مصر المكان: دراسة في القصة والرواية
المكان شخصية أدبية
كلمة مكان من الجذر اللغوي م ك ن، بمعنى امتلاك الشيء والتمكن منه. وفي «لسان العرب»: المكان يساوي الوضع؛ لأنه موضع لكينونة الشيء فيه (لسان العرب، ٤٢٤٩–٤٢٥١). وربما استُخدمت الكلمة في الدلالة على المكانة والوضعية والمكانة الاجتماعية. كما تُستخدم في وصف الاتجاه.
أما المكان بالمعنى الفلسفي، فإن معناه الموضع الذي يشغله الشيء، سواءٌ كان مكانًا خاصًّا، أو مكانًا عامًّا مشتركًا (المعجم الفلسفي، ٤٢١).
وثمة قداسة في المعتقد الديني الشعبي لبعض الأماكن، وفي مقدمتها المسجد، وكذلك الخلاء، والغابة، والمقابر.
المكان هو الجغرافيا، والجيولوجيا، والأنثربولوجيا. وللمكان شخصيته الخاصة المتميزة التي تجاوز خصائصه المادية؛ شخصية تُبين عن روحه وجوهره وعبقريته الذاتية، من أبعادها التضاريس والمناخ والتربة، لكنها ليست كل الأبعاد. ثمة تصاعد وانحدار مثل شخصية الفرد تمامًا، وتعكس دومًا معاملها الخاص بها.
المكان بُعد مكمل لبُعدَي الشخصيات والأحداث في الأعمال الإبداعية السردية، وإسقاط علاقة المكان بالشخصيات والأحداث يسربل العمل الإبداعي بغموض يصعُب على القارئ تلقِّيه. العمل السردي، كما أتصوره، يتألف من ثلاثة عناصر؛ هي: الشخصية، الحدث، المكان. والتعامل مع عنصرين منها دون العنصر الثالث يشبه نزع رِجل من طاولة ذات ثلاث أرجل. ويقول جيرار برنس: «يحتل المكان دورًا بارزًا في النص السردي، أو يشغل حيزًا ثانويًّا فيه، إذ قد يكون حركيًّا فعالًا، أو ثابتًا سكونيًّا، وقد يكون متناسقًا أو غير متناسق، واضح المعالم أو غامضها، مقدَّمًا بشكل عفوي غير مرتقَب، أو تتناثر جزئياته عبر مساحة النص» (نقلًا عن إبداعية الأداء في السيرة الشعبية، ٨٧). وثمة من يرى مدى توفيق الكاتب في أن يجعل القارئ يرى المكان (يوسف إدريس والفن القصصي). وعلى حد تعبير ريكاردو جولون، فإن «المكان في جوه الخاص، يكاد يكون له قوام ملموس، وعلاقته بالأشياء على درجة من العمق تجعلني أغامر بالقول بأن المكان مشتق من هذه الأشياء، بينما هو — في نفس الوقت — الذي يمنحها الشكل» (ترجمة د. إنجيل بطرس سمعان).
وقد كتب جورج ماتوريه عن «المكان الإنساني»، وجاستون باشلار عن «شاعرية المكان»، وميرلو بونتي عن «ظواهر المكان» … إلخ.
•••
وإذا كان بعض الكتَّاب قد جعلوا من المكان بُعدًا رئيسًا في أعمالهم، فلعله يمكن وضع نجيب محفوظ في مقدمة هؤلاء الكتَّاب. المكان هو «الشخصية المحورية» في غالبية أعمال محفوظ: القاهرة الجديدة، خان الخليلي، زقاق المدق، بين القصرين، قصر الشوق، السكَّرية، حب تحت هضبة الهرم، حكايات حارتنا، بيت سيئ السمعة، الكرنك، خمارة القط الأسود، قشتمر، إلخ. يقول: «المكان عندي له بطولة.»
ولعله مما يحتمِل المناقشة أيضًا — في ضوء ذلك — ما ذهب إليه أندريه ميكيل؛ من أن نجيب محفوظ «كاتب مدينة»، لكن خصائص المدينة في أعماله «مُثارة أكثر منها موصوفة» (ترجمة أحمد درويش). يوضح ميكيل رأيه بالقول: «ولنأخذ — على سبيل المثال — ضجيج المدينة. لقد عشت أربعة أشهر متواصلة في أحد أحياء القاهرة الشعبية، بالقرب من سيدنا الحسين، في مكان يشد العين أكثر من الأذن. وأنا أعلم الثراء الخارق المتنوع لمذاق لياليها وأيامها، لكنك لا تجد عند نجيب محفوظ أي تصور مجسد لهذه الحياة، ولا لرتمها البسيط. وقد يرِدُ تصوير هذه الأشياء في مصادفة أحداث الرواية، ولكن لا يوجد هنا على التأكيد مثل ما يوجد عند بروست من رسم سيمفونيته لضجيج باريس» (المرجع السابق).
•••
الرواية هي فن المدينة. والمدينة تمر بتطورات هائلة، وعلى الرواية أن ترصد تلك التطورات، تتابعها، وتسجلها، وتحللها في ثوب فني. ثمة العاصمة، والمدينة الساحلية، والمدينة الإقليمية، والقرية القريبة من المدينة، والقرية التي تقع في قلب الريف، والقرية التي تلامس أطراف الصحراء. وحدات اجتماعية تختلف كل واحدة عن الأخرى، بصورة وبأخرى.
كانت المدينة لندن مبعث استلهام إليوت قصيدتَه الشعرية «الأرض الخراب»، وكانت المدينة باريس هي البيوت والشوارع والأزقة والحانات التي تنقَّل فيها أبطال بلزاك وزولا وفلوبير وستندال وهوجو وغيرهم، وكانت مدن الأندلس نبضَ قصائد لوركا. وأحيانًا، فإن الموضع في المدينة، البناية، والمقهى، والجسر، والشارع، والميدان، والكاتدرائية … هو نبض العديد من الأعمال الأدبية، ما بين قصائدَ ورواياتٍ وقصص قصيرة. أذكرك بجسر نهر درينا (إيفو أندريتش: جسر على نهر درينا) وجسر بروكلين (وولت وايتمان: قصيدة على جسر بروكلين) وكاتدرائية نوتردام (فيكتور هوجو: أحدب نوتردام) … إلخ.
والمكان في غالبية أعمال خوان كارلوس أونيتي (روائي أرجنتيني ولد في ١٩٠٩م) هو مدينة سانتا ماريا، مدينة ابتدعها خيال الفنان، وجسَّد خصوصيتها المتميزة من خلال عشرات الشخصيات والأحداث والأساطير والحكايات الشعبية، والموروثات بعامة. وقد كتب إميل زولا إن على الكاتب أن يعطي تحديدًا دقيقًا للمحيط، وتأثيره على الشخصيات كضرورة علمية من ضرورات القصة. أما بلزاك — والقول لبرسي لبوك — فهو «لا يستطيع أن يفكر في شخصياته بمعزِلٍ عن البيوت التي يقطُنونها، فتخيُّل مخلوق بشري بالنسبة لبلزاك إنما يعني تخيُّل المقاطعة، المدينة، أو ركن المدينة، أو البناية التي عند منعطف الشارع، أو بعض الحجرات المفروشة، ثم أخيرًا: الرجل أو المرأة التي تعيش فيها» (صنعة الرواية، ١٩٩٩م). بل إن التركيز على المكان «من الاستراتيجيات النصية الهامة التي تلجأ إليها الكتابات الجديدة في الآونة الأخيرة» (الأقلام العراقية، ت٢–ك١–١٩٨٦م).
•••
وبالطبع، فإن المكان لا يقتصر على معناه الجغرافي فقط، وإنما يكتسب أبعادًا جديدة تُجاوز الدلالة المباشرة. المكان ليس هو الأرض والسقف والجدران، ولا الأثاث، ولا السكان المحددين. المكان هو العالم، أو القضية، أو حيث تقيم الجماعة. ولعل سِماته وناسَه غيرُ ما تدل عليه الصورة الظاهرة.
نحن إذ نتحدث عن المكان، فإننا لا نعني المكان بصورته الساكنة الثابتة. لا نعني أي مكان والسلام، وإنما نعني المكان بصورته الدرامية، بتأثره بما حوله، ومَن حوله، وتأثيره فيما حوله، ومَن حوله، وإسهامه في مسار الأحداث، بحيث يصعُب إغفاله، أو إن إغفاله يؤثر في بنية العمل الفني. الناس في القصة والرواية والمسرحية والفيلم السينمائي؛ يتحركون في الشوارع والبيوت والمصالح الحكومية والمصانع والحقول والدكاكين وغيرها … إنهم ناس كثيرون، يهَبون للَّوحة — أو اللوحات — الفنية خلفيتَها البشرية التي قد لا يعني المتلقيَ تأمُّلُ جزئياتها وتفصيلاتها، لكن القلة القليلة هي من ينطبق عليها — في العمل الإبداعي — لفظة «شخصيات». المجموعات يُشار إليها باعتبارها كذلك. لن يستوقف الفنانَ الإشارةُ إلى نوعيات أفرادها، ولا أسمائهم، ولا ملامحهم الجسدية أو النفسية. الأمر نفسه، طبعًا، بالنسبة للمتلقي. عدسة الكاميرا في الفيلم السينمائي تلتقط لنا صورة المدينة، ثم تقترب من بيت بالذات، ومن شقة بالتحديد، ثم تنتقل الصورة إلى داخل الشقة لتصور الشخصيات والأحداث، يبدأ بهم — ويتصل — مسارُ العمل الفني إلى نهايته.
زقاق المدق مثلًا ليس مجرد اسم لرواية، لكنه «شخصية» رئيسة في الرواية. إنه الوعاء المحدَّد الذي يحتوي سكانه، بظروفهم الاجتماعية والثقافية والنفسية، بل وبتباين تلك الظروف … وهو تباين محسوب على أية حال. الزقاق هو الشخصية الرئيسة التي تحتوي — وتلقي بظلها — على الشخصيات والأحداث، بحيث يُخضعها لظروفه دون أن تُخضعه لظروفها.
هل كان أحمد أفندي عاكف يشعر بدبيب الحب الغائب عن حياته أربعين عامًا — هي كل عمره — لولا النافذة التي تطل على نافذة الجيران في خان الخليلي؟ … وهل كان يُتاح لفهمي عبد الجواد ومريم حواراتُهما الساذجة لولا التقاء سطحَي بيتيهما؟ … وكيف كانت تقوم العلاقة بين سنية ومصطفى في عودة الروح لولا إطلالة شرفة كلٍّ منهما على الأخرى؟ … وكيف كان يتعرف سليم إلى سنية لولا جلسته في القهوة المواجهة لبيتها؟ … وإلى أين كان يمضي كامل رؤبة لاظ (السراب) ﺑ «عقدته» إن لم يلمح عليات، مصادفةً، في جلسته على قهوة النوبيِّين؛ وهي تطل من شرفة البيت المقابل؟
قيمة المكان كذلك أنه يهَبُنا الإيهام بالواقع، فلا يصبح العمل الفني مجرد خيالِ فنان. عندما أحدثك عن شارع حقيقي، عن ميدان حقيقي، عن مسجد حقيقي، فمعنى ذلك أني أتحدث عن حدث حقيقي، وشخصيات حقيقية. بل إن نجيب محفوظ — تحقيقًا للإيهام — يذكر المكان في جمل من كلمات قليلة، مثل قوله: «هكذا اخترقا الممر والقرافة نحو الخلاء والجبل» (الحرافيش). وهو يتحدث عن المعالم التي رسَخت في وجدان الحارة؛ مثل «التكية والقبو والقبر والسور العتيق» (المصدر السابق). ولعله من هنا جاء القول إن نجيب محفوظ «يكتفي بالخطوط العريضة والملامح العامة للمكان» … فقد يظهر من مقارنة وصف الأماكن المختلفة عدمُ تفريق نجيب محفوظ بينها تفريقًا واضحًا، «فالكلمات المستخدمة لا تحمل في طياتها صورًا خاصة، بل هي مجرد مسمياتٍ لأشياءَ تتكرر من مقطع وصفي إلى مقطع وصفي آخر، بلا تمييز بين الدكان أو حجرة النوم، أو مجلس القهوة، أو بيت السيد محمد رضوان، أو حجرة استقبال زبيدة، فهناك بعض الجمل المعدَّة التي تُستخدم في خطوط عريضة لتخطيط إطار المكان، دون الالتفات إلى التفاصيل الدالة» (بناء الرواية) [أذكِّرك بما قاله أندريه ميكيل عن المدينة في أدب محفوظ.]
والحق أن القول بعمومية تفصيلات المكان عند نجيب محفوظ لا يخلو من عموميةٍ هو الآخر. ثمة اختلافات مؤكَّدة بين البيت والحجرة والدكان والقهوة، اختلافات تتوضح في التفصيلات الصغيرة التي تنسُب المكان إلى بيئة محددة، وإلى طبقة اجتماعية بالذات.
•••
لا حدث بلا زمان ولا مكان.
حقيقة تُبين عن نفسها في الأعمال القصصية والروائية، وما يصطبغ منها باللون الواقعي على نحو خاص.
أما شخصيات العمل الأدبي، فإن معالمها لا تتحدد إلا إذا وُضعت في خلفية من الزمان والمكان المعيَّنَين.
المكان يتصل بالزمان من حيث موت ناس وولادة ناس، انتهاء أحداث ونشوء أخرى، تغير ملامح إلى الأفضل، أو إلى الأسوأ. ما كان يضمه المكان بالأمس — ملامحه وقَسِماته — يختلف عما أصبح عليه اليوم، ويختلف عما سيصير إليه في المستقبل. يتداخل المكان والزمان بتوالي الأحداث، وعلى حد تعبير جون برين، فإن الناس هم الأماكن، والأماكن هي الناس، ويختلف إحساس المرء بالمكان عن إحساسه بالزمان في أنه إحساس يعتمد على المباشرة، يتحقق من خلال الفعل والعلاقة الحسية بالأشياء. أما الإحساس بالزمان، فهو — بالضرورة — غير مباشر، بل إنه لا يتساوى في مراحل العمر المختلفة، وإن ازداد تأثيره على الإنسان عندما يتقدم به العمر (فن القص في النظرية والتطبيق). ويقول جراهام هو أن الرواية «لا تقتصر على إلزام ذاتها بقوانين الاحتمال في الحياة اليومية فقط — كما لا يفعل أي شكل أدبي — بل إنها تشرع بصورة نموذجية في إلزام ذاتها إلزامًا أبعد، فهي تلتزم بزمان ومكان محددَين» («أقلام» المغربية، العدد السادس) [ومن المعروف أن الرواية الحديثة تخلصت من عنصر الزمان، وحاولت إلغاء عنصر المكان]. وبالإضافة إلى الزمان، فإنه من الخطأ أن ننظر إلى المكان في معزل عن الشخصيات والأحداث والراوي، إنه يتصل بذلك كله، ويتصل به ذلك كلُّه، نسيج واحد ملتحم. المكان هو «الكيان الاجتماعي الذي يحتوي على خلاصة التفاعل بين الإنسان ومجتمعه» (الرواية والمكان). وهو «الوعاء الذي تزداد قيمته كلما كان متداخلًا بالعمل الفني» (المصدر السابق).
نحن نذكر الكثير من الأماكن بصفاتها العامة: مساحتها، مناخها، طبيعة ناسها ومعتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم. وثمة أماكن أخرى تتصف بالخصوصية، بالذكريات الحميمة، والوقائع التي تظل ثابتة في الذهن. ونتذكر قول مادلين [الحب الضائع]، بعد عودتها إلى الحجرة التي أمضت فيها سني شبابها: «عدنا إلى هذه الغرفة الصديقة التي نشأت بينها وبيني مودة قديمة، لا أكاد أذكر متى ابتدأت، ولا أكاد أعرفه حتى ينتهي» (الحب الضائع، ٦٥).
نحن نحيا المكان، كتجربة، عندما يذكِّرنا بأماكننا القديمة الأليفة، أو يجعلنا نهرب منه إلى أماكننا القديمة الأليفة. يضعنا في إطار الذكريات، وهو ما يسميه باشلار «تعليق القراءة». فالقارئ يتذكر — من خلال العمل الفني — أمكِنَته الخاصة والحميمة. وكما يقول برجسون، فإن المكان الذي أمضى فيه المرء طفولته هو الفردوس المفقود. وهو يظل في حياة صاحبه كأنه ماسة في عنق الأبدية. وقد تتعدد الأماكن التي يقيم فيها الإنسان، ولكن يظل لمكان الطفولة تفرده وسَمْته الخاص وحميميته المطلقة.
أما لماذا نحرص على الالتصاق بمكان محدد، بمنطقة بعينها، من المدينة، أو القرية، بل بشارع أو بيت من بيوتها؛ فلأننا «نعرف الساكنين معنا وحولنا، ونأتنس بهم. وجزء من خوفنا أن نغادر ذلك البيت أو الحي ونقطن في غيره؛ أننا نخاف تجربة الغربة مع أناس لم نعرفهم بعد» (صاحب مصر). وكما يقول ديكنز في «الصغيرة ديترويت»، فلعل السجين نفسه يبدأ يلين قلبُه نحو سجنه بعد إطلاق سراحه.
•••
يقول جابرييل جارثيا ماركيث: لقد نظرت إلى الحدود الصغيرة لبلادي وناسها، ولم أنظر إلى الآخرين … وهو ما ينطبق على إبداعات الكثير من الأدباء التي عكست ارتباطهم بمدن أو قرًى، وُلِدوا وعاشوا فيها فتراتٍ من حياتهم. جوته وولاية تيمار، ألبير كامي ووهران، دانتي وفلورنسا، جيمس جويس ودبلن، يحيى حقي والسيدة زينب، حنا مينا واللاذقية، نجيب محفوظ والقاهرة، يوسف إدريس والبيروم، سعد مكاوي والدلاتون، عبد المنعم الصاوي وكنيسة الضهرية، عباس أحمد والمحلة، محمد مستجاب وديروط الشريف، عبد الحكيم قاسم وطنطا، أحمد شمس الدين الحجاجي والأقصر، محمد الراوي والسويس، عبد الوهاب الأسواني وأسوان، عبد العال الحمامصي وإخميم، الإسماعيلية ومحمود دياب، شحاتة عزيز وأسيوط … إلخ.
ومن الأعمال التي يربط المكان أحداثها بأكثر مما تربط بينها الشخصيات: يوميات نائب في الأرياف، لتوفيق الحكيم؛ أحزان مدينة، لمحمود دياب؛ قنديل أم هاشم، ليحيى حقي؛ الأرض، لعبد الرحمن الشرقاوي؛ الجبل، لفتحي غانم؛ قاع المدينة، ليوسف إدريس؛ السقا مات، ليوسف السباعي؛ الشمندورة، لمحمد خليل قاسم؛ أيام الإنسان السبعة، لعبد الحكيم قاسم؛ وكالة عطية، لخيري شلبي؛ محب، لعبد الفتاح الجمل؛ إسكندريتي، لإدوار الخراط؛ زقاق السيد البلطي، لصالح مرسي؛ لا أحد ينام في الإسكندرية، لإبراهيم عبد المجيد؛ فساد الأمكنة، لصبري موسى؛ حارة الزعفراني، لجمال الغيطاني؛ وكالة الليمون، لسعيد بكر؛ الزنزانة، لفتحي فضل؛ بوابة مورو، لسعيد سالم … وغيرها.
ولأني أورد أمثلة ولا أسجل إحصاء، فلن أعتذر عن ذكر أسماء المدن، ولا الإبداعات التي لم تسعفني بها الذاكرة.
إصلاحية
يصف الفنان الإصلاحية بأنها أربعة جدران كبيرة، محاطة بالأسلاك الشائكة، داخلها جدران أخرى تكبس على الأنفاس، والأيام تمر مثل بعضها (أحلام البنات) ونزلاء الإصلاحية من الصبية يستيقظون في الصباح على صوت «البوري»، فيبدءون يومًا جديدًا (الزوجات العشر، ١٣٥). وعشاء نزلاء الإصلاحية يتكون من الجبن القريش عديم الدسم والمليء بالقذارة، ونزر من العسل الأسود (المصدر السابق، ١٤١). أما إصلاحية البنات، فإن الاستيقاظ مبكرًا، والنوم مبكرًا، والأشغال تتحدد في التنظيف والألعاب الرياضية والوقوف في طوابير عسكرية مثل الرجال، مثل طيور داخل أقفاص أُغلقت عليها، تتخبط أجنحتها في الجدران حولها، كلما خدعتها الرغبة في الطيران (أحلام البنات).
بئر
بعض الآبار لها قداسة، مثل بئر زمزم في مكة، وبئر يوسف، أو الساقية المندورة في أسيوط، وبئر مسعود في الإسكندرية (قصصنا الشعبي، ١٩). وكانت بئر زمزم مقدسة في الجاهلية، وما زالت كذلك عند المسلمين.
كان البئر يُبين عن فائدته الحقيقية حين يتمرد النهر وتفيض مياهه، فيلجأ الناس إلى مياه البئر عوضًا عن مياه النهر الغائبة (بئر الأحباش)، فهي تصبح متعكرة ونصفها طين (الأعمى).
والبئر من الموروثات المهمة لكل عائلة. إنه مثل البيت والأطيان والحديقة، بل ولقب العائلة نفسها، فهو يدل على عراقتها — العائلة، وعلى أنها تتميز بإمكانات خاصة (الأوباش، ١١٤). ومع أن البئر يستخدم لحفظ المياه، فإن البعض يستخدمه في تخزين أشياء كثيرة، ومتنوعة (المصدر السابق، ١١٢). وقد تسكن الجان الآبار، فتختطف من تريد إلى داخلها، إلى عوالمها السفلية الغامضة المجهولة (بئر الأحباش). وكانت البيوت إلى ستينيات القرن التاسع عشر، وظلَّ بعضُها إلى بدايات القرن العشرين، كما في بيت بين القصرين، تحصل على احتياجاتها من الماء العذب من البئر (بين القصرين، الرواية)، أو من السقا الذي يحمل الماء إلى البيوت (السقا مات، الرواية). ويذهب الراوي إلى أنه يوجد في كل قرية بئر قديم مهجور. كان معظم مياه النيل يضيع في البحر، وكانت القرية نحفر بئرها لاستخدام مياهه، فلما توافرت المياه — بعد إنشاء السد العالي — جفت الآبار، وأوقف الناس استعمالها، وصارت مصدرًا للمخاوف والأشباح (محاولة للخروج، ٤٥).
