الفصل الثالث

دعوة إلى ثقافة العصر

١

أبدأ حديثي عن هذه المرحلة في مسيرة العقل الذي أروي قصة تطوره باعتراف أعترف به عن نفسي في ذلك الحين — أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات — بأنني حين دعوت إلى الأخذ بثقافة الغرب — والغرب هو «العصر» لأنه هو صانع حضارة عصرنا — كنت في تلك الدعوة على كثير من التطرف؛ لأنني عندئذٍ نظرت إلى الأمر من جانب واحد، هو جانب «العصرية» التي لا بد منها في إنسان اليوم، لكنني أهملت الجانب الآخر الذي لا بد منه كذلك حفاظًا من أي إنسان معاصر على هويته الخاصة التي صنعها تاريخه، فجاءت نظرتي إلى «الثقافة» المنشودة نظرة مبتورة تُثبت جانبًا وتُهمل جانبًا آخر، ولم أصحح هذا الخطأ إلا في أول السبعينيات، كما سأروي في المكان المناسب من هذا الكتاب.

لكنني الآن مقيد بتصور المرحلة الفكرية التي اجتزتها في الفترة المشار إليها، وهي أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، أو قل: إلى آخر الخمسينيات، فعندئذٍ تصوَّرَت أمامي صورتين: إحداهما الصورة الحضارية التي رأيتها في أوروبا، وأوروبا — كما قلت — هي في عيني إذ ذاك هي «العصر»، وأما الصورة الأخرى فهي ما عرفته عن بني وطني، فكما يتمنى الوالد لولده الكمال، ويؤذيه غاية الإيذاء أن يلمح فيه شيئًا من النقص حتى ولو كان تافهًا يسيرًا، وربما ضربه وأغلظ له في التأنيب بسبب حبه له، فكذلك أقول عن نفسي فيما تصورته وصورته عن مصر في ذلك الحين، والحق أني في تصوير النقص الذي تخيلت وجوده في حياتنا ورأيت ضرورة التخلص منه لم أعمد في ذلك إلى تحليل علمي، بل كنت في أكثر الحالات ألجأ إلى التصوير الأدبي، ولا بد لي هنا من لفت الأنظار إلى الفارق الكبير بين الطريقتين في الكتابة عن موضوع بذاته: الطريقة التي يجوز لنا تسميتها بالطريقة العلمية، والتي تتناول الموضوع تناولًا مباشرًا بالتحليل والمعالجة، وأما الأخرى فهي طريقة التصوير الأدبي، والشرط الذي لا بد من توافره هنا هو أن تعرض الفكرة المقصودة عرضًا غير مباشر، وذلك بأن يقيم الكاتب شكلًا ما يجسد به فكرته تجسيدًا من شأنه أن يجعلها أرسخ أثرًا في نفس القارئ.

لجأت فيما كتبته عن الحالة كما تصورتها في مصر إلى الضرب الثاني؛ أعني إلى التصوير الأدبي، فليس أمامي الآن إلا أن أعرض على القارئ نماذج من ذلك التصوير.

لقد رأيت في حياتنا كثيرًا من الظلم والقهر والاستبداد والتسلط والتنافر والكراهية، مما أدى في نهاية الأمر إلى فقدان الفرد لكرامته وحريته واستقلاله، فصورت ذلك بقلم المؤمن بأنه لا أمل في خلق مجتمع جديد إلا إذا سلمت وحداته البشرية أولًا وقوي بنيانها، ففي مقالة عنوانها «الكوميديا الأرضية» قلت:

يُحْكَى أن شاعرًا كان اسمه «دانتي»، عاش في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، قد كتب قصيدة طويلة عظيمة، أسماها له الناس من بعده «الكوميديا الإلهية»، طاف فيها بصحبة أستاذ له قديم من الشعراء الأولين هو «فيرجيل»، طاف بالجحيم فوصف مَنْ شهده فيها من الآثمين، وما شهده منصبًّا عليهم هناك من عذاب أليم.

ثم شاء الله — ولا رادَّ لمشيئة الله إذا شاء — أن يبعث «دانتي» حيًّا شاعرًا كما كان، وأن يبعث معه «فيرجيل» دليلًا هاديًا كما كان أيضًا، وعادت لدانتي شهرته القديمة في وصف الأهوال، فكان أن زار بلدًا يقال عنه إنه بلد العجائب، حتى إذا ما رجع إلى بلاده عمد توًّا إلى ما كان قد كتبه في حياته الأولى، وأدخل عليه تغييرًا وتحويرًا يناسب العصر الحديث، مستفيدًا مما علمته التجربة في بلد العجائب، وإدراكًا منه بأن الشاعر الحق لا مندوحة له عن مسايرة الزمن، لكنه هذه المرة أطلق العنوان بنفسه على قصيدته، ولم يترك ذلك للأجيال القادمة كما قد فعل أول مرة، فاختار عبارة «الكوميديا الأرضية» عنوانًا لقصيدته الجديدة.

وهاك خلاصة وافية لوصف الجحيم في «الكوميديا الأرضية» كما كتبها الشاعر القديم الحديث.

يقص علينا «دانتي» كيف سار في صحبة دليله «فيرجيل» حتى بلغا باب الجحيم الأرضي، فقرآ على قمة الباب هذه الأسطر الآتية مكتوبة بماء الذهب: «ادخلوا إلى مدينة الأحزان، ادخلوا إلى أرض العذاب، ادخلوا بين من ضلت بهم السبيل، فيا أيها الداخلون، انفضوا عن أنفسكم عند مدخلي كل رجاء.»

ويدخل الرجلان، فإذا بالجحيم هوة سحيقة، في هيئة واد طويل مديد، رأسه عند مركز الأرض، وقدمه عند حافة البحر، وجوانبه متدرجة درجات عراضًا، وعلى هذا الدرج حُشِرَ الآثمون …

وتأخذ المقالة بعد ذلك في وصف رحلة الشاعرَين في حلقات الجحيم ليشهدا في كل حلقة من حلقاتها العشر فريقًا من الآثمين يلقى من العذاب ما يتناسب مع إثمه في الدنيا، على منوال ما صنع دانتي في الكوميديا الإلهية، لكن مقالتي استخدمت السخرية إلى أقصى مرارتها؛ إذ جعلت الآثمين المعذَّبين أناسًا فعلوا الخير وقالوا الصدق وبذلوا الجهد وأرادوا الإصلاح، فكان هذا كله محسوبًا عليهم لا محسوبًا لهم، ومن أجله حُشِرُوا في الجحيم لينالوا العقاب جزاء ما اقترفوا من حسنات حُسِبَت عند قومهم سيئات.

ففي الحلقة الأولى من حلقات الجحيم شهد الشاعران أولئك الذين تمسَّكوا بمبادئهم في حياتهم الدنيا، فكان جزاؤهم هنا أن تلدغهم الزنابير في وجوههم وأعناقهم. وفي الحلقة الثانية شهد الشاعران أولئك الذين بلغت بهم الغفلة في دنياهم أن يهتدوا بعقولهم، وألا يلتفتوا إلى أجسادهم ليُشبعوا شهواتها، فكان جزاؤهم هنا أن عصفت بهم ريح قوية، حتى أخذتهم راجفة كأنهم الكراكيُّ في العاصفة.

وكان في الحلقة الثالثة من حلقات الجحيم، أولئك الذين أخذتهم في حياتهم العفة، فلم يضرعوا لأصحاب السلطان كي يُنعِموا عليهم بحقوقهم، فكان عقابهم هنا أن يتمرغوا في حمأة من طين تحت وابل من المطر، وأما في الحلقة الرابعة فقد شهد الشاعران أولئك الذين ضجوا في دنياهم طلبًا للإصلاح، فأفسدوا على النيام نعاسهم وأحلامهم، فكان جزاؤهم هنا أن يتشعبوا فريقين، كل فريق منهما يدحرج جلاميد الصخر في اتجاه مضاد للفريق الآخرين، حتى يصطدم الفريقان في الطريق، فتعود جلاميد الصخر إلى حيث كانت أول الأمر، وهكذا دواليك.

