريق الأغاني.

ولكن فلسطين رغم كل شيء، تبقى جزيرة صغيرة محصورة داخل بحر العرب. وفي يوم ما، في شهر ما، في عام ما، في قرن ما، سيخرج من أصلاب هذه الأمة زعيم (شارب من بز أمه)، يوحد أمة العرب كما صلاح الدين، ويرفع سيفه كما قطز، يزحف بهم ليحرر القدس السليبة وعكا الأسيرة. ويا حظ الأجيال السعيدة المقبلة التي ستعيش في ذلك العصر المجيد.

ويا عمق الحسرة التي شعرت بها ذات يوم على شاطئ الكوستابرافا، التقيت ببنت إسبانية ترطن باللسان الإسبانيولي ولا تعرف غيره، البنت اسمها (فاتيما)، وقالت تيمنًا باسم القديسة سانت فاتيما. وعبثًا حاولت إفهامها أن فاتيما اسم عربي وأصله فاطمة، وأن القديسة إياها لا بد أنها هي السيدة فاطمة بنت النبي، أو ربما هي فاطمة أخرى من شيخات المغرب المباركات، وبعد سقوط الدولة العربية في الأندلس حوَّلوا الشيخة فاطمة إلى سانت فاتيما، تمامًا كما حوَّلوا المساجد إلى كنائس، وحوَّلوا دور العلم العربية إلى مزارات للسياح. البنت شكلها عربي، لو سارت في شوارع المغرب، أو مشت في شوارع القاهرة، أو تسكعت في شوارع بغداد، لما استطاع أحد اكتشاف أنها من غير أهل البلاد.

عزمتني البنت على أكلة في بيتها، أكلة دسمة ولذيذة يطلقون عليها اسم (بهية)، هي نفسها الأكلة العربية الشهيرة في المغرب، والتي يطلقون عليها اسم (بقية)، وهي عبارة عن تورلي أو خليط من عدة خضراوات وأصناف لحوم: بطاطس على قلقاس على سبانخ على قرنبيط على كوسة على طماطم على جزر على بصل على ثوم، على قطع من لحم الضأن ولحم الدجاج ولحم السمك، على زيت على لبن على ملح على سكر على جبنة على مربة، على أي شيء وعلى كل شيء، فهي بواقي من كل الأصناف والأنواع، وبدلًا من التخلص منها بإلقائها في صندوق الزبالة، اخترعت المرأة العربية هذه الأكلة اللذيذة الظريفة، التي أشهد أنني لم أتذوق مثلها إلا في طاجن الحاج سرور أبو هاشم وفي عزبة صديقي الفلاح إبراهيم نافع. وعندما قلت هذا الكلام لشقيقة البنت فاتيما — وكانت تعرف الإنجليزية — نفت ذلك بشدة، وأكدت أنها أكلة إسبانية، وأن عرب إسبانيا نقلوها إلى المغرب بعد رحيلهم إلى هناك. وقالت البنت لتأكيد رأيها: إن المرأة الإسبانية حريصة، بينما المرأة العربية مسرفة. ثم التفتت نحوي وتحفزت كنمرٍ شرسٍ وقالت: ألم تر العرب في إسبانيا اليوم؟ إنهم هناك على الشواطئ يعيشون جميعًا كملوك القرن السادس عشر، ويبعثرون الأموال، كما يبعثر الأطفال ذرات الرمال على الشاطئ. وسكتُّ لم أتكلم. صدقت البنت الإسبانية، فمن يرَ عرب اليوم خصوصًا في إسبانيا، فلن تقدر قوة على ظهر الأرض أن تقنعه بأن عرب اليوم هم أحفاد عرب الأمس الذين كانوا أشاوس، وكانوا أبطالًا، وكانوا فرسانًا، وأنهم فتحوا العالم بإيمانهم وبسيوفهم!

ويذهب عرب اليوم إلى إسبانيا فلا يقضون نهارهم إلا في النوم، ولا يقضون ليلهم إلا في كازينوهات القمار، ولا يرون من الإسبان إلا نماذج معينة، هي دائمًا نماذج من بتوع الفريكيكو!

وكم شعرت بغصة وأنا جالس في حلبة المصارعة أشاهد معركة بين الثور والإنسان، وهي لعبة أدخلها العرب إلى إسبانيا ومارسوها قرونًا طويلة قبل أن تصبح علامة على الإسبان. وكل الأسماء المتداولة في اللعبة عربية، (التورس) هو الثور، و(الميتادور) — وهو البطل الذي يتولى الإجهاز على الثور بسيفه — أصلها كلمة عربية معناها الموت للثور. وكان بطل الحلبة ولا يزال، يتقدم إلى المنصة التي يجلس فيها الوالي قديمًا والمحافظ حديثًا، ويطلب الإذن له بالإجهاز على الثور، وكان الوالي قديمًا يرفع يده ويأذن له قائلًا: «الموت للثور»، وحرَّفها الإسبان مع القرون والسنين إلى (الميتادور).

ما أعمق الشجن الذي تثيره في النفس زيارة بلاد الأندلس، البلاد التي اضطر العرب إلى الرحيل عنها بعد أن تمزقت دولتهم إلى إمارات وممالك، وبعد أن تقاتلوا فيما بينهم حتى تكسرت الرماح والسيوف فتقاتلوا بالفئوس حتى تحطمت، وتجاذبوا بالشعور والأظافر والأسنان، واضطر آخر ملوكهم إلى البكاء وهو يغادر الشاطئ الإسباني، راحلًا في مركب تعيس إلى الشاطئ المغربي … بكى آخر ملوك العرب وهو يلقي آخر نظرة على الشاطئ الأندلسي، فنهرته أمه بشدة وزجرته بعنفٍ، وقالت له: «ابكِ كالنساء على ملك لم تستطع أن تحافظ عليه كالرجال!» ما أحوجنا نحن العرب اليوم إلى أن يبكي كل فرد منا كالنساء، على فلسطين التي ضاعت منا، ولم نستطع أن نحافظ عليها كالرجال!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