بادية
إذا كانت كلمة الحضر تعني السكان المستقرين، فإن كلمة «البادية» تُطلَق على المناطق خارج الإقامة الدائمة. البداوة أقدم نمط اجتماعي عرَفته الحياة البشرية. إنها التعبير المباشر عن الصلة الأولى بين الإنسان والطبيعة من حوله. البداوة معناها الترحال، أو عدم الاستقرار في مكان واحد. والبدو جماعات تضطر إلى تغيير أماكن إقامتها بين حين وآخر؛ بحثًا عن الماء والكلأ والمرعى لماشيتها، وعمومًا، فإن استقرار جماعات البدو في أماكن بذاتها يرتبط بتوافر الأمطار — أو المياه الجوفية — وتوافر مساحات الرعي بالتالي. أما المهن التي يمارسها البدو، فهي تتحدد في الرعي — والزراعة أحيانًا — وتصنيع المنتجات التي ترتبط بالحيوان، كوبر الجِمال، أو الصوف الذي يُغزل للملبس أو المأوى، كالخيام وبيع الأغنام والجمال [وقد أتيح لي زيارة سوق الجمال بدراو القريبة من أسوان؛ حيث تُباع الجمال من العطبرة وكسلا والصحراء الشرقية] ونقل البضائع من مكان إلى آخر بواسطة الجمال. ويقول البدوي: «نحن البدو نعرف الريح من مطرحها» (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٣٢٥). وبدو الصحراء يتفيئون بأغنامهم تحت ظل أي شجرة، ما دامت ظلالها وارفة، ويقيمون مسكنًا من الخيش، فإذا عجزت الأغنام عن إيجاد ورقة خضراء تأكلها، هدم البدو مسكنهم ورحلوا (فساد الأمكنة، ٢٥). وإن ذهب محيي الدين صابر إلى أن القول بعدم استقرار مجتمع البداوة يحتاج إلى مراجعة شديدة؛ ذلك لأن البداوة نمط حياة دائم متكامل، تدور في أفق حضاري واحد متماثل، والتنقل الذي تقوم عليه البداوة تنقُّل كمي وليس تنقُّلًا نوعيًّا، «وهو يرحل من مرعًى إلى مرعًى، أو يهبط من جبل إلى وادٍ، أو يصعد من سهل إلى نجد، أو يعبُر شاطئًا إلى شاطئ، وهو ليس جديدًا على المكان الجديد، إنما يُنزله منزل المقيم، لا منزل الطارئ العابر» (البدو والبداوة، ١٠). والعديد من قرى الصعيد لصق رمال الصحراء؛ حيث البدو والغجر الرُّحَل (حكاية ريم الجميلة، ٣). نهاية الخضرة، وبداية الصفرة (المصدر السابق،١١). ويقيمون أيضًا على حدود بحيرة قارون (دم ابن يعقوب، ٧). وفيما عدا سكان العريش والقنطرة والطور وبعض مناطق التعدين، فقد ظل سكان سيناء — إلى أعوام قريبة — من البدو الرُّحل (تعمير شبه جزيرة سيناء، ١٣). وبالنسبة لبدو الصحراء الشرقية، يقول ماريو إنهم جاءوا قديمًا من جبال القوقاز، عبر بلاد الشام وشبه جزيرة سيناء، ثم ساروا بمحاذاة الشاطئ الشرقي للبحر الأحمر حتى نهايته، فعبروه إلى إريتريا، واستقر أكثرهم في صحراء السودان ومصر شرقي النيل (فساد الأمكنة، ٢٦). ويصف الأب البدو بأنهم «يجمعون في قلوبهم الأضداد؛ من الكرم والقسوة، ومن الإنسانية والنذالة» (أزهار الشوك، ٩٢). كان البدوي يعين الضيف إذا لجأ إليه، وإذا نزل ضيف أسرف في إكرامه، فإذا لم يجد ما يقدمه لضيفه، لا يتردد في سرقة ما يقيم به الوليمة (أزهار الشوك، ١٩). والبدوي يتصور أنه أعلى مرتبةً من الفلاح، وقد أقامت أعداد كبيرة من البدو على مشارف الأراضي الزراعية، وكانوا يتعاملون مع الفلاحين بتعالٍ؛ فضلًا عن إغاراتهم المتوالية على قراهم لسلب محاصيلهم ومواشيهم، دون أن يواجهوا القوة التي تدرأ خطرهم؛ سواء من رجال الإدارة، أو من الفلاحين أنفسهم. ويقول البدوي: «إحنا بدو شرفا … ما يمشي علينا كلام عمدة فلاحين (عودة الروح، ٢ / ٢٨). ويسأل محسن الخفير البدوي عبد العاطي عن الفرق بين البدوي والفلاح … يجيب الخفير بحسم:
البدوي أصيل.
والفلاح مش أصيل؟!
الفلاح عبد ابن عبد … إحنا بدو ما نرضى ضيم (عودة الروح، ٢ / ٢٩).
وحين طلب الشاب الفلاح محمود مصاهرةَ رحومة البدوي، رده ردًّا عنيفًا (أزهار الشوك، ١٢). وكان رحومة بدويًّا فقيرًا، لكنه كان — مع فقره — متكبرًا، فهو حر، بدوي، من أحرار بدو، لا ينبغي لهم الا أن يكونوا حيث خلقهم الله (أزهار الشوك، ٨). وفي المقابل، فقد كانت صورة البدو كريهة تمامًا في أعين الفلاحين. كانوا يؤجَّرون على القتل، وتسميم الماشية، وإثارة المشاحنات، ولم يتعلم منهم الفلاح سوى شرب الشاي الأسود المر (عودة الروح، الرواية). ويقول شيخ العزبة لمحسن: «الفلاح منا يبقى خيره عليهم — البدو — يكرمهم ويساعدهم ويخاويهم، وهم يتكبرون عليه، كأن دمهم دم واحنا دمنا ميه. روح الفلاح عندهم ما تسوى أكتر من حق عيار رش بقرش صاغ. البدو لا تعرف تزرع ولا تقلع. ناس لا مؤاخذة ما يفلحوا إلا في الضرب والخطف» (عودة الروح، ٢ / ٢١). ثم تغير إحساس البدوي، فيما بعد، بالنبالة والتفوق، فهو يذهب إلى الحضري الذي كان يحتقره؛ ليعمل عنده مقابل أجر، ويدرك شيئًا فشيئًا بشاعة التخلف الذي يحيا في إساره، مقابلًا للتطور الذي حققه المجتمع الحضري (البدو والبداوة، ٤٠). كما تقلصت بيوت الشعر شيئًا فشيئًا. حلت بدلًا منها بيوت الأسمنت (الكلب جاك).
والبدو يفضلون إنجاب الأولاد. وقد نذر «قوية» للحسين إن كان طفله المرتقب ولدًا (أزهار الشوك، ٨٥)؛ ذلك لأن «البيئة» تطلب — في الدرجة الأولى — رجلًا يدافع عن القيم والشرف والتقاليد. وحين بلغ إيسا الرابعة عشرة، سن الرجولة، فإن القبيلة حرَصت على أن تقلِّده خنجرًا. وحياة البادية تشترط الاتحاد والتكافل بين أبناء الجماعة أو القبيلة الواحدة. فمن الصعب أن يواجه المرء ظروف البداوة القاسية بمفرده، فإلى جانب الضباع والذئاب والثعالب وطيور الصحراء الجارحة، ثمة — على رمال الصحراء وبين صخورها — ملايين الأفاعي والثعابين والحيَّات، بعضها مميت بما يقذفه فمُه من السم، وبعضها يخفي السم في أنيابه، وبعضها يلتف حول الفريسة بعضلاته القوية، فيقتله. ومن هنا، تتوضح روح العصبية والنعرة بين جماعات أو قبائل البدو، وتحرص كل جماعة على تأكيد العصبية والانتماء. والثأر هو أهم القوانين السائدة عند البدو. لذلك كان حرص الفلاحين على تجنُّب الاعتداء على البدو، ولو من قَبيل رد الاعتداء؛ فرارًا من قانون الدم أو الثأر. والبيئة تفرض على البدوي معتقداته، فقد كان «قوية» — على سبيل المثال — يعرف مواقع النجوم في المساء، وقبيل الصباح، ويسمي أسماءها، ويقص قصصها؛ ذلك لأن تلك النجوم، في يقينه، كانت تحيا على الأرض قبل أن تصعد إلى السماء (أزهار الشوك، ١٣-١٤). والأشجار — في الصحاري الممتدة — لها قداسة، لذلك فإن نساء البدو المحجَّبات من الرأس إلى القدم، يطُفن بها ويعلِّقن في أغصانها المسامير والخرز، ويزينَّها بحبوب البقول وأباريق الزيت والنقود القديمة. والبدوي يبادر ضيفه بالطعام ليُشعره بالأمان، يأكلون معًا عيشًا وملحًا (السكن في الأدوار العليا). أما الطعام، فعندما دعا قوية صديقه فؤاد إلى طعام بدوي، قدَّم له «رقاقًا مبسوسًا وحملًا مشويًّا» (أزهار الشوك، ٢٨). وتشمل الوجبات البدوية: العصيدة، الدشيشة، الفقع، الخراف المشوية على جذوع العصلاء (الكلب جاك).
وثمة تحفُّظ يجدر بنا أن نتنبه إليه؛ فليس كل بدويٍّ عربيًّا، والعكس صحيح. ومن الخطأ أن ننسُب إلى العرب كل تقاليد البادية وعاداتها وممارساتها، وهو ما فعله ابن خلدون عندما سمى الأعراب وحدهم — وهم سكان البادية — عربًا، ونسب للعرب كل ما كان يُنسب إلى سكان البادية من الصفات. وحتى الآن فإن الأعراب يسمَّون في معظم الأقطار العربية عربًا (الهدف، ديسمبر، ١٩٥٩م).
يصف الفنان آمنة بأنها فتاة بدوية، انحدرت بها وبأختها، امرأة من أهل الريف المصري الذي يشبه البادية؛ لأنه منبت في أطراف الأرض الخصبة، فيما يلي الصحراء الغربية، أو مما يلي هذه الهضبات التي يسميها أهل مصر الوسطى بالجبل الغربي (دعاء الكروان، ١٤). وكان الاختلاف بين حياة البادية ممثَّلةً في أسرة آمنة، وحياة القرية ممثَّلة في القرية التي عملت فيها هنادي وآمنة خادمتين، ثم حياة المدينة ممثَّلة في المهندس الذي سلب هنادي شرفها (دعاء الكروان، الرواية). وهو ما نتذكره، فيما بعد، في استسلام فتحية للمهندس الشاب ابن المدينة، بما يكاد يشكل معادلًا موضوعيًّا لاستسلام القرية للمدينة (النداهة). وقد اتجهت الدولة، فيما بعد، إلى زرع الصحراء وتعميرها، وتسكين البدو (خرائط للموج، ٤٨).
بار (حانة)
ظهرت الحانات، أولًا، في الأحياء الخاصة بالأجانب، ثم انتشرت إلى الأحياء التي يختلط فيها الأجانب بالمصريين في العمل والسكن، ثم تغلغلت أخيرًا في الأحياء الشعبية (العودة إلى المنفى، ١ / ١٢٦). وإلى أوائل القرن العشرين كانت «بوديجا» هي أهم الحانات التي يتردد عليها المثقفون (السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين، ٩٢). وربما يمتزج البار والقهوة في مبنًى واحد، مثل كافيتريا وبار فينكس: مدخل ضيق يُفضي إلى حجرة مربعة، مرصَّعة بموائدها الرخامية وكراسيِّها الخرزانية ومقصفها المتصدر. أما مصابيحها فهي مُضاءة منذ الصباح لانزوائها في عمق، بعيدًا عن نور الشمس (تحت الشجرة). أما قهوة الخواجة خريستو، فقد كانت قهوة وحانة وبِقالة ودكانًا للقروض، لها حديقة صغيرة مهمَلة على النيل، ومرساة لا زورق فيها، ومقاعد من القش المجدول، ومشاريبها القهوة والشاي والكونياك؛ فضلًا عن تدخين الشيشة وتعاطي الحشيش (على بحر شبين). وكان البار الذي يتردد عليه الراوي — في أصله — قهوة صغيرة، تُقدم الخمور الرخيصة والضجة العالية (لأب). ولأن دكان البقال الرومي كان يبيع الخمور، ويضع أمام دكانه مائدتين من الخشب وكرسيَّين من القش، فقد أطلق عليه الأهالي اسم الخمارة (يوميات نائب في الأرياف، ٥٥). وكانت خمارة «خد واشكر» في عطفة «زاوية العابدين» الأثَرية بالباب الأخضر «أشبه بمغارة في جوف جبل، تعيش في ليل دائم يغوص في عمق المبنى الضيق المهلهَل التي تقع في أسفله، يُفضي إليها بابٌ مقوَّس الهامة، ولا نافذة فيها، ذات شكل بيضاوي، وفي نهاية عمقها يقوم برميل ضخم ذو صنبور سفلي، وتصطف على جناحيها أخونة خشبية، ومقاعد من القش المجدول» (ممر البستاني). أما حانة «فيتا» بحارة اليهود، فهي أشبه بدكان متوسطة، مربعة الشكل، تمتد في جانبها الأيمن طاولة ذات سطح رخامي، يقف وراءها الخواجة فيتا، وقد ثبت في الجدار خلفه رف طويل صُفت عليه الزجاجات، وقامت في نهايته من الداخل براميلُ ضخمة، وعلى سطح الطاولة وُضعت حفان الترمس والأقداح، ازدحم حولها الشاربون من أهل البلد، حوذية وعمال وأنصاف عراة كالشحاذين، وثمة موضع اتسع لبعض الترابيزات الخشبية، جلس إليها المقتدرون نسبيًّا، والعاجزون عن الوقوف لكِبَر أو لسُكْر شديد (زقاق المدق، ١٣٥). وقد تمتلئ الطاولة بكئوس الكونياك والويسكي وأطباق الجزر المقشر والفول السوداني وأعقاب السجائر (موسيقى رخيصة). وكان مدخل حانة النجمة دهليزًا ينتهي إلى ثلاث حجرات متداخلة، يضجُّ جوها بالعربدة، لا يوجد في كل حجرة إلا نافذة واحدة ذات قضبان تطل على عطفة خلفية، وُصفت بها ثلاث موائد متفرقة في الأركان. والتردد على الحانة وسيلة للتخلص من الوحدة والأحزان (الخوف من الحياة). وحين عجزت موارد كامل رؤبة لاظ عن تغطية نفقات تردده على حانات شارع الألفي، استشار حوذيًّا فدله على حانة صغيرة في مطلع ممر يفضي إلى سوق الخضَر، وقال له: الحانات الكبيرة مظاهر كاذبة لابتزاز الأموال، والخمر هي الخمر، وخيرها ما أسكر بأبخس الأثمان. وكانت الحانة صغيرة مربعة الشكل، بها موائد قليلة، تبدو رثة باهتة، والنادل يوناني عجوز أعمش، والرواد من البسطاء وصغار الموظفين، وأواني الخمر فيها من نوع الدوارق (السراب، ١٣٧). ثم تردد كامل على حانة أخرى شعبيةٍ هي الأخرى، لكنها محترمة لدرجةٍ ما، فإلى جانب الحوذية وذوي الجلابيب، يوجد لمة من الموظفين الكُهول الذين لا تسمح ظروفهم الاقتصادية بارتياد الحانات الغالية (المصدر السابق، ١٤٩). أما الحانة في الحي الشعبي، فإنها تبدو أشبه بالحجرة، تدلى من سقفها فانوس كبير، وُصفت بجنباتها موائدُ خشبية وكراسي خيزران، جلس إليها نفر من أهل البلد والعمال والأفندية، وتتوسط المكان تحت الفانوس مباشرةً مجموعةٌ من أصص القرنفل (بين القصرين، ٨٧). يرتادها أفندية وعمال ورجال يرتدون الجلابيب وكمسارية، وينعقد دخان السجاير والبخور في جو المكان، ويتنقل بين الموائد بائعو اليانصيب والكرافتات والكباب والجمبري والفول السوداني (الجنس الضعيف). أما خمارة البلدة الصغيرة، فتقع في الشارع الرئيس، وسط الميدان: بناء من طابق واحد، جدرانه كالحة مشقَّقة، تساقط بياضها، له باب خشبي قديم، تفوح منه رائحة الكحول والمشروبات، وروائح أخرى عطنة. يخدم الزبائن فيها رجل واحد، ربما استعان بصبي لمعاونته. والزبائن، في الأغلب، من باعة المتاجر والجائلين والحوذية، وبعض المحترمين (العذاب في أرض الله، ٤٨). ويصف الفنان «خمارة القط الأسود» بأنها «عبارة عن حجرة مربعة تقوم في أسفل عمارة عتيقة بالية، تُضاء نهارًا وليلًا؛ لقتامة جوها المدفون، وتطل على حارة خلفية بنافذة وحيدة من خلال قضبان حديدية، طُليَت جدرانها بلون أزرق فاتح يرشح رطوبةً في مواضع شتَّى على هيئة بقع غامقة، ويُفتح بابها على ممشًى ضيق طويل، يمتد حتى الشارع، وعلى جانب منه تصطف براميل النبيذ الجهنمي، زبائنها أسرة واحدة تتوزع فروعها على الموائد الخشبية العارية، منهم من يرتبطون بأسباب الصداقة أو الزمالة، وجميعهم يتآخون بوحدة المكان والمعاشرة الروحية ليلةً بعد أخرى، ويجمعهم جامع السَّمَر والنبيذ الجُهنمي» (خمارة القط الأسود). وأن المرء يستطيع — بقرش أو بقرشين — أن يُحَلق بلا أجنحة، تصفو النفوس، وتفيض بالحب لكل شيء، وتتحرر من التعصب والخوف، وتتطهر من أشباح المرض والكِبَر والموت (المصدر السابق). في الحانة، تنمحي الفوارق بين الناس، يشعر كل واحد بصداقة جاره له، فهو يحدثه، ويأخذ منه، ويعطي له، ويكشف له عما يعانيه أو يشغله (ليلة في الحان). واللافت أن قهوة علي صبري تحولت — في الثلاثينيات إلى ملهًى صغير — يقدم فنون الغناء والرقص والخمر، وأقيمت في نهايتها من الداخل منصة للتخت، وصُفَّت الموائد والكراسي على الجانبين، بحذاء مدخلها (بداية ونهاية، ١٥٤). وقد شهدت المدن الكبرى — كالقاهرة والإسكندرية — في الحرب العالمية الثانية، تكاثرًا كالنبات الشيطاني في البارات التي شهدت عربدة السُّكارى والخناقات والضرب والزجاجات الطائرة والنوافذ المحطَّمة والرءوس المبطوحة والصراخ والعويل والجري والهرب قبل أن يأتي البوليس الحربي (مدرسة المسرح، ١١٢-١١٣). والصورة الرتيبة للحياة في بار: اكتظاظ المكان بالشاربين والنكات والأغاني والأنفاس والدخان والهواء الفاسد (الجريمة) ورائحة الخمر والبخور، وثرثرة السكارى وتعليقاتهم (الجنس الضعيف)، وبرميل خشب ضخم فوق ترابيزة البار، تحته كوب، يتلقى القطرات المتساقطة من الحنفية (البرد)، ورجل يجلس على أحد مقاعد البار العالية، ويرفع كأسه بين حين وحين، ويفرغه في داخله، ثم يدير رأسه إلى الخلف، متأملًا بقية الجالسين (الراجل الفتان أكل علقة) والجالسون متبتلين حول الزجاجات القائمة وأطباق الترمس والخس والجبن وقطع الخبز (صياد اليمام) الناشف أو الأفرنجي والفول النابت والترمس (الجنس الضعيف)، وتحت سحائب دخان السجائر الأبيض والأزرق التي لا تلتصق بالسقف الملون، ولا ترتاح على الترابيزات، تدور ثرثرة غير مفهومة (صياد اليمام، ٢٦٨)، والبارمان يمسح — بين فترة قصيرة وأخرى — بقعًا غير موجودة على سطح البار (الدوامة). والحانة لا تعمل بالنهار، فالناس تكون مشغولة بأمور عيشها (تصاوير من الماء والتراب والشمس). فإذا كانت الحانة في حي مشبوه، فإنها ميزة — كما يقول ياسين — لا تُقدَّر بثمن، إنها تقوم في طريق لا يقتحمه إلا ساعٍ وراء لذة محرَّمة، فلن يكدر صفْوَ المتردد على المكان لائمٌ أو زاجر، وإذا عُثر به شخص قريب كان هو الأحقَّ باللوم والأخلق بأن يفر ما أمكنه (قصر الشوق، ٣٨٤). ومعظم الحانات تغلق أبوابها في رمضان، أو يتضاءل زبائنها إلى حد الندرة (من وحي ليلة الرؤية).
بحر
البحر — يصفه الفنان — «متسع رحب، بلا نهاية، الأفق بعيد تحت فضاء الكون، غير محدود» (غيبوبة تحت الشمس). والبحر يلطف الحرارة (كيف كنت غيري). ويرتبط — موانيه على وجه التحديد — بالسفن الضخمة وأرصفة الشحن والأبواب الحديدية الضخمة والبضائع المصفوفة، والتي بلا نظام، والأجولة والصناديق والحاويات (قاضي البهار، الرواية). وحياة الصيادين ترتبط بأحوال البحر. في الصيف تتحول الأزقَّة الرطبة الضيقة والبيوت والقهاوي والشاطئ، إلى خلايا نحل، مع قدومه يكثر الميَّاس والتِّرْسة والبوري والبياض والمَرْجان. أما في الشتاء، فيضطرب البحر، وتشتد الأنواء، ويلزم الصيادون بيوتهم لا يبرحونها إلا إلى القهاوي، يشربون الشاي على الحساب (الأسوار، ١٩). والبحر، ومواطن الماء عمومًا، من الأماكن المقدَّسة والطاهرة؛ ثمة اجتهادات ترى أن من عصى الله في البحر، فكأنما عصاه على أجنحة الملائكة، أي أن ارتكاب معصية فيه إنما هو فسوق وفُجر يفوق جزاؤهما جزاءَ العصاة في البحر (النبوءة في السيرة الشعبية العربية). وعندما عرف بدر المنشاوي [الصهبة] أن جابر محجوب يلتقي بالفتيات على شاطئ الأنفوشي، فإنه حذَّره بجدية: البحر ملاك طاهر … لو أنك لوَّثته لا بد أن تُبتلى (الصهبة، ٤٩).
وربما يلتقي الحبيبان — للمرة الأولى — على شاطئ البحر (ثلاثة رجال وامرأة، ٤١). وقد لاحظ وديع نعوم — في العشرينيات — أن أمورًا مخجلة تُرتكب في بعض «الكابينات». ثمة قُبلات تُسرق، وأجسام تُضم وراء تلك الألواح الخشبية، وإن بعضَ من لا خَلاق لهم جعلوا من كابين الحمام جرسونيرة لملذاتهم، دون أن يَلقَوا اعتراضًا من أصحاب الكابينات المجاورة؛ لعدم ميلهم إلى التدخل في شئون الغير (ثريا).
والبحر يحيط بالإسكندرية من ثلاث جهات: إنها لسان طويل من الأرض داخل البحر، شبه جزيرة. وتهبُّ على الإسكندرية في الأسابيع الأخيرة من العام، نوَّات متعاقبة شبه متصلة حتى عيد الغطاس (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٥٧٠). والبحر المالح يسمى البحر الكبير؛ تمييزًا له عن النهر، أو الترعة أحيانًا (الجزيرة الخضراء، ١٨).
برج الحمام
تنشأ الأبراج عادةً على أسطح البيوت المطلة على الشوارع، أو الخلاء، أو الحدائق. ويُعَد برج الحمام أقدم ما عرَفه الإنسان من مساكن التربية (مجلة الفنون الشعبية، العددان ٣٨-٣٩). وقد تكون أبراج الحمام لمجرد الزينة من خارج البيت، وقد تكون بهدف تربية الحمام، والحصول على فراخه للغذاء، واستعمال مخلفاته في تسميد المزروعات. وبعض الأُسر تُحيل حجرة السطح برجًا للحمام (حمار الحكيم، ٩٤).