وحُشِرَ في الحلقة الخامسة أولئك الذين أخذتهم في حياتهم دقة الحساب، فلم يتهاونوا في شيء، ولم يؤخروا موعدًا عن زمنه المحدد، ولا أرجئوا عمل يومهم إلى غدٍ، فهؤلاء أُغْرِقُوا إلى قاع بحيرة من الطين السائل، وكانت أنفاسهم المعذَّبة تظهر على سطح البحيرة فقاقيع تنتفخ لتنفجر، وحدث لأحدهم أن طفا على السطح لحظة، وكان الشاعران على مسمع منه، فقال لهما: إن جريمتنا هي أننا في حياتنا كنا نحارب الفوضى التي ضربت بجذورها في أرجاء البلاد.

فلما بلغ الشاعران حدود الحلقة السادسة، أبصرا خلال الضباب الكثيف أبراجًا وقبابًا متوهجة بألسنة اللهب، وقيل لهما: إن ذلك مدخل إلى مدينة الشيطان، ودخل الشاعران فرأيا سهلًا فسيحًا ملأته أجداث مكشوفة لا يسترها غطاء، وفي كل منها ألسنة النار تموج لتُحيله إلى رماد، ثم يعود جسدًا من جديد لتعود إليه ألسنة النار؛ وذلك لأن هؤلاء الآثمين قد خوَّلت لهم أنفسهم الشريرة أن يشجعوا في الرأي ليكونوا أحرار العقول، فحقت عليهم هذه الفضيحة المنكرة.

وفي الحلقة السابعة رأى الشاعران جماعة غرقى في نهر من دماء، وقيل لهما: إنها جماعة نأت بنفسها عن معارك السياسة لتحيا حياة التفكير الهادئ، على أن هذه الحلقة السابعة كانت ذات شعبتين، وكانت الشعبة الثانية مخصصة لمن كانت أخذتهم في حياتهم غيرة على الضعفاء والمرضى والمُعْوِذين، فهؤلاء انقلبوا هنا أشجارًا جافة قصيرة، وإذا انكسر من تلك الأشجار اليابسة فرع؛ سالت منه دماء كدرة، وحتى إذا ما أثمرت الأشجار جاءت ثمارها مسمومة.

وخُصِّصَت الحلقة الثامنة لمن كانوا في حياتهم لا يراءون ولا ينافقون، فغُمِسوا هنا في حفرة مليئة بقارٍ يغلي، وقد يحدث الفينة بعد الفينة أن يعلو الآثم بظهره فوق سطح القار من لذع الألم، ثم يختفي في سرعةٍ أين منها لمحة البرق الخاطف! فكما تقف الضفادع من بركة الماء عند حافتها لا يبدو فوق الماء منها إلا خياشيمها، كذلك وقف هؤلاء الآثمون في لُجَّة القار، ولكن سرعان ما يأتيهم الحارس فيغوص الجناة تحت لُجَّة الموج.

وفي الحلقة التاسعة حُشِرَ أولئك المجانين البُلَهاء الذين استُنْصِحوا في حياتهم فنصحوا بالحق، فألبسوا كل واحد منهم في الجحيم قلنسوة ثقيلة من الرصاص، وكلما ثقلت القلنسوة على رأس المذنب حتى مال عنقه إلى صدره؛ ألهبه الحارس بسوطه على ظهره، قائلًا له: اعتدل كما اعتدلت في دنياك صدقًا في القول وإخلاصًا في العمل.

وفي الحلقة العاشرة والأخيرة كان أولئك الذين لم يتشفعوا في حياتهم بشفيع ولا توسطوا بوسيط وأخذوا يعملون في صمت، مع أن الله قد أراد لهم أن يملئوا الدنيا صخبًا وضجيجًا كلما أدَّوا عملًا أو نطقوا بكلمة، فكان جزاء هؤلاء في جهنم أن ينزلوا في قاع الجحيم، وهو بحر من ثلوج يبدو فيه أشباح المعذبين، كأنما هي ذباب يضطرب في وعاء من البلور، وكُتب عليهم هناك أن يقرض بعضهم عظام بعض من الجوع، كما تفعل الكلاب الجائعة …

تلك هي إحدى الصور الأدبية التي صورت بها — في أوائل الخمسينيات — ما انطبعت به نفسي حينئذٍ من فوضى القيم في حياتنا، بحيث انقلبت، أعلاها على أسفلها، فيعاقَب المحسن ويكافَأ المسيء، وربما أكون قد أسرفت في القسوة، لكنها قسوة المواطن يحب وطنه، ويثيره أن يراه قد تنكَّب عن جادَّة الطريق.

وسأورد هنا صورة أخرى مما كتبته في ذلك الحين، وكان ما كتبته منها يُعَد بالعشرات، كلها يدور حول المعايير المجحفة التي سادت حياتنا، مما يستحيل معه أن تتحمل نصيبها من تبعات العصر الذي نعيش فيه. والصورة الأدبية الأخرى التي سوف أوردها الآن هي انعكاس لما أحسسته بالظلم الذي اسودت له سماؤنا، ولست أقصد الظلم والعدل بمعناهما في ساحات القضاء، بل أقصد بهما المعنى الذي أراده أفلاطون حين تناول معنى «العدل» في الأقسام الأربعة الأولى من محاورة «الجمهورية»، وانتهى به إلى أن العدل الاجتماعي إنْ هو إلا وضع الأفراد في مواقع تتناسب مع قدراتهم.

فتحتَ عنوانِ «الظلم» كتبتُ ما يأتي:

كان الفتى في عامه الثاني عشر، أو الثالث عشر، طويلًا نحيلًا، في عينه اليمنى حَوَلٌ ظاهر، ولا يفارق عينيه منظارٌ الْتَوَتْ ذراعاه فمال على أنفه، وكانت تبدو على الفتى علامات البلاهة التي لا يخطئها النظر.

سأل أباه ذات يوم إذ هما على مائدة الغداء، فقال: كلمة «ظلم» ما معناها؟

– وأين سمعتها؟

– سمعت رجلًا يصيح بها في الطريق، يصيح بها وهو يدفع عربة صغيرة عليها بطيخ وشمام، كان الشرطي من ورائه يصفعه ويركله.

– الظلم هو أن يوضع الإنسان في غير موضعه اللائق به؛ فإذا جلست الخادمة على مقاعدنا الحريرية فذلك ظلم، وإذا أُسندت الرياسة إلى من لا يستحقها فذلك ظلم، وإذا أخذ العامل أجرًا على غير عمل فذلك ظلم، وإذا ظفر بالراحة مَنْ لم يعمل فذلك ظلم، كذلك من الظلم أن يفلت من العقاب من هو حقيقٌ به، وهكذا، كل هذه أمثلة لناس وُضِعُوا في غير أماكنهم الصحيحة.

سمع الفتى هذه الإجابة من أبيه في إنصات ظاهر، وكأنما أعجبه رنين الكلمة، فراح يرددها وهو بعدُ على مائدة الغداء، وبلغ إعجابه بالكلمة أنْ كان ينطق بها في نغمات مختلفة، ثم يضحك ضحكاته البلهاء.

ولما أصبح صباح اليوم التالي؛ ارتاعت أم الفتى لما رأته في كل ركن من أركان الدار؛ إذ راح الغلام منذ الصباح الباكر يكتب بقطعة من الطباشير كلمة «ظلم»، كتبها على المقاعد والموائد والجدران، يكتبها أينما وجد مكانًا يصلح للطباشير أن يخط عليه، فهي على أواني المطبخ، وهي على البلاط، وهي على جوانب الأثاث، وهي على السجاد القاتم …

ونودي الغلام وسُئل عما فعل، فلم يزد على أن ضحك ضحكة بلهاء. وماذا يصنع الأبوان في ابن لهما يعلمان فيه البلاهة؟ انتهرته أمه ونهره أبوه، وتهدَّده بالعقاب الصارم إذا عاد إلى مثل هذا العبث، ثم طفقت الأم من فورها تمسح «الظلم» من أجزاء بيتها بخرقة بالية!

