الفصل الرابع

التجريبية العلمية

١

كانت لحظة نادرة من ربيع سنة ١٩٤٦م تلك التي كنت فيها جالسًا — كعادتي كل يوم — أطالع وأكتب وأدوِّن المذكرات، في المكتبة العامة بالمبنى الرئيسي لجامعة لندن، عندما أحسست بما يشبه اللمعة الذهنية تتوقد لتضيء لي طريقي منذ ذلك الحين وإلى الساعة التي أكتب فيها هذه الصفحات (١٩٨٢م)، وكان الموضوع الذي أطالعه عندئذٍ هو عرض لموقف فلسفي لم يكن قد مضى على ولادته في صورته المعروضة أكثر من ربع قرن، وأسماه أصحابه يومئذٍ بالوضعية المنطقية، وهو نفسه الذي أُطْلِقَ عليه فيما بعدُ اسم «التجريبية العلمية»، وأما اللمعة الذهنية التي أحسست بها في تلك اللحظة، فهي شعوري بأنني أقع هنا دون سائر التيارات والمذاهب، ولم يبدُ لي الأمر مقصورًا على مزاج شخصي يتفق وذلك الموقف الفلسفي الجديد، كأنما هو ثوب فُصِّل على طبيعة تفكيري تفصيلًا جعل الرداء على قدِّ المرتدي، بل إني شعرت في اللحظة نفسها بأنه إذا كانت الثقافة العربية بحاجة إلى ضوابط تُصلِح لها طريق السير، فتلك الضوابط تكمن ها هنا.

ولا أظنني مسرفًا في القول إذا زعمت بأنني منذ تلك اللحظة من ربيع سنة ١٩٤٦م وحتى هذه الساعة ظللت داعيًا إلى تلك الوقفة الفلسفية العلمية في كل ما كتبته بطريق مباشر مرة وبطريق غير مباشر مرات، فكانت الدعوة بالطريق المباشر كلما أخذت أتناول الموضوع بالشرح والتوضيح، وكانت بالطريق غير المباشر كلما كان موضوع الكتابة شيئًا آخر غير الفلسفة، كالنقد الأدبي مثلًا، لكنني نظرت إليه بمنظار الوضعية المنطقية، وحاسبت نفسي حسابًا عسيرًا في دقة الصياغة اللفظية كما تريد لنا تلك الوقفة الفلسفية أن نفعل تجاه اللغة كتابةً وقراءةً.

فماذا يُقْصَد بعبارة «الوضعية المنطقية» التي أُطْلِقَت بادئ الأمر على تلك النظرة الفلسفية، والتي أرادت لي الأقدار أن أتخذها لنفسي هاديًا ونبراسًا؟ فأما أولى اللفظتين — وهي كلمة «الوضعية» — فقد كانت قبل ذلك وحدها اسمًا على مذهب فلسفي بلغ قمة ازدهاره في فرنسا في أواسط القرن التاسع عشر على يدي فيلسوفهم «أوجست كونت»، وخلاصة دعوته هي أن النظرة العلمية الحديثة تقتضي أن تنحصر رؤية الباحث العلمي في حدود ما هو واقع، أي في حدود ما هو ظاهر لأعضاء الحس وأدوات التجربة، وبذلك تكون «ظواهر» الطبيعة (الحظْ جيدًا كلمة «ظواهر» وما تعنيه) هي وحدها محل النظر العلمي، بحيث لا تكون العوامل التي تعلل بها حدوث تلك «الظواهر» إلا مأخوذة من دنيا التجربة البشرية داخل حدود ما هو واقع، وكان أوجست كونت قد ذكر ثلاث مراحل للفكر البشري في تطوره، جعل الرؤية الوضعية العلمية ثالثتها، أما أولاها فهي ما أسماه بالمرحلة اللاهوتية، وأما الثانية فهي ما أسماه بالمرحلة الميتافيزيقية، فافرض مثلًا أن موضوع التساؤل من الإنسان المتطلع للمعرفة، هو: ما الذي يُكْسِب النبات نماءه؟ ففي المرحلة الأولى كان الجواب هو: إله النبات، وفي المرحلة الثانية كان الجواب مبدأ من المبادئ الميتافيزيقية عند الفلاسفة، فهو عند أرسطو — مثلًا — أن «المادة» قد داخلها «صورة» قوامها اغتذاء ونماء، وأما الجواب في المرحلة الوضعية العلمية الثالثة فهو تعليل بيولوجي لما يحدث من امتصاص النبات لعناصر معينة من التربة والماء والضوء، إلخ.

ذلك عن معنى «الوضعية»، فماذا يراد بكلمة «المنطقية» المضافة إليها في عنوان الحركة الفلسفية المشار إليها؟ يقصد بها أن النظرة الغامضة يكفيها قبل مراجعة الظواهر الطبيعية نفسها لمعرفة الصواب أو الخطأ فيما يقال عن تلك الظواهر، يكفيها تحليل البناء اللفظي نفسه للعبارة المقولة عن إحدى ظواهر الطبيعة؛ لأن في ذلك البناء اللفظي — واحتكامًا إلى منطق اللغة ودلالاتها — يمكن الحكم على العبارة المعينة إن كانت — أساسًا — مقبولة لكونها ذات معنى يستحق البحث، أو مرفوضة لكونها غير ذات معنى، وبالتالي فهي ليست جديرة بمراجعتها على الطبيعة، ومن هذا يتبين أن الوضعية المنطقية ليست «مذهبًا» بقدر ما هي «منهج» للنظر العلمي، يرسم للباحث خطواته التي تضمن له السير على أرض صلبة لا تميد تحت قدميه، وكيف يكون له ذلك إذا لم يستوثق أولًا من الأداة اللغوية التي يستخدمها في حمل أفكاره، فيعرف متى تتوافر لها منطقية البناء ومتى لا تتوافر، وهو في ذلك شبيه بالصراف في دنيا المال، لا بد له من التمييز بين العملة الصحيحة والعملة الزائفة، فتلك خطوة أولى قبل دخول المتعاملين في الأخذ والعطاء.

٢

الوضعية المنطقية أو التجريبية العلمية (فهاتان عبارتان مترادفتان) تصب اهتمامها كله — لا أقول «بعض» اهتمامها أو «معظم» اهتمامها — بل أقول: إنها تصب «كل» اهتمامها في مجال التفكير «العلمي»، وليس التفكير العلمي هو كل النشاط الذهني للإنسان، وإنما هو جزء، وقد لا يكون هو الجزء الأكبر من ذلك النشاط، فهنالك إلى جانب التفكير العلمي ضروب الوجدان بشتى صنوفها، ومن أهمها الجانب الديني من الإنسان والفن والشعر وسائر ألوان الإبداع الأدبي، ومنها الحياة العاطفية والانفعالية التي يحياها الإنسان كل يوم، ويعبر عنها قولًا وسلوكًا، لكنه هو التفكير «العلمي» وحده الذي يستوعب اهتمام الوضعية المنطقية، وهذه نقطة هامة؛ لأن الشروط التي يتطلَّبها التفكير العلمي قد لا تكون هي التي تتطلبها الحياة الوجدانية عندما تعبِّر عن نفسها بصورة من الصور الكثيرة التي ذكرنا بعضها، فإذا قلنا — بناءً على منهج التجريبية العلمية: إن عبارة كهذه «الشعور الوطني قيمة أخلاقية عليا» هي «بغير معنى» فإنما يكون المراد أنها عبارة لا تندرج في نوع العبارات التي تخضع لمنهج التفكير العلمي، لكن ذلك لا يُخرجها من مجال العبارات الوجدانية المحركة لمشاعر الإنسان، ونقول ذلك لأن الخلط بين النوعين من الكلام سريع الوقوع، وما أهون على القارئ المتسرع أن يتهم الكاتب بزيغ في إيمانه الديني أو بضعف في عاطفته، إذا وجده يُخرِج هذه الجوانب من مجال العبارات ذوات المعنى العلمي، ولقد عانيت من أمثال هذا القارئ المتسرع عناءً الله وحده أعلم بمداه.