بنسيون
البنسيون يختلف عن الفندق في الإقامة الطويلة — نسبيًّا — لنزلائه ومحدوديةِ النُّزلاء؛ فضلًا عن محدودية المكان نفسه؛ بما يتيح — أو بما يفرض — إقامةَ صِلات من نوعٍ ما بين النزلاء، وهو ما حدث — على سبيل المثال — في بنسيون «ميرامار»، فقد تحولت العلاقات الطارئة بين النزلاء إلى أحداث متلاحقة كانت هي سدى الرواية عمومًا (ميرامار، الرواية). البنسيون يفرض حالة من الأسرية قد تضعُف أو تقوى بين نزلائه، فهو أقرب إلى شقة تطل حجراتها على الصالة التي تتوسطها، والصالة هي المكان الوحيد الذي يدفع النزلاء للجلوس بعيدًا عن حجراتهم. وبرغم الحواجز النفسية والسياسية — وربما الاجتماعية — التي كانت تفصل بين نزلاء ميرامار، فإنهم كانوا يلتقون ويتحادثون، ويُطِل كلٌّ منهم على جوانب من حياة الآخرين. أما الفندق، فإن زيادة أعداد العاملين فيه لا تسمح بتحول العلاقات بين العاملين والنزلاء من الهامش إلى علاقات ثابتة أو طارئة. مع ذلك، فإن نزلاء البنسيون — أو غالبيتهم — يمكن تسميتهم بالطارئين؛ لأن إقامتهم تنتهي في موعد محدد. إنه مكان للإقامة بين ترك السكن الأصلي والعودة إليه [راجع أسماء الشخصيات التي ترددت على ميرامار، وظروف كلٍّ منها]، حتى المُدرسة عليَّة، التي أخذت مسئولية محو أمية زهرة، كانت تسكن البيت الذي يضم البنسيون، لكن صلتها الزمنية بالبنسيون تحددت بالفترة التي أمضتها فيه زهرة! والمزية التي وجدها الرجل في البنسيون أنه يستطيع أن يسهر فيه كما يشاء، ويأتي إليه في أية ساعة، ويأكل حين يريد (رجل يشتري الحب، ٣٦٦). وكانت مدام راشيل تدير بنسيونها للعشاق. ساعدها أنه كان في عمارة مزدحمة فيها أطباء ومحامون وبيوت أزياء، فدخول سيدة في البناية لن يثير الريب أو الظنون (نظرة وداع).
بورصة
لم تكن بورصة الإسكندرية — إلى أواخر القرن التاسع عشر — قد وُجدت بصورتها الحالية. وكان سماسرة الأسهم يجتمعون في مقهى «سيرنخا» بشارع محرم بك، يشترون ما يريدون من أسهم ويبيعونها وهم يحتسون القهوة (أوديسا العصر الحديث، ١٢٠). ثم أُنشئت في الإسكندرية بورصتان: إحداهما في شارع البورصة — هو الآن شارع البورصة القديمة — والثانية في شارع رشيد — طريق جمال عبد الناصر الآن. ونشبت بين البورصتين حرب، تمثلت في تفاوت الأسعار والمضاربات. ثم أغلقت الحكومة بورصة شارع رشيد، واستبقت البورصة الأخرى (المصدر السابق، ١٢١-١٢٢). ويصف الفنان بورصة الإسكندرية [كان اسمها البورصة الملَكية] بأنها مبنًى أبيض فخم، يطل على ميدان محمد علي، نوافذه طويلة مرتفعة، وشرفته فسيحة. ويضيف بأنها أول بورصة للعقود في العالم، حيث أُنشئت عام ١٨٦١م، للتعامل مع القطن بضاعة حاضرةً وعقودًا، أعقبتها بورصة نيويورك سنة ١٨٧٠م. وقد أُنشئت بورصة مينا البصل في ١٨٨٣م، وعُرفت بهذا الاسم نسبةً للحي الذي تقع فيه، ومساحتها حوالي الفدانين. والمبنى يتكون من دورين: الأول به ١٢٥ مكتبًا للبنوك والمُصدِّرين والسماسرة ومساعديهم، والثاني يحتوي على مكاتب الملحقين التجاريين الأجانب؛ بالإضافة إلى مكتب القومسيون الذي يضم فرازي القطن، ومهمته التحكيم في حالة حدوث خلاف بين البائع والمشتري على تحديد رتبة القطن (أكتوبر، ١٥ / ٩ / ١٩٩١م). وقد توسع نشاط بورصة مينا البصل حتى اكتسبت شهرة عالمية.
ومن أهم الأحداث التي شهدتها البورصة تعرَّض جمال عبد الناصر لحادثة اغتيال وهو يخطب من فوقها عام ١٩٥٣م، وإعلان عبد الناصر من فوقها أيضًا في ١٩٥٦م تأميم شركة قناة السويس. ثم تعرضت — فيما بعد — لحادثة حريق مشبوهة، فهُدمت، وانتهى أحد المعالم المهمة في تاريخ مصر الحديثة.
بوظة
البوظة عبارة عن شراب مُسْكر، مصنوع من خبز الشعير المفتَّت والمخلوط بالماء، والذي يُترك بعد تصفيته ليتخمر (ستر العورة). يوضع في وعاء يسمى «القرعة»، يُصنع من غلاف ثمرة جافة مستديرة عميقة أقرب إلى نصف الكرة (حرافيش القاهرة، ١٤). والبوظة — في تقدير الراوي — هي المكان الذي ندفع فيه مقابلًا بسيطًا لنسيان همومنا (ستر العورة). يستطيع المار أمامها أن يميز رائحة البوظة السوداني المتخمرة المتخثرة (الحصان الأبيض). وأمام البوظة يوضع بارفان من الزجاج المُسنفر، وله باب صغير مفتوح لا ترى في داخله شيئًا؛ من ظلمة المكان وعطنه الذي لا يشجع على إمعان النظر داخله (زمن الحرية، ١٢). وثمة سحب الدخان تتصاعد في سماء المكان، والموائد تصطف متجاورة بالقرب من الجدران في استدارة، حولها مقاعد مستطيلة تَلاصق الرجال فوقها وتزاحموا (زقاق السيد البلطي، ٩٣)، وفي وصف للفنان أنها مكان خفيض، مبني بالطين والجريد، وظهرها فقط مبنيٌّ بالطوب الأحمر، وفي وسطها شباك مستطيل تتقاطع فيه قضبان الحديد (البلد، ٧٥). ويطالعنا الفنان بشارع للبوظ، بمعنَى أنه لا يقتصر على بوظة واحدة. في نهاية الشارع بوظة الإمام، واجهتها على شكل باكية من الحجر الجيري، مقشورة الدهان، مطبوع عليها كفوف وعين واحدة، وتمساح محنَّط، أجرب؛ بفعل الشمس والمطر، في الظلمة الخفيفة يبدو الرواد كالأشباح، أمامهم قصاع البوظة، وحولهم أسراب الذباب، لا تهشها يد ولا تطيرها (ستر العورة). وفي بوظة الشبيبة الوطنية بالمحلة الكبرى، كان الحوذية يشربون من «القَرعة»، ويعزمون على خيولهم وحميرهم، ويحكون الأفعال القذرة، ويشتمون، ويلجئون إلى الألفاظ الجنسية، بمناسبة وبلا مناسبة (المصدر السابق، ٧٥). وقد تصل الممازجة بين الرجل ودابته حدَّ الاشتراك في «قَرعة» واحدة (تاريخ حياة عربجي). وثمة من يستغني عن الدكان، يكتفي ببرميل خشبي لصق الحائط، وطاولة عليها أكواب مختلفة الأحجام، ودلو مملوء بالماء.
بيت
البيت — في تعريف باشلار — هو الكون الأول للإنسان (جماليات المكان، ٣٨). يضيف أنه بدون البيت يصبح المرء كائنًا مفتَّتًا، البيت يحفظه من عواصف السماء وأهوال الأرض. النصيحة التراثية تدلل على أهمية البيت، المسكن، للإنسان المصري: «ليكن أول ما تبتاع وآخر ما تبيع» (المدينة الإسلامية، ٤٠). ويقول الرجل: من المهم أن يكون لكل إنسان بيت أو سقف، ليهرع إليه ويستظل فيه (في شارع السد)، بالإضافة إلى أنه ما من ماضٍ — على حد تعبير الراوي — إلا وله بيت تحوم حوله الذكريات. البيت ليس مجرد بناء وعمارة وهندسة، لكنه «برج ثابت في الزمان، يأوي إليه حمام الذكريات، الساجع بالحنين إلى ما انقضى من أعمارنا» (السراب، ١٦). وكان البيت هو الجنة الوحيدة والحقيقية والمركز العصبي لثلاثية نجيب محفوظ: «يعطيه الوسط العائلي نوعًا من الاستقرار بالقياس إلى كل شيء آخر» (الفن الروائي عند نجيب محفوظ). وكان البيت هو ملاذ أسرة أحمد عبد الجواد عندما تصاعدت أحداث ١٩١٩م (بين القصرين). وكان بيت نور هو ملاذ سعيد مهران حين أراد الاختفاء أثناء الفرار من مطاردة أعدائه (اللص والكلاب).
كانت بيوت الزمن الماضي واسعة جدًّا بالقياس إلى بيوت الزمن الحالي، وكان في بعضها أحواش (صائد الخرتيت). الصورة العامة لبيت أحمد عبد الجواد هي الفناء التَّرِب، والبئر العميقة، والطابقين، والحجرات الواسعة العالية الأسقف، والسطح الذي يطل على المآذن وأسطح العمارات المجاورة، والمشربية التي تطل على شارعَي بين القصرين والنحاسين.
وإلى بدايات القرن العشرين، كان الكثير من البيوت يجمع أُسر العائلة (بدرية الإسكندرية، ٢). وكانت غالبية البيوت في الأحياء الوطنية تشتمل على سلاملك مخصَّص للرجال، وحرملك مخصص للنساء ولرب البيت (هكذا خُلقت، ١٣-١٤). وكانت حياة الأسرة أيضًا منقسمة — مثل الدار — إلى قسمين: حياة النساء وحياة الرجال. وكانت الأفراح هي الفرصة الوحيدة التي يتاح فيها للرجال والنساء قضاء ساعات لهو ومرح. وربما نجد في ذلك كله تعبيرًا عن عالم المرأة المغلق في أوائل القرن العشرين، والذي وسم فن العمارة … فالبيوت لها مشربيات، وفيها قاعة ودرقاعة، ومندرة يستقبل فيها صاحب البيت ضيوفه من الرجال، وحريم تقيم فيه النساء، ويحرم دخوله على الغرباء. والبيوت القديمة ذات درجات عالية، وأبواب واسعة، وحجرات واسعة أيضًا، ونوافذ شاهقة، ولها مناور تأتي منها رياح متجددة باردة. البيت الذي ينتمي إلى القرن التاسع عشر، يتميز بالحيطان العالية الضخمة، تشابه جدران الحصون والقلاع، وفناؤه وحشي متسع أشبه بأفنية المقابر، ويطل سكانه على الطريق من طاقات ضيقة أشبه بالثقوب، وفي داخله بئر عتيقة سُدت فوَّهتها بألواح الخشب؛ خشية أن يسقط الأطفال فيها أثناء ألعابهم (ثمن الضعف). وصورة واجهات البيوت الشعبية عمومًا تكاد لا تتغير: البوابة المقوَّسة الهامة، الشرفات الخشبية المسوَّسة العروق، الباهتة اللون، والأسقف العالية (عضة الكلب). وزجاج الشراعات ذي الأبواب الملونة بالقطع الحمراء والخضراء، والنوافذ الصغيرة المتلاصقة، رُصت على حوافِّها صوانٍ نحاسية قديمة، وفوقها قلل وأباريق فخارية ذات أشكال وألوان مختلفة وبلاط الأرضيات المعصراني، والأثاث القديم الشاحب من الكنب والشلت والحصر والأكلمة، والسطح المغطَّى بحبال الغسيل؛ مثل أسلاك الترام والترولِّي باص (بوابة مورو، ٣٧، أفراح القبة، ١٢٤). والبيت في حي الحسين «باهت الجدران، رثُّ الهيئة، يصعد إليه الصاعد على سلم ضيق متهدم الدرجات بغير درابزين، حلزوني الشكل كسلَّم المآذن، ويتكون من طابق واحد ذي ثلاث حجرات صغيرة الحجم» (الذكرى). والعادة أن يُطلَق على البيت في الحي الشعبي اسم مالكه أو مستأجره (حكاية الولد برهومة). وقد يكون البيت في الحي الراقي مكونًا من طابقين، كل طابق من بضع غرف، ومستقل عن الآخر بمدخل منفصل، وله حديقة خاصة منفصلة عن الأخرى تمامًا؛ بحيث يفصلهما سور من شجر الياسمين ذي الفروع الرفيعة المتكاثفة ذات الزهور الملونة والرائحة الزكية (الوردة الحمراء). وكان بيت الست عين تجسيدًا للعز والنعيم: الجدار الحجري المعتم، تتوسطه بوابة غليظة متجهمة، تحمل فوق هامتها تمساحًا محنَّطًا. وفي نقطة الوسط منها مطرقة نحاسية غبراء على هيئة قبضة بشرية. تفتح البوابة، فيبدو البيت جليلًا وافي التقطيع، وتترامى وراءه حديقة تنفث أخلاطًا من روائح الياسمين والحناء والفواكه، تدور حول فسقية ارتفع فوق سورها الرخامي سورٌ من الخشب، حتى لا يسقط فيه الأطفال وهم يلعبون (عصر الحب، ٩٠). أما بيت أحمد بك يسري، فإن أول ما يطالع الأخوين حسين وحسنين فيه بهو الاستقبال الكبير، والبساط الغزير الذي يغطي أرض الحجرة الواسعة، والمقاعد الكبيرة الأنيقة، والطنافس والوسائد والستائر التي تنهض على الجدران كالعمالقة، والنجفة المتدلية في هالة لألاءة من سقف عالٍ (بداية ونهاية، ١٨٠). والبيوت الأجنبية — أي ذات الطابع الأوروبي — ينعدم فيها التطفل. فإذا سكن المرء فيها أمِن نظرات الفضوليين (القاهرة الجديدة، ١١٠).
وبالطبع، فإن بيت الرجل الصوفي يختلف عن البيوت العادية. بيت الشيخ علي الجنيدي مثلًا بسيط للغاية «كالمساكن في عهد آدم، حوش كبير مسقوف، في ركنه الأيسر نخلة عالية مقوَّسة الهامة، وإلى اليمين، من دهليز المدخل، باب حجرة وحيدة مفتوح. لا باب مغلق في هذا المسكن العجيب» (اللص والكلاب، ٢١).
وبيوت الطبقة الوسطى، فما فوق، يجلس أمامها — في الأغلب — بواب، يرقب الداخلين والخارجين (المتشعبطون) فهو المكلَّف بحراسة البيت، وهو كذلك يقضي للسكان احتياجاتهم وينظف السلم والمدخل؛ إلخ (الدغلي). البواب ظاهرة أساسية في معظم البيوت المصرية، بيوت الأحياء المتوسطة وفوق المتوسطة تحديدًا. الصورة التقليدية للبواب هي أنه يغطُّ في النوم على مقعده الخشبي، وقد تدلَّت رأسه على صدره (عروسة وعريس)، لكن البواب يجلس — غالبًا — على الدكة بجوار باب البيت، ويتكئ بجسده على المسند الخشبي خلفه، وإحدى رجليه متدلية، والأخرى بجواره (اغتيال مدينة صامتة، ٩). والبواب — في الأغلب — هو حامل أسرار السكان، وأكثر الناس تتبعًا لأخبارهم (الأبواب المغلقة، ١٥٨). وكانت مهنة البواب إلى الستينيات تكاد تقتصر على النوبيين. يقول الراوي — حين يعمل بوابًا للعمارة الضخمة بالزمالك —: إن أبناء جنسه قد خُلقوا لمزاولة ذلك العمل في المدينة الكبرى (دلائل الخيرات).
ولطبيعة البيئة المصرية، الأقرب إلى الدفء، أو إلى الحر، فإن معظم البيوت بلا دفايات (تباريح جريح، ١٠٠).
ولا شك أن ارتفاع أثمان الأراضي كان سببًا مباشرًا — بصورة نسبية — بالإضافة إلى ارتفاع أسعار التكلفة بعامة، في دفع المهندسين إلى ضغط البنايات في أقل مساحة ممكنة؛ سواء على مستوى البناية ككل، أو مستوى الوحدات؛ من شقق وحجرات وأفنية وردهات؛ إلخ. لقد هبطت ارتفاعات الأسقف، ومالت الحجرات إلى الضيق، وعلى حد تعبير الفنان، فقد «ولَّى العصر الذي كانت البناية فيه مسئولةً وحدها عن راحة سكانها» (كل أبناء الرب، ٣٨).
•••
البيت في القرية يختلف عن البيت في المدينة؛ لأن كلًّا منهما يحمل خصائص مختلفة، تعكس الواقع المحيط به: البيئة الاجتماعية والثقافية التي ينتمي إليها أصحابه. وغالبًا، فإن بيت العمدة وحده كان يختلف عن بقية بيوت القرية، فهو مبني بالطوب الأحمر، ومكون من طابقين، وأمامه حديقة صغيرة. أما بيوت القرية فهي طينية واطئة، منكفئة فوق الأرض، نوافذها [طاقاتها] قِطَع من الخشب الصغير، أو من أجولة قديمة متآكلة (البيوت). والاستراحة عبارة عن مبنًى خارج سور الشركة، مؤلَّف من دورين، كل دور به شقتان، مخصَّصة لكبار زوار الشركة، ولجان الجرد الخارجية، ومحاسبي الجهاز المركزي للمحاسبات (مقام الصبا، ٥). ويصف الفنان بيت الفلاح بأنه «تراب يُجمع ويُصب عليه الماء، ويُخلط به بعض الهشيم، ثم تُسوى منه قطع متلائمة أو غير متلائمة، يضاف بعضها إلى بعض لتمتد في الفضاء، وترتفع في الجو، وتدور أو تستطيل حول رقعة ضيقة من الأرض، حتى إذا ارتفعت فبلغت القامة أو أقل من القامة، مدَّ عليها شيء من سعف النخيل، فاستقام منها بيت أو حجرة يأوي إليها البائسون من أهل القرى، فتقيهم أيسر ما ينبغي أن يتقوا من عاديات الطبيعة (خديجة). والبوسطجي عباس، في القرية التي يعمل بها في الصعيد، يطل من الشباك على بيوت واطئة متراصَّة، الفقير منها بالجالوص، والغني مُبرقَش بفُتات التبن في طوبه الني، كلها أقزام متزاحمة متلاصقة، كأنها قبيلة متوحشة، على رءوسها شعر الهمج، في تلول هشة من حطب القطن وبوص الذرة (البوسطجي). وينظر جابر إلى الصف الطويل من الأوكار الريفية التي يسميها بيوتًا بحسن نية — والتعبير للفنان — فيرى فيها بؤرًا متداعية، ذات طلاء متساقط، وشرفات خشبية معوجة، وأبوابًا فاغرة تبدو في بداية العتمة كأنها تغوص قليلًا قليلًا في تراب الطريق، يدوسها الغسَق (حيطان عالية، ٥٩).
والحق أن اختيار الفلاح للطمي الذي يُصنع منه الطوب اللبن، لم يأت اعتباطًا ولا عشوائيًّا، لكنه موصِّل رديء للحرارة، فهو لا يسخِّن في الصيف، ولا يبرِّد في الشتاء، وبالتالي فهو مناسب جدًّا لمناخ مصر (النمل الأبيض، ٨٦). أما حرص الفلاحين على أن يبنوا بيوتهم على طراز موحَّد في الشكل يعتمد على التلاصق، فلتأكيد الجماعية في الحياة، وفي مواجهة الأخطار. وهو ما يتبدَّى في التكافل الذي يُعد أهم قيم القرية المصرية.
وبيوت أبناء الصعيد — الفقراء منهم على وجه التحديد — ليس فيها شيء يمت إلى كلمة الأثاث بصلة، سوى عدد من كراسي القش، مهشَّمة بالية. أنت لا ترى إلا الأرض والجدران والفرن السماوي، بينما اعتُبر بوص الذرة الذي يغطي أرض القاعة نوعًا من السجاد (خليها على الله، ١٧٦).
ويتميز البيت النوبي بجدرانه البيضاء والصفراء الفاقعة، وواجهته المزيَّنة بأطباق الصيني المزركشة، والمصاطب الملساء العريضة الممتدة بامتداد واجهات البيوت المتلاصقة (واقعة).
وقد يظل باب البيت — الدار — في القرية مفتوحًا طول النهار، وجزءًا من أول الليل. الداخل لا يطرق الباب، وإنما يتنحنح ويبسمل ويهتف بصوت مسموع: يا ساتر. يأتي صوت من الداخل: اتفضل؛ فيدخل (أخبار عزبة المنيسي). وترْك باب الدار مفتوحًا يدل، من ناحية، على كِبَر حجم العائلة لكثرة الداخلين والخارجين، ويدل، من ناحية أخرى، على نزعة الضيافة والكرم التي تميز العائلة، ومن ثمَّ فإن إغلاق الباب من المعايب التي تؤخذ على العائلة في حالات التناحر أو الخلاف (القرية المتغيرة، ١٤١).
•••
والمصريون يحرصون — ما أمكن — على الناحية البحرية، فلها مزايا جغرافية مهمة. وإلى أواخر الثلاثينيات، كان البيت الذي يشرف على النيل تطل نوافذه على القلعة والأهرام، وهو المشهد الذي غاب بزيادة المساحات العمرانية (حمار الحكيم، ١١٤). وثمة من يفضل العيش في الطوابق العليا؛ لأنها بعيدة عن ضجيج الشارع، وضجيج السكان أنفسهم (غرفة على السطح). ويستطيع المرء تبيُّن ديانة أصحاب البيت من «التعاليق» التي توضع على واجهته، فالصليب، أو صورة المسيح مصلوبًا، تدل على مسيحية أصحاب البيت أو سكانه (الزحام، ٧٩).