ومضى يوم واحد جاء بعده الجيران يشكون الغلام لأبويه؛ فقد ظفر بقطعة من الفحم، وراح يتسلل إلى حيث استطاع سبيلًا من دُورهم، وأخذ يخط كلمة «ظلم» على الأشياء فيُفسدها، حتى أتلف للجيران أبوابهم ونوافذهم وجدرانهم وأثاثهم.

فضربه أبوه، وسأله في غيظ قائلًا: ما الذي يغريك بهذه الكلمة تكتبها في كل مكان، تكتبها لنا بالطباشير وللجيران بالفحم؟

وأجاب الغلام بعينين دامعتين: لست أدري يا أبتِ! اعفُ عني هذه المرة ولن أعود. لكن لم يكد يمضي يوم آخر حتى جاء أصحاب الدكاكين المجاوِرَة يشكون الغلام لوالديه؛ فقد ظفر هذه المرة بما ليست تُمحى آثاره في يُسْر، كما مُحِيَت آثار الفحم والطباشير؛ ظفر بوعاء فيه طلاء أسود وفرجون، جاء به من عمارة قريبة يقام بناؤها، وراح يغافل أصحاب الدكاكين ويكتب أمام متاجرهم على الطَّوَار: «الظلم» «ظلم»؛ فشوَّه الطريق بخطه الرديء من ناحية، وأساء إلى المتاجر وأصحابها من ناحية أخرى؛ لأن هؤلاء يريدون إغراء الزبائن بما يُكْتَب أمام متاجرهم، لا تنفيرهم بالمعنى السيئ والشكل الرديء.

وها هنا بلغ الغيظ من الوالد أبلغ مداه، وجاء بغلامه أمام الشاكِين يضربه ضربًا مبرحًا هذه المرة، حتى مسَّت الرحمة قلوبهم وهم الغرباء قبل أن تمس قلبه وهو الوالد.

وسأله أبوه من جديد: ما الذي يغريك بهذه الكلمة تكتبها لنا بالطباشير وللجيران بالفحم ولهؤلاء الناس بالطلاء؟ فأجابه الغلام بصوت مخنوق بالبكاء: لست أدري يا أبتِ! اتركني هذه المرة ولن أعود إلى مثل ذلك أبدًا.

لكن الغلام لم يكن عند وعده هذه المرة أيضًا، فمضت ثلاثة أيام لم يعكر صفوها «ظلم» لم يصب أحدًا من الناس، وفي اليوم الرابع تأخر الغلام عن موعد عودته من المدرسة، وشُغِلَ الأبوان وبحثا عنه في مظانِّه كلها، فلم يُعْثَر له على أثر حتى إذا ما كانت الساعة العاشرة أو نحوها من الليل، دقَّ الجرس وأسرع الأبوان في لهفة إلى الباب، فإذا ابنهما في صحبة رجل من رجال الشرطة.

قال الشرطي: هذا ابنكم، وجدناه ينقر بابًا لدار من دور الحكومة بمِبْرَاة: فأخذناه إلى قسم الشرطة، وكتبنا عن الأمر «محضرًا»، لكننا نريد مواصلة سؤاله وعقابه غدًا، ورأينا أن نسُوقه إلى داره ليُمضي ليله مع والديه حتى لا يشغلان عليه بالًا.

ونظر الغلام إلى أبيه نظرة يطلب بها العفو والعطف، فلم يسأله أبوه عن شيء وبات محزونًا.

حتى إذا ما جاء الصبح، وذهب إلى الدار الحكومية التي أتلف الغلام بابها بمِبْرَاتِه، وجد ابنه قد حفر على الباب كلمة «ظلم»، حفرها كلمة كبيرة عميقة، حتى ليدهش الرائي كيف استطاع أن يصنع ذلك كله في ظلمة الليل، وأين كان الحارس طول الساعات التي استغرقها الفتى في حفر ذلك كله على باب من الخشب الصلب المتين؟

واتفق رجال الشرطة مع الوالد الحيران أن يُخْلُوا له سبيل الغلام، وكان ذلك بمشورة طبيب استشاره الوالد في أمر ولده، فأشار الطبيب بأن يصحب الوالدان ابنهما إلى مكان من الريف لتهدأ أعصابه؛ لأنه مريض.

وكم عجب الوالدان وهما في القطار أن يسمعا عجلاته تفرقع على القضبان في صوت واضح لا سبيل إلى إنكاره! «ظلم» «ظلم» «ظلم».

كانت هذه — أيضًا — صورة أدبية أخرى من عشرات الصور التي كتبتها لأعرِّي بها حقيقة القيم السائدة بالفعل في حياة الناس العملية، وليس فيما يُجْرُونه على ألسنتهم، ولقد عرضت مقالة «ظلم» بنصها؛ لأنها مع سائر أخواتها لا سبيل إلى تخليصها، والمعوَّل في القطعة الأدبية إنما هو الأثر الذي يخرج به القارئ، وكما هو واضح من المقالة سيجد القارئ نفسه أمام كابوس الظلم وهو يتعاظم حجمًا من الطباشير فصاعدًا إلى الفحم فالطلاء فالحفر على الخشب بمِبْرَاة، ثم هو الظلم داخل الأسرة وعند الجيران وفي دنيا التجارة وفي دواوين الحكومة.

وأحيلُ القارئ على مجموعتَي المقالات! «شروق من الغرب» و«الكوميديا الأرضية»؛ ليجد حياة الناس كما كانت على حقيقتها، وكما انطبع بها الكاتب، على أني ألفت النظر بصفة خاصة إلى «خيوط العنكبوت»؛ ليرى فيها صورة مجسَّدة للتنافس القاسي، الذي لا يتورع فيه المنافس أن يدوس منافسه بالأقدام إذا استطاع، ومن أجل ماذا؟ من أجل أن يكون على مقربة أقرب من أصحاب السلطان. كما ألفت النظر مرة أخرى إلى «عروس المولد» ليرى القارئ صورة الحرمان المقرون ببطش الطغاة، وإلى «عند سفح الجبل» ليرى كم هم بعيدون عن الشعب أولئك الساسة الذين يتوهمون بأنهم خُدَّام الشعب.

٢

كان منطقي — منذ الأربعينيات فصاعدًا — في وجوب الأخذ عن ثقافة الغرب منطقًا مبسطًا لا تعقيد فيه ولا التواء، فما دمت قد رأيت البون شاسعًا بيننا وبينهم في الحفاظ على حقوق الإنسان وكرامته، وفي تقدُّم العلوم والفنون، وفي درجة الثراء والرخاء ونظافة العيش وغزارة الإحساس بالحياة، فلماذا لا ننقل إلى أرضنا مثل هذه الشجرة الفينانة المُورقة المثمرة؛ لعلنا نفيء إلى ظلها ونأكل من ثمارها. ولم أكن في تلك الأعوام أفرق بين ما يجوز نقله عن الغرب وثقافته وما لا يجوز؛ فكل ما عندهم واجب النقل إلينا ما دمنا في حاجة إلى نتائجه، وأسرفت في هذه الدعوة حتى تمنيت — كما قلت في مقدمتي لكتاب «شروق من الغرب» — أن نأكل كما يأكلون، ونكتب من الشمال إلى اليمين كما يكتبون، وأن نرتدي من الثياب ما يرتدُون.