إذن فهو مجال التفكير العلمي وحده الذي نعنيه بكل ما سوف نذكره عن التجريبية العلمية ومقاييسها المنهجية التي على أساسها تقبل من أنواع الكلام ما تقبله وترفض ما ترفضه، ولعله كان أعظم كشف فلسفي في عصرنا هذا ذلك الكشف الذي ميز به فلاسفة العلم بين نوعين من العبارات العلمية ذاتها، هما: العبارات التي تندرج تحت مجموعة العلوم الرياضية، والعبارات التي تندرج تحت مجموعة العلوم الطبيعية؛ فلكلٍّ من المجموعتين أسس خاصة بتكوينها، وبالطريقة التي يُحكم بها على صدقها أو كذبها.

ولقد جاء هذا الكشف الفلسفي الهام في عصرنا (وسنوضح للقارئ مواضع أهميته البالغة بعد قليل) بعد أن مرت بالإنسان عصور طوال منذ بدأ فكرًا فلسفيًّا وإلى أمس القريب يحسب أن الوقفة العلمية واحدة في جوهرها، لا فرق بين أن يكون الموضوع المطروح للتفكير ذا خصائص تجعله رياضي الطابع أو ذا خصائص تجعله من قَبيل العلوم الطبيعية، ولما كان الفكر الرياضي — كما هو معلوم — يبلغ بنا درجة «اليقين» الذي لا يحتمل أدنى ظل من الشك؛ فقد اتجه معظم الفلاسفة فيما مضى بجهودهم نحو البحث عن الوسيلة التي يُخضعون بها العلوم الطبيعية لمنهج الفكر الرياضي، لعلها تبلغ ما يبلغه هذا الفكر الرياضي من «يقين»، ولم يعدم تاريخ الفلسفة رجالًا ينشدون عكس ذلك؛ إذ ينشدون إخضاع الفكر الرياضي لمنهج التجربة في العلوم الطبيعية (ومن هؤلاء جون ستيورات مل).

أما وقد كشفنا عن الفرق الشاسع في بنية التكوين ذاتها في حالة الفكر الرياضي من جهة، وفي حالة الفكر الطبيعي من جهة ثانية؛ فقد عرفنا ألَّا مجال لاختلاط أحدهما بالآخر، فأولهما (الفكر الرياضي) تحليلي وثانيهما تركيبي، بعبارة أخرى: العبارة الواحدة من عبارات المجال الرياضي (كالمعادلة مثلًا) فيها تكرار للحقيقة الواحدة مرتين: وإن تكن واردة في كل مرة منها برموز غير الرموز التي ترد بها في المرة الثانية، فانظر إلى قولنا: «٢ + ٣ = ٥» تجد أن الحقيقة الواردة في الشطر الأول «٢ + ٣» هي نفسها الحقيقة الواردة في الشطر الثاني، وإذن فالجملة تحصيل لحاصل، ومن هنا جاء يقينها؛ إذ من أين يجيء الخطأ إذا نحن قلنا: إن «س» هي نفسها «س»؟ وما كذلك العبارة من عبارات العلم الطبيعي بكل فروعه (ومنها العلوم الإنسانية)؛ لأنها وليدة «تجربة»، وبالتالي فهي تحمل إضافة جديدة إلى الموضوع الذي نتحدث عنه، من هنا يجيء احتمال الخطأ، فإذا قلنا عن الماء: إنه يتجمد في درجة الصفر المئوية كنا بمثابة مَنْ يضيف معرفة جديدة عن الماء، وما دام الأمر كذلك فهنالك احتمال أن يكون الباحث التجريبي قد أخطأ القياس، فبينما الجملة الرياضية — منطقيًّا — لا بد أن تكون صحيحة؛ لأن الخبر فيها لا يضيف إلى المبتدأ شيئًا جديدًا، بل يكرره هو نفسه برموز أخرى، نرى الجملة في العلوم الطبيعية — منطقيًّا — تحتمل الخطأ؛ لأنها معتمدة على «التجربة» التي تحمل في طيِّها معرفة لم نكن نعلمها عن الموضوع الذي نتحدث عنه.

ولهذا الفرق بين النوعين من العلوم كان لكلٍّ من المجموعتين منهج يختلف عن منهج النوع الثاني؛ فالرياضة منهجها «استنباطي» بمعنى أننا نضع «فروضنا» في صدر العملية الاستدلالية، ومنها نستولد النتائج، فإذا سئلنا عن إحدى هذه النتائج: كيف تبرهنون على صدقها؟ كان جوابنا هو أن نبين كيف أنها نتيجة متولدة من الفروض توليدًا منطقيًّا سليمًا؛ أي إن برهان صوابها لا يعتمد على أنها منطبقة على وقائع العالم الطبيعي، وأما العلوم الطبيعية فيبدأ منهجها بمعلومات نجمعها من الواقع الذي نبحثه، محاولين جهدنا أن تكون تلك المعلومات معتمدة على مشاهدات دقيقة وعلى تجارب محكمة، ثم نستخرج من تلك المعلومات المتجمعة فكرة تضمها معًا وتفسرها جميعًا، فتكون هذه «الفكرة» التي نجحت في تفسير الظواهر المشاهدة بمثابة قانون من قوانين الطبيعة يمكن أن يتغير فيما بعدُ لو ظهرت شواهد جديدة يتعذر تفسيرها به، وهكذا كانت قوانين العلوم الطبيعية «احتمالية» الصدق، بينما حقائق العلوم الرياضية بالغة دائمًا درجة اليقين.

٣

ونسأل الآن: ما أهمية هذه التفرقة بين مجموعتَي العلوم الرياضية والطبيعية في مواقفنا الثقافية العامة؟ النقطة الأولى في جوابنا عن هذا السؤال هي: أن مجال التعبير الوجداني بكل أشكاله لا هو من قَبيل الفكر الرياضي موضوعًا ومنهجًا، ولا هو كذلك من قَبيل الفكر الطبيعي موضوعًا ومنهجًا؛ ولذلك نخطئ إذا نحن عاملناه بمقياس أيٍّ من المجموعتين.

هبْ قائلًا زعم لك أن منظر الغروب عند البحر رائع، وكنت أنت ممن ينقبضون لرؤية الغروب أينما كان، فماذا أنت قائل عن هذا الاختلاف؟ أتقول: إن صاحبك قد «أخطأ» وإنك أنت على «صواب»؟! أم أن موقفًا كهذا ليس مما يوصف بصواب هنا وخطأ هناك؟ لو كانت هذه العبارة من قَبيل المعاملات الرياضية لوجدنا «الروعة» هي نفسها العناصر المكون منها «الغروب»، ولكن الواضح هنا أن أحد الطرفين لا ينحل إلى الآخر، ثم لو كانت العبارة من قَبيل الكلام في العلوم الطبيعية لوجدنا المرجع الخارجي الذي يفصل بين الحكمين السالفين عن ساعة الغروب؟ وحقيقة الأمر أن كلًّا من المتحدثين يستند إلى شعوره الباطني الخاص الذي لا يؤيده ولا يفنده شعور باطني آخر عند شخص آخر.

فإذا قلنا باصطلاح التجريبية العلمية: إن العبارة السالفة — «منظر الغروب عند البحر رائع» — هي بغير معنى، كان المراد هو أنها لا تخضع لمقاييس العلوم بمجموعتيها، وأنها بالتالي لا يجوز أن توصف بأنها صادقة صدقًا عامًّا ضروريًّا، ولا بأنها كاذبة كذبًا عامًّا ضروريًّا؛ إذ إن صدقها «خاص» بقائلها، وكذبها «خاص» كذلك بمن ينقبض لمنظر الغروب … وقل شيئًا كهذا في جميع العبارات التي يقولها أصحابها تعبيرًا عن وجدانات خاصة أو اعتقادات خاصة أو ما إلى ذلك من الجوانب الشعورية التي لا غنى عنها في حياة كل إنسان لكنها في الوقت نفسه لا تلزم أحدًا غير صاحبها.