والعمارات الكبيرة تسهُل فيها الخيانة، والعلاقات المحرمة عمومًا، وبخاصة إذا كان بها أكثر من عيادة طبية. يسهُل التسلل إلى الشقة في زحام الداخلين والخارجين. لا أحد يعرف أحدًا، بعكس الحال في العمارات المتوسطة والصغيرة التي يسهُل اكتشاف الأجنبي عنها (تحقيق). وقد زاد من انحسار علاقات الجيرة تخصيص الطوابق الأولى من البناية كمحلات وأسواق (خرائط للموج، ٢٢). والانتقال من بيت إلى بيت قد يكون تعبيرا عن الانتقال إلى مكانة اجتماعية أرفع أو أدنى. وكما يقول جورج ستاينر، فإن البيت رمز خارجي حي لسكانه (بين تولستوي وديستويفسكي، ١٠٥). وقد تحدد هدف الراوي — حين كبِرت شقيقاته الثلاث، وبدأ الخطَّاب يُلحُّون في طلب المواعيد — في أن يشيد بيتًا لائقًا، بعيدًا جدًّا عن البيت الذي ولد فيه، وشهد تعاساته المبكرة (بيت وقبر ووطن). وحقق محمد بك ثروة في تجارته، فانتقل من شقته المتواضعة بحي شبرا، إلى فيلا أنيقة ذات حديقة جميلة، في الزمالك (بين الحب والرجولة). وقد تكتفي الأسرة — بعد أن تواجه ظروفًا مادية قاسية — باتخاذ شقة واحدة في البيت الذي كانت تملكه بأكمله؛ توفيرًا للنفقات من ناحية، وسعيًا لزيادة الموارد المادية من ناحية ثانية (قصة حياة، ١٨). وهو ما فعلته الأسرة لمَّا أجبرتها الظروف الاقتصادية السيئة إلى الاكتفاء بسُكنى الطابق الأعلى من بيتها بالحمزاوي، وأجَّرت — لمواجهة أعباء الحياة — الطابق الأول وما يجاوره من مخازن وإسطبلات لخمس عائلات (بدور). وعندما مات جد كامل رؤبة لاظ، اقترحت الأم، مرغَمة، ترْك البيت الكبير إلى شقة صغيرة، والاستغناء عن الخدم، فيما عدا خادم صغير. وانتقلت الأسرة بالفعل إلى شقة صغيرة في الدور الأوسط من بيت قديم ذي أدوار ثلاثة بشارع القاسم المتفرع من شارع المنيل، تضم ثلاث حجرات صغيرة، فُرشت ببعض أثاث البيت القديم (السراب، ١٣٢–١٣٤). وحين أفلس شداد بك نتيجة ضياع أمواله في مضاربات البورصة، اضطرت أسرته إلى الانتقال من القصر الضخم إلى شقة متواضعة بالعباسية (السكرية، ٦٢). وبعد أن فقد عيسى الدباغ وظيفته، كان أول ما فكر فيه هو الانتقال من مسكنه الفخم إلى بيت آخر يستطيع تحمل نفقاته (السمان والخريف، ٨٠). وعندما يشيخ البيت، يباع بمبلغ مرتفع نسبيًّا، لا لقيمته الأثرية، وإنما للأرض التي بُني فوقها. وقد تقاضى عصام البقلي نصف مليون جنيه ثمنًا لبيت الأسرة العتيق الممتد بفنائه الواسع بشارع قشتمر (خطة بعيدة المدى). وقد تلجأ الحكومة إلى هدم بيت أو بضعة بيوت؛ لتوسيع شارع أو وصْلِه بشارع آخر (في الخليج المصري). وعندما يتقدم الزمن بالبيت، فإن الصغار يتزوجون ويقطنون في بيوت أخرى، والكبار يرحلون عن دنيانا، وتصبح معظم الشقق مغلقة، أو يقطنها من تبقَّى من ساكنيها، هم غالبًا من الكبار سنًّا، وتتهيأ البناية بأكملها للهدم؛ لتحل مكانها بناية أخرى جديدة (النمرة صح). وثمة بيوت قديمة، يهدمها أصحابها، ويبنون في موضعها أبراجًا سكنية للإفادة من مساحة الأرض (عبور الميدان ظهرًا، ٨). وفي الأحياء القديمة التي جُددت بناياتها، يبدو البيت القديم بين العمارات الجديدة «كاليتيم الرث الثياب في يوم العيد» (السهم الطائر).
ومع الكثافة السكانية، وما استتبعها من بناء الأبراج الأسمنتية، وزيادة تكاليف الإنشاءات، تبدَّلت الهندسة المعمارية من حيث اختفاء الخطوط الزخرفية القديمة، وضيق الشقق، وقلة عدد الحجرات، وتدني ارتفاع الأسقف (انتحار صاحب الشقة).
ترعة
يطلِق أبناء الريف على الترعة الكبيرة اسم البحر، ربما تعبيرًا عن رغبتهم المكبوتة في أن يكون لهم بحر حقيقي (عزف منفرد، يا إلهي البيت بارد). أما قناة الماء الصغيرة فاسمها «القناية» (قبض الجمر، ١٢٢) أو «الجربوع» (العيون)، تمر بين البيوت، تروي قطعًا متناثرة من الأرض التي لم تزل تُزرَع (قبض الجمر، ١٢٢). وشط الترعة فاصل بين الزراعة والماء (وليمة). وكانت زوجة الباشا تجد راحة في الجلوس تحت ظل الشجرة، جوار الترعة (رأس الشيطان، ٣٤). وتقيم الضفادع، عادةً، بجوار الترع (أول دروس التشريح).
وكانت الترع — قبل إنشاء السد العالي — تمتلئ بالماء أيامَ الفيضان، فتبدو كأنها البحر الكبير — النهر — ثم تجفُّ أيام التحاريق، فتتحول إلى بُقَع طين، يعبث فيها الأطفال وجامعو المحار والودع (ديروط الشريف، ٤٧)، أو تتحول إلى حفرة مستطيلة رخوة، يبحث فيها الأولاد عما تخلَّف من صغار السمك، فمات لانقطاع الماء عنه (الأيام، ١ / ١٢). وقد يبدو القاع عاريًا، مليئًا برِمم الحيوانات الميتة والنباتات الصغيرة، تراكمت عليها القاذورات والأسماك الميتة.
ولأن المياه النقية لم تكن قد دخلت معظم القرى، فقد كان أهلها يعانون في الحصول على ماء الشرب (وصية أمي). من هنا، فإن ملء الجرار، أو غسيل الأواني، مشهد يتكرر في كل الترع، تشارك فيه جماعات من الفتيات والنساء، على شاطئ الترعة — أو النهر — يغسلن الهدوم والطسوت والحلل النحاس وطواجن الفخار والأطباق الصفيح (حجارة بوبيللو، ٥٣، اللعبة). وربما جلس البعض على شاطئ الترعة، وغمس سنارته في مياهها ليصطاد السمك (أيام الأمل، ٧٠). ويضع باعة الترمس حمولتهم في أجولة من الخيش، يربطونها بإحكام، ويتركونها في ماء ترعة المحمودية الجاري عدةَ أيام، حتى تضيع مرارة الترمس في الماء العذب، ثم يسحب الباعة الأجولة إلى الشاطئ، ويبيعون الترمس على عربات يد صغيرة (لا أحد ينام في الإسكندرية، ١٢٥).
ويعوم المرء قليلًا في الترعة، يدعك جسمه بالطين، ويغطس ثانيةً في الماء. يظل يسبح حتى يزول الطين عن بدنه، فيصعد ثانيةً إلى البر، يجفف نفسه، ويرتدي ثيابه، ويمضي (عروس أبو الفوايد). والسباحة في الترعة هي هواية الأولاد المفضَّلة (حدث في منتصف الليل)، يلجئون إليها فرارًا من حرارة الشمس (العنب)، يتجردون من ثيابهم تحت شجرة التوت الضخمة، ثم يقذفون بأنفسهم في الترعة، يتسابقون في العوم والغطس واللعب في الماء (وقت الزوال). ويواجه المرء الذي ينزل البحر أو الترعة خطرَ الموت غرقًا ما لم يكن يجيد السباحة (يوميات نائب في الأرياف، ٢٥). كما أن العوم في الترعة يصيب المواطن المصري بأخطر الأمراض المتوطنة، وهو البلهارسيا (المسرنمون، ٣٨).
وربما جلس الأصدقاء تحت ظل شجرة، على شاطئ الترعة (الأسطورة). وكان أول لقاء بين نهيرة وفريد على شاطئ الترعة في بلدتهما شرشابة، ثم توثقت صداقتهما فيما بعد (في الظلام، ٢٣). ورعت أشجار الجميز على الترعة الطويلة لقاءات أحمد بدوي والفتاة التي أحبها (أيام الإنسان السبعة، ١٤). وقد يلجأ البعض إلى شاطئ الترعة لقضاء حاجته (بيوت وراء الأشجار، طائر غريب). لذلك فإن الاستحمام في الترعة باعث أساسي لمرض البلهارسيا الذي يمثل مشكلة قومية (عالم القصة، العدد الرابع). فهو أخطر الأمراض المتوطنة في مصر (الأبيض والأسود). وقد تُردم الترعة ويُبنى في موضعها شارع أو حي، يزدحم بالعمائر الكبيرة (أيام الإنسان السبعة، ١١٤). ويقول الفنان: «الترعة أخت الطريق لا تفارقه» (العنب).
وإذا كانت بحيرة مريوط تحصر الإسكندرية وتضغطها إلى البحر (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٢٧٧) فإن ترعة المحمودية [افتُتحت في فبراير ١٨٢١م] (مصر ولع فرنسي، ٧٠) تعد أهم الترع المتفرعة من النيل في مصر. أمر محمد علي بحفرها في ١٨١٩م، وقد استمر الحفر ٢١ سنة، مات خلالها أكثر من أربعمائة ألف مواطن، لكنها كانت عاملًا مهمًّا في ازدهار حركة النقل بين الميناء والدلتا والصعيد، واستمرت المدينة في الازدهار والناس في الازدياد (المصدر السابق، ٢٣١). ويصف الفنان ترعة المحمودية بأنها بالنهار طريق السفن والبضائع ومراسٍ للعمل، وفي الأصائل نهر للفسحة والمرح فوق الفلائك الشراعية الصغيرة وغير الشراعية، وبالليل لصوص ومهرِّبون يهاجمون السفن خلسة، يسرقون ما يستطيعون حمله، وحملات بوليسية عليهم، فيدوي الرصاص ليلةً وأخرى، والمحمودية بالليل أيضًا مثوًى للجثث، يأتون في أجولة مغلقة من الريف، ولا يصلون إلى الميناء أبدًا، تصطدم الأجولة بالقواعد الأسمنتية تحت الكباري وتتوقف» (المصدر السابق، ٢٣٢). وفي الأعياد تمتلئ ترعة المحمودية بالفلائك الملونة، المزدانة بالأعلام، يرقص البنات والشبان ويغنون فوقها (المصدر السابق، ٣٥٠).
والساقية تأخذ المياه من الترعة، تدفعه في القناية (نقوش على جبين الأيام).
تفتيش
يحدد الفنان التفتيش بأنه آلاف الأفدنة التي يملكها شخص واحد (الرصاصة). وكانت الدائرة السنية — كما يصفها قليني فهمي في مذكراته — أشبه بوزارة للزراعة تدير شئون أراضي الجناب الخديوي. وكانت تنقسم إلى تفاتيش، كل تفتيش لا يقل زمامه عن ستين ألف فدان، وربما أكثر. وبعد الاحتلال البريطاني بيعت أملاك الدائرة السنية لشركة إنجليزية (المصور، ٢٢ / ٧ / ١٩٦٦م).
تكية
التكية في اللغة التركية جمعها تكايا، ومعناها رباط الصوفية ومكان إقامتهم (سرقني الكلام)، وهي بديل لتسمية الخوانق، ومفردها خانقاه [كلمة فارسية معناها بيت العبادة، أو بيت الصوفية]، يسكنها الدراويش الأغراب الذين بلا مورد رزق، فهم يعتمدون في معيشتهم على أوقاف خُصصت للتكية. وقيل إن «تكية» تعني اعتماد المقيمين فيها على مخصصات محدَّدة. ويقول المقريزي إنها حدثت في حدود الأربعمائة للهجرة بهدف اختلاء الصوفية فيها للعبادة (خطط المقريزي، ٤ / ٢٧١). وكان يشيدها بعض الأغنياء، ويخصصون لها ريعَ وقف أو أوقاف؛ تقربًا إلى الله، فيتردد عليها الفقراء وعابرو السبيل للمبيت والأكل والشرب. سكان التكية من الدراويش، رجال الله، وملعون من يكدر صفوهم، وإن وصفها جومار بأنها «بيت مُعَد لاستضافة المسافرين والمرضى، فهم يقيمون فيها بالمجان» (وصف مدينة القاهرة وقلعة الجبل، ٨٥). وحياة التكية كلها ألغاز. إنها — كما يقول الشيخ عمر — خارج أسوار الحياة، ويفشل من يحاول معرفة أسرارها (حكايات حارتنا). إنها تشيَّد في خلاء؛ لأن أهلها ينشدون العزلة والبعد عن الدنيا والناس، وإن وجدوا أنفسهم — بامتداد العمران في قلب المباني والشوارع المزدحمة بالبشر — يضطرون إلى إغلاق الأبواب لتحقيق العزلة (المصدر السابق، ١٨٩). يصفها الفنان بأنها «صغيرة، تحدق بها الحديقة، بوابتها مغلقة عابسة، دائمًا مغلقة، والنوافذ مغلقة، فالمبنى كله غارق في البعد والانطواء والعزلة» (المصدر السابق، ٣). يلوح في الحديقة رجل ذو لحية مرسَلة وعباءة فضفاضة وطاقية مزركشة، فيهتف الأطفال: يا درويش … إن شا الله تعيش! (المصدر السابق، ٣). وكان اللجوء إلى تكية الميرغني بحي العطارين في الإسكندرية من بين ما فكر فيه شاكر المغربي حين عمَّق إحساسه بالوحشة؛ فضلًا عن تفاقم ظروفه المادية السيئة (النظر إلى أسفل، ٩). وكانت تكية الدراويش ملتقى الثوار الذين كانوا يعدُّون لقدوم الإمام الجديد؛ كي يُنهي أعوام القسوة في عهد الإمام القائم (إمام آخر الزمان، ١٠). وعندما تقرر الحكومة هدم إحدى التكايا ضمن مشروع للمرافق العامة، يتعالى الأسف والاعتراضات: «حارتنا ميمونة ببركة التكية … الخضرة والأزهار لا تُرى إلا في التكية … والأغنيات الإلهية، أين تُسمع إلا في التكية؟ … وما المكان الذي لم يُضمِر أذًى لإنسان إلا التكية؟» (حكايات حارتنا، ١٨٢). ويقول الفنان: التكية ترمز إلى العقيدة (من حوار لنجيب محفوظ مع الكاتب).
جامعة
بعد أن يعبُر المرء كوبري الجامعة، يطالعه تمثال نهضة مصر، وعلى يمينه حديقة الأورمان، وإلى اليسار حديقة الحيوان، وفي الواجهة قبة جامعة القاهرة (أغنية لم تتم) العالية (بيت الطالبات، ٦٣). إن أول ما يطالع القادم إلى الجامعة: البوابة الحديدية الشاهقة، والقبة الشهيرة، وبرج الساعة التي نسمع دقاتها في الراديو والسيارات الكثيرة (حكاية ريم الجميلة، ٥٤). وثمة مجموعات من الشباب يجلسون على الحشائش الخضراء، أسفل ساعة الجامعة (أغنية لم تتم)، وراء المكتبة، أمامهم قبة الجامعة تلمع تحت الشمس، مثل كأس خرافية مقلوبة (شرق النخيل، ٨)، يقرءون ويتناقشون، يشكِّلون عدة حلقات تنفضُّ وتتجمع وتتداخل وتنقسم كأمواج بحر لا يستقر. يبدأ النقاش بكلمة تصدر من أحد الواقفين، فيتلقَّفها أعداد من الطلبة، وربما شارك بعضهم في النقاش (أغنية لم تتم). أما بوفيه كلية الآداب فبداخله دومًا جماعاتٌ متناثرة من محترفي الحديث والنقاش في الفن والأدب والسياسة (المصدر السابق، ٧٦). الميزة الأهم التي قد يجدها بعض الطلاب في الدراسة الجامعية هي حرية دخول المحاضرات والخروج منها، لا سؤالَ عن المواظبة، ولا ملاحقةَ من المدرسين، أو من البيت؛ بعكس الحال في المدرسة الثانوية (الأفيال، ٢٨٨). وفي أيام الأزمات السياسية يتجمع الطلاب في مناقشات حادة، وقد ينقلب تجمعهم إلى مظاهرة ضخمة (في وادي الغلابة، ٥). وفي مدخل كلية الآداب، حمل الطلبة طه حسين على أكتافهم، وأجلسوه على مقعد العميد (أغنية لم تتم). الجامعة هي المدرجات والكشاكيل وملفات الأبحاث والحقائب (عسل وكستناء). وحين يحل موعد المحاضرة، فإن الطلاب يتزاحمون بحقائبهم ونظاراتهم وأذرعهم ويتصارعون على الصفوف الأولى (شخبطات). وقاعة المطالعة بمكتبة الجامعة تضم المناضد الخشبية القديمة، بُنِّية اللون، يسقط عليها الضوء من نوافذ زجاجية طويلة، تبدو منها ساعة الجامعة، وقطَع من السماء الصافية (وقفة قبل المنحدر، ٧٦).
جبل
في الجبل، تطالعنا التلال المنخفضة، ومسارب السيل القصيرة الجافة المترددة، كأنما تمتد حتى تلتقي نهايات الأفق بنهايات الأرض، والنباتات الشوكية الرمادية الحادة تظهر بين حين وآخر، ثم تختفي وراء كثبان من الرمال لا تنتهي (الطريق إلى المعتقل). وفي كهوف الجبل يشم المرء روائح بقايا الوطاويط والفئران الجبلية والثعابين والحيوانات الصغيرة، الدقيقة الحجم، تندفع عبر تلك الأنفاق الطبيعية المجهولة (ريح الجبل). والوادي يضيق في بعض مناطق الصعيد، حتى يصبح الجبل على بُعد خطوات منه، ليس بينه وبين النيل بُعد يُذكر (سيرة الشيخ نور الدين، ١٣). وكان الجبل هو المكان المفضَّل لدى الفراعنة لدفن موتاهم، ولا يزال الأمر كذلك في الزمن الحالي (الثأر). وبعض الناس يفضلون السُّكنى تحت أقدام الجبل؛ لابتعاد المكان عن الحياة في المدينة (امرأة وحيدة). وقد يخصص الإنسان المؤمن لنفسه خَلوةً في قلب الجبل، ينعزل فيها عن الناس (بئر الأحباش).
ومن فوق الجبل يرى المرء المدينة، تبدو — تحت نظره — مكشوفة بلا حجاب (تل القلزم، ٢٤). وثمة جبل المقطم يُطلُّ على دنيا الأحياء ودنيا الأموات (انكسارات دائرة في مسار رديء). وتبدو القاهرة من فوق قمة المقطم مثل خلايا النحل، بيوتًا وعمائر متلاصقة متلاحمة، تمرُق من بينها المآذن والقِباب، يغطيها ستار رمادي (السلطان). أما في الليل، فالقاهرة ترقد عند أقدام المقطم كأنها قِطع من الماس أُلقيت على رداء أسود (المستنقع، ١٥٣) ورياح الخماسين تحرك التراب المتراكم فوق جبل المقطم، توقظه، فتمتد يقظته إلى بيوت القاهرة وشوارعها (الرعاع). وقيل إن المقطم عُرف بهذا الاسم نسبةً إلى مقطم بن مصرايم. وقيل جبل المقطم لأن مقيطامًا الحكيم كان يعمل فيه الكيمياءَ في غابر الأزمان (الموسوعة الإسلامية، ٨٥١). وعندما يُطلُّ المرء من فوق الجبل على المدينة من تحته، فإن المدينة تبدو مستوية كالبساط الأخضر، والبيوت كالمربعات الصغيرة (امرأتان في امرأة، ٤٤). والواقف فوق المقطم تحديدًا يتبين القاهرةَ أمامه: القلعة وجامع ابن طولون والسيدة نفيسة والإمام الشافعي وعين الصيرة والسلطان حسن والفسطاط، ومن بعيد: الأهرامات وبرج القاهرة ومبنى التليفزيون (المزلقان)، ويبدو النيل من بعيد شريطًا يلمع في أشعة الشمس المنحدرة في الأفق، والبيوت كالدُّمى، والأشجار كالأطياف (نحن لا نزرع الشوك، ٧٨٦). والقول بأن بيوت القاهرة تتعانق في حضن المقطم لا يخلو من شاعرية (الرباط المقدس، ٧٨)، لكن ذلك الحِضن ينطوي في الحقيقة على قسوة مؤكَّدة؛ فلجبل المقطم تأثيره السلبي على القاهرة؛ طبيعته الحجرية تقذف المدينة دومًا بكميات هائلة من الأتربة، وفي الخماسين تتسلل الأتربة إلى الأعين والأنوف والآذان، وتصطبغ الأشجار والشوارع وواجهات البيوت والسيارات بدرجات تمزج الرمادي بالبني (شجرة العواصف). وفي أثناء الاحتلال البريطاني لمصر، كانت أعداد من الشبان تتعلم الرماية بالمسدسات والقذائف اليدوية في كهوف جبل المقطم (شهيد في زهرة شبابه). وثمة أناس، جماعات أو شركات، يحيَون على اقتطاع أجزاء من الجبل، ونقلها إلى المدن، وبيعها للمقاولين (يوميات نائب في الأرياف، ٤٦). والمحجر جزء من الجبل، وهو أبيض، ناصع اللون، يرتد عنه الضوء في الْتماع، والرجال مرشوقون على سفحه مربوطون من وسطهم بالحبال، في يدهم أزاميلُ يضربون بها الجبل، ويرتد الصدى من كل الأنحاء، بعضهم يغني وهو يدق، وبعضهم منغمس في عمله، لا تتأخر ضربة عن ميعادها المحدَّد (أبو فودة). وتسأل زهرة: أين جبل الطور؟ … تجيب أم حميدو: هناك … بعيد … في الحتة اللي بينفوا فيها المجرمين (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٢١٢). وكان المجرمون في أثناء الحرب العالمية الثانية يُنقلون إلى جبل الطور: «مع المجرمين الذين يهددون الأمن وسلامة البلاد زمن الحرب» (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٢٤٥).
ونتيجة لزحف العمران، فقد نشأت مناطق بين المدينة والجبل. المدينة تزحف على الجبل، تهدم أجزاءً منه، ويُبنى مكانها بيوتٌ على السفح (رائحة البرتقال، ١١١) أو تُبنى البيوت على الجبل نفسه. جبل كوم الشقافة يمتد خلف عامود السواري، وتسكن فيه بعض العائلات النوبية وبعض قبائل الغجر، يبيع النوبيون عادةً الفول السوداني واللب، وينزل الغجر داخل المدينة يقرءون الكف والودع، ويبيعون الخلاخيل والغوايش وغيرها من المشغولات الفالصو (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٨٤). وناعسة — التي سُمي الجبل باسمها؛ كما يروي الفنان — كانت امرأة عربية عجوزًا، تسرح ببعض الأغنام، وتسكن كوخًا من الخشب (جبل ناعسة، الرواية). وتقول أم حميدو عن جبل ناعسة: إن سكانه جبارون، تجار مخدرات ولصوص، لا تقدر عليهم الحكومة (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٢١٣). كذلك يسكن جبلَ «العرضي» بالإسكندرية جماعاتٌ من الغجر، يربُّون فيه الماعز، ويسرحون بها (سوق عقداية، ٢٩). والجبل هو أنسب الأماكن لاختفاء المطاريد والخارجين على القانون، يشكلون مجتمعًا خاصًّا لا تفكر الحكومة في اقتحامه أو تصفيته (سيرة الشيخ نور الدين، ٣٢١). وعادة، فإن الهاربين في الجبل الشرقي في الصعيد يطلقون الرصاص من أجل الاسترشاد وتحديد المواقع؛ ليستدلوا على بعضهم البعض (يوميات ضابط في الأرياف، ٦). وكانت الأرض جزءًا من الجبل، ثم بدأت عربات النقل في حمل التراب لردم بعض المصارف والترع القريبة، أو لتعلية أرض في بيت جديد (سوق عقداية، ١٣٤). وكوم الدكة صورة من تحول الجبل إلى أرض منبسطة، فقد سُمي في العصور اليونانية القدية تل «بان»؛ باسم آلهة الحقول في الأساطير اليونانية الرومانية. وعندما قدِمت الحملة الفرنسية، زاد نابليون من ارتفاعه، وبنى فوقه حصنًا منيعًا لتُشرف قواته على حركة الحياة في المدينة. ثم جمع محمد علي [١٨١٩م] الرديم المتخلف من حفر ترعة المحمودية، وزاد من ارتفاع التل، ثم تحول كوم الدكة إلى مقر للاحتلال الإنجليزي فيما بعد. اختاروه لأنه يتوسط المدينة ويطل عليها من كل الجوانب (كوم الدكة، ٧). وقد أُزيل التلُّ بعد ثورة ١٩٥٢م. [حققت معظم مدن الوجه البحري والصعيد امتداداتها في العقود الأخيرة، ليس بالزحف على الصحراء، أو على الجبل، وإنما على الأرض الزراعية. ثمة تعبيرات طرحت نفسها خلال تلك العقود، وحتى الآن، مثل التجريف والتبوير وغيرها.]