والحق أني في تلك الدعوة إلى ثقافة الغرب يومئذٍ لم أكن مستندًا إلى بريقٍ سطحي وكفى، بل ضربت في حقائق الأشياء إلى جذورها. ألم يكن الإمام محمد عبده هو الذي قال، تعليقًا على مشاهداته في إنجلترا، إنه رأى هناك إسلامًا بغير مسلمين، وإن الذي رآه في مصر مسلمين بغير إسلام؟ نعم؛ فشيء كهذا هو ما وجدته في أخلاق الناس وهم يتعاملون هناك بعضهم مع بعض. ولما كنت دارسًا للفلسفة، وأعلم أن الفلسفة — في أي بلد وفي أي عصر — هي التي تستقطب الثقافة القائمة استقطابًا يستخرج منها المبادئ الأولى التي عليها ارتكز البناء الثقافي كله، فلقد عُنيت يومئذٍ بتحليل التيارات الفلسفية المعاصرة على اختلافها الظاهر؛ لأرى إن كانت تلك التيارات تلتقي عند نقطة رئيسية واحدة، فإذا كان أمرها كذلك كانت تلك النقطة المشتركة هي المعبِّرة عن روح العصر.

وإذا أنت أمعنت النظر في الاتجاهات الفلسفية المعاصرة — ويمكن بلورتها في أربعة — وجدت جذرها المشترك هو اتخاذ «الإنسان» في حياته الدنيوية هو محور الاهتمام، وانظر — على هذا الضوء — إلى تلك الاتجاهات الأربعة: أحدها هو اتجاه الفلسفة التحليلية التي تُعنى أكثر ما تُعنى بفلسفة العلوم، والتي هي الفلسفة السائدة في بريطانيا، فما دامت تصب اهتمامها على التفكير العلمي، فهي بالتالي تَقْصر ذلك الاهتمام على ما هو ذو صلة بحياة الإنسان هنا على هذه الأرض. وثانيها هو اتجاه الفلسفة البراجماتية الذي له السيادة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأساسه هو أن الفكرة تُعَد صحيحة إذا كانت نتائجها نافعة للإنسان؛ فليس المهم هو «أصل» الفكرة من أين جاءت وكيف جاءت؟ بل المهم هو ماذا عساها أن تُثمر للإنسان من نتائج تنفعه في حياته. وثالثها هو اتجاه الفلسفة الوجودية في غربي أوروبا، ومدار تلك الفلسفة حرية الإنسان في القرار الذي يتخذه لنفسه ليكون بعد ذلك مسئولًا عنه مسئولية خُلقية. ورابعها هو اتجاه الفلسفة المادية الجدلية السائدة في شرق أوروبا: ومحورها هو أن الحياة الثقافية كلها — بما فيها القيم الأخلاقية والجمالية — إنما تولدت عن الحياة الاقتصادية من زراعة وتجارة وصناعة، فإذا غيرت من أسس الحياة الاقتصادية المادية تغيرت بالتالي دنيا الثقافة، وإذن ففي مقدورنا أن نُشكِّل العلاقات الاقتصادية تشكيلًا ينتهي بنا إلى إقامة حياة إنسانية تصون للإنسان حقوقه.

فإذا كان هذا هو اتجاه الفكر في الغرب، وهو اتجاه همه الأول هو صون الإنسان من العوامل التي كانت تطحنه طحنًا وتقهره قهرًا، أفيكون غريبًا أن نعمل على نشر مثل ذلك الفكر في بلادنا؛ ليفرز لنا مثل الذي أفرزه في حياة الغرب من توفير وتقديس لمكانة الإنسان وكرامته؟ وإذا كنا نقبل جذور الفكر الغربي التماسًا لما يثمره في نهاية الأمر من حياة إنسانية كريمة، فلا مندوحة لنا عن قبول النتائج الفرعية التي لا بد أن تنبثق بالضرورة من تلك الجذور، ومنها ما هو خاص بالنظرة العلمية الواقعية إلى الأمور ما دامت أمورًا لا صلة لها بمشاعر الإنسان الخاصة، ومن هنا جاءت دعوتي منذ تلك الأعوام — وإلى يومي هذا — إلى الأخذ الصارم بالنظرة العلمية التجريبية (وتفصيل ذلك موضعه في الفصل الآتي) مفرِّقًا في حياة الإنسان بين مجالين: مجال التفكير العلمي بكل تفريعاته، ومجال الحياة الوجدانية بشتى جوانبها؛ فما يصلُح لذاك لا يصلُح لهذا؛ فلكلٍّ منهما مواقف ولكلٍّ منهما معايير للرفض أو القبول.

وفي خصائص النظرة العلمية المطلوبة، أحيل القارئ على كتابي «قشور ولباب» — في القسم الثاني منه — وإني لأجتزئ هنا سطورًا مما ورد في مقالة هناك عنوانها «وجهة الفكر المعاصر»:

فالطابع الجوهري الذي يطبع عصرنا الحاضر، هو — فيما أعتقد — حصر الإنسان نفسه فيما يستطيع أن يشهد ويرى، ليستخرج من ذلك ما يمكن استخراجه من قوانين، يستخدمها في حياته العملية استخدامًا عمليًّا نفعيًّا ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فكأنما السؤال الأساسي الذي يلقيه الإنسان على نفسه ويحاول اليوم أن يجيب عنه هو: ماذا أرى من العالم وماذا أسمع؟ وهل هذا الذي أراه وأسمعه يطَّرد وقوعه اطرادًا أستطيع أن أجعل منه قانونًا أركن إليه في حياته العملية؟

وإن شئت أن تضع ذلك نفسه في عبارة أخرى، فقل: إن طابع عصرنا الفكري هو العلم التجريبي وما يستتبعه من مناهج البحث والنظر، والفلسفة التي نشأت من ذلك الاتجاه العلمي هي الفلسفة التي جرى الاصطلاح أن تسمى بالفلسفة الوضعية، وجوهرها أن تجعل صدق الحواس أصلًا لا يناقَش؛ لأنه من تلك الفروض المطلقة التي تنبني عليها معرفة العصر واتجاهاته الفكرية. والفروض المطلقة لا يُسأل عنها، وإلا فإنها لا تُعَدُّ مطلَقة، بل نسبية تستند إلى غيرها من مبادئ وأصول، وليس هناك بالطبع مانع مادي يحول بينك وبين أن تسأل عما يبرر افتراض ذلك الفرض المطلق. لكنك إن فعلت خرجت على روح العصر السائد.

إن الفلسفة الوضعية — التي تمثل عصرنا الحاضر — لا تكتفي بمخالفتها للفلسفات السابقة في طريقة الإجابة عن مشكلات بعينها، بل كثيرًا ما ترفض تلك المشكلات ذاتها، فإن كانت تلك الفلسفة السابقة تسأل: ماذا وراء ما يدركه الإنسان بحواسه؟ ثم تختلف في الإجابات، فإن الفلسفة الوضعية تنكر السؤال ذاته؛ لأنه يتناقض مع الفرض الأول المطلق الذي جعلناه بدايةً وأساسًا للبناء الفكري كله، وهو أن الحواس — وما تأتينا به من خبرة ومعرفة — صادقة، وهي الأساس الذي ليس وراءه شيء.

عند الفلسفة الوضعية أن الرؤية بالعين أو السمع بالأذن، هي الملاذ الأخير في إثبات الصدق لدعواك، أينا يعيش في عصر اتجاهه الفكري هو أن يقوم الرأي على التجربة بشهادة الحواس، وأن يكون صدق الرأي مرهونًا بإمكان تطبيقه تطبيقًا علميًّا.

إننا لو سئلنا: بماذا يتميز الغرب وحضارته؟ فلا نعدو الصواب إذا أجبنا بأنه يتميز بالعلم التجريبي. فإذا قمنا ننادي بوجوب الأخذ عن الحضارة الغربية الراهنة أخذًا لا تحوُّط فيه ولا تحفُّظ؛ كدنا بذلك أن نقول بوجوب الاتجاه بحياتنا وجهة علمية؛ لكي نساير العصر الحاضر في نشاطه الفكري.