والنقطة الثانية في جوابنا على السائل: وما أهمية التفرقة بين علوم الرياضة وعلوم الطبيعة موضوعًا ومنهجًا في حياتنا الثقافية العامة؟ هي أن شرائح عريضة من البنيان الثقافي أيًّا كان وأينما كان تنصب في قالب الفكر الرياضي، وإن لم تكن فكرًا رياضيًّا بالمعنى المحدود لهذه العبارة، وأعني بقالب الفكر الرياضي ذلك الترتيب المعين في مراحل التفكير الذي يضع في الصدر «فروضًا» يجعلها مسلَّمة بغير حاجة إلى برهان؛ لتكون هي نفسها السند الذي يعتمد عليه في البرهنة على صدق النتائج التي تتولد منها ومن تلك الشرائح الثقافية، بل ربما كان أهمها علوم الدين في أي دين؛ لأن لكل دين كتابه الذي يبدأ منه، ويجعله أمرًا مسلمًا لا يقام عليه برهان؛ إذ يكفيه عند المؤمنين به أنه من قلوبهم موضع «إيمان،» ومن هذا الكتاب يستخرج أنصاره — أو الفقهاء منهم — أحكام ذلك الدين المعين، فإذا سئل أحدهم عن حكم من تلك الأحكام: ما برهانك على صوابه؟ كان جوابه أنه يرد الحكم إلى الأصل الكتابي الذي استخرجه منه، وفي هذا ما يحسم الرأي، لكنه يحسمه عند أصحاب ذلك الدين، أما غير أصحابه فهم غير ملزمين بقبول السند نفسه الذي يرجع إليه عند الاحتكام.

فلو أدركنا هذه البنية الرياضية في مثل هذا المجال؛ لانتفى الخلاف بين مجموعتين إحداهما تتبع كتابًا والأخرى تتبع كتابًا آخر، والشيء نفسه يقال عن شريحة ثقافية أخرى تنصبُّ كذلك في القالب الرياضي وهي شريحة الفكر السياسي؛ لأن كل مذهب من مذاهب السياسة يتخذ لنفسه بادئ الأمر «مبدأً» معينًا — وانظر إلى كلمة «مبدأ» ومعناها إذ يعني: النقطة التي يبدأ منها التفكير، ومن المبدأ نستخرج النتائج والأحكام ووجهات النظر، فإذا كانت نقطة البدء عند جماعة هي الديمقراطية الليبرالية، وكانت نقطة البدء عند جماعة أخرى هي الديمقراطية الاشتراكية، كانت كل جماعة منهما ملتزمة لمبدئها عند قبول الأفكار ورفضها، وبالتالي فإن ما هو واجب التنفيذ عند إحداهما لا يكون ملزمًا للجماعة الأخرى، ونستطيع أن نسوق أمثلة كثيرة من حياتنا الثقافية لضروب من اختلاف الرأي القائم أساسًا على اختلاف في الفروض، فلا يجوز في هذه الحالة أن يتهم أنصار فكرة بعينها أنصار فكرة أخرى بالضلال إذا كان كل من الجماعتين مستندًا إلى «مبادئ» غير المبادئ التي تستند إليها الجماعة الأخرى.

النقطة الثالثة التي نذكرها جوابًا عن سؤال السائل: وما أهمية التفرقة بين بنية الفكر الرياضي وبنية الفكر الطبيعي في حياتنا الثقافية العامة؟! هي أن نكون على وعي تام بأن كل من يسوق لنا كلامًا زاعمًا أنه بكلامه ذاك إنما يصف جانبًا من الوجود الخارجي الواقع، عليه أن يقبل إخضاع ما يقوله لمقياس التجربة الحسية عند الآخرين من بصر وسمع ولمس وغيرها، أما أن يزعم لأقواله بأنها وصف للواقع الفعلي، ويعجز عن بيان المطابقة الحسية بين ما يقوله وبين ما هو محسوس لنا، بل إنه أحيانًا يثور غاضبًا إذا طالبناه بالرجوع إلى تجربة حواسنا معيارًا للصدق، فذلك ما نرفضه رفضًا لا تردد فيه إذا كنا على إدراك واضح بما أسلفناه عن طبيعة الكلام المقبول في مجال العلم الطبيعي.

كان الفيلسوف البريطاني ديفد هيوم (في القرن الثامن عشر) قد أقام ميزانًا منهجيًّا للتفكير العلمي، ولخصه في عبارة مثيرة قال بها ما معناه: تناول الكتب الموجودة كتابًا كتابًا، واسأل عن كل كتاب منها: أهو من العلم الرياضي؟ لا، أهو من العلم الطبيعي؟ لا، إذن فألقِ به في النار … ولقد أراد هيوم بقوله هذا أن أي كلام يريد به صاحبه صدق العلوم ودقتها لا بد له أن يكون إما خاضعًا لمنهج الفكر الرياضي، وإما خاضعًا لمنهج العلم الطبيعي، ولا ثالث لهذين البديلين، وإننا لنخطئ فهمه إذا ذهب بنا الظن إلى أنه يريد الكتب جميعًا على إطلاقها؛ لأنه إذا كان ذلك كذلك فهو يرفض الكتب الدينية ودواوين الشعر والأدب القصصي والمسرحي بأكمله، ولا يرفض هذا كله إلا مجنون، وكان هيوم من أعقل العقلاء، فهو إذن لا يصرف عبارته المذكورة إلا على الكتب التي يدَّعي أصحابها أنها من «العلم» وهي ليست منه، ومرة أخرى ألفت الأنظار إلى أن ما نورده من مقاييس تضبط القول إنما يراد بها مجال التفكير العلمي دون سواه، وأما مجالات القول الأخرى فلكل منها مقاييسه الخاصة به.

٤

كانت مادة «المنطق» — من سائر فروع الدراسة الفلسفية — هي نصيبي منذ أُلْحِقْتُ بقسم الفلسفة من كلية الآداب بجامعة القاهرة (جامعة فؤاد الأول في ذلك الحين) في خريف عام ١٩٤٧م، لا لأن «المنطق» هو موضوع دراستي المتخصصة؛ إذ لو كان مجال التخصص أساسًا للاختيار لكان نصيبي الفلسفة الحديثة والمعاصرة، بل إني كُلِّفْتُ بتدريس المنطق؛ لأنه المادة التي لا يُقْبِل على درسها وتدريسها إلا الأقلون، وأغلب الظن أن السادة الزملاء أرادوا التخلص منها، فألقوها على عاتق ذلك الوافد الجديد.

لا بأس، فواقع الأمر في التيار الفلسفي المعاصر الذي اتخذ من «التحليل» مداره الأساسي، هو في حكم تيار جعل درع الفلسفة بأسرها تحليلات منطقية لموضوعاتها بدل أن كان التحليل المنطقي نفسه منظورًا إليه على أنه فرع من الفلسفة، فما لبثت أن نظرت إلى المنطق الذي كُلِّفْتُ بتدريسه من زاوية التجريبية العلمية التي كانت شراراتها قد اشتعلت في رأسي منذ تلك اللحظة المشهورة التي قضيتها في المكتبة الرئيسية لجامعة لندن أدرس فلسفة «الوضعية المنطقية» على نحو ما أسلفت عنه الحديث؛ فالمنطق شأنه في ذلك شأن فروع الفلسفة جميعًا، يتشكل بالاتجاه العام الذي يتجه إليه الفيلسوف ليس هو بالشيء الذي ينصب في صورة واحدة بعينها كائنة ما كانت مذاهب الفكر الفلسفي، وعلى هذا تراه يجيء على يدي فيلسوف مثالي مختلفًا عن الصورة التي يجيء بها على يدي فيلسوف تجريبي، وعلى سبيل المثال من العصر الحديث: لم يكن منطق هيجل متجانسًا مع منطق جون ستيوارت مل (وكلاهما من رجال القرن التاسع عشر).