جرن
يصف الفنان أجران القمح بأنها تمتد في اتساع، لا تكاد العين تدرك له نهاية؛ قشُّها المكوم على هيئة مستطيلات أو مكعبات أو هيئات لا شكل له، تبدو في ظلمة الليل مثل كثبان من الرمل مختلفة الأحجام (سنابل). وفي جرن القرية، يتخذ كل فلاح مكانًا يضع فيه روْثَ بهائمه، في شكل كومة، ليجعل منه سمادًا لأرضه، وتتقارب هذه الكومات حتى لا يسمح الطريق بينها لغير رجل واحد بالمرور، ولا توجد علامات على هذه الكومات، فكل فلاح يعرف كومته، ولا أحد منهم يأخذ ما للآخر (هارب من الأيام، ٢٥٦). وفي الجرن يُدرس القمح، وتُقام المآتم، ويُحتفل بطهور الأولاد، وبزواج البنات، ويستمع الرجال إلى خطب المرشحين في الانتخابات (وداع رسمي لرجل مصاب بداء البوح). كما تُقام في الجرن الليالي والأسمار وموالد الأولياء (عزف منفرد) إذا كانت مساحات الفضاء محدودة (بيعة وشروة). تمتلئ ساحة الجرن باللُّعب التي تستهوي الكبار والصغار: المراجيح، الزقازيق، ألعاب القوى، ألعاب الرماية، خيال الظل، السيرك الصغير، خيمة الراقصة. وتمتلئ جوانب الساحة بالباعة الذين تتعدد معروضاتهم (المراهقون، ١٢١). وفي الجرن، يجلس الرجال والشبان في جماعات صغيرة، يلعبون السيجة، يلتفون حول الأرض المخطَّطة بنظام. يجمع بعضهم قِطعًا صغيرة من الطوب الأخضر، ويجمع البعض الآخر قِطعًا من الطوب الأحمر (أخبار عزبة المنيسي، ٣٠٦). والجرن هو المكان المفضَّل للعب الأولاد في القرية، يلجئون إليه أواخرَ النهار وأوائل الليل (قرية أم محمد). وعندما تكون الليلة قمرية، فإن الفلاحين يفضلون قضاء أمسياتهم في الجرن (وردة).
جزيرة
هي مساحة من الأرض وسط النهر. ثمة جزيرة أم الغيلان، وهي جزيرة قديمة تقع في شمال شرقي السويس. كانت مخصَّصة لدفن الموتى، ومركزًا مهمًّا — في الوقت نفسه — للعديد من الأنشطة التي اتخذت من درب الحجاج القديم طريقًا لها في اتجاه الجزيرة للراحة، والانطلاق منها إلى منطقة الشط، ثم نخل، فوادي التيه بسيناء (تل القلزم، ١٥٢). وكان الشيخ عمران يقيم في جزيرة وسط النيل. يحيا في عريشة صغيرة على ربوة عالية في طرف الجزيرة (الشيخ عمران). ولأن الجزيرة القريبة من مدينة الإسماعيلية كانت ممتلئةً بالمئات من أشجار النخيل، فقد سُميت «جزيرة النخيل» (تمساح البحيرة، ١٨). والجزر الصغيرة المتناثرة في سطح بحيرة المنزلة تسمى «المراحات» (ثقب في الشراع). وثمة الكثير من الجُزر كانت قبل — إنشاء السد العالي — تسمى طرح النهر، تظهر أيام التحاريق، وتختفي أيام الفيضان (الجزيرة الخضراء، ١٥١).
جسر/كوبري
الجسر في اللغة هو القنطرة، وهو أيضًا ما يُعبَر عليه. وقد يسمى الجسر أو الكوبري، فوق الترعة (المعدية أو القنطرة) (يناير، ٥٤). والقنطرة بناء حجري، على الخليج، يعترض مجرى النيل، وبه بوابات تُغلق وتُفتح حسب الحاجة. وثمة جسر عبارة عن طين متخلف من شق الترعة، ارتفع سطحه بعلو مترين أو ثلاثة (خليها على الله، ٢٤٩). وقد يُصنع الكوبري/الجسر في الترع الصغيرة من شجرة مقطوعة (البئر) لمرور الناس والبهائم (صح النوم، ٦٠). والجسر يربط البلاد والناس (زيارة)، ويربط القرى بالمراكز (شقق ورجل عجوز أيضًا)، ويربط المدن بعضها ببعض، مثل كوبري الإنجليز على الرياح الدِّمياطي، أُنشئ لجلب القطن من المنوفية (سبيل الماء، ١٠)، والجسر الذي يصل بين المنصورة وطنطا (عنبر أفندي)، وفي القناطر الخيرية [لا يذكر أحد ماذا كانت تُسمى من قبل] أقام الوالي محمد علي قنطرتين كبيرتين على الدمياطي والرشيدي، ووصل بينهما وبين العمار باثنتين أصغر منهما على التوفيقي والمنوفي، ثم اثنتين أصغر على الترعتين، وأصبح السير من الشرق إلى الغرب على طريق مستوٍ ومرصوف (سبيل الماء، ٨). كما يربط الكوبري أحياء المدينة الواحدة، مثل كباري النيل التي تربط بين أحياء القاهرة شرق النيل وأحياء القاهرة غرب النيل. وكان كوبري الجلاء يُعرف باسم كوبري بديعة؛ نسبة إلى كازينو بديعة مصابني الذي كان يقع عند مشارف الكوبري. وكان اسمه قبل ذلك كوبري الإنجليز، وكوبري البحر الأعمى، وهو يربط بين الدقي وأرض الجزيرة الممتدة شمالًا إلى جزيرة الزمالك، وجنوبًا إلى جزيرة منيل الروضة (حسنى سيد لبيب: نفق المنيرة، هيئة الكتاب). ويتأمل سعد كوبري قصر النيل في عام ١٩٣٧م: الوقفة هي هي حتى الآن لآلاف تأملوا النيل من المكان نفسه، فالنهر ينساب في موجات صغيرة، وعلى صفحته عشرات الزوارق ينادي أصحابها على من يريد التنزه، ومن بعيد تجرُّه على الموج أشرعة بيضاء بشبَّان مثله وفتيات، والماء يدفع بعضه بعضًا في خفة واتساق، وينساب في انطلاق لا يفنى. وبالطبع فإن النهر والكوبري لم يتغيرا. النهر في صورته في تلك الناحية منذ مئات السنين، والكوبري في الصورة التي أنشأه بها الخديوي إسماعيل. ما تغير، أو أضيف، فحسب هو تلك المنشآت والأبنية التي توالى إنشاؤها منذ إنشاء الكوبري (الشوارع الخلفية، الرواية). وكان السراة، إلى أوائل الثلاثينيات، يمضون وقت الأصائل، للتنزه والفرجة وهم يركبون الحنطور فوق الكوبري (السراب، ١٠). ومن المفارقات أن الكوبري قد يصل بين الحي الأرستقراطي والحي الشعبي، مثل الكوبري الذي يصل بين الزمالك وإمبابة، وكوبري أبو العلا الذي يصل بين الزمالك وبولاق (دعاء وعزاء). وجسر القرية يصل بين المساكن ومعظم الأرض الزراعية (الولد والبلد)، وكان يحمي القرى من الفيضان (الإدانة، ١١). ويقف الناس فوق النيل في المساء للتمتع برائحة النهر وهوائه، ويمتلئ بعربات الترمس المضاءة (الشيخة)، بالإضافة إلى أنه مركز من مراكز السمر والسهر والأنباء، خاصة بالنسبة للشبان، في أيام الإجازات الصغيرة والكبيرة (الولد والبلد، ٣٨٨). جسر القرية هو المكان الذي يلتقي الشبان حوله. تطول الأحاديث في كل ما يفِدُ إلى الأذهان (الحرام، ٦٠)، يتناقشون ويتبادلون الحكايات والنوادر، ويمارسون الألعاب (دولت، ٢٣٢). وكان صلاح يذاكر على نور كوبري عباس (رجال ونساء ذلك الزمان، ٩٤). وقد تعطى المواعيد للقاء عند الكوبري (الأيام ١ / ٥٠). كما يجعل المحبون من الكوبري موضعًا للقاءاتهم (الشفق الدامي، ٤٨). وكانت أسعد أيام الخطيبين عندما كانا يسيران فوق الجسر، يرقُبان مياه النهر في رحلتها إلى الجنوب (آخر الليل). وعادةً، يقف أهل القرية على الجسر لاستقبال مراكب العائدين من المدينة في مناسبة فرح أو حزن (الشيخ مرسي يتزوج الأرض). وثمة الجسر الذي يشق البحيرة إلى نصفين، يزدحم يوم الجمعة أكثر من أي يوم، رجال ونساء وأطفال يرتدون كل أنواع الأزياء، وبائعو السمك بسراويلهم السوداء الواسعة وصديرياتهم المفتَّقة، وكومات الأسماك، والبيع والشراء، ورائحة الزفارة (المسافات، ٧٤). ويجلس الباعة على جانبَي الكوبري (السكاكين؛ لا أحد ينام في الإسكندرية، ٢٥٥) أو يجلسون تحته (في الماوردي) يبيعون للمارة (المصدر السابق، ٢٥٥) الكبريت وأمشاط وغاز الولاعات والعوازل الطبية للرجال والعطور الرخيصة (محاورة الجبل). ويتوه الكوبري تحت فرش ماسحي الأحذية وباعة المثلجات والأطعمة وعيدان القصب والدراجات والشباب المتسطعين على جانبيه (سبيل الماء). أما القنطرة الخشبية فعلى جانبيها باعة سجق وكبد وكلاوي وفجل وبلح أمهات، عربات سترها الخيش اتقاءً لحرارة الشمس، أو خشية المطر المتوقَّع (الكابوس الأسود). وقد تميز كوبري التاريخ بالإسكندرية بالخيام القصيرة من الخيش التي أُقيمت عليه، تحتها حلاقون، وبعض باعة الجبن القريش والقديم والفول والفلافل والخبز الشمسي، ثم اختفى هؤلاء الحلاقون والباعة من فوق الكوبري، ومن المنطقة فيما بعد، لظهور أعمال أخرى أقل جهدًا وأكثر ربحًا (صياد اليمام، ٣٠).
وكان الناس يؤمنون بأن كوبري البغيلي مسكون من زمن بثلاثة شياطين وعبْدة سوداء وقرد. وروى البعض أنه شاهدهم يخرجون من تحت الكوبري، ويلعبون الحجلة فوق سطحه. وقيل إن الشياطين يمارسون ألعابًا أخرى مخزية مع القرد أو العبدة السوداء (ديروط الشريف).
والقفز من سور الكوبري إلى النهر وسيلة البعض لإنهاء الحياة، يقذفون بأنفسهم من فوقه؛ فرارًا من الأزمات التي تحاصرهم (الجوع). وكان القفز من فوق كوبري قصر النيل هو التصرف الذي اعتزمه الراوي للفرار من المشكلات التي واجهها (شروع في انتحار). وهذا هو ما فعلتْه نفيسة، وربما حسنين أيضًا، إن لم يكن حبه لنفسه قد حال بينه وبين ذلك في اللحظة الأخيرة (بداية ونهاية، ٣٧٠)، وهو ما فعله أيضًا ذلك الذي هجرته صديقته إلى رجل آخر (متوازي المستطيلات). وحين أزمع كامل رؤبة لاظ أن ينتحر، فإن أول مكان ساقته إليه قدماه هو كوبري الملك الصالح. نظر إلى المياه تجري من تحته، وتخيل نفسه يتخبط فيها، والأمواج الهادئة الصامتة تتقاذفه بلا مبالاة، مطمئنة إلى نتيجة الصراع (السراب، ٥٩).
حارة
الحارة في اللغة هي الشارع الصغير. وكانت خطة من خطط المدينة؛ أي جزءًا من مجموع مباني المدينة، تخترقها الشوارع والدروب والأزقة، وتُقام فيها المساجد والمدارس والأسواق والحمامات وغيرها. وقد تكون الحارة مرادفة للخط، والدرب، والزقاق، وجميعها طرق مغلقة بأبواب، وتفضي إلى الشوارع. وثمة حوارٍ — أو حارات — لم تكن كذلك بالمعنى الحقيقي، لكنها تشمل حواريَ كثيرة، مثل حارة السقايين وحارة اليهود، وغيرها. والحارة عند نجيب محفوظ تأخذ أبعادًا أعمق دلالة؛ فهي قد ترمز إلى العالم كله؛ كما في أولاد حارتنا، وقد ترمز إلى المجتمع المصري؛ كما في زقاق المدق، وقد ترمز إلى المجتمع الإنساني في توالي عصوره؛ كما في الحرافيش. والحارة في الأصل جزء من مجموع المدينة، يتخللها الطرق، ويوجد بها المرافق العامة. وثمة حارات فرضت نفسها على التاريخ المصري، مثل حارة اليهود التي تطالعنا في العديد من الأعمال الإبداعية. يصفها علي مبارك في خططه بأنها «جزء من الحارة القديمة التي عُرفت بحارة زويلة في خطط المقريزي، عندما نزل القائد جوهر بالقاهرة سنة ٣٥٨ه، واختطَّ لكل قبيلة خطة عُرفت بها، ويُسلَك إليها من سوق الصيارفة، ومن خط الخرنفش عند باب سوق السمك، ومن شارع خميس العدس ودرب الصقالبة المسلوك إليه من الزقاق الذي على يسار المارِّ من شارع السكة الجديدة، من جهة قنطرة الموسكي.» وقد سُميت حارة اليهود، على سبيل المثال، بهذه التسمية، مع أنها كانت تشمل حارة اليهود الربانيين، وحارة اليهود القرائين، وشارع الصقالبة، وشارع خميس العدس، وكانت فيما مضى، كما يقول جومار، تضم عشرة معابد، بالإضافة إلى مسجد (وصف مدينة القاهرة وقلعة الجبل، ٢٠٣). ثم تغيرت التسمية فيما بعد فأصبحت تسمية الحي تعني الحارة في القديم. أما الحارة فهي الشارع الصغير المتفرع من الشارع الرئيس. ويصف أحمد أمين الحارة بأنها بقعة على يمين الشارع أو شماله، يسكنها قوم بينهم روابط. والشارع يشمل حاراتٍ ودروبًا، والحارة تشتمل على عطفات (قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية، ١٥٢). وكانت الحارة في زمن الفاطميين خطةً من خطط المدينة، يخترقها الشوارع والدروب والأزقة، ثم اقتصرت التسمية فيما بعد على الشوارع الصغيرة التي تقل في طولها عن الدرب، وربما تتفرع عنه. والشارع الضيق يوصف بأنه يكاد يكون حارة (أمهات في المنفى، ٥٢). والكثير من الحواري الضيقة لا تجد الشمسُ مكانًا لها داخلها (تل القلزم، ٧٩). والسمة الغالبة على الحارة المصرية تفشِّي الرطوبة والوحل المتراكم ومجموعات الذباب المزدحم على أنوف الأطفال وعيونهم وأفواههم، وفوق القمامة في الأركان، والقطط التي تنبش في القمامة المليئة بفضلات السمك وقشور الجمبري، والأطفال المُقْعَون بجوار الجدران، يتبرزون، والشجار الذي لا ينقطع خارج البيوت وداخلها (المعدم الثامن، الحصان). والحارة في القرية مليئة بالأطفال والدجاج، وبعض النسوة يزحمْن الطريق، والعربات الخشبية تكاد تقفل الطريق أحيانًا (مملكة نبيل). ويهبنا الفنان صورة للحياة في حارة مصرية أوائل القرن العشرين، فهي «أصوات مختلطة مصطخبة، تنحدر من عَل، وتصعد من أسفل، وتنبعث من يمين، وتنبعث من شمال، وتلتقي كلها في الجو، فكأنما كانت تنعقد فتؤلف فوق رأس الصبي سحابًا رقيقًا، لكنه متراكم قد غشَّى بعضه بعضًا. وكانت هذه الأصوات مختلفةً أشدَّ الاختلاف: أصوات النساء يختصمن، وأصوات الرجال يتنادون في عنف، ويتحدثون في رفق، وأصوات الأثقال تحط وتعتل، وصوت السَّقَّاء يتغنى ببيع الماء، وصوت الحوذي يزجر حماره أو بغله أو فرسه، وصوت العربة تئزُّ عجلاتها أزًّا، وربما شق هذا السحاب من الأصوات نهيق حمار أو صهيل فرس» (الأيام ٢ / ٤). ومع أن حارة قرمز كانت إلى الثلاثينيات تجمع بين الفقراء في بيوتهم المتواضعة، والأغنياء في قصورهم وفيلاتهم، فإن أهم ما كانت تتسم به أنها تغلق أبوابها على أسرارها، ولا تبوح بسر إلا لمن ينظر في داخلها (أم أحمد). كانت الحارة أسرة كبيرة واحدة، لا تعترف بالفوارق الطبقية (الزفة الميري). والحارة المصرية لها — فترة الصباح — صورتها التي لا تكاد تتغير. ثمة القمامة، والبيوت الخالية من الرجال، والعامرة بالنسوة الجالسات أمام الأبواب، يطبخن ويغسلن ويأكلن ويرمين بالفضلات إلى الكلاب (أيامي في المدينة). والغريب في الحارة المصرية يسترعي النظر (حكايات حارتنا، ١٦٨). وعندما تدخل سيارة إحدى الحارات الصغيرة، فإن رد الفعل التلقائي من أطفال الحارة أنهم يتجمعون حولها (العسكري الأسود).
والحارة هي ملعب الطفولة للأولاد والبنات، يلعبون البلي والسيجة ونطَّة الحبل، فإذا أذِنت مساحة الحارة لعبوا الكرة الشراب. وربما نمت العلاقة بين الشاب والفتاة منذ كانا طفلين يسكنان نفس الحارة، ويلعبان فيها (الكرنك، ٤٦). وطبيعي أن يكون من بين تطلعات أبناء الحارة الضيقة المظلمة؛ أن ينتقلوا إلى شارع واسع منير، يسير فيه الترام (منتهى الحب، ٨١)، فالحارة — كما تصفها إحسان دنيا — رخيصة، ومستقبل أعجف (الطيبات). إنها عقدة الحارة كما يسميها شارل فيال (القاهرة في الرواية المصرية). ومع أن أسرة كامل علي قد انتقلت — بإرادة الابن الأصغر حسنين — من شبرا إلى مصر الجديدة، وكان بيتها في شبرا يطل على شارع فرعي؛ عطفة وليس حارة، فإنه يمكن اعتبار ما فعله حسنين تعبيرًا عن عقدة الحارة. الحارة هنا معنًى وليست مكانًا محدَّدًا. يسأل الرجل: لماذا يدفن البشر أنفسهم في الحارات الضيقة؟ (بيت على نهر). وقد اضطر الشاب لأن يذكر عنوان ابن عمته في شارع رمسيس، بدلًا من عنوان بيته في حارة متفرعة من شارع الفجالة؛ حتى لا تفطن جهة العمل إلى رداءة المكان الذي يقيم فيه (البصقة، ٢٠). وقرر أمين أفندي — إذا رُقِّي إلى الدرجة الخامسة — أن يترك حارة الحجارة المظلمة القذرة، التي قضى فيها طفولته وشبابه، إلى الشارع العام الذي تتفرع منه الحارة، فيستأجر فيه شقة تليق بمكانته المنتظَرة (الشيخ مرسي يتزوج الأرض). وعندما تبينت الفتاتان أن نوافذ بيتهما تطل على حارة، أعلنتا الرفض والسخط والاحتجاج على ما اعتبرتاه إهانة، فالأولى يملك أبوها بيتًا يطل على شارع رئيس بالمنصورة، والثانية تعتز بأصلها التركي، فهي إذن ليست «وش حارة» (الشوارع الخلفية، ١٠). إن كل من تتحسن أحواله يترك الحارة ويرحل، فلا يبقى فيها إلا أولئك الذين جمُدت حياتهم فيها (نحن لا نزرع الشوك، ٢٣٩). وحين ارتفع رضوان الدسوقي عن الفقر رفع عائلته معه؛ بأن انتقل من حارة نصير بالعباسية إلى الزمالك (في وادي الغلابة، ٦٧). وقد يلحق التطور بالحارة، فتختفي الخرائب، وترتفع العمائر الجديدة، وتُمهد أرضها بالبلاط، وربما يحل الأسفلت محل الحجارة، وتُرشق المصابيح بالجدران، وتُفتح الدكاكين مكان الأدوار التحتانية من البيوت القديمة، بالإضافة إلى تمزق العلاقات القديمة، وفناء صلاتها الحميمة (رحلة عصر الحب، ١٧١). وكما يقول الفنان، فقد غابت المعاني في الحارة، وتغلَّظت الحياة، ضاع حتى ما كان بين أولاد البلد من رقة وتعاطف ومروءة، ضغط الحياة اليومي هو الحقيقة الوحيدة، والشر سريع الفوران، والأصوات عالية، والجدل اليومي متشابك، متفاقم، حول أسعار الخضراوات التي تحملها عربات اليد (الموجة الجديدة).
والحارة اسم أكثر من عمل لنجيب محفوظ: أولاد حارتنا، حكايات حارتنا، حارة العشاق؛ إلخ. والحارة عند محفوظ تتسع في الأغلب لتعطي بُعدًا دلاليًّا أعمق. إنها، كما أشرنا، قد تكون العالم كله، أو الوطن كله. أذكر قول الفنان لي: «الحارة هي البديل الموضوعي المفضَّل عندي، بصفتي من أولاد الحواري، ولكن كل تجربة مستقلة تمامًا.» مع ذلك، فإن الحارة ليست في كل الأحوال مطلقًا، ليست تصورًا مجردًا نهائيًّا لآلاف الحارات، بهدف أن تكون مكانًا فنيًّا للتجربة التي يريد الفنان أن يصوغها (مالك الحزين وإمبابة). الحارة كذلك معالم واضحة ومحدَّدة، بشر وحيوان وبيئة. إنها تنبض «بالألوان الفاقعة والأصوات المتفجرة، الحاضر الصاخب والماضي المتحفز، النظرات المحملقة والقهقهات المحتشرجة. نداءات الحرف المختلفة بالأصوات والدقات والروائح النافذة، ومهرجان الأزياء من البدل والقفاطين والجلابيب؛ فضلًا عن الأجساد شبه العارية» (أمشير). وثمة رائحة مياه الاستحمام تُلقي بها النسوة لتأكيد مضاجعة الأزواج لهن (لا أحد ينام في الإسكندرية، ١٣٦). وبعض الحواري تصد الداخلين إليها بطفح المجاري والرائحة الكريهة (يوم قتل الزعيم، ٣٥). وإن أثار الأولاد طفح المجاري وهم يتعاركون على كرة من القماش (الموجة الجديدة). وعمومًا، فإن لكل حارة عبقًا مميَّزًا برائحة وأنفاس سكانها (تل القلزم، ١٥). وكانت حارة العوالم متفرعة من شارع محمد علي، وهو الشارع الشهير بالأنس والفرفشة (عتريس الأكبر). أما حارة الحسيني، فقد كان من خواصها «أنها لا تعرف الهمس أو النجوى، أصواتها مرتفعة جدًّا، متوترة بين الحكمة والبدائية» (حضرة المحترم، ١٠). وبتوالي الأعوام، تغيرت حارة الحسيني؛ تهدمت ربوع كثيرة، وحلت محلها عمائر صغيرة، وشُيدت زاوية مكان موقف الحمير، وهاجر كثيرون من أبناء الحي إلى المذبح، ودخل النور والمياه البيوت، وتعالى صخب الراديو، وغابت الملاءة اللف (المصدر السابق). إن كل تلك الصور — وما أوردناه قبلها من أعمال نجيب محفوظ — تُبين عن صعوبة النظر الى الحارة في تلك الأعمال باعتبارها مطلقًا، أو تصورًا مجردًا نهائيًّا لكل الحواري المصرية.