٣

في تلك المرحلة من مراحل العمر عندما أردت أن أصوِّر لنفسي — وللناس — نموذج الإنسان المتحضر والمثقف كيف يكون، جاءت عناصر الصورة من وحي ما هو سائد وفق المعايير الغربية الخالصة، وفيما يلي جزء من المقالة التي كان عنوانها «نموذج المتمدن»:

«… لا شك أنك قد رأيت كلمات «الحق» و«الخير» و«الجمال» متجاورة في كثير جدًّا من المواضع، كلما أراد الكاتبون أن يعبِّروا بعبارة موجزة عن أحلام الإنسانية وأمانيها، فهذه الكلمات الثلاث تستطيع أن تجعلها تعبيرًا آخر للجوانب الثلاثة نفسها التي يذكرها علماء النفس، وهي الإدراك والوجدان والنزوع؛ «فالحق» هو ما ننشُده في حالات الإدراك، و«الجمال» هو ما نبتغيه في حالات الوجدان، و«الخير» هو ما نقصد إليه في جانب النزوع أو السلوك، وسيرسم صورة الإنسان المتمدن على أساس هذه الجوانب الثلاثة.»

فأهم ما يميز الإدراك عند «المتمدن» في عصرنا هذا هو التقيد بالواقع، وإدراك الواقع كما هو يتطلب القضاء على الخرافة بكل ما يتصل بها من لواحق وأتباع، وللخريف مظهران أساسيان في طريقة تعليلنا للحوادث والظواهر: الأول أن تعلل حدوث الأشياء المحسوسة بأشياء غير محسوسة، والثاني أن تعلل شيئًا محسوسًا بآخر محسوس، لكنه لا يرتبط معه ارتباطًا يدل عليه طول الملاحظة ودقة التجربة. فلو قلت — مثلًا: إن المرض في جسم المريض شبيه شيطان حالٍّ في الجسم، أو أن السماء تُرعد وتُبرق لأنها غاضبة، فأنت مخرف من النوع الأول. ولو قلت: إن السفر يوم الأحد مشئوم، ونعيق الغراب نذير بالموت، فأنت مخرف من النوع الثاني، وفي كلتا الحالتين أنت خارج بإدراكك للأشياء على منهج «المتمدن» في هذا العصر الذي أبرز ما فيه هو العلم وما يؤدي إليه وما ينتج عنه.

حتى الآداب والفنون قد أصبح معيارها هو الواقع، ولا أقصد بذلك أن الأديب أو الفنان يقف حيال الظاهرة المعينة موقف العالم الذي يحللها ويصفها بالمقاييس والأرقام، بل أريد أن أقول: إن الآداب والفنون في ميدانها — ميدان التعبير عن النفس وما يدور فيها من مشاعر — أصبحت تنزِع بقوة نحو إثبات الواقع، بغير حياء ولا خجل؛ فما قد كان يستحي منه أسلافنا لا يتحتم أن يكون عندنا نحن كذلك موضع استحياء، ومن ثَمَّ نرى اليوم أدباء لا يتورَّعون عن تصوير مجرى شعورهم كما هو، فيكون بين ذلك رغباتهم الجنسية وانحرافاتهم الإجرامية وما إلى ذلك، ونرى اليوم مصورين لا يجلسون أمام الشيء يصورونه كما يبدو، بل يصورونه كما يختلط بأفكارهم في لحظة التصوير، فإذا جلست مثلًا إلى طائر تصوره، وأثناء ذلك دقَّ جرس شغل بؤرة شعورك، وجب أن تدخل هذه الصورة الطارئة على نحو ما؛ لأنها جزء منك في اللحظة التي أردت تصوير نفسك فيها، ومن هنا كان كثير مما نعدُّه «خلطًا» في التصوير الحديث.

وأما الجانب الوجداني من «المتمدن» في عصرنا الحديث، فأهم ما يميزه هو التأثر بما ينتجه رجال الأدب والفن المحدثون، فأنت متخلف عن عصرك ومدنيته، إذا لم تأخذ بنصيب — قليل أو كثير — في تقدير ما ينتجه هؤلاء الرجال من أدب وتصوير ونحت وموسيقى وتمثيل ورقص وغناء، مهما يكن عملك وموضوع اختصاصك؛ فقد تكون طبيبًا أو مهندسًا أو رجلًا من رجال الأعمال، لكنك لكي تكون إلى جانب ذلك «متمدنًا» فلا بد من إضافة عنصر آخر هو التمتع بنتاج الفنون.

أقول: إنه لا بد من أخذك بنصيب في تقدير هذه الأشياء كلها، ولا أُحتم عليك أن تحب كل ما تراه منها أو ما تسمعه، فلك أن تحب أو أن تكره، على شرط أن يكون حبك وكرهك قائمين على معيار هذا العصر نفسه؛ لأن الآداب والفنون كلها تعبير عن روح العصر، ويستحيل أن تتشرَّب روح العصر، وتتمرد في الوقت نفسه على كل آدابه وفنونه …

وأهم ما يميز السلوك عند «المتمدن» الحديث هو مقدرته على ضبط زمام نفسه، فليس من اليسير عليك أن تُثير فيه الغضب الذي يطير بصوابه، وهو لا يغلو في مظاهر الفرح ولا مظاهر الحزن، فأنت «متمدن» بمقدار ما يتصرف «الإنسان العاقل» فيك، لا ما يتصرف «الحيوان» منك، والحيوان منك هو الغرائز، تنطلق كما هي بغير ضبط ولا تعديل، وأعجب العجب أننا نفخر بسرعة انفعالنا وشدة هيجان شعورنا، ونَصِف الأوربي المتمدن في هذه الناحية «بالبرود»؛ لأنه لا ينفعل ولا يهيج.

كذلك ما يميز سلوك «المتمدن» الحديث: طريقته في ملء فراغه، فهو متخلف عن عصره إذا قضى فراغه نائمًا أو جالسًا؛ لأن للفراغ في المدنية الحديثة ألوانًا من النشاط كثيرة معروفة، ليس منها النوم والقعود، فهي لعب وارتحال وتغيير لمجرى الحياة المألوفة …

لقد كنت دائمًا على اعتقاد بأن تهذيب الحضارة لا يدور — بالضرورة — مع الثروة وجودًا وعدمًا؛ فقد يكون الازدهار الاقتصادي شرطًا ضروريًّا، لكنه ليس شرطًا كافيًا، فقد يتوافر المال مع غير متحضر، وقد يكون متحضرًا مَنْ ليس عنده مال، وإنما هي صفات أخرى تلك التي يرتهن بها تهذيب الحضارة، راجع مقالة عنوانها «مقياس الحضارة» في كتابي «هذا العصر وثقافته» تقرأ ما يلي:

«إن أرقام الإحصاءات الاقتصادية وحدها لا تكفي؛ لأنها وإن أشارت إلى بُعْدٍ واحد من أبعاد الموقف [والحديث هنا عن الحضارة] فهي لا تشير إلى سائر الأبعاد، على حين أن الموقف الحضاري إنما هو حصيلة هذه الأبعاد الكثيرة التي تتألف منها الحياة، وكما قد قيل: إن السائر في الحديقة قد تمتعه أشجار السنديان، ومتعته هذه هي جزء من حياته ولا شك، لكن أشجار السنديان تلك لا تدخل في إحصاءات الاقتصاد إلا بعد أن تزول من الوجود بصفتها أشجارًا في الحديقة، أعني أنها لا تدخل في إحصاءات الاقتصاد إلا إذا اقتُلِعَت وقُطِعَت وبيعت شرائحها في أسواق الخشب …»

إنه لا بد لقياس التفاوت الحضاري بين حياة وحياة أن تؤخذ «غزارة» الحياة أو عمقها في الاعتبار، ولا يُكتفى بقياسها طولًا وعرضًا، فيؤخذ في الاعتبار مقدار ما يَنعم به الإنسان من «يسر» بأوسع معاني هذه الكلمة؛ لأن الحياة الميسَّرة تتطلب — إلى جانب ارتفاع المستوى الاقتصادي — جوانب أخرى قد يصعب حسابها بدقة الحساب، كالصحة البدنية ليخلو الإنسان من المرض والضعف، والصحة النفسية التي تتيح له أن يعبِّر عن فطرته تعبيرًا كاملًا يُخرج من تلك الفطرة جميع ممكناتها، وتكافؤ الفرص بين الناس في العمل وفي التمتع بأوقات الفراغ.