وكانت الفكرة قد تحددت وتبلورت في ذهني على مدى ثلاثة أعوام أو أربعة من تدريس المنطق من زاوية الفلسفة الوضعية الجديدة، فأصدرت الجزء الأول من كتابي «المنطق الوضعي» في أوائل سنة ١٩٥١م، وكان السر في صياغة عنوانه على هذه الصورة — كما هو واضح مما ذكرته الآن — أنه دراسة لموضوعات المنطق من وجهة النظر التي تأخذ بها «الوضعية المنطقية» (أو التجريبية العلمية): وكان مما قلته — في مقدمة الطبعة الأولى من ذلك الكتاب — هذه العبارة الدالة على اتجاهي: «أنا مؤمن بالعلم، كافر بهذا اللغو الذي لا يُجدي على أصحابه، ولا على الناس شيئًا، وعندي أن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية — يكثر أو يقل — بمقدار ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه … ولما كان المذهب الوضعي بصفة عامة والوضعي المنطقي بصفة خاصة هو أقرب المذاهب الفكرية مسايرة للروح العلمي كما يفهمه العلماء الذين يخلقون لنا أسباب الحضارة في معاملهم؛ فقد أخذت به أخذ الواثق بصدق دعواه، وطفقت أنظر بمنظاره إلى شتى الدراسات، فأمحو منها — لنفسي — ما تقتضيني مبادئ المذهب أن أمحوه … وإنما يحتاج الأمر إلى تحليل منطقي … ولقد أعددت نفسي للقيام بشيء من هذا التحليل … لكن الأمر يحتاج أولًا إلى وضع قواعد المنطق الذي ينتهي بصاحبه إلى مثل هذه النظرة العلمية …»

وأسوق هنا أمثلة قليلة من الأفكار الجديدة التي أوردتها بين الأسس المنطقية التي من شأنها أن تنتهي بالدارس إلى نظرة علمية لم يكن قد عُني بغرسها أحد من قبلُ، وأقول ذلك ليحمل عني شيئًا من الرد على زملاء جعلوا مهمتهم «العلمية» الأولى أن يسخروا من «المنطق الوضعي» وصاحبه سخرية لو كانت على دراسة لقبلناها شاكرين، لكنها سخرية الغيظ ينفثها العاجزون عن اللحاق بالركب.

ومن تلك الأفكار الجديدة تحديدنا لطبيعة الأسماء الكلية، والاسم الكلي هو ذلك الذي نطلقه على مجموعة أفراد متجانسة تندرج تحت نوع واحد، مثل شجرة، نهر، منزل، إنسان إلخ. وواضح أن الكثرة الغالبة من مفردات اللغة هي من قَبيل هذه الأسماء الكلية، وإذا فُهِمَتْ فهمًا جديدًا كان لذلك أعمق الأثر على تطوير المنهج الفكري، ولقد كان السائد منذ المنطق الأرسطي — وهو نفسه السائد في العرف العام — أن أمثال هذه الأسماء التي نطلقها على «أنواع» إنْ هي إلا حدود بسيطة يلم السامع بمعناها كاملًا فور سماعها، ما دامت اللفظة المستخدمة قد سبق لذلك السامع أنْ عرفها وعرف استعمالها فيما عرفه من مفردات اللغة، وكيف لا يعرف ما يقصد بقول القائل — مثلًا: في الوادي «نهر» وعلى جانبيه «أشجار»؟

لكننا — وقد سلَّطنا أدوات التحليل الحديثة على تلك الأسماء الكلية — وجدنا كل اسم منها في حقيقة أمره إنما هو «تركيبة» مضمرة فيه، تشبه التركيبة الرياضية التي تحمل بين رموزها رمزًا لمجهول، كقولنا مثلًا: «س عدد فردي» فإذا سئلنا عن هذه العبارة: أصادقة هي أم كاذبة؟ أجبنا بأننا لا بد أن نعرف أولًا إلى أي عدد يرمز الرمز «س»، فإذا كان يرمز للعدد ٣ — مثلًا — كانت العبارة صادقة، وإذا كان يرمز إلى العدد ٤ (أو غيره من الأعداد الزوجية) كانت العبارة كاذبة، أما والتركيبة الرمزية على حالها، والرمز «س» المجهول الدلالة بين رموزها، فلا يمكن الحكم عليها بصدق أو بكذب، وبمعنى آخر فهي لم تكتمل فكرة من الناحية المنطقية؛ لأن «الفكرة» (أو ما يسمى في المنطق بالقضية) هي ما يمكن وصفه بالصدق أو بالكذب.

فالاسم الكلي — أيًّا كان — ليس في حقيقته «اسمًا» له مسماه في عالم الوجود الفعلي بالضرورة، بل هو بمثابة عبارة مثقوبة بما هو مجهول، وإلى أن يمتلئ الثقب بفرد معلوم، تظل التركيبة معلقة خارج نطاق الأفكار الكاملة والمقبولة في التفاهم العلمي، وللقارئ أن يتصور مدى الانقلاب الفكري الذي يحدث للدارس إذا هو أعدَّ نفسه ألا يقبل لفظًا يرد له في سياق من يحدِّثه حديثًا يزعم له أنه حديث علمي، إلا إذا كان لذلك اللفظ «أفراد» في الوجود الفعلي يشير إليها، فإذا لم يكن للفظة مفيدة «رصيد» بين كائنات الدنيا الخارجية التي نراها بالعين ونلمسها بالأصابع، وجب تغليفها على سبيل العبارة المجهولة الدلالة، فهي مركب ناقص لم يكتمل له كيان «الفكرة» التي يجوز قبولها أو رفضها؛ فالقبول والرفض معًا مرهونان باكتمال الفكرة أولًا؛ أعني أنهما مرهونان بأن نضمن وجود أفراد فعلية مما يشير إليه الاسم المعين.

ومن الأفكار الجديدة التي أَبْرَزَهَا «المنطق الوضعي» تمهيدًا لترسيخ المنهج العلمي في رءوس الدارسين: كون الجملة «التحليلية» تحصيلًا لحاصل؛ أي إنها جملة لا تقول شيئًا جديدًا، وهذه بدورها نقطة هامة، لو أنها غُرِسَت في الأذهان غرسًا ثابتًا لأخرجنا شبابًا مزودًا بعقول ناقدة تميز بين الحق والباطل، وشرح ذلك أن هنالك في أحاديث الناس وكتاباتهم واعتقاداتهم ألوفًا من العبارات التي ظاهرها أنها «حقائق»، وأما حقيقتها فهي أن من يستخدمها إنما يحدد لأحد المفاهيم معنًى من عنده، وما دام الأمر كذلك، فمن حق سواه أن يحدد لذلك المفهوم معنًى آخر، دون أن يكون هنالك وجه للمفاضلة بين المعنيين من الوجهة النظرية، فافرض — مثلًا — أن موضوع الحديث هو «الديمقراطية» وقال قائل: إن «الديمقراطية هي مساواة الفرص أمام المواطنين» وقال آخر: «الديمقراطية هي أن تكون القرارات في المجالس العامة بأغلبية الأصوات»، فهذان قولان مختلفان عن مفهوم واحد، وكل منهما لا يزيد على كونه «تعريفًا» من القائل لكلمة «ديمقراطية»، وليس هنالك ما يبرر المفاضلة بين تعريف وتعريف، وإذا عرفنا أن كلًّا من هذين القولين إنْ هو إلا «تعريف» فكأنما قلنا بذلك: إن كل جملة منهما تضع مفهومًا ما ثم تكرر ذلك المفهوم نفسه بعبارة أخرى؛ أي إنها جملة لا تضيف شيئًا جديدًا تستمده من الواقع الطبيعي.