حجرة
الحجرة غطاء للإنسان، يخلع فيها بعض ثيابه، أو يرتدي ثيابًا أخرى، فإذا كانت مُغلقة، لا يعاني فيها نظرات الآخرين، فإنه يحس أن هذه الحجرة هي عالمه، سره الشخصي، يألف زواياها وأركانها وجدرانها وسقفها ونافذتها أو شرفتها وأثاثها، واللوحات المعلَّقة على الجدران، واقتحام الضوء وانسحابه. وكانت الحجرة إلى أواخر القرن التاسع عشر تسمى «المنظرة» (قصة حياة، ٤٢).
كانت الحجرة هي العالم الذي تحرك فيه عثمان بيومي خلال سيرته الوظيفية، حجرته في حارة الحسيني، وحجرة قدرية في حارة البغاء، حجرة الأرشيف، حجرة المدير العام للزرقاء، ثم حجرة المستشفى. حتى المقبرة، على نحوٍ ما، حجرة تنتظره ليقضي فيها آخرته (حضرة المحترم، الرواية).
الحجرة في البيوت القديمة عالية السقف، شاهقة النوافذ (رائحة البرتقال، ٣٢). وحين أُضيئت الحجرة — بالمصباح الذي كانت تحمله أمينة في يدها — بدت برقعتها المربعة الواسعة، وجدرانها العالية، وسقفها بعُمُده الأفقية المتوازية (بين القصرين، ٦). وثمة حجرة تتسم بالطابع الشرقي؛ فجدرانها مزيَّنة بسجاد صغير وبسملة مذهَّبة، وتتوسط أضلعها كَنباتٌ وثيرة ذوات أغطية مختلفة الأواني، ومساند مطعَّمة بالأصداف، مموَّهة بالأمثال، وأرضها مغطَّاة بسجادة حمراء، في وسطها مِجْمرة كبيرة تحت مصباح كهربائي في قنديل (أهل الهوى). وثمة حجرة تسمى «المسروقة» ذات سقف منخفض، وتقع بين طابقين (بقية رجل). والحجرة في الأحياء الشعبية وحيدة لساكنها؛ سواء كان فردًا أو أسرة من بضعة أفراد، تُفتح نافذتها على منور داخلي، فيضطر الساكن، أو السكان، إلى إغلاق النافذة خوفًا من الأبراص والحشرات (حكايات الغريب). ويصف الفنان حجرة في القرية بأنها قد اتُّخذت من الطين، لا من الحجارة ولا من الطوب الأحمر، ولا من اللبِن، وإنما اتُّخذت من الطين الذي سُويت قِطعٌ منه تسويةً ما، وخُلط بها شيءٌ من القش والتبن، ورُصَّ بعضها إلى بعض، حتى ارتفعت في الجو ارتفاعًا ما، وأحاطت بقطعة متضائلة من الأرض، ثم أُلقي عليها شيء من سعف النخيل فأصبح لها سقفًا، ثم نُصب في فرجتها لوح ضيق قليل الطول من خشب رقيق، فأصبح لها بابًا (المعذبون في الأرض). والحجرة في البيت الصعيدي، كما يصفها الفنان، جرداء باردة بلا روح، سقفها عالٍ، «كأنك في قعر بئر، السُّفلي من جدرانها مطليٌّ بدهان أزرقَ كئيب مُحبَّب كحمو النيل، والعلوي من جصٍّ كالح سقط من الجرب بعضُه دون البعض، يرسم أشكالًا لا تثبت للعين على هيئة واحدة: بقايا وجوه خبيثة تستدير لك في حركات مفاجِئة، مرةً يمنةً ومرة يَسرة، ثم تضيع وسط أشلاء الخراب لتبرز تتجسس عليك من جديد» (خليها على الله، ١٣٨). وثمة حجرة تعبق بخليط من رائحة العرق والجبن القديم، وعلى الأرض مرتبة ينام عليها طفلان، وفي زاوية سلتان وموقد بترولي، وفي زاوية أخرى صندوق خشبي كبير، وبين حائطين مُدَّ حبل، عُلقت عليه مجموعة من الملابس، ووُضعت قُلة على النافذة الوحيدة، وبجوار الباب كنبة عليها كيزان وعلَب ورنيش فارغة وبعض قطع الزلط (الزحام). وثمة حجرة أخرى، بها حصيرة، تُرصُّ عند حافتها الشباشب والقباقيب، وسرير من الحديد، له مُلة من خشب وناموسية من حرير وردي، وصندوق للملابس مُزيَّن بالأحمر والأخضر، وطشت، ودست للغسيل (الفراش الشاغر). وقد تحددت أمنية الفلاح في حجرة رحيبة من الطوب الأحمر، يرتفع سقفها الخشبي عن الأرض أمتارًا تسمح له أن يستنشق هواءً طيبًا، ولها نوافذ يستطيع أن يتحكم في فتحها وإغلاقها، ليرى الشمس وهي تفرش على أرضها بساطًا نورانيًّا يبعث الدفء (الصبر طيب).
وحجرة النوم هي الأساسية في الشقة. وفي تقدير الفنان: إن «أحسن غرف النوم ما كانت صغيرة، كثيرة القماش، وثيرة الفراش، مُحلَّاة بالصور البديعة» (البيت). وكان أثاث حجرة النوم قديمًا، في وصف الفنان، يتألف من سرير كبير ذي عمَد نحاسية ودولاب ضخم، وكنبة طويلة مُغطاة بسجاد صغير المقْطع مختلف النقوش والألوان، بالإضافة إلى البساط الشيرازي الذي شغل أرضية الحجرة (بين القصرين، ٦). الحجرة، كما ترى، دليل المكانة الاجتماعية التي كانت تنتمي إليها أسرة أحمد عبد الجواد، فهي متسعة، ومفردات أثاثها: بساط شيرازي، وفراش كبير ذو أعمدة نحاسية، وسجاد صغير المقْطع مختلف النقوش والألوان. وقد اختارت أسرة أحمد عبد الجواد صالة البيت بالدور الأول مجلسًا للقهوة، تحيط بها حجرات نوم الإخوة والاستقبال، ورابعة صغيرة أُعدت للدرس. فُرشت الصالة بالحُصر الملونة، وقامت في أركانها الكنبات ذوات المساند والوسائد، وتدلَّى من سقفها فانوس كبير يشغله مصباح غازي في مثل حجمه. تجلس الأم على كنبة وسيطة، وبين يديها مدفأة كبيرة دُفنت كَنجةُ القهوة في جمراتها، وإلى يمينها خوان وُضعت عليه صينية صفراء صُفت عليها الفناجين، ويجلس الأبناء حيال الأم؛ سواءٌ من يتناولون القهوة أو من لا يتناولونها. تلك كانت أحب الساعات إلى نفوس الجميع، وأشدها ابتعاثًا للإحساس بالرابطة الأسرية (بين القصرين، ٦١). وقد أصبحت حجرة القُعاد فيما بعد حجرة التليفزيون (رائحة الورد وأنوف لا تشم، ٦). والسلاملك حجرة استقبال في الطابق الأرضي، هي في الأغلب لجلسات صاحب البيت وضيوفه. وكانت حجرة الاستقبال، أو الضيوف في شقة السيد محمد رضوان، أوائل القرن العشرين، مفروشةَ الأرض ببُسُط صغيرة، واصطفت في جوانبها الكنباتُ والمقاعد، وأُسدلت على الباب والمنافذ ستائرُ من مخمل رمادي باهت من القِدم، وعلى الجدار المواجه للباب عُلقت البسملة في إطار أسود كبير، بينما توسطت الجدارَ الأيمن، فوق الكنبة الرئيسية، صورةٌ للمرحوم السيد محمد رضوان، تمثله في أواسط العمر (قصر الشوق، ١٣٢-١٣٣). وحجرة الاستقبال، أو الضيوف، أو «أودة» المسافرين في البيوت المصرية؛ تقضي الأُسر فيها معظمَ أوقات اليوم، وتستقبل الزوار القريبين، يقضون أيام زيارتهم للأسرة فيها (لوحة تكاد تنطق). أما شقة فريد أفندي محمد، وهو موظف متوسط الحال، أواسطَ الثلاثينيات، فكانت مكونة من طاقم قديم ذي كنبتين أفرنجيتين وستة كراسي، ومرآة كبيرة ذات حوض مذهَّب، يحوي وردًا صناعيًّا (بداية ونهاية، ٥٥-٥٦). وحجرة الضيوف في بيوت الفقراء قد لا تزيد عن كنبتين من الخشب، فوقهما حصير؛ فضلًا عن ثلاثة مقاعد من الخيزران (بيوت وراء الأشجار، ٢١). وثمة حجرة استقبال لا تعدو كنبتين من الطراز القديم متقابلتين، وفي الوسط خوان باهت عليه منفضة سجائر، وفُرشت على أرضها حصيرة (زقاق المدق، ٢١). مفردات الحجرة: صغرها أولًا، وكنبتان من الطراز القديم، وخوان باهت، وحصيرة، بما يعني تدني المستوى الاجتماعي لأصحابها. أما في الأنتريه، وهو مستحدَث، فلأن في تاريخ أسرة الدربكلي مَن صاد الضواريَ في زمانه، وحرَصت الأسرة أن تعلق على الحائط في مواجهة باب الشقة جِلدَ أسد عظيم. كما علقت على الجدران رءوس حيوانات محنَّطة، تشي بالمعنى نفسه (زيارة). ويلحظ الفنان في حجرة الجلوس رائحة الخشب التي تحافظ عليها التهويةُ القليلة وندرة الاستعمال (الخطوبة).
والفلاحون يسمُّون حجراتهم منادر أو قاعات، عدا حجرة الضيوف التي يسمُّونها «أودة الجلوس» (قدر الغرف المقبضة، ٨). وينزل فيها الضيوف الوافدون من قرًى أخرى، للمشاركة في فرح أو مواساة (الزنزانة، ٦٤). وحجرة المسافرين، أو الضيوف، قد تقام — في الأحياء الشعبية — في أعلى السطح، بالقرب من عشش الطيور (وكالة عطية، ٣٢).
وثمة من يسكنون حجرة واحدة؛ الزوجة والزوج والأبناء، ورغم الحذر في الليل فإن الأبناء يلاحظون (سجناء لكل العصور، ٩٣). وكانت الحجرة، الشقة كما يصفها الفنان، واسعة، فُستقية اللون، يتدلى من سقفها مصباح كبير، وتطل بنافذة على الطريق، وأخرى على السطح، وغُطيت ببساط باهت منجرد، انحسرت عن حصيرة مفروشة تحته. فيها صوان قديم عكست مرآته الوجوه الكالحة، وصندوق مزركش الغطاء، استكان تحت السرير، وترابيزة حُملت بموقد كحولي وكنجة قهوة، وصورة للبسملة في إطار فضي معلَّقة بالجدار المواجه للفراش (جوار الله). وحجرة عالم الدين، أو الصوفي، تختلف في نوعية ما تضمه من أثاث؛ حجرة السيد رضوان الحسيني مثلًا كانت تحدق بأركانها الكنبات، فهو يستقبل الزائرين والمريدين، ويغطي أرضَها سجادٌ شيرازي، وتقوم في الوسط مائدة مستديرة رُصت عليها كومات الكتب، ويتدلى فوقها من السقف مصباحٌ غازي كبير [كان ذلك في أعوام الحرب العالمية الثانية]. نحن نلحظ السجادة الشيرازي على أرضية الحجرة، والكتب التي تدل على ثقافة صاحبها، والمصباح الغازي الكبير الذي يعني أن رضوان الحسيني يميل إلى القراءة. أما حجرة قارئ الكف، فهي تحتانية، مغلقة النوافذ دومًا، فهي تعيش في مغيب متصل، وتتلوى في جوها سحائب البخور (زقاق المدق، ٢١). ويصف صادق [قشتمر] حجرة المومس في كلوت بك، إلى أواخر الأربعينيات، بأنها على البلاط، بها فراش ومرآة وكنبة قديمة (قشتمر، ٣٤). والأسر المتوسطة تحرص، ما أمكن، على أن تخصص حجرة للبنات (الحفيد، ٩). أما حجرة البواب، فهي تقع غالبًا أسفل البيت (زهور بلا عطر).
والغرف المفروشة في الإسكندرية تؤجَّر في الشتاء لطلبة الجامعة. أما في الصيف فتؤجَّر للمصيفين (جدل العنف والوهن). وأما الحجرات المهجورة، فإنها تتحول في الأغلب إلى مأوًى للجان، يلوذون بها طيلة النهار، ويغادرونها حين يُقبل الليل (ماذا يقول الودع).
•••
يصف الفنان حجرة مكتب حكومي بأنها متواضعة الأثاث، بها كوة واحدة عالية، لا تجرؤ الشمس على النفاذ منها، لولا المصباح الكهربي الوحيد المتدلي من السقف، ويضاء في وضح النهار، لَمَا عُرف بياضٌ من سواد. وبالقرب من الباب الصغير، الموصل إلى غرفة رحبة بها مكتب فاخر وبعض الرياش، وُضع نضد بسيط كلح لونه، وتكدست فوقه أضابير وأوراق (وفاء). وللحجرات في الدواوين الحكومية وظائفها، فحجرة الأرشيف اسمها حجرة المحفوظات، وهي أشبه ببيت جحا، مليئة بالدواليب التي تزحم طرقاتها الضيقة (العودة من المنفى). الملفات متراكمة فوق الأرفف، التسجيل في السراكي، الحفظ في الملفات، الصادر والوارد، النمل والصراصير والعنكبوت، ورائحة الغبار المتسللة من النوافذ المغلقة (ثرثرة فوق النيل، ٥) تصعد، أو تنزل، إليها في سلالم مظلمة وكئيبة، تتصدرها صالة طويلة ضيقة غصَّت بالمكاتب الخشبية والمعدنية المتلاصقة، والمقاعد الخالية، وحملت جدرانها المدهونة حديثًا بلون أخضر قاتم، بصمات الأيدي وحواف المقاعد (ذات، ٢٣). وثمة حجرة أخرى، تقع أيضًا في بدروم المبنى، تطالع الداخل إليها قتامة ورائحة أوراق قديمة، ويُبين سطح الأرض في الخارج عند مستوى الرأس من خلال نافذة مصفَّحة. يمتد البهو، تتلاصق على جانبيه دواليب [شنون]، وصَفٌّ طويل منها يشقه شقًّا طوليًّا، بينما تناثرت مكاتب الموظفين في ثغرات بين الدواليب (حضرة المحترم، ٦).
حجرة الفرن
وتسمى حجرة المعاش، وتقع — في البيت الريفي — جنب الباب (أيام الإنسان السبعة، ٣٧). أهم ما تشتمل عليه العين المقوَّسة التي يلوح في أعماقها وهَجُ النار (بين القصرين، ١٩). وثمة صوت اللهب، وحركة الطاولات، وفرقعات العجين المخمَّر ساعة التقليب (عمر الفرح قصير). لذلك فإن حجرة الفرن لا بد أن تُعزل عن بقية البيت (بين القصرين، ١٩). وربما تُبنى فوق السطح بعيدة عن بقية حجرات البيت، وليتصاعد دخانها في السماء (الخميسي)، وحتى لا تفسد الرائحة داخل البيت (امرأة من الجنوب). وكانت حجرة الفرن في بيت أحمد عبد الجواد هي مطبخ البيت في الوقت نفسه. لو حُسب العمر الذي قضته أمينة بين جدرانها لكان عمرًا، ففيها تُعدُّ ألوان الطعام الشهية التي تقدمها كل يوم، وفي المواسم، بدءًا بالطعام العادي، وانتهاءً بخروف عيد الأضحى، وكعك العيد، وكنافة رمضان، وقطايفه؛ إلخ (بين القصرين، ١٩).
لم تكن حجرة الفرن في حياة أمينة مجرد مكان لصنع الخبز، وإذا كانت أمينة تشعر بأنها في أعلى البيت سيدة بالنيابة، وممثلة لسلطان لا تملك منه شيئًا، فهي في هذا المكان ملكة لا شريك لها في ملكها، فهذه الفرن تموت وتحيا بأمرها (بين القصرين، ٢٠).
وقاعة، أو حجرة، الفرن الكبيرة في بيت القرية بلا نافذة، وإن فُتحت طاقة في أعلى السقف، ليتسرب منها الدخان (حكاية المرأة التي ولدت تحت الجمل). توضع فوق سطح الفرن بقايا من عيدان الحطب المتكسرة، وبضعة أقراص من الجلة الناشفة (الخميس). كما توضع الطبلية الكبيرة أمام الفرن، وتُفرش حولها قطع الحصر القديمة والأجولة والزكائب، بينما طشت العجين بجوار الطبلية، وتفرش المرأة الطبلية بالردة، وتبدأ في قرص العجين قرصات، ترصها واحدة بجوار الأخرى على الطبلية (أيام الإنسان السبعة، ٦٧). ويبدأ تشغيل الفرن بإشعاله، وإلقام بوقه حفنات فصل الفول وأعواد حطب القطن (أطفال الله). تزكي المرأة النار بعود وراء عود، وتدق قرصة العجين بكفها على الطبلية حتى تدحُوَها، ثم تنقلها على مطرحتها المفروشة بالردة، وتظل تضرب وجه الرغيف براحة كفها، وتحركه على المطرحة، فتكبر مساحته شيئًا فشيئًا، حتى تكاد تغطي مساحة المطرحة، فتقذف بها في الهواء، نافخة الردة من تحته، وتلقاه مقلوبًا على المطرحة، وتضرب وجه الرغيف بكفها ثانية حتى تفيض أطرافه من حواف المطرحة، ثم تزج المطرحة على عرصة الفرن داخل النار، فينبسط رقيقًا أبيض، ثم تدب فيه الحياة، وينتفخ، وينضج، ويتورد وجهه، فتسترده المرأة بعودها الحديدي (أيام الإنسان السبعة، ٦٨). وقد يتعاون النسوة على الخبيز بصورة جماعية؛ توفيرًا للحطب (نخلة الحاج إمام). وأمام الفرن هو المكان المفضَّل لأحاديث النسوة عن الأزواج، وعن استحمامهن، وخيبة رجالهن، وإرواء الغلمة، «وعن تلك اللحظات السحرية التي يطلبن فيها من رجالهن نجمة الفجر، فيمدون أيديهم، ويقدمونها لهن على راحة اليد» (القرين). وقد يلجأ بعض أفراد الأسرة إلى الفرن للنوم عليه (السنيورة). يفرش ظهر الفرن بحصيرة يصطف عليها النائمون واحدًا جنب الآخر (قدر الغرف المقبضة، ١١). ويؤمن البعض بأن ظلام قاعة الفرن يهيئ الفرصة لوجود العفاريت (الرحى) [راجع: الفرن].