٤

إنني إذ أدعو إلى ثقافة تساير العصر، فذلك لعلمي بأن الثقافة قد تغيرت معانيها مع تعاقُب العصور، وليست هي كالعنصر من عناصر الكيمياء يظل ذا صفة مميزة، فلا يتغير مع الزمن ولا يتبدل، فما كان شرطًا ضروريًّا للمثقف في مرحلة معينة لم يعد كذلك في مراحل أخرى جاءت بعد ذلك، ولنأخذ تاريخ المسلمين مثلًا نوضح به ما نريد: كانت الثقافة قبل الإسلام لا تعني إلا رمح المحارب، فذلك الرمح كانت تُطْلَب له قناة مثقفة؛ أي مسوَّاة مقوَّمة مستقيمة، فما هو إلا أن ظهرت الدعوة الإسلامية بكل ما جاءت به من بحر زاخر في مبادئ الأخلاق الفردية والاجتماعية جميعًا، حتى قفز معنى «الثقافة» قفزة هائلة، نقلتها من ميدان الرماح وقنواتها إلى فطنة العقل وذكائه، وكانت النقلة على يدي أديب العربية الجبار أبي عثمان عمرو الجاحظ، لم تعد «الثقافة» تسوية العود الذي يُركَّب عليه سنان الرمح ليصلُح للقتال، بل أصبحت في استعمال الجاحظ لها (ذلك في القرن التاسع الميلادي) تسوية الفكر؛ ليصبح بفطنته وذكائه قادرًا على حل مشكلات الحياة، والذي أدى إلى هذا التغير الهائل في وجهة النظر هو التغير الحضاري الذي شمل الناس بعد الإسلام.

على أن تثقيف العقل بما يتفق مع الحضارة الجديدة كانت له وسائله الضرورية من وجهة النظر السائدة، وأول تلك الوسائل وأهمها هو دراسة اللغة بكل ما تستلزمه تلك الدراسة من علوم النحو وقواعد الاشتقاق وإيراد الشواهد من الشعر الجاهلي أو النص القرآني الكريم، ولماذا جعلوا أهم سمات المثقف يومئذٍ إلمامه باللغة إلمامًا جيدًا؟ كان ذلك لسببين ظاهرين: أولهما أن يتأكدوا من قدرة المثقف على فهم الكتاب الكريم فهمًا صحيحًا، وعلى مثل هذا الفهم الصحيح يتوقف الفقه الإسلامي كله، وثانيهما أن يكون للحكام المسلمين في البلاد التي دخلت الإسلام (كمصر وفارس مثلًا) ما يعتزُّون به في الحياة الثقافية إذا ما واجهتهم ثقافة تلك البلاد التي يحكمونها.

كان ذلك كله عندما كان الحكم للمسلم الذي هو من أصل عربي، فلما جاءت الدولة العباسية ومعها سياسة جديدة، وهي أن يكون الحكم للمسلم — عربيًّا كان أم غير عربي — دخلت «الثقافة» في مرحلة جديدة، وأصبح المثقف إنسانًا لا يقتصر علمه على اللغة وملحقاتها والفقه الإسلامي ومذاهبه، بل اقتضى الأمر إضافة جديدة تتناسب مع الوجه الحضاري الجديد، وتلك الإضافة هي الإلمام بتراث الحضارات الأخرى وفي مقدمتها حضارة اليونان الأقدمين، وهنا أقام الخليفة المأمون دارًا لترجمة التراث اليوناني العقلي من فلسفة وعلم، ولم يعنوا بنقل الأدب والتاريخ.

وسرعان ما أصبحت هذه الجوانب المنقولة عن اليونان شروطًا أساسية لا بد من توافرها فيمن أراد أن يسلكه الناس في زمرة المثقفين. وبهذا تكون الثقافة العربية قد جاوزت حدود القومية الضيقة إلى حيث العالم الفسيح بآفاقه البعيدة، ولعل المسعودي كان يشير إلى مثل هذا المعنى بعنوان كتابه «نزهة المشتاق لاختراق الآفاق»، وحقًّا كانت نزهة من اشتاق من أسلافنا إلى حياة المثقفين في أن يخترق الآفاق إلى بلاد غير بلاده حتى يعيش عصره كاملًا، وولاؤنا لآبائنا إنما يقتضينا أن نخترق الآفاق كما اخترقوا، لنعيش عصرنا كاملًا كما عاشوا.

لكن هذا الاختراق للآفاق لا ينبغي أن يُضيع مني ركنين أساسيين هما: العقيدة الدينية واللغة العربية، إن عقيدة أسلافنا لم تنقص مثقال ذرة حين اخترقوا الآفاق ليعبُّوا من حضارة الهند ومن حضارة اليونان وغيرهما، وكذلك بالنسبة لعقيدتنا إذا نحن فتحنا صدورنا اليوم لحضارة عصرنا وثقافته، وأما اللغة العربية فلا بد لها — لكي تظل حية — أن تملأ أوعيتها من ثقافات العصر، وبمقدار ما يجري في اللغة من علوم العصر ومعارفه يكون لنا الحق في الانتماء إليه مع سائر أبنائه (راجع مقالة «المثقف الجديد» في كتابي «مجتمع جديد أو الكارثة».)

ما الذي يثير الضحك والإشفاق معًا على شخصية «دون كيخوته»؟ لقد قرأ الرجل عن حياة الفرسان في العصر السابق على عصره، وأعجبته تلك الحياة فيما قرأه عنها، فأراد أن يحياها، فلو كان دون كيخوته يعيش في عصر الفروسية فعلًا لما أثار ضحكًا ولا إشفاقًا؛ لأنه في تلك الحالة رجل يعيش عصره، أما والحالة غير ذلك إذ يعيش الرجل في عصر لاحق، ويريد أن يحيا عصرًا مضى، بناءً على مادة مقروءة في كتب، فذلك هو ما جعله أعجوبة تدعو إلى السخرية، فكأنما هو إنسان قوامه عبارات وكلمات قرأها وحفظها، وليس قوامه لحمًا ودمًا يسلكانه مع الأحياء، وتلك هي صورة صادقة لكل من تنكَّر لدواعي عصره واهتماماته ومشكلاته، ثم ربط ثقافته بمحفوظات نقلها عن صفحات كتب الأقدمين (راجع مقالة «إنسان من حروف» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).

تغيرت ظروف عصرنا عما كانت عليه ظروف العصور السابقة، ولا بد — بالتالي — أن تتغير ثقافة المثقف اليوم عما كانت عليه ثقافة المثقف أمس، تلك بديهية لم تكن تحتاج إلى كاتب يعرضها على الناس ويدافع عنها، لكن فريقًا من مواطنينا المعاصرين — ربما كان هو الجزء الأعظم من هؤلاء المواطنين — ما يزال مشدودًا بثقافته إلى كتب الأقدمين، بغضِّ النظر عما يعج به عصرنا من حياة جديدة لها اهتماماتها ومشكلاتها التي لم يعرفها أولئك الأقدمون، مما دعا أنصار الجديد إلى الكتابة في تلك البديهية التي لم تكن تحتاج إلى كتابة، وكنت فيما كتبته واحدًا من هؤلاء الكاتبين.