وحياة الناس الفكرية مليئة بأفكار من هذا الطراز التعريفي التكراري الذي لا يجيز لأحد أن يحتج بفكرته على خصمه، فاختلاف المذاهب الفكرية — في السياسة والفلسفة والاقتصاد والنقد الفني وغيرها وغيرها — هو من هذا القَبيل، فبماذا تُفضل ناقدًا يقول لك: إن أعذب الشعر أكذبه، على ناقد آخر يقول: بل إن أعذب الشعر أصدقه؟ إن كلًّا من القولين قائم على «تعريف» للشعر من وجهة نظر القائل، وفي حرية التعريف يتساوى المتعارضان، وبماذا تفضل صاحب مذهب سياسي يقول: إن حكم الفرد المستبد العادل هو أفضل صورة للحكم، وآخر يقول: بل إن أفضل صورة للحكم هي أن يحكم الشعب نفسه بنفسه خلال مجالسه النيابية؟ مرة أخرى تجد كلًّا من القولين «تعريف» للحكم الأفضل ولا مفاضلة بين تعريف وتعريف، وأمثال هذه الأقوال التعريفية — كما أسلفت — لا أول لها في حياة الناس الفكرية ولا آخر، فأي انقلاب فكري يحدث للدارس لو أنه زُوِّدَ بالنظرة التحليلية الناقدة التي تميز بين فكرة قوامها تعريف، وفكرة أخرى قوامها مرجع في دنيا الواقع الفعلي؟

ذلكما مَثَلَان نكتفي بهما من أمثلة كثيرة للأسس المنهجية الجديدة في التفكير العلمي مما أوردناه في الجزء الأول من «المنطق الوضعي»، الذي لم تكن قد مضت على صدوره (١٩٥١م) إلا بضعة أعوام، حين ألحقنا به الجزء الثاني في فلسفة العلوم بشطريها: العلوم الصورية (ومنها الرياضة) والعلوم التجريبية، ولقد اضطلعنا في هذا الجزء بمثل ما اضطلعنا به في الجزء الأول من رؤية للموضوع من زاوية «التجريبية العلمية»، فلقد فصَّلنا القول تفصيلًا في الشروط الواجب توافرها لكي تكون الفكرة المعينة فكرة علمية بالمعنى الصحيح الدقيق، وكان من أهم ما أبرزناه في هذا السبيل وجوب تحويل «الكيف» إلى «كم» ما وجدنا إلى ذلك التحويل سبيلًا، ولعله أن يكون من أبرز معالم الكتاب إدراجه العلوم الاجتماعية مع العلوم الطبيعية في منهج واحد، استنادًا إلى أن ما يصلح أن يكون «علمًا» في ظاهرة الحياة الإنسانية، هو ذلك الجانب الذي يخضع لمنهج العلم في دقة الملاحظة وإجراء التجارب، دون أن ندَّعي بأن ذلك المجال يستنفد الحياة الإنسانية كلها، لكن ما يتبقى من تلك الحياة مستعصيًا على منهج البحث العلمي يخرج بالضرورة عن مجال العلم، ويُكْتَفَى فيه بالتعبيرات الوجدانية كالشعر وما يدور مداره من شتى الوسائل الفنية في التعبير.

ولا يفوتني في هذا السياق أن أذكر موقفًا وقفته من فيلسوف العلم الأمريكي «هنري مارجنو»، وذلك حين كنت أستاذًا زائرًا في جامعة بولمان بولاية واشنطن في أقصى الشمال الغربي من الولايات المتحدة الأمريكية سنة ١٩٥٤م، فلقد دعت الجامعة يومئذٍ هنري مارجنو — وكان أستاذًا في معهد ماساشوتس للتكنولوجيا أرفع معاهد أمريكا العلمية على الإطلاق (فيما يقال) — دعته جامعة بولمان ليُلقي سلسلة محاضرات عن «المنهج العلمي» وقد حضرتها مع هيئة الأساتذة، وبعد أن فرغ مارجنو من الحديث عن المنهج العلمي فيما يختص بالعلوم الطبيعية، خصص المحاضرة الأخيرة لمنهج «العلوم الاجتماعية» بادئًا حديثه بقوله: إن هذه المرة يريد أن يسمع منا نحن آراءنا فيما يجب أن يكون عليه ذلك المنهج، وبعد دقيقة من الصمت طلبت أنا الكلمة لأقول: إننا لا نكون على صواب من الناحية النظرية إذا نحن افترضنا مقدمًا بأن للعلوم الاجتماعية منهجًا تختلف به حتمًا عن منهج العلوم الطبيعية، وأصح من ذلك أن نبدأ بتطبيق المنهج نفسه على ظواهر الحياة الإنسانية (في علوم النفس والاجتماع والاقتصاد وغيرها) إلى أن نصطدم بما يجعل تطبيق ذلك المنهج مستحيلًا استحالة منطقية، وعندئذٍ فقط نبحث لأنفسنا عن مخرج … فكانت كلمتي تلك هي التي دار حولها الحوار كله من الأساتذة الحاضرين — بما فيهم مارجنو — واختلف الرأي بينهم في ذلك قبولًا ورفضًا وتعديلًا، ذلك كان موقفي من علوم الإنسان، وما زال هو موقفي حتى هذه الساعة، فأنا أرفض أن تُتْرَك هذه العلوم نهبًا للضرب في مجالات التخمين أو ما يشبه التخمين من أقوال لا تخضع لضوابط المنهج من ملاحظة يمكن رصدها وتجارب يمكن إجراؤها، حتى يصبح حديث العلم عن الإنسان وحياته نوعًا من «الحساب» بدل أن يظل دائرًا في متاهات «المناقشات».

٥

لن أَمَلَّ من تكرار القول بأنني كلما تحدثت عن الشروط التي يجب مراعاتها في أية جملة يريد لها صاحبها أن تكون ذات معنى مفهوم عن الطبيعة الخارجية، أو أي جزء محدد من تلك الطبيعة، فإنما أقصر القول عندئذٍ على مجال واحد من مجالات الكلام ألا وهو المجال العلمي، أما ما عداه من ميادين القول — كالشعر وغيره من ضروب التعبير الفني — فلها شروط أخرى خاصة بها يعرفها المشتغلون بتلك الميادين، أعود فأقول: إنني لن أَمَلَّ من التأكيد بأن حديثي — فيما يختص بالتجريبية العلمية — مقصور على ميادين «العلوم» وحدها؛ وذلك لأنني طالما قوبلت بهجوم واستنكار من نقاد ذهب بهم الظن بأن شروط التجريبية العلمية مقصود بها أن تقيد كل ضروب القول بغير تحديد، فإذا كان أمرها كذلك فيا للهول؛ لأن لدينا كلامًا من أعز الكلام على نفوسنا وأغلاه، بعيد بطبيعته كل البعد عن أن يقبل التقيد بتلك الشروط، فمثلًا إذا قلنا: إن كل جملة مطالبة — لكي تكون مقبولة من الناحية المنطقية — بأن تكون صورة متطابقة مع واقعة من الوقائع الممكنة تلقيها بالحواس البشرية، وإلا كانت غير ذات معنى؛ فقد يعترض علينا مستنكر قائلًا: وما قولك إذن في جملة تتحدث عن الملائكة بل عن الله سبحانه وتعالى، وما أكثر ما سمعت اعتراضات من هذا القَبيل؟! فلو أن هؤلاء المستنكرين وضعوا نصب ذاكراتهم دائمًا هذا الذي أسلفته — وهو أن شروطنا موجهة نحو ميدان واحد فقط: هو ميدان العلوم الطبيعية وحدها — لما اعترضوا وما استنكروا.

نعم، فشرطنا الأول لأي كلام علمي هو أن تفصل ألفاظه تفصيلًا محكمًا على واقعة فعلية من وقائع الدنيا، أو على واقعة ممكنة الحدوث ويراد استحداثها؛ فالكلام المفهوم هو ذلك الذي يتيح لسامعه أن يتحقق منه، إما بالرجوع به إلى الوقائع المشار إليها فيه، وإما بمحاولة استحداث الوقائع التي يزعم المتكلم أن كلامه مرسوم ليهدي من أراد التطبيق كيف تجيء خطواته في التطبيق خطوة بعد أخرى؟ فالأمر في كلام كهذا هو كالخريطة الجغرافية التي يحاول بها الرحالة أن يعرف طريقه، فلا بد لها أن تكون على علاقة التطابق التام مع تفصيلات الواقع.

لكن هذا الشرط الضروري الواضح كثيرًا ما نراه مهملًا في ضروب من القول، لا هي من قَبيل التعبير الوجداني فنحيلها على معاييرها الخاصة، ولا هي ترضى أن توضع أي وضع إلا أن تكون في زمرة الأقوال «العلمية» ثم لا تلتزم بذلك الشرط الذي أسلفنا ذكره، فتراها تستخدم في عباراتها ألفاظًا لا تشير إلى واقع محسوس، فها هنا تأخذنا الحيرة إذا أردنا التحقق من صدق ما يقال، ومن هذا النوع من الكلام ما قد اصطُلِحَ في الفلسفة على تسميته بالميتافيزيقا؛ ولهذا وجهت إلى الميتافيزيقا اهتمامًا خاصًّا.

في صيف سنة ١٩٥٣م صدر كتابي «خرافة الميتافيزيقا» تناولت فيه ذلك الضرب من الكلام الذي يستخدم ألفاظًا هي بحكم تعريفها نفسه لا تشير إلى شيء محسوس، ومع ذلك يزعم صاحبها أنه إنما أراد أن يصف بها الوجود الخارجي كله أو بعضه؛ فقد يقول لك الميتافيزيقي — مثلًا: إن لكل شيء «جوهرًا» تطرأ عليه الصفات العارضة، فنهر النيل تجري مياهه دفاقة لا تثبُت على حالة معينة، وهو يمتلئ حينًا ويفيض ماؤه حينًا، ولكنه — رغم هذه الحالات العارضة — موجود بهوية ثابتة، كيف؟ إنه موجود دائمًا بذلك «الجوهر» الذي أشرنا إليه، والذي تطرأ عليه التغيرات ولكنه يظل هو ذا ثبات ودوام، أليس من حق التفكير «العلمي» أن يقف ليحاسب هذه اللفظة: «جوهر»، التي لا تشير إلى شيء «محسوس» بحكم تعريفها؛ إذ المحسوس هو الصفات العارضة الطارئة عليه، أما هو نفسه فذو خفاء؟! ومن هذا القَبيل نفسه أسماء أخرى أشد خطورة في حياة الناس العملية؛ فقد يقال لك — مثلًا: إن المواطنين الأفراد في شعب ما يولدون ويموتون، وأما «الشعب» فموجود، وأظنك في هذه الحالة تريد أن تعرف ماذا يبقى من «الشعب» إذا طرحت من حسابك المواطنين الأفراد.

لهذا كله رأيت أن أوضح في «خرافة الميتافيزيقا» أن كثيرًا جدًّا من الكائنات الميتافيزيقية أَدْخَل في باب الخرافة منه في باب الوقائع التي يستند إليها التفكير العلمي، على أنني فرقت بين نوعين من الميتافيزيقا؛ لأرفض منهما نوعًا وأُبْقِي على الآخر، فإذا كنت تصرف حديثك عما وراء «الأشياء» من خافيات عن الحواس، فذلك ما قد يورطك فيما ليس له معنى، أما إذا صرفت الحديث إلى ما وراء تركيبة لفظية معينة لتكشف عما استتر وراءها من فروض مضمرة فذلك مقبول ومشروع بل وضروري للفكر إذا أراد أن يتعمق فهمه للعلم وقضاياه، ولقد كان ما صنعه الفيلسوف عمانوئيل كانط في كتابه «نقد العقل الخالص» شيئًا من هذا؛ إذ أراد أن يكشف عما وراء الجمل الرياضية والجمل في العلوم الطبيعية من فاعلية عقلية تضمن لتلك الجمل أن تكون صادقة صدقًا ضروريًّا وعامًّا، ونستطيع أن نسمي الميتافيزيقا المرفوضة بالميتافيزيقا «التأملية» والأخرى المقبولة بالميتافيزيقا «النقدية».

ولقد أحدث كتاب «خرافة الميتافيزيقا» ضجة مدوية عقب ظهوره، وكان موضع الخطأ عند معظم الناقدين أنهم خلطوا بين فلسفة ودين، فحملوا كلامي الموجَّه إلى فكر فلسفي من طراز معين على عقائد الدين، ولو تذكروا ما كنت أحرص الناس على أن يتذكروه، وهو أن مجال الإيمان الديني مختلف عن مجال التفكير المقيد بمنطق العقل العلمي؛ لأن «الإيمان» تصديق بغير برهان، وأما منطق العقل فطريق للبراهين، لو تذكروا ذلك لاستراحوا وأراحوا.

ونفد الكتاب بعد صدوره ببضع سنين، لكني أمسكت عن إعادة طبعه حتى يتاح لي أن أعيد كتابة بعض أجزائه شارحًا مواضع الغموض، غير أن الأعوام أخذت تكر عامًا بعد عام، وكثرت شواغل الحياة، ثم دبَّت شيخوخة وأمراض، فلم أحقق ما أردت تحقيقه، وأخيرًا أنقذت الموقف بأن اكتفيت بكتابة مقدمة طويلة للطبعة الثانية أوضح فيها ما قد غمض على الناقدين، ثم غيرت عنوان الكتاب وجعلته «موقف من الميتافيزيقا» ليكون أقرب إلى الموضوعية والحياد.

أما الموقف الفكري نفسه الذي عرضته في ذلك الكتاب، فهو ما يزال موقفي إلى هذه الساعة التي أكتب فيها هذه السطور، وحتى لو أردت شيئًا من التعديل، لما تناولت بالتعديل ركنًا من أركانه الأساسية.

٦

كان كتاب «المنطق الوضعي» — بجزأيه الأول والثاني — وكتاب «خرافة الميتافيزيقا» دعامتين من ثالوث علمي أقمته خلال الخمسينيات؛ لأدعم به وقفة فلسفية آثرتها على غيرها، ورأيت فيها نفعًا عظيمًا للأمة العربية في نهوضها العلمي والفكري والثقافي؛ لأنها وقفة تستهدف — في مجال النظر العلمي — منهجًا يضبط القول ضبطًا يصونه من الانزلاق في سيال اللفظ الذي يلهينا عن المعنى، وأما ثالثة الثالوث فهو كتابي «نحو فلسفة علمية» الصادر في عام ١٩٥٨م (ونال جائزة الدولة التشجيعية في الفلسفة سنة ١٩٦٠م).

في هذا الكتاب بسطت في تفصيلٍ مستفيضٍ النظرة التي تتحول بها الفلسفة من إقامة بناءات ميتافيزيقية يقيمها عمالقة، كل منهم يحاول أن يفسر الكون كله بمبدأ واحد؛ ليصبح العمل الفلسفي تحليلات للأسس التي تُبْنَى عليها العلوم بناءً منهجيًّا سليمًا؛ فالكتاب دعوة إلى فلسفة علمية بأكثر من معنى، أولها أن تكون قضايا العلوم ومناهجها مدار الاهتمام، وثانيها أن يجيء العمل الفلسفي نتيجة تعاون بين عدة أفراد، لا صرحًا عاليًا يشيده فرد واحد بمفرده، وثالثها أن يُكتفى في كل عملية تحليلية بجزئية واحدةٍ صغيرةٍ، قد تكون جملة واحدة تتخذ مقياسًا لأشباهها من حيث طريقة التركيب، كما فعل برتراند رسل في تحليله لجملة: «مؤلف ويفزلي هوسكوت» فقال «رامزي» عن هذا التحليل: إنه جاء منوالًا للعمل الفلسفي في تصوره الجديد.