كان المثل الأعلى للإنسان العربي القديم هو أن يكون ذا قلب حساس ولسان معبر عن خوالج ذلك القلب، ولقد رسم شاعر قديم صورة ذلك المثل الأعلى في بيت من الشعر الجيد، حين قال:

لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده
فلم يبقَ إلا صورة اللحم والدم

أي إن كل ما عدا الفؤاد واللسان، فهو إطار جسدي خُلِقَ ليحمل ذلك الجوهر، وترانا إلى يومنا هذا نردد هذا البيت على ظن منا بأن صورة الإنسان الذي كان كاملًا فيما مضى ما زالت هي صورة الإنسان الكامل بمقاييس هذا العصر. ولا عجب أن ننفق الشطر الأعظم من طاقتنا في الكلام؛ لأنه بالكلام المعبر عما يدور في أفئدتنا تكتمل الصورة، لكن عصرنا هذا قد جاء يطلب من أهله شيئًا آخر هو «العمل» حتى ولو كان صامت اللسان، فوجب على العربي الحديث أن يغير من صورة الكمال التي رسمها له الشاعر القديم، وبعبارة أخرى: فإن ثقافة جديدة تحض على العمل، لا بد أن تنهض وتقوى لتحل محل ثقافة كان محورها فؤادًا يخفق بالعاطفة ولسانًا يعبِّر عما خفق به الفؤاد (راجع مقالة «من الكلامولوجيا إلى التكنولوجيا» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).

٥

لم تكن دعوتي إلى ثقافة الغرب صيحة مجنونة مفتونة بظواهر كاذبة، بل هي دعوة دفعني إليها ما رأيته من مكانة رفيعة للإنسان — كل إنسان وأي إنسان — من حيث إنه إنسان وكفى، فعندئذٍ قارنت — رغم أنفي — بين ما رأيته هناك، وما كنت أعلمه عن قيمة الإنسان في ثقافتنا المصرية كيف تعلو وتهبط مع درجات السلطة والنفوذ والثراء ونوع العمل. فهل كان يمكن أن أرى ذلك الفارق الشاسع بين الثقافتين وما أنتجه ذلك الفارق من معايير يقاس بها الناس هناك وهنا، دون أن أبحث عن السر لأدعو إلى الأخذ بكل ما من شأنه أن يُكسب الإنسان كرامته، وبكل ما من شأنه كذلك أن يدفع بالناس إلى الأمام في شوط الحضارة؟

ولم يكن «السر» الذي كشفت عنه في ثقافتهم سرًّا واحدًا، بل هو عدة أسرار تآلفت كلها على صناعة المجتمع الجديد؛ فهناك العلم وهنالك العمل وهنالك العدل الاجتماعي وهنالك حرية الفرد واعتزازه برأيه وبالطريقة التي يختارها لحياته، وها أنا ذا أضيف صفة أخرى هي روح المغامرة التي تنتهي بهم إلى اقتحام الطبيعة للكشف عن مكنونها، فإذا حصيلة ذلك بين أيديهم علم وابتكار.

وحدث لي أن سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية لأكون أستاذًا زائرًا خلال العام الجامعي ١٩٥٣-١٩٥٤م، فأردت منذ اللحظة الأولى من رحلتي أن أفتح عيني لأرى كل ما استطعت رؤيته من طرائق التفكير وأساليب العيش عند هؤلاء القوم، وجمعت مشاهداتي وأفكاري التي تجمعت على مدى العام في كتاب «أيام في أمريكا». كانت اليومية الأولى في الطائرة التي أقلَّتني وعبرت بي المحيط الأطلسي لأول مرة في يوم الأربعاء ١٦ سبتمبر ١٩٥٣م، وكان بين ما ورد فيها هذه الخاطرة:

«… أُطْفِئَت المصابيح داخل الطائرة، وراح المسافرون يُصْلِحون من مقاعدهم ليناموا … نظرت إلى المحيط فلم أرَ محيطًا بالطبع؛ لأننا على ارتفاع شديد، لكني رأيت جوًّا مفضضًا، فالظاهر أنها كانت ليلة مقمرة، وأن ضوء القمر كان منعكسًا على السحاب من تحتنا، فأحدث هذا اللون الفضي.

ظللت أنظر إلى الجو الفضي خلال الزجاج، وقلت في نفسي: ما أبعد الفرق بين إنسان وإنسان؛ قارن بينك الآن وأنت تعبُر المحيط على هذا النحو، وبين كولمبس وهو يعبُر المحيط نفسه؛ لتعلم كم يكون الفرق بين الفرد المبدع الخلاق المبتكر، وبين الأفراد الذين يجيئون بعد ذلك ليتبعوه، إن خيال رجل واحد وجرأته فتح للناس عالمًا جديدًا، وشقَّ لهم طريقًا جديدًا، وسرعان ما يختلط علينا الأمر، فنظن ألا فرق بين من يبدع ومن يتبع، سرعان ما يختلط علينا الأمر في مصر، فلا ندرك فرقًا بين مبتكر الطائرة — مثلًا — وبين مَنْ يركِّب الطائرة على نموذج أمامه، سرعان ما يختلط علينا الأمر في مصر، فلا نرى المسافة الشاسعة بين عالم يبحث ويصل إلى النتائج الجديدة وينشر هذه النتائج، وبين من يأتي بعد ذلك ليقرأ هذا المنشور ويدرسه ويفهمه، فنقول لأنفسنا: إن منهم علماء ومنا علماء، ولا فرق بين شعب وشعب، ولا بين شرق وغرب! لكن الفرق — يا صاحبي — هو نفسه الفرق الذي يقع بيني وبين كولمبس في عبور المحيط، عبَره هو لأول مرة مغامِرًا مخاطرًا متخيلًا متعقلًا، وعبرته بعده تابعًا، فلا مغامرة ولا مخاطرة ولا خيال ولا فكر.»

وفي هذا المعنى نفسه كتبت يومية الثلاثاء أول ديسمبر ١٩٥٣م (وكنت في مدينة كولمبس بولاية كارولاينا الجنوبية لفترة الفصل الدراسي الأول من ذلك العام الجامعي) فقلت: «قرأت في مجلة» لايف موضوعًا شائقًا بالصور الجميلة عن الحيوانات البحرية كيف تعيش في جوف المحيط؟ كيف تعيش في ظلام القاع الذي لا ينفذ إليه شعاع من ضوء؟ كيف يفتك بعضها ببعض؟ كيف أعد كل نوع منها بطرائق التخفي وأساليب الهجوم والدفاع؟ كل ذلك معروض عرضًا يجعله أقرب إلى القصص الممتع منه إلى الوصف الطبيعي الصادق.

ويكفي أن أفكر في موضوع واحد كهذا، ماذا صنعت المجلة لتجمع مادته؟ ثم أسأل نفسي: ماذا تصنع مجلة مصرية في الموضوع نفسه إذا أرادت أن تنشر عنه شيئًا؟ أقول: إنه يكفي أن أفكر في موضوع واحد كهذا في مجلاتهم ومجلاتنا؛ لأدرك لب الفرق بين شعب وشعب، فمجلة «لايف» هي التي أرسلت المصورين، وهي التي جمعت المختصين بدراسة الحيوانات البحرية، ولبث رجالها ثلاثة أعوام في رحلات بحرية، يغوصون إلى قاع المحيط، ويلاحظون ويصورون ويصفون؛ فالمسألة كلها — من أولها إلى آخرها — من تدبير المجلة؛ فهو تفكير وابتكار ومغامرات وعلم وكتابة وتأليف وتنسيق … أما المجلة المصرية فماذا تصنع؟ إنها تنقل عن مجلة «لايف» ما كتبته وما صورته، ثم يقول لك الناقل بعد ذلك: إنه «أديب». خلط وجهل وادعاء! ها هنا كل الفرق بيننا وبينهم، فليس الفرق المهم هو ثراؤهم وفقرنا، بل هو ابتكارهم وعجزنا، يستحيل أن نتقدم تقدمًا حقيقًا إلا إذا كان لنا ابتكار، وإلا إذا بدأت الأفكار من عندنا أحيانًا، أما أن يبتكروا هم الطيارة — مثلًا — ونحن ننقلها، ونقول: إن لدينا مهندسين كمهندسيهم، وأن يبحث علماؤهم في الطب والفيزيقا والنفس وما إلى ذلك، فنحفظ ما كتبوا ثم نقول: إن منا العلماء في الطب والفيزيقا والنفس، فإغماض لأعيننا عن سر التقدم وسر المدنية كلها، بل سر الإنسان وهو الابتكار، يُعوزنا إدراك هذه الحقيقة في وضوح، وهي أن الفرق بعيد بُعْدَ ما بين الأرض والسماء، بين المبدع الخلاق المبتكر وبين من يسير بعد ذلك في الطريق، وقد شُقَّ وعُبِّدَ بمغامرات المغامرين وتفكير المفكرين، الفرق بين هذا وذاك هو نفسه الفرق بيني في رحلتي إلى أمريكا وبين كولمبس حين ارتحل مخاطرًا مغامرًا مفكرًا مدبرًا.