لكن الخمسينيات لم تقتصر على تلك الكتب الثلاثة وحدها: المنطق الوضعي وخرافة الميتافيزيقا ونحو فلسفة علمية، بل إنها شهدت كذلك لتلك الكتب روافد فرعية كان لا بد منها، من ذلك كتابان: أحدهما عن فلسفة برتراند رسل (١٩٥٦م) والآخر عن فلسفة ديفد هيوم (١٩٥٨م)، فأما كتابي عن «رسل» فقد أردت به دراسة منهجه في التحليل الفلسفي؛ وذلك لأن «رسل» وإن لم يكن مناصرًا كاملًا للوضعية المنطقة (أو التجريبية العلمية) إلا أنه أمد أنصارها ببعض أدوات التحليل التي استخدموها في عملهم الفلسفي، وأما كتابي عن ديفد هيوم فهو بمثابة العودة بالتيار إلى منبعه؛ لأن هيوم (فيلسوف إنجليزي في القرن الثامن عشر) كان بغير شك أبًا لمن جاء بعده ممن أرادوا أن تكون انطباعات الحواس مرجعًا وحيدًا لأي معرفة تساق عن الطبيعة الخارجية.

وإلى جانب دراستي لهذين الفيلسوفين: رسل وهيوم، لعلاقتهما الوثيقة — منهجًا بالنسبة لرسل، ومضمونًا بالنسبة لهيوم — فقد شعرت كذلك أن دراسة موسعة لفلسفة البراجماتية (أو فلسفة الذرائع كما نسميها أحيانًا) ضرورية لتحديد العلاقة بينهما وبين التجريبية العلمية: فكان أن أصدرت كتابي «حياة الفكر في العالم الجديد» لأقدم به صورة عن الفلسفة الأمريكية كلها (١٩٥٦م) ثم عكفت على ترجمة كاملة للكتاب الضخم الذي ألَّفه جون ديوي عن «المنطق، نظرية البحث» يثير وجهة النظر «الوسيلة» — والوسيلة هي فرع من البراجماتية عُرف به جون ديول، وخلاصتها أن أية فكرة علمية لا تكتمل وظيفتها إلا إذا جاءت خطوة مع غيرها من خطوات، تكون هي «الوسائل» المؤدية إلى نتيجة مطلوبة لتغيير الموقف المراد تغييره — وبعد أن فرغت من ترجمة ذلك المؤلف الكبير، تكوَّن لدي فكرة بسطتها في مقدمة طويلة للترجمة، بلغت نحو خمسين صفحة، أقول فيها إنني أرى وجوب الإفادة من الرأي الوسلي القائل بأن الفكر لا يكون فكرًا بالمعنى الصحيح، إلا إذا كانت له نتائج فعالة في تغيير أوجه حياتنا على النحو المنشود، وحاولت أن أوفق بين هذا الرأي المستقبلي من جهة، وطريقة الوضعية المنطقية في تحليلها للأفكار العلمية، وخرجت من ذلك بصيغة ترضيني.

٧

لم تكن دعوتي إلى التجريبية العلمية لتمضي دون أن تثير المعارضة الشديدة من جهات مختلفة، فمن المعارضين مَنْ أخذته الخشية أن يكون في تلك الدعوة العلمية الخالصة ما يمس الدين من قريب أو من بعيد، فانطلق في هجومه من هذه الزاوية، فجاء الهجوم خليطًا بين حجة عقلية وعاطفة دينية، ومن المعارضين مَنْ كان دافعهم الأقوى والدفين هو المنافسة المهنية أكثر منه دفاعًا عن الحق الفلسفي، وكان مما أضعف هؤلاء قصورهم عن الإلمام الكافي بما يعارضونه، ولعل علة ذلك القصور أنهم — على الأغلب — لم تكن لديهم الوسيلة اللغوية القادرة على الرجوع إلى المصادر الرئيسية لما يعارضونه، فلا هم على قدر كاف من معرفة اللغة الإنجليزية التي كتبت معظم الأصول، ولا هم على رغبة كافية في تعقب الحقيقة ليقرروا كتابتي العربية قبل أن يعارضوا، فأخذوا الفكرة بما يشاع عنها بين عابري السبيل، وكذلك كان من المعارضين مَنْ توافر له الإخلاص لكن فاتته قوة الحجة.

ولو أبعدنا الشوائب التي كثيرًا ما تضاف إلى الخلاف العلمي فتفسد نقاءه، لقلنا: إن المعركة في صميمها إنما هي معركة حول وسيلة المعرفة ماذا تكون؟ فمن المعلوم أن في الفلسفة طريقين للنظر إلى هذا الموضوع: أحدهما يجعل طريق المعرفة بادئًا من داخل الإنسان متجهًا إلى خارجه، والآخر يجعله بادئًا من خارج الإنسان متجهًا إلى داخله، والمثاليون والعقليون هم من أنصار الطريق الأول، والتجريبيون والعلميون هم من أنصار الطريق الثاني، الأولون يرون أنه لا بد من أصول ومقولات مجبولة في فطرة العقل، على أساسها يمكن استنباط دقائق المعرفة كما تُسْتَنْبَط الرياضة من مسلَّماتها دون حاجة منا إلى اللجوء إلى مشاهدات خارجية، والآخرون يرون أنه لا معرفة ما لم تبدأ بتحصيل معطيات حسية تجيئنا عن طريق الحواس مرئيات ومسموعات وملموسات، إلى آخر ما قد تخصصت حواسنا في نقله إلينا عن العالم الخارجي، عالم الأشياء، على أن من الفلاسفة مَنْ يحاول الجمع بين الطريقين في عملية المعرفة، ليقول: إنه لا بد من مقولات العقل ومبادئه، إلى جانب معطيات الحواس لكي يتم تحصيل المعرفة، لكن المعوَّل في تقسيم المذاهب الفلسفية في موضوع المعرفة ووسيلتها هو: لأي جانب من الجانبين تكون الأولوية المنطقية؟ فمَنْ جعل من الفلاسفة الأولوية للعقل كان من المثاليين أو العقلانيين، ومَنْ جعل الأولوية للحواس كان من التجريبيين.

وكان موقفي من هذا التقسيم مع التجريبيين، لكنها كانت تجريبية ذات طابع خاص، تجعل اللغة وتحليلها — لا الأشياء — مدار نظرها، فمن منطق التركيب اللغوي ذاته يستطيع الباحث أن يعلم مقدمًا أهو تركيب صالح للتحدث عن واقع الطبيعة حديثًا ذا معنى؟ أم هو تركيب إذا ما حللناه وجدناه غير منطوٍ على دلالة؟ ولقد أدى بنا التحليل المبدئي للغة وطرائق استخدامها إلى أنها تدور في أحد مجالين كبيرين: في أحدهما تُستخدم اللغة «لتشير» برموزها إلى أشياء العالم الخارجي، وأما في المجال الآخر فتُستخدم اللغة لا لتشير إلى خارج، بل لتحرك في باطن الإنسان انفعالًا أو عاطفة، أو لتقيم في داخل المتلقي بناءً ذهنيًّا خالصًا ليس من شأنه أن يكتسب معناه ودلالته من مقابلته مع كائنات العالم الخارجي، وإذا أردت مثالًا يوضح الفرق بين هذين المجالين في استعمال اللغة، فقارن بين هذين القولين عن الهرم الأكبر: (١) يقع الهرم الأكبر غربي النيل، ويبعد عنه نحو عشر كيلومترات. (٢) تثير رؤية الهرم الأكبر في نفس المصري ذكريات المجد، وجلال الخلود … ففي القول الأول جاءت اللغة لتشير إلى وقائع خارجية يمكن مراجعتها بواسطة الحواس لنتبين مدى صدق محتواها على ذلك الواقع، وفي القول الثاني لا تشير إلى خارج ولكنها تحرك في نفس القارئ أو السامع أصداء وجدانية لا سبيل إلى التحقق منها، وإنما يُكتفى فيها بمجرد تعبير المتلقي عما قد أحسه في باطنه من تلك الأصداء. والدارس إذا ما تبين الفواصل التي تميز هذين المجالين في استخدام اللغة أحدهما عن الآخر، عرف بالتالي متى يكون القول مقبولًا من الناحية العلمية ومتى يكون مرفوضًا؛ إذ المجال الأول وحده هو ما يصلح للتحقيق العلمي، وأما المجال الآخر فيدخل في باب التعبير الوجداني، فإذا كانت له مقاييس، فهي مقاييس الشعر أو ما إلى الشعر من وسائل التعبير.

تلك كانت دعواي في أساسها، وترتب عليها ما ترتب من نتائج بالغة الأهمية فيما نقبله وما نرفضه مما يجرى على ألسنة المتكلمين وأقلام الكاتبين، فجاءت الردود من المعارضين مختلفة باختلاف أصحابها في جدية المأخذ وعمق التفكير. (راجع فصل «من معاركنا الفلسفية» في كتابي «من زاوية فلسفية»، إذا أردت أن تقرأ تفصيلًا ما قاله بعض المعارضين وما رددت به عليهم).

٨

لم تكن التجريبية العلمية (الوضعية المنطقية) بدعاواها التي قد تبدو بسيطة أمام العين العابرة بأقل من ثورة شاملة تغير من الفلسفة وسائلها وأهدافها معًا، أما الأهداف فقد كان يراود الفلاسفة على تعاقب العصور أمل بأنهم إنما يبحثون عن «حقيقة» الكون و«حقيقة» الإنسان، وربما كان لهؤلاء الفلاسفة عذرهم فيما استهدفوه، عندما كان «العلم» بالأشياء متضمنًا في النظر الفلسفي، أما وقد أخذت العلوم تستقل بذواتها كلما وجد علم منها أنه قد بات له من دقة المنهج ومن تحديد موضوع البحث ما يدعوه إلى أن يكون هو صاحب الكلمة في ميدانه، فلم يعد أمام الفاعلية الفلسفية — وهي فاعلية ذهنية لا تتم معرفة بدونها — إلا أن تقصر نفسها على صب الأضواء على ما تقوله العلوم في مختلف ميادينها، دون أن تضيف هي من عندها «حقيقة» إيجابية توضع في صف واحد مع سائر الحقائق العلمية.

كان مألوفًا أن يكون الفيلسوف هو الذي يتولى النظر في حقائق الفلك والطب والطبيعة والنبات والحيوان والإنسان، ونظريات السياسة والاجتماع والاقتصاد والنفس، وكان ذلك ممكنًا لأن المعرفة كانت موحدة بغير فواصل تميز ميادين التخصص بعضها من بعض، بل كان الفيلسوف من الأعلام يحاول عامدًا أن يضع لنفسه «مبدأ» ترتد إليه المعرفة كلها بشتى فروعها، فإذا قال أرسطو — مثلًا — بأن لكل شيء صورة ومادة؛ فالصورة هي بمثابة «الوظيفة» المعينة التي تجعل المادة هي ما هي فيما تؤديه، كان ذلك القول شاملًا ومفسرًا لأنواع الكائنات جميعًا في ضروب نشاطها.

ولكننا اليوم في عصر تقدمت فيه العلوم وتخصصت وازدادت دقةً بأجهزتها، فلم يعد أمام الذهن «المتأمل» مجال في الوصول إلى قانون من قوانين العلم، لكن بقي أمامه أهم مجال يصلح لفاعليته، وهو أن يتعقب أقوال العلماء إلى جذورها الأولى؛ ليكشف بذلك عدة أشياء ذات أهمية بالغة، فهو يكشف أولًا ما تنطوي عليه نقط الابتداء في مختلف العلوم، وهي النقط التي يسلِّم بها العلماء جدلًا لتكون محطة يبدأ منها السير العلمي، كأن يبدأ علماء الرياضة من العدد إلى الإدراك العقلي عند الإنسان، فتكون مهمة فيلسوف الرياضة هي أن يحفر تحت العدد ليكشف عن جذوره الدفينة المضمرة، وهكذا قل في فيلسوف الطبيعة وفيلسوف التاريخ وفيلسوف الأخلاق أو الجمال أو ما شئت، فكل هؤلاء ينفُذون خلال الظاهرة التي وقف عندها العلماء؛ ليروا ما وراءها من فروض مستترة، فإذا كان المؤرخ — مثلًا — يبدأ من الأحداث الفعلية في الميدان الذي اختاره ليؤرخ له، ففيلسوف التاريخ ينفذ إلى ما وراء تلك الأحداث لعله يكشف عما يحركها، وأما الفيلسوف من العمالقة الكبار فيضم هذه الفلسفات الفرعية كلها في بناء واحد يضمها إذا استطاع، أو بعبارة أخرى: هو لا يكتفي بالوصول إلى الجذور الأولية للفكر الرياضي أو التاريخ أو اللغة أو الفن، بل يحاول فوق ذلك كله أن يرى ما إذا كانت تلك الفروع جميعًا تلتقي في أعمق الأعماق عند مبدأ واحد، وعندئذٍ يقرر إذا كان للمعرفة الإنسانية وحدة واحدة تجعلها كالشجرة الواحدة برغم تعدد فروعها.

فرق بعيد — كما ترى — بين أن تجعل الفلسفة هدفها بحثًا عن حقائق الكائنات، وأن تجعل ذلك الهدف بحثًا فيما يقوله العلماء — أصحاب الشأن — عن الكائنات، وذلك هو الفرق الذي أحدثته التجريبية العلمية في «الهدف»، وأما «الوسيلة» إلى الهدف فكانت عند معظم الفلاسفة السابقين «تأملًا» بالذهن الخالص في طبائع الأشياء، ومحاولة إقامة بناء فكري تكون تلك الطبائع أجزاءه المتصل بعضها ببعض اتصالًا عضويًّا، وأما «الوسيلة» عند التجريبية العلمية فهي البحث في منطق اللغة التي استخدمها العلماء؛ للتمييز بين جملة تؤدي إلى معنى علمي وجملة لا تؤدي.

وإذا أردت مزيدًا من الإيضاح عن لب الثورة التي أحدثتها التجريبية العلمية في الفلسفة المعاصرة، فلتتصور صفحتين متقابلتين، تقول كل منهما ما تقوله الأخرى، ولكنها تقوله بلغة مختلفة، فهكذا الأمر بالنسبة للكون الخارجي بكل ما فيه ومن فيه — من ناحية — وما قاله القائلون عن ذلك الكون — من ناحية أخرى؛ فهنالك الأشياء في جهة والكلام الذي قيل عن تلك الأشياء في جهة أخرى، ومهمة العلماء تنصبُّ على الأشياء، وأما مهمة الفلاسفة فتنصب على الكلام، وذلك بعد أن كان العلماء والفلاسفة معًا يتزاحمون على دنيا الأشياء كأنهما جماعتان تتنافسان وراء ثمرة واحدة، فحلَّ اليوم بين العلم والفلسفة تعاون لا تنافس: العلم يبحث في حقائق الأشياء ليقول ما يقوله، والفلسفة تفحص في هذا الذي يقوله العلم لتضمن سلامة بنيته المنطقية واستمرارية جذورها مع جذعها وفروعها وأوراقها وثمارها.

كان التصور القديم يقابل بين «الفكر» من ناحية و«العالم» من ناحية أخرى، وجاء التصور الجديد ليجد مفهوم «الفكر» غامضًا، فاستبدل به «اللغة» التي تحمل فكرًا، وجعل المقابلة بين «اللغة» و«العالم» فأصبح الأمر واضحًا ومحددًا، فبعد أن كنا لا ندري كيف نراجع الفكر على الواقع؛ أصبح ميسورًا أن نطابق اللغة على الواقع، فنرى إن كان التصوير اللغوي للواقع دقيقًا أو لم يكن (راجع الفصل المعنون «ثورة في الفلسفة المعاصرة» في كتابي «قشور ولباب»).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