٦

كثيرة هي تلك الخصائص التي رأيتها عند بناة الحضارة الجديدة في الغرب، وتمنيت لو رأيتها في بلدي، ولم أكن — بالطبع — أول من رأى وتمنى، فها هم أولاء أعلامنا على امتداد القرن العشرين، بل ماذا أقول؟ أأقول: أعلامنا منذ رفاعة الطهطاوي في الثلث الأول من القرن الماضي؟ ها هم أولاء أعلامنا جميعًا قد رأوا كما رأيت وتمنوا كما تمنيت، وإنك لتقرأ لهم ما كتبوا، فتحس كأنما هم يشدون أذنيك شدًّا لتسمع جيدًا بأي الصفات ينبغي لنا أن نتخلق في عصرنا هذا لنكون من أبنائه؟ ولعلك واجد عندهم ما وجدته أنا من بروز صفتين أساسيتين يريدون لهما الرسوخ في أنفسنا، وهما «الحرية» و«التعقيل» (أعني الاحتكام إلى العقل في أمور حياتنا الموضوعية)، وهما صفتان تلخِّصان أميز ما يميز شعوب الغرب المتقدمة.

طلبت مني الإدارة الثقافية في الجامعة العربية — في آخر الأربعينيات أو في أول الخمسينيات — أن أضع تصوري للفكر العربي كما كان قائمًا في ذلك الحين، فقدمت إليها ما يوضح رؤيتي، وكانت صفتا «الحرية» و«التعقيل» — فيما رأيت — أهم ما ألحَّ مفكرونا وأدباؤنا على المطالبة به (راجع فصل «الفكر العربي المعاصر، اتجاهه وخصائصه» في كتابي «قشور ولباب»)، أما «الحرية» فقد كان الجانب السياسي منها أبرز ما شغل كُتَّابنا، برغم أنهم كانوا في ذلك الميدان تابعين لزعماء الأحزاب السياسية، ولكنهم لم يقصروا أنظارهم على الحرية بمعناها السياسي وحده، بل وسَّعوا الأفق حتى شمل ضروبًا أخرى من الحرية:

«… إننا إذ نقول: إن الدعوة إلى الحرية سمة تميز فكرنا العربي المعاصر، نضع في اعتبارنا مظاهر قد تبدو تافهة إذا أُخِذَت فرادى، لكنها هي القطرات التي يتكون منها التيار الدافق، فإذا رأيت الشعراء يجاهدون في تحطيم التقاليد الشعرية الموروثة ما استطاعوا إلى تحطيمها من سبيل، وإذا رأيت ألوانًا جديدة تخلق في أدبنا خلقًا من العدم أو شبهه كالقصة والمسرحية، وإذا رأيت البائع في الطريق يحاول أن يحدد حقوقه إزاء الشرطي الذي يمثل الحكومة، والشاب الناشئ يريد أن يثبت شخصيته أمام أبيه أو معلمه، والزوجة تجاهد في اكتساب حقها كاملًا في محيط الأسرة، إذا رأيت هذا كله ممثلًا فيما ينشره المفكرون بيننا، فاعلم أنه تيار فكري واحد، يدفعنا نحو الحرية ونحو الكرامة الإنسانية مهما تعددت ألوانه فيما أنتجه هؤلاء المفكرون.» (كتاب «قشور ولباب» صفحة ١٢٠).

وأما محاولة «التعقيل» — وهي الصفة الثانية مما كنت رأيته مميزًا للفكر العربي المعاصر — فقد كان لها وجهان: الأول اغتراف من المدنية الأوروبية، والثاني مجهود جبار نحو إحياء التراث العربي القديم، مصحوبًا بدفاع عقلي يحاول أن يبرر له مكانًا من ثقافة العصر الحاضر وفكره.

إنني لو تعقبت ما ورد في كتابتي عن هاتين الفكرتين: حرية الإنسان وعقلانية النظر باعتبارهما أسسًا لا بد منها في شخصية المصري الجديدة التي ننشدها له ليساير بها عصره؛ لأوشكت ألا أجد مرحلة من مراحل حياتي العقلية خالية منهما؛ فهما عندي وسيلتان، وهما عندي كذلك هدفان، فها هنا لا اختلاف بين الوسائل وأهدافها؛ فوسيلتي في الكتابة هي حرية التعبير وعقلانية الرؤية، وهدفي مما أكتبه هو أن أكون حرًّا وأن أكون عاقلًا، وأن أجعل سواي معي أحرارًا وعقلاء.

ولست أظن أن حرية الفرد وعقلانيته قد كانتا دائمًا صفتين للمصري في كل عصوره، لا لأنه مقصر أو قاصر، بل لأن العصور الماضية لم تكن تقتضيهما بنفس القوة التي تقتضيهما هذا العصر؛ فحرية الأفراد مطلب حيوي في يومنا ما دام حكم الشعب قد أصبح في أيدي الشعب نفسه، ولم يكن أمره كذلك دائمًا، وعقلانية النظر في يومنا منهج لا غناء عنه ما دام «العلم» قد أصبح أهم ركن من أركان الحضارة الراهنة، وأيضًا لم يكن أمره كذلك دائمًا.

لكن إلحاحنا في السعي وراء هاتين الركيزتين في حياة الإنسان المعاصر لا ينبغي أن تحجب عنا حقيقة هامة، وهي أن المصري مصري قبل هذا العصر الراهن بعصور طوال، ومعنى ذلك أنه لا بد أن تكون له صفات تدوم على مراحل التاريخ، ثم تضاف إليها صفات تلائم كل عصر مما لا ينفك التاريخ له طيًّا ونشرًا.

في مقالة كتبتها تحت عنوان «بحثًا عن الإنسان الجديد» (في كتابي «هذا العصر وثقافته») بدأت حديثي كما يلي:

«للثقافة القومية أصول ثابتة لا تتبدل مع الأيام إلا بالحد الأدنى الذي لا يعيق التقدم، كما أن لها فروعًا لا تنفك متغيرة كلما تغيرت الظروف من حولها، الأصول الراسخة تدوم، وهي التي تحدد معالم الشخصية القومية تمييزًا لها من سواها، وأما الفروع فهي التي تساير حركة التاريخ دون أن تفقد صلتها الوثيقة بأصولها الرواسخ؛ فالأمر في هذا كقطعة من الذهب يشكلها الصائغ على هيئة الطائر أو على صورة التمساح، يصنع منها سوارًا حول المعصم، أو حلية على الصدر، لكنها تظل هي هي بنفسها قطعة الذهب التي كانت، فقطعة الذهب هنا بمثابة ما قلنا عنه: إنه الأصول الثابتة في ثقافة القوم، وأما الصور التي تشكلت بها فهي الفروع التي تتنوع دون أن تضيع منها الصلة الحميمة المباشرة بأصولها.

وهكذا نريد لحياتنا الثقافية أن تكون، فتجيء منسوبة إلى جذورها التاريخية من جهة، ومتطورة مع ظروف عصرها من جهة أخرى.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