حديقة
كان القرن التاسع عشر في حياة القاهرة — والوصف للباحث الفرنسي جان أرنو — هو فترة من الحدائق؛ سواء تلك التي أقيمت حول القصور، أو الغابات، أو مزارع الفاكهة والخضراوات في ضواحي المدينة، أو الحدائق العامة والمتنزهات (أخبار الأدب، العدد ١١٧). كانت منطقة الأزبكية في القرون الإسلامية الأولى أرضًا فضاء، يغطيها ماء الفيضان سنويًّا، مما ساعد على استغلالها في الزراعة، ولانخفاض سطحها، فقد كان بها بحيرة كبيرة لا يجف ماؤها معظم العام، وكانت تقوم حولها بعض البساتين والمتنزهات (الأهرام ٣١ / ١ / ١٩٦٩م). وقد وصف الرحالة الفرنسيون منطقة الأزبكية بأنها «من أجمل مناطق القاهرة، ومنازلها من أفخم المنازل، وهي منطقة منخفضة عن القاهرة، وتنتشر بها الأشجار، وبها شوارع جميلة، ومساجدها مزيَّنة، وعندما تمتلئ بركتها بالمياه يركب السكان المراكب، ويتنزهون بها. أما الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر المتوفى عام ١٨٣٤م، فهو يصف بركة الأزبكية بأنها مسكن الأمراء، وموطن الرؤساء، ولطالما مضت لي بالمسرة فيها أيامًا وليالي، هن في سمط الأيام من يتيم اللآلي. وروى المعلم مصباح تاريخ ميدان الأزبكية لأصدقائه وزملائه من باعة الكتب في سور الأزبكية، فقد سُميَ في البداية باسم الأمير أزبك المملوكي قائد جيش السلطان قايتباي، الذي قام بتجميل منطقة الأزبكية، وجعلها حديقة القاهرة الغنَّاء منذ ستة قرون، واتصلت بها بركة الأزبكية التي يسبح فيها البجع والإوز والبط، وظلت في موضعها حتى أمر محمد علي بردمها. كانت الحديقة ذات الفدادين العشرين — منذ قيام محمد على بتجفيفها — قد تحولت إلى حديقة ضخمة برية في قلب المدينة أثناء النهار، ومكان خطر يرتاده محترفو الجريمة أثناء الليل. وكلف الخديوي إسماعيل مهندسًا فرنسيًّا بإعادة تنظيم الحديقة، فأقام على جزء منها دار الأوبرا للاحتفال بملوك أوروبا عند قدومهم إلى مصر في احتفالات افتتاح قناة السويس (سور الأزبكية، ٦). وأحاطها بسياج عالية من القضبان المعدنية، وشق فيها الطرق المحفوفة بالأرصفة، وأقام جداول ومساقط مياه وفوانيس ومغارة وكشكًا للتصوير الفوتوغرافي ومحلًّا للمشروبات وكشكًا لهواة الرماية وخيولًا خشبية (مصر: ولع فرنسي). وتحولت الأزبكية شيئًا فشيئًا إلى المكان المفضَّل للسراة والأعيان، فأصبح الحي بذلك من أرقى أحياء القاهرة، واحتوى العديد من القصور الرائعة والبساتين (الأهرام ٣١ / ١ / ١٩٦٩م)، وكانت فرقة موسيقى البوليس تعزف في كشك حديقة الأزبكية إلى أواخر العشرينيات (محمد لابس سيفه)، كلَّ جمعة ألحانًا شرقية، وكلَّ أحد ألحانًا غربية. يقول حمدي: «كشك الموسيقى في حديقة الأزبكية؛ هل مررت به بعد أن شق الطريق الجديد للحديقة؟ هل رأيته وقد ألقى ذليلًا؟ ألا تربطك به ذكريات حبيبة؟ لماذا لا تسجل ما يبعث الكشك في نفسك من مشاعر وإحساسات» (كشك الموسيقى). أصبحت الأزبكية، نتيجة لوجود الحديقة الواسعة، حيًّا يحفل بأماكن اللهو، ففي عهدي الخديوي إسماعيل بلغ عدد أماكن التجارة واللهو في الأزبكية ٨٣٣ محلًّا، في حين وصل عدد القهاوي والبارات إلى ٤٨٠، بالإضافة إلى مسرح في الهواء الطلق. ثم أصبحت الأزبكية، فيما بعد، بؤرة الحثالة والسفلة» (السكرية، ٦٦)، حتى إنه للتأكيد على حسن أخلاق شخصٍ ما، كان يقال إنه لا يعرف السهر، ولا عمره حط رِجله في الأزبكية (ابن حارة عصفور). وعند زحف الجنود الاستراليين إلى الأزبكية أعوامَ الحرب العالمية الأولى، سعيًا وراء المتعة الجسدية، هتف ياسين في حسرة: لعنة الله على الاستراليين، أين أنت يا أزبكية لأبُثَّك همي وأشجاني وأتزود منك بشيء من الصبر؟! (بين القصرين، ٨٦). وثمة حديقة طوسون بأطراف شبرا — إلى أوائل الثلاثينيات — لكنها زالت فيما بعد، وتحولت إلى منطقة سكنية (الورد الأبيض). وتعد حديقة الأسماك من الأماكن المهمة التي يتردد عليها الناس للنزهة وقضاء أيام الإجازات (مباراة شطرنج)، وإن تحددت نوعيات المترددين عليها، بنسبة كبيرة، على أبناء الطبقة البرجوازية؛ لأنها مستورة، ولأنها تقع في حي كان لا يسكنه إلا الطبقة الأرستقراطية ورجال الاحتلال ومَن لفَّ لفَّهم (حديقة الأسماك). لكن الفنان يلحظ أن الحديقة شاخت من الإهمال والإملاق؛ فلا أسماك بها، إنما هو الاسم فقط (المصدر السابق). ومن بين الأماكن التي يتردد عليها محبُّو الفُسح: الحديقة اليابانية بحلوان (ساحرة الأفاعي). وتتميز بأربعين تمثالًا لبوذا، تتوسطها بحيرة هائلة، ومظلات على شكل الأكواخ اليابانية، وممرات، وأشجار وارفة، وأحواض للزهور، وقنوات، وبحيرات، وجسور خشبية (المصدر السابق)، لكن الأولاد نفذوا من السلك الشائك حول بوذا، فهشموا أنفه، وجدَّروا خديه، وضربوه في رأسه عند الجمجمة، ولطخوا وجهه بالطين (بوذا الجديد). وفي حديقة الأورمان، يحتمي العشَّاق بالأشجار (أغنية لم تتم). وظلت الفرقة الموسيقية العسكرية تعزف، لأعوام، ألحانَ أم كلثوم وعبد الوهاب، في الحديقة التي تتوسط ميدان محطة الإسكندرية، وحولها زحام من الأطفال والشباب والوافدين إلى المدينة (لا أحد ينام في الإسكندرية، ١٠٥). أما حدائق الشلالات بالإسكندرية، فكانت هي المكان الذي اختاره طلاب المعهد المسائي لقضاء يوم الإجازة والمناقشة كذلك في القضايا العامة (النظر إلى أسفل، ١٤). وحدائق الشلالات توجد بباب شرقي، بجوار وابور المياه، تحدُّها مدرسة محمد علي الصناعية بالشاطبي، والمستشفى الأميري، والإستاد، والنادي الأوليمبي، تتوسطها بحيرة يسبح فيها أسراب الإوز الأبيض والبط (أيام الشارلستون، ٩١)، وتنحدر المياه فيها من مرتفع عالٍ إلى مجرًى منخفض يأخذ طريقه كترعة جميلة، تسبح فيها مجموعات من الطيور المائية الملونة بين شاطئين، ومن هنا استمدت الحدائق اسمها. وفي ١٨٩٠م أُنشئت حديقة الحيوان على مساحة ٥٠ فدانًا من بستان سراي الجيزة (أخبار الأدب، العدد ١١٧). وكانت حديقة الحيوان في الثلاثينيات أنسبَ الأمكنة للقاء الحبيبين، بعيدًا عن الأعين المتطفلة (العاشق المتنقل). جزيرة الشاي تطل على بركة صغيرة تتوسط حدائق الحيوان بالجيزة، تسبح في سطحها مجموعات البط والإوز والبجع (نور)، بينما يقذف الرواد قِطَع الخبز المبللة لها (بعد الأربعين، الإوزة السوداء). وحين اقترح عثمان بيومي على أُنسية رمضان أن يلتقيا في حديقة الأزبكية، اعترضت قائلةً إنها مكان مكشوف تحدق به الأعين من جميع الجهات، أما حديقة الحيوان، فهي بعيدة بما فيه الكفاية، مهجورة، خارج العمران، ممتنعة عن الرقابة، يخوض الترام إليها حقولًا وخلاء (حضرة المحترم، ٩٧). وظلت حديقة الحيوان بعد ذلك تُغري المحبين. وإذا كان رأي الرجل أن المرء يزور حديقة الحيوان مرتين: وهو طفل، ثم عندما يصبح له طفل (البصقة، ٦١)؛ فإن الحديقة تزخر دائمًا بالأطفال والمربيات والخادمات والعواطلية وباعة الترمس والمرطبات والفلاحين والصعايدة الذين يحملقون بأقصى درجات الاندهاش في وجوه الحيوانات والطيور والزواحف الحبيسة خلف الأسوار (الموت والتفاهة، ١٤٣).
والمألوف أن يفرش أفراد الأسرة سجادة على النجيل الأخضر، يضعون عليها طعامهم وشرابهم (شمعة على الطريق). وثمة من يلعبون الكرة، ومن ينامون على النجيل (الماء)، وقد يتخذ الأصدقاء من كراسيِّ الحديقة مكانًا لجلساتهم (الأشقاء الثلاثة). وربما جعل البعض من الجلوس في الحديقة العامة وسيلةً لإقامة علاقة جديدة، خاصة مع الجنس الآخر من المترددات على الحدائق، أو للقاء المحبين في الحدائق البعيدة (الزوجات العشر، ٢٣؛ تلك الأيام، ٥٣). تحتضن الفتاة بكفها ذراع الشاب، ويحضنها بعينيه (غروب). لذلك تعددت لقاءات الشاب والفتاة في أنطونيادس والنزهة والشلالات (لا أحد ينام في الإسكندرية، ١٤٤-١٤٥). والحديقة، في تسمية الفنان، «فندق المفلسين» (القاهرة منفلوط والعكس).
وكما يقول الراوي، فإن الحدائق الآن تختفي، وتتحول إلى مواقف للسيارات (المعدول والمطلوب)، أو إنها — بتأثير التكدس العمراني — قد تواجه الهدم، ليحل مكانها بيوت تستوعب المزيد من السكان (الضفيرة السوداء). وذلك ما عانته الحديقة الصغيرة بين البلوكات، يرطب هواؤها الممزوج برائحة الأشجار والأزهار وجوهَ الناس وعيونهم، ثم جفَّ الزرع، وتكسَّرت الأشجار، فلم يعد إلا بُقعٌ قليلة تتشبث باخضرارها (الفوارغ).
حقل/غيط
يصفه الفنان بأنه «ذلك العالم النباتي الواسع بسكونه ورهبته وغموضه» (الرأس). إنه تلك المساحة من الأرض الخضراء التي «لا يحدها إلا الأفق البعيد، والنسيم النقي المنعش» (وجيدة، ٩٠)، وإن دُقت حديدة في نهاية كل غيط لتحديد الفاصل بين الغيط والغيطان الأخرى (الحائط). والغيط يُقسَّم إلى أحواض صغيرة (قبض الجمر، ٥١)؛ إلى ترابيع، والترابيع القريبة محدودة المعالم، بين كل تربيعة وأخرى مصرف صغير، ثم تختفي المصارف والفواصل حتى لا يعود الإنسان يرى سوى مسطح واسع غير محدود من الظلام الأخضر الذي يضيئه عددٌ لا نهاية له من فوانيس أزهار القطن الصفراء (الحرام، ٣٠-٣١). فإذا جاء موعد حصاد القطن، ارتدى الأولاد والبنات الطواقي، وانحنوا على عيدان القطن القصيرة، يقلِّبون أوراقها الخضراء ويغنون، والخولي يلعن آباءهم، ويأمرهم بالكف عن الغناء، والسيرِ في صف واحد (الوجه القديم). مشهد حصاد القطن يكاد يكون متشابهًا: صفوف الفتيات خلف الشجيرات، تجمع كل منهن ما تقع عليه يدها من القطن، وتضعه في «عب» ثوبها الأسود، وقد لفَّت حول خَصرها حبلًا رفيعًا (منتظرات). وحقول القصب، كالبحر، قد تمتد زراعاتها حتى حافة النهر، في هيئة مساحات متصلة؛ بحيث إذا دخلها أحد تعذَّر تعقُّبُه، أو معرفة مكانه بالضبط (يوميات ضابط في الأرياف، ٤). وحقول القصب والذرة أنسب الأماكن التي يترصد فيها من يريد تصويب رصاصاته إلى السائر في الطريق الزراعي (المصدر السابق، ٦). كما تُستغل تلك الحقول لعمليات الخطف مقابل دية (ديروط الشريف، ٦١). وتدور بين عيدان الذرة، داخل الغيطان، قصصُ حب لا يراها أحد (أخبار عزبة المنيسي). وفي مجالس الغرزة، يرتشف الرجال الشاي الأسود، أو يشدون أنفاس المعسل، وتتجه نظرة المرأة السائرة إلى أحدهم كأنها — والتعبير للفنان — تُذكِّره بليلة الأمس الصاخبة في الغيط، التي التمعت فيها قطرات العرق فوق جسديهما (الفنطاس، ٢٨). وعادةً فإن الفلاحين يقضون حاجتهم في الحقل (المصدر السابق). ونحن نلحظ أن شق شارعٍ ما في منطقة ريفية، يتبعه اختفاء الخضرة، وتحل في الأرض الفضاء قِطَع الخردة والردم والنفايات (أم أحمد، صباح الورد). ولغلبة مساحات البناء على الأرض الخضراء — نتيجة لعوامل اقتصادية واجتماعية — فإن الراوي يتساءل: «أين حقول القمح بسنابلها تتمايل في خُيَلاء؟ وأين أحواض البرسيم بخضرتها المحبَّبة؟ والنخل الغزير وأشجار المانجو؟ وما هذه المباني الأسمنتية الجهمة؟ وماذا في داخل هذه البراميل المصفوفة على حافة الجرف؟ وإلى أي شيء ترمز هذه المداخن، تعكر السماء بسوادها؟» (عودة المهاجر). وقد اتسعت المدن بالزحام المتزايد، فالْتهمت الخضرة في الأطراف والضواحي، وتحولت الحقول إلى مساكن ودكاكين ومخازن ووِرش (صخور شمس يونيو).
الحمام العمومي
يمثل الحمام ضرورة للحياة الإسلامية، فالطهارة، ومن بينها الوضوء، لازمة للإنسان المسلم في حياته، وفي الصلوات الخمس تحديدًا (وصف مدينة القاهرة وقلعة الجبل، ٢١٥). وقد اعتُبرت الحمامات العمومية، في تقدير الرحَّالة الأجانب، مظهرًا حضاريًّا، يفوق ما كان موجودًا في أوروبا في الفترة نفسها (شوارع لها تاريخ، ٢٩). وكانت الحمامات العامة، أو حمامات الأسواق، تسمى في الأغلب الحمامات التركية (قصة حياة، ٣٠).
وواجهة باب الحمام مُزيَّنة بتهاويل تنتسب إلى عصور غابرة، والباب كتلة صلدة من الخشب مزينة برءوس غلاظ المسامير (أيام الإنسان السبعة، ١٨٩). يتوسط القاعة حوض كبير، به فوارة، يتصل بها غرف مُحماة بدرجات حرارة مختلفة، تفضي إلى بيت الحرارة: المغطس، والأحواض المطلية بالملاط، ونافورات المياه، والمقصورات الجانبية، والزجاج الملون، والبخار يضفي على المكان ضبابية محبَّبة. وتناثرت في الزوايا كومات الفوط والأباريق والقلل الفخارية. البخار المتصاعد من حوض الماء الساخن، في أوسط القاعة، يختلط بالروائح الزكية المتضوعة في المباخر، والقبة تعلو القاعة الواسعة، ثقوبها المستديرة ينفُذ الضوء من خلالها، تضويه قِطَع الزجاج المكسورة (زهرة الصباح، ٦٩). ويستحم المرء في البخار قبل أن يغطس في الماء، ليدلكه بعد ذلك خادم الحمام (وصف مدينة القاهرة وقلعة الجبل، ٨٥). والعروس تذهب ليلة زفافها إلى الحمام العمومي، لتهيئ نفسها للَّيلة الموعودة (مدد). وكانت الحمامات في القديم حُجة المرأة للخروج من بيتها. ويلجأ النسوة العاقرات إلى الحمام، بحثًا عن الخصوبة، كما يلجأ إليها الرجال موجوعو الظهور (المصدر السابق، ١٨٩). وحتى الآن، فإن هناك القليل من الحمامات العمومية أو الشعبية (حمام الملاطيلي). وثمة الحمام العمومي الذي تملكه الدولة على ترعة المحمودية من ناحية شارع راغب باشا، بجوار مستشفى الجمهورية. تكتب المرأة اسمها لدى موظفة تجلس خلف طاولة في المدخل. تعطي الموظفة لكل امرأة قطعة صابون، وتأخذ ملابسها لتغسلها. الماء ساخن، والحمامات بلا أبواب، وكل العاملات في الداخل من النساء (ليالي غربال، ٨٣). والحمام الشعبي يطالع القادم إليه بقضبانه الحديدية المتقاطعة، والضلف الخشبية المغلقة التي علَتْها الأتربة، وخيَّمت عليها العناكب. وفوق الباب عُلق مصباحان زجاجيان. وثمة درجات تهبط إلى ممر ضيق، يفضي إلى قاعة رحبة غير منتظمة الشكل، رُصت بها دواليب خشبية قديمة، وضِعت فيها المناشف. وعلى الجانب الأيمن للقاعة مصطبة فسيحة عريضة، أقيمت على حافتها أعمدة ضخمة مستديرة تتصل بالسقف المرتفع ذي الضلف الزجاجية. وعلى المصطبة يتمدد النُّزلاء وهم ملتفون بالمناشف، أو يسترون نصفهم الأسفل تأهبًا لدخول الحمام. عند الباب الأول من الحمام تبدو الحرارة وسطًا، حتى لا يتعرض المستحمون للبرد بانتقالهم من الحمام الحار إلى الصالة الباردة. ثم يدخل النزلاء من باب الحمام. البخار الكثيف يعتم الجو، ويحجب ضوء الفوانيس المتناثرة في أرجائه. وثمة رحبة يتوسطها إيوان رخامي مستدير في منتصفه، ويحيط بالرحبة أبواب تفضي إلى المغطس الحار، والمغطس العادي، والخلوات ذات الأحواض، والحنفيات التي يغتسل فيها النزلاء (السقا مات، ٢٨٩ وما بعدها). [راجع: حمام البيت].
حمام البيت
كان الحمام في البيوت المصرية يختلف عن الحمامات التي نعرفها الآن؛ كان جماعيًّا؛ بمعنى أنه لا يقتصر على رجل واحد، أو امرأة واحدة، وإنما يستخدمه الرجال أحيانًا، والنساء أحيانًا أخرى، رخاميًّا واسعًا عريضًا، له أقسام وأحواض وكل ما يستلزم نظافة البدن. يلف الأجسادَ دخانٌ كثيف متصاعد من المغطس، والأحجار قديمة كبيرة، مشبَّعة بالرطوبة (سفر الأمكنة). تقول الجدة: «في هذا الحمام يا ابنتي كنا نجتمع جميعًا أنا وصديقاتي كلَّ أسبوع نستحمُّ فيه معًا. كم شهِد هذا الحمام من لعِبِنا وجرينا! كم ردَّدت جدرانه أصواتَنا وضحكاتِنا! إن هذا الحمام يا ابنتي مليء بالذكريات العِذاب، مليء بالصحف الجميلة، صحف زماننا الذي لن يعود … لا أذكره إلا إذا ذكرت أسعد أيام حياتي وألذَّها، كل حزن كان يذوب فيه، وكل همٍّ كنا نتركه عند بابه، لا نعرف داخله إلا الضحك والبشر» (أحاديث جدتي، ٦٢-٦٣). ولأن المياه النقية لم تكن قد دخلت معظم البيوت، وبالذات في الأحياء الشعبية والقرى، فإن المستحمَّ كان يقف فوق كرسي من الخشب، وسط طست من النحاس الأصفر، ويرفع بكوز صغير كمياتِ المياه، ويتركها تنساب على جسده (أخبار عزبة المنيسي، ٢٤٢). ودورة المياه هي الحمام، وهي بيت الراحة (قلوب منهكة، ٨١)، وهي محل الأدب، أو بيت الأدب (عريس الغفلة)، وهي الكنيف (عودة الروح ١ / ١٣٠) [راجع: الحمام العمومي، الشقة].
الحنفية العمومية
يصف الفنان حنفية الماء العمومية بأنها كشك صغير، تربَّع فيه رجل، يمنح ويعطي، ويأمر وينهى، وهو الحاكم بأمره، في صف طويل عريض من النسوة الحاملات للصفائح، والرجال ذوي القِرَب (السقا مات، ٧). الحوض من الحجر، أو من الأسمنت، والماء يتسرب من الحوض، ويصنع قنوات (اليد الكبيرة). وثمة حنفيات عمومية بلا مسئول عنها، فالنساء، بملابسهن السوداء، يخُضْن المعارك لملء أوانيهن، عراك مستمر لا ينتهي. وقد اعتاد الراوي رؤية صراع النساء، من نافذته، حول الحنفية العمومية، طلبًا للماء كلَّ صباح (حافة الليل، ٢٠). تضع المرأة الإناء تحت الحنفية، ثم تمسك بيد الطلمبة، وتحركها إلى أعلى، فإلى أسفل، عدةَ مرات، ويصدر فم الطلمبة فحيحًا وخرخشة هواء (وكالة عطية، ٢٢)، ثم ينزل الماء النقي من الفوهة المستطيلة (صخور السماء، ١٣٢). وقد ظل ناس كثيرون يرفضون استخدام حنفية المياه، فالبحر لا ينجُس أبدًا، أما ماء الأنابيب فمن يعرف مأْتاه؟! (أيام الإنسان السبعة، ١١٤). وكان في القاهرة خمسون حنفيةً عمومية، أطلق عليها الناس تسمية «الحنفية البلاش»، فقد كان الماء الذي يحصل عليه الناس منها بلا ثمن؛ الأمر الذي أثَّر على مهنة السقايين الذين كانوا يحملون الماء من نهر النيل في قِرَب جلدية، يسبقهم النداء: ميَّه يا عطشان اشرب! (حرافيش القاهرة). ثم تحول السقا إلى جلب المياه من الحنفية العمومية، يبيعها مقابل خمسة مليمات عن كل قِرْبة ماء يجلبها. وكان حسابه مع عميلاته بالأسبوع، أو بنصف الشهر، أو بالشهر. ولم يكن ما ينقله يتجاوز عشرة قِرَب في اليوم (الزوجات العشر، ٦٢).
ثم دخلت المياه النقية معظم البيوت، وتقلصت وظيفة السقا، وغاب تردُّد النساء على حنفية المياه لأنها لم تعُدْ قائمة. أُزيلت حنفية/طلمبة المياه، وظلت ماسورة الحديد المقفولة بصامولة تحت التراب (سبيل الماء، ٧٣)، أو تحولت إلى مجرد سيقان حديدية مغروسة في الأرض (نصف عين، ٤١).
حوش
ساحة مكشوفة، يدور حولها، على شكل مربع، حجرات صغيرة أرضية مستقلة. تحتل كل أسرة واحدة منها، والمرحاض يتقاسم استعماله الجميع (النفع، الجمال، الطابع المحلي). والتسمية تطلق أيضًا على الساحة الصغيرة التي تشيد فيها العائلات قبور موتاها (قصة حب).
حوض
هو مكان لسقي الخيل والحمير والدواب الأخرى، وكان يتصل في الأغلب بأعمدة وأبنية فخمة (وصف القاهرة وقلعة الجبل، ٨٥). وقد اختفت أحواض مياه شرب الخيل من ميادين القاهرة. قلَّت أعداد الحيوان، وتكفَّل أصحابها بإروائها داخل الإسطبلات (خليها على الله، ١٢٤).
حي
•••
كان لكل حي من أحياء القاهرة شيخ يُدعى شيخ الحارة، وظيفته حفظ النظام في منطقته، والفصل في المنازعات التي تنشأ بين أهل الحي، وطرد من يُخلُّ بالأمن منهم. والقاهرة كلها مقسَّمة إلى ثمانية أقسام، يرأس كلَّ قسم منها شيخٌ يقال له «شيخ التمن» (إنجليزي يتحدث عن مصر، ٢٤). وهذه الأحياء هي: الدرب الأحمر، الخليفة، عابدين، باب الشعرية، مصر القديمة، بولاق، درب الجماميز، رملة بولاق. وقد أدى اتساع حجم القاهرة إلى نشوء أحياء في قلبها، كانت تنتسب إلى الريف من حيث نمطية الحياة والأسماء، مثل ميت عقبة، الطالبية، الترعة البولاقية، وغيرها (مدرسة المسرح، ١٩١). وكانت النقلة من الأحياء الشعبية إلى أحد الأحياء التي أنشأتها الطبقة الثرية، العباسية مثلًا، أشبه بوثبة من القرون الوسطى إلى أعتاب العصر الحديث (أم أحمد). والعديد من الأحياء سُمي بأسماء أولياء، مثل السيدة زينب، والحسين، والإمام الشافعي، وبولاق أبو العلا، وباب الشعرية؛ نسبةً إلى الإمام عبد الوهاب الشعراني.
كان موقع حي شبرا ضمن مجرى النيل زمن الفاطميين، ثم التحم بالأرض. وتسمية شبرا مأخوذة من كلمة «شبرو» أو «جبرو»، وهي كلمة قبطية معناها الكوم، أو التل. ويقع حي شبرا بجوار محطة مصر. له شريانان طويلان، شارع شبرا، وشارع الترعة البولاقية. وكانت شبرا قرية صغيرة، تشمل، في معظمها، أرضًا زراعية، ومن هنا جاءت تسمية الترعة البولاقية (شبرا، ٨). وقد أنشأ فيها محمد علي قصرًا صيفيًّا له. وظلت لأعوام طويلة مكانًا مناسبًا لنزهة السائحين والسراة، فهي إلى منتصف القرن التاسع عشر فردوس القاهرة — والوصف للأديب الرحالة البريطاني دوجلاس سلادين — فقد كان أبرز ما يميزها القصور المشيَّدة على الطراز الإيطالي، المحاطة بحدائق النباتات والزهور وأشجار النخيل والبرتقال والموز (أخبار الأدب، العدد ١١٧). وكانت شبرا هي منتزه سكان العاصمة، قبل أن يتحول الناس إلى كوبري الخديوي إسماعيل، قصر النيل، وما يليه من قصور وحدائق وطرق وقناطر ومناظر (شوارع لها تاريخ، ٥٥). كان الخديوي توفيق يذهب إليها كل مساء، يتبعه عدد من الصفوة بمركباتهم لتحيته، وللالتقاء ببعضهم البعض، «لا بقصد النزهة واستنشاق الهواء النقي؛ لأن المتنزهين لم يكونوا يستنشقون إلا غبارًا تثيره المركبات، ثم انقطع الناس عن الذهاب إلى شبرا بعد وفاته، وسكن الخديوي الحالي — عباس الثاني — في سراي القبة، فقصدوا دائرة الجزيرة، وأقاموا على ذلك بضع سنوات، والمركبات تسير بهم الهوينى ذهابًا وإيابًا حول ميدان الجزيرة، إلى أن أُصلحت سكة الأهرام، فصاروا يقصدونها بمركباتهم، ويرجعون في المساء» (فتاة الفيوم، ٥٥). وقد أنشأ الخديوي إسماعيل شارع الأهرام، قُبيل افتتاح قناة السويس في ١٨٩٦م، ليصل المدينة بالأهرام. وكان الشارع في بداياته يبدو خاليًا، وإن حاذى النهر، وأحاطت به الخضرة، واصطفت على جانبيه أشجارُ الأركالبتوس والأكاسيا، ثم زحف العمران إلى الشارع، فامتلأ بالزحام والتلوث، وتكرر الأمر في شارع موازٍ — خلقته العشوائية تمامًا — هو شارع الملك فيصل. كان الشارع، والمنطقة التي يقع في قلبها، مساحات لا نهاية لها من الغيطان، تتناثر فيها البيوت الطينية والأكواخ والبيوت ذات الطوابق القليلة، وكانت خالية من المياه، فتخرج النسوة إلى الحنفية العمومية لملء الصفائح، شق المنطقةَ شارعُ فيصل، فغيَّر طبيعة كل شيء (رحلة السمان، ١١٢). ويصف الفنان شبرا في ثلاثينيات القرن العشرين بأنها بضعة شوارع، تتناثر بها البيوت، وتتوسط أرض خلاء تكاثر فيها الحلفاء، بينما تترامى الحقول على مدى البصر (نحن لا نزرع الشوك، ٢٩٦). كانت خليطًا بين المزارع والبيوت. يشم المرء رائحة الأرض والزرع وسط الدور وعربات الترام ودكاكين البقالة والحلاقة والخضر والجزارة (المصدر السابق، ٢٩٧). وحين كان القطار يخرج من محطة العاصمة، فإنه يمضي في قلب مزارع شبرا (نساء في الطريق). ثم ما لبثت شبرا أن دَهِمها الزحام حتى اختنقت، أو كادت. وكان أحرص ما عُني به حسين شاكر باشا، للارتفاع بعائلة محمد أفندي السيد [شيء في صدري] إلى الطبقة الأعلى؛ هو مغادرة الأسرة لحي شبرا، الذي أقامت فيه طيلة حياتها إلى حي الزمالك، وهو الشيء نفسه الذي حرَص عليه حسنين كامل علي في رحلة صعوده من طبقته إلى الطبقة الأعلى، وهي الرحلة ذاتها التي قام بها كلُّ مَن حاول الانفلات من طبقته، من البيئة التي شهدت بدايات حياته …
وفي ١٤٧٦م تأسس حي الأزبكية، بناه الأمير أزبك. بدأ ببناء حظيرة للجمال، ثم أنشأ منزلًا له في الموقع نفسه، وحفر بِركة، وأحاطها بمنتزه، وقلَّده في ذلك عددٌ من وُجهاء القاهرة. وأُقيم العديد من القصور والبنايات الجميلة، لتشكل ذلك الحي الذي ما زال يسمى حتى اليوم بالأزبكية (القاهرة مدينة الفن والتجارة) [راجع: حديقة]. ومنذ بداية القرن الثامن عشر، بدأت نخبة البكوات والعسكر في الانتقال نحو الأزبكية. وفي أواخر القرن كانت الضفاف الشرقية والجنوبية والغربية محاطةً بحزام من الدور الفخمة (المصريون والفرنسيون في القاهرة، ٧٥).
ويتميز حي كلوت بك بالبواكي والأعمدة الضخمة والسلالم العريضة التي تؤدي إلى عطفاته وحواريه وأزقَّته (نحن لا نزرع الشوك، ٤٨٥). وكان الحي يسمى — إلى الخمسينيات من القرن العشرين — «الحتَّة البطالة» (المصدر السابق، ٦٥١)؛ لأنه كان حيًّا للمتعة. ويصف الفنان ساكنات بيوت الحي بأنها «صغيرة، تحفُّ بها الأسرار، وتقيم فيها نساءٌ من كل الأعمار، في مهنتهن ظلام أشدُّ حُلْكةً من ظلمات البيت الكئيب، وفي حياتهن مشابه من جدرانه الرطبة المتداعية» (عريان بين الذئاب). وحين دخل كامل رؤبة لاظ حي كلوت بك عندما كان حيًّا للمتعة، فإنه قد وجد نفسه في دنيا تتوهج بالأنوار والصواريخ، وتزدحم بالسكارى والعابثين، وتختلط بها أصوات الضحك بالشتم والصراخ، وتنبعث من جنباتها دقاتُ الدفوف، وأنغام مبتذَلة من كمان مسلول، أو بيان محشرج، وقد سطع أنفه شذا بخور طيب (السراب، ١٢٢). أما البيوت فهي قديمة، مُرصَّعة مداخلُها بالنساء من كل شكل ولون (قشتمر، ٢٤). السلالم عريضة تؤدي إلى أحد أزقة الشارع الطويل، تربت عليها امرأة تعرض ساقيها، وتدعو المارَّةَ للمعاينة (نحن لا نزرع الشوك، ٥٧٨). وثمة دكاكين غطت واجهاتها ستائر، وجلس أمامها نسوة، لا يستر أجسامَهن سوى قميص رقيق شفاف (المصدر السابق، ٥٨٠)، وعلى وجوههن زواق فاقع، وفي أعينهن ترحيب وإغراء، وبين حين وآخر يتخلف أحد السائرين عن التيار، فيسبق امرأة من الجالسات إلى الداخل (قصر الشوق، ٣٩١). فناء واسع، مستدير، تُفتح عليه أبواب كثيرة، وعلى محيط دائرته صُفَّت الأرائك والكراسي، يحتلها رجال ونساء، وفُرشت أرضه برمل أصفرَ فاقع، راحت ترقص عليه امرأة نصف عارية (السراب، ١٢٢). وتسبق المرأة الرجل إلى غرفتها. والحي عمومًا «معرض للنساء والرجال في غاية الشذوذ والسوء، فعلى مريده أن يفقِد وعيه أولًا قبل أن يُقدم عليه» (المصدر السابق، ٣٦). وكان الحي يكتظ في يوم الجمعة بالجنود الذين خرجوا في فسحة، أو تصريح ٢٤ ساعة، والذين زوَّغوا من الثُّكنات، يملئون المقاهي والبارات وحجرات البيوت (نحن لا نزرع الشوك، ٥٠٩). وفي الحرب العالمية الثانية، تدفق عساكر الإنجليز والحلفاء على شارع كلوت بك ومواخيره؛ لطلب المتعة (الأصلع).
أما حي الجمالية، فإن نشأته تعود إلى أيام الأمير جمال الدين الإستادار، الذي اغتصب أغلب الأملاك والأوقاف الواقعة في منطقة تسمى «رحبة العيد»، وما حولها، وبنى فيها مدرسة وقصرًا. وبدأ في تلك الأيام تاريخ حي الجمالية (وصف مدينة القاهرة وقلعة الجبل، ٣٧). ويقول نجيب محفوظ عن حي الجمالية: «إن هذا الحي التاريخي ظل يأسِرني داخله مدةً طويلةً من عمري، حتى بعد أن سكنتُ خارجه، وحين أردت أن أفك قيود أسْره من حول عنقي، لم يأتِ هذا ببساطة. إنك تخرج منه لترجع إليه، كأن هناك خيوطًا غير مرئية تشدك إليه. وحين تعود إليه تنسى نفسك فيه، فهذا الحي هو مصر، تفوح منه رائحة التاريخ لتملأ أنفك، وتظل أنت تستنشقها دون ملل» (أتحدث إليكم، ١٦٨). وقد أجاد محفوظ اختيار الجمالية تعبيرًا بالغ الدلالة عن القاهرة القديمة، فهو بحق «مجمع تراث القاهرة القديمة والحديثة، منذ تأسيس المعز لقاهرته» (الأهرام ٣١ / ١ / ١٩٦٩م)، ثمة الأزهر وجامع الحاكم والمشهد الحسيني وبيت القاضي والمسافرخانة وأسوار القاهرة وبواباتها وبقايا المدارس الأيوبية ومساجد المماليك ومدارسهم، بالإضافة طبعًا إلى خان الخليلي والصاغة والنحاسين. وحي الجمالية، بشوارعه وحواريه وأزقَّته وبيوته وقهاويه ومساجده وناسه على اختلاف اهتماماتهم وأوضاعهم المهنية والطبقية، يؤثر في الأحياء الأخرى ويتأثر بها. يخرج أبناؤه للعمل، وللزيارة، في أحياء القاهرة، وخارج القاهرة أيضًا، ويَفِدُ إليه تجَّار ومغامرون وسياح وطلاب زيارة لضريح الإمام الشهيد. والحسين — تحديدًا — يسيطر على تصرفات أهل الحي وأفكارهم وما يقولون. فعباس الحلو يؤكد لحميدة أن الحسين يشهد على صدقه، وعندما خالفت أمينة أوامر أحمد عبد الجواد، فلأن الدافع هو زيارة زين شباب أهل الجنة. الأمر نفسه بالنسبة لباقي الشخصيات في زقاق المدق وخان الخليلي وبين القصرين وقصر الشوق والسكرية. إنهم يحبون الحي لأنه الحي الذي يرقد فيه — في اعتقادهم — جثمان الإمام الشهيد، وهم يحرصون على أداء صلاة الجمعة في مسجده، ويُقْسمون بحياته الطاهرة وشهادته. وقد أحب الراوي مسجد الحسين والمنطقة التي حوله. يصلي، ويخرج إلى الشوارع المحيطة بالجامع، يغوص فيها بجسده، فيشعر بارتداده إلى الماضي العريق، يرى خيل الفاطميين وفرسان المماليك، ويستشعر طعم الأيام (الحب يأتي مصادفة، ٢١). ساحة الجامع ممتلئة بالجموع القادمة من كل الأركان في مصر، والناس مختلطون تشوقهم زيارة السِّبط الشهيد، وحول الأعمدة، وفي الزوايا عشرات الطلاب، فتحوا كتبهم ومصاحفهم، وانهمكوا في القراءة والتلاوة (المصدر السابق، ٢١). ويصف أحمد راشد المحامي الحيَّ — يسمى أيضًا حي الحسين؛ نسبة إلى جامع الحسين — بأنه هو القاهرة القديمة، فهو بقايا متداعية، حقيقة بأن تهز الخيال وتوقظ الجنان وتستثير الرثاء. فإذا نظرت إليها بعين العقل، لم ترَ إلا قذارة تقتضينا المحافظةُ عليها التضحيةَ بالبشر، وما أجدرَ أن نمحوها لنتيح للناس فرصة التمتع بالحياة الصحية السعيدة! فيعارضه أحمد عاكف بالقول: «ليس القديم من البقاع مجرد قذارة، فهو ذكرى قد تكون أجمل من حقائق الواقع. إنه القاهرة التي تريد أن تمحوها ذات المجد المؤثَّل. أين منها هذه القاهرة الجديدة المستعبَدة؟» (خان الخليلي، ٥١-٥٢). ويقول الأب: «فها هنا ألذُّ طعمية، وأشهى فول مدمس، وأطعم كباب، وأحسن نيفة، وأمتع كوارع، وأنفس لحمة رأس. هنا الشاي المنعدم النظير، والقهوة النادرة المثال، هنا نهار دائم وحياة متصلة ليلًا ونهارًا. هنا ابن بنت رسول الله، وكفى به جارًا ومجيرًا» (خان الخليلي ١٤). والصخب سمة أساسية في حي الحسين، مصدره، بصفة أساسية، تلك القهاوي المنتشرة في جوانبه. فالراديو يذيع أغنياته وأحاديثه بأقصى ما فيه من علو صوت، والجرسونات لا يكفُّون عن النداء والطلب في أصوات ممطوطة ملحَّنة، وأصوات الجالسين تتداخل بدق قطع النرد والدومينو (المصدر السابق، ٢٨، ٢٩). وقد أُنشئت — أعوامَ الحرب العالمية الثانية — عماراتٌ جديدة في حي الحسين، جذبت إليها سكَّانًا جددًا، من الأحياء الأخرى (المصدر السابق، ٤٦). ويقول الأب: هذا الحي في حِمى الحسين رضوان الله عليه، وهو حي الدين والمساجد، والألمان أعقل من أن يضربوا قلب الإسلام وهم يخطبون ودَّ المسلمين (المصدر السابق، ١١٧). ولتلك الأسباب جميعًا، فإن الحي يتميز بكثرة فنادقه الرخيصة (السلسلة). والخان مبنًى مربَّع كبير، يحيط بفناء، ويشبه الوكالة، وتشمل الدكاكينُ الطابق السُّفليَّ منه، وتضم الطبقات العليا المخازن والمساكن (القاهري قصص وحكايات، ٢١)، لكن خان الخليلي — لتفرُّع دروبه وشوارعه الصغيرة المتفرعة وحاراته — اكتسب اسم الحي. كان يسمى بتربة الزعفران. مساحة بين القصر الفاطمي الكبير ومشهد الحسين كانت مخصَّصة لدفن الخلفاء الفاطميين، وأزالها الأمير جهاركس الخليلي، ورمى رفات الموتى على جبل المقطم، ليبني الخان في المكان نفسه، وقد عُرف باسمه: خان الخليلي (الموسوعة المصرية، العصر الإسلامي، ٦٦٢). وحين رأى أحمد عاكف خان الخليلي، للمرة الأولى، بدت له العمارات الجديدة ممتدةً يمينًا وشمالًا، تفصل بينها طرقات وممرات لا تُحصى. وثمة مَقاهٍ ودكاكينُ متباينة لبيع الطعمية وبيع التحف والجواهر، وتيارات من الخلق لا تنقطع، ما بين مُعمَّم ومُطربَش ومُقبَّع، بينما تعلو أصوات وهتافات ونداءات (خان الخليلي، ٧). الشارع، والممرات الجانبية التي تقاطعه، تزدحم بالدكاكين: ساعاتي وخطَّاط وبائع شاي وبائع سجاد ورفَّاء وبائع تُحف؛ إلخ، فضلًا عن القهاوي التي لا يزيد حجم الواحدة منها عن دكان صغير، والصُّناع أمام الدكاكين يبدعون التحف اليدوية، والشرفات التي توصِل ما بين العمارات تحجُب الشمس في مواضع كثيرة، فتَلفَع الجوَّ بغِلالة سمراء (خان الخليلي، ٨).
ويلخص الفنان صورة الحياة في حي الدرب الأحمر، في الشوارع والحارات والأزقة الضيقة والبيوت القديمة والدكاكين الصغيرة (سوق المغربلين، ٢٣).
والخرشتف هو ما يتحجر مما قد يوقَد به في مياه الحمامات. وكان بحي الخرنفش العديد من الحمامات، تُرمى مخلفاتها؛ أي الخرشتف، ثم حُرِّف الاسم إلى الخرنفش.
وتسمية حارة اليهود لا تدل عليها، فهي تبدأ من وسط شارع الصاغة، وتتفرع في اثنتي عشرة حارةً متداخلة، متشابكة، كثيرة المنحنيات والمنعطفات، فتصل إلى الخرنفش والحسينية في الجنوب، ومن الشرق يجاورها بقية شارع الصاغة وشارع الموسكي وحي الحسين. وتطل الحارة — والتسمية، كما قلت، ليست دقيقة — على ما حولها من سبعة منافذ (حواري لها تاريخ، ١١٠).
وقد سُمي حي الغورية بهذا الاسم نسبةً إلى السلطان الغوري، آخر ملوك دولة المماليك الجراكسة. والحي يتميز ببيوته القصيرة، القديمة، ذات السقوف العالية، والأسِرَّة المرتفعة (رائحة البرتقال، ٣٣).
وكان حي الحسينية في البداية حارةً كبيرة خارج سور القاهرة، قبالة باب الفتوح (الموسوعة الإسلامية، ٨٧٧). ولفظ «الحسينية» نسبة إلى جماعة الأشراف الحسينيين الذين قدِموا من الأراضي الحجازية، وأقاموا بتلك المنطقة. ويتوسط حيَّ الحسينية من الجنوب إلى الشمال شارع الحسينية، وشارع البيومي من باب الفتوح إلى ميدان الجيش (المصدر السابق، ٨٧٧). وقد ظل الحسينية — إلى نهاية العشرينيات من القرن العشرين — مشهورًا بوجود عدد كبير من الجزارين (أم شحاتة). كما اشتهر بالفتوات الذين اقترنوا بالحي، فسُموا فتوات الحسينية (بين القصرين).
وقد عُرف عن حي الباطنية أنه «وكر الحشيش والأفيون والسيكونال» (أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور). والباطنية — أو الباطلية في التسمية الشعبية — على اسم جماعة ظهرت في عهد المعز لدين الله، طلبت من المعز في إحدى المناسبات نصيبها من العطاء، فقال: فرغ المال. فقالوا: رحنا في الباطل؛ فسُموا الباطلية! (اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة، ٢ / ١٣). وكان قاطنو الحي القدامى من طوائف الباطنية قد اعتزلوا دنياهم، يتأملون؛ مثلما فعل سكان الحي فيما بعد. والفارق في نوعية التأمل واتجاهه. والبيوت في الباطنية مريضة تتساند، أحشاؤها صغيرة بارزة، محشوة، كرحِمِ القطط، بآدميين (المصدر السابق). وتطفح رائحة العرق الخبيثة من طوب الجدران، وطعم ماء الشرب وطين الحواري. ويقف باعة الحشيش والأفيون بالمطواة والسكين على نواصي الأزقة، وفي أركان الميادين الصغيرة المُرصَّعة بقهاوي المخدرات، وأمامهم طاولات أو عربات يد صُفَّت فوقها البضاعة والموازين (سعد مكاوي: الزمن الوغد، مكتبة مصر).
أما حي العباسية، فقد كان في الأصل صحراء على الطريق المؤدي إلى قريتَي المطرية وهليوبوليس، أو واحات عين شمس. ثم أنشأ الوالي عباس الأول — سميت المنطقة باسمه — ثكناتٍ للجيش المصري في المنطقة، وشجع الناس على تعمير ما حولها بمنح الأراضي، وتشييد مستشفى ومدرسة وقصر. ثم شهدت العباسية ازدهارًا حقيقيًّا في عهد الخديوي إسماعيل، حيث أنشأ فيها العديد من المدارس العسكرية والمدنية (شوارع لها تاريخ، ٦٥-٦٦). كانت العباسية — إلى بدايات القرن العشرين — نهاية القاهرة، أو كما تقول الراوية: «أشبه بضاحية يسكنها العسكريون الذين ألِفوها أثناء خدمتهم في الجيش؛ لأنها تجاور ثكناته. فلما انتهت خدمتهم فيه، أقاموا مساكنهم هناك على أرض رخيصة الثمن؛ لبعدها عن المدينة وعن مواصلاتها. وكان الترام الأبيض، الذي يصل القاهرة بمصر الجديدة، ينساب بعد العباسية في صحراء خالية لا حياة فيها، فلا ترى العين على جانبيه إلا الرمال الممتدة؛ لتلامس السماء عند الأفق» (هكذا خلقت، ١٣-١٤). وبعد أن بنى الخديوي عباس حلمي الثاني قصرًا في العباسية، أصبحت مقصدًا للسكنى بعد الإسماعيلية والتوفيقية، توافَد عليها أناس ضاقت بهم الأحياء القديمة المكتظة (خرائط للموج، ٥٧). يقول الشيخ: «لقد اشترينا — حديثًا — منزلًا في العباسية يتكون من عدة شقق، والعباسية ضاحية جديدة كلها خضراء ومزارع، وقد نزح إليها الكثير من وجهاء القوم، بعد أن ازدحم حي سيدنا الحسين وحي السيدة» (مآذن دير مواس، ١٨). كان سكان القصور هم الأسبق إلى سكنى العباسية الشرقية، ثم انتقلت أسر الطبقة الوسطى — المستورة — إلى العباسية الغربية، سكن البعض بيوتًا صغيرة، واشترى البعض الآخر ما يناسبه. وإلى العشرينيات من القرن العشرين، كانت العباسية واحةً في قلب صحراء مترامية، كانت «مسكن الأمراء والعظماء» (نفوس مضطربة، ١٨). حي يتميز بالهدوء والحقول الممتدة والحدائق الفسيحة، وقصوره الضخمة، وشوارعه شبه الخالية، يقابلها بيوت مستقلة، بها حدائق خلفية صغيرة، من حولها الحقول. وثمة ساقية تدور بين خمائل من أشجار الحناء، وليس ثمة صوت في النهار إلا جلجلة الترام، وفي الليل إلا صيحة الخفير (المرايا، ٧٦). وكانت القصور تفتح أبوابها لسكان الحي، من أبناء الطبقات الشعبية، في رمضان والأعياد، وللجلوس في الحدائق، والحصول على اللحم والكعك، والاستماع إلى تلاوة القرآن (أم أحمد، صباح الورد). ولفترة طويلة، ظلت القصور في الشرق تقوم كالقلاع، وفي الغرب تتجاور البيوت الصغيرة ذات الحدائق الخلفية. ومن حول القصور والبيوت حقول الخضر والنخيل والحناء، وغابات التين الشوكي. وثمة هدوء عذب يلفُّ الحي كله، يعمِّقه أزيز الترام الأبيض في مساره، بين مصر الجديدة والعتبة الخضراء، وهواء الصحراء الجاف يهبُّ محمَّلًا برائحة الزهور والثمار، وعند الأصيل يطوف عازف الربابة وهو ينشد:
آمنت لك يا دهر ورجعت خنتني (قشتمر، ٥).
وكان الحي آنذاك قبيلةً كبيرة، لا يخفى فيها سر (المصدر السابق، ٧٣)، و«يعبق برائحة اليهود المتفرنجين» (حديث الصباح والمساء، ٢٩). وقد خلت العباسية لأعوام طويلة من الدكاكين؛ ذلك لأن المساكن التي شُيدت فيها كانت مساكن خاصة؛ سواء السرايات في الشرق، أو البيوت في الغرب، فلم توجد الدكاكين إلا بهدم بيت، وإقامة عمارة في موضعه (قشتمر، ٥٢). ثم أخذت السرايات في الاختفاء، وحلت مكانها العمارات الضخمة، المكتظة بالسكان والحوانيت والمقاهي ودور السينما (السكرية، ٣٠١). تساوت العباسية الشرقية والعباسية الغربية (قشتمر، ١٠٧)، وتوضحت ظاهرة القصور والفيلات المهجورة، المحاطة بأسوار حديدية وحدائق بائرة، وأشجار قتلها العطش، وزخارف اختفت معالمها تحت ركام من الغبار، وأوراق شجر يابسة، وبوابات حديدية صدِئة. وقد انعكست على الحي — مع قدوم الحرب العالمية الثانية — نتائجُ سلبية من وجهة نظر الراوي، فقد شُق شارع عريض بين شارع العباسية وشارع الملكة نازلي، واخترق الحقل القديم الذي كان يهبُ الحي جمال الريف، واختفت الخضرة. حلت بدلًا منها على جانبَي الطريق الجديدة خرابات قاحلة، استُغلت لبيع مخلفات الجيش البريطاني من سيارات كُهنة وإطارات وأدوات ميكانيكية وبطاطين مستهلَكة. ونشأ شيئًا فشيئًا حيٌّ جديد مكتظٌّ بالسكان والدكاكين والقهاوي ودور السينما والأرض الفضاء الخردة ومخلفات الحرب، يطوي السرايات والبيوت الصغيرة وروابط الأسرة الواحدة التي كانت بين أهله القدامى (المصدر السابق، ٨٠-٨١، السكرية، ٣٠١). ثم اندثرت الحقول والحدائق، وتراصَّت العمارات الهائلة، وتلاصقت، بلا لياقة أو جمال، واكتظت الشوارع الجانبية بالأطفال والصبيان، وتسابقت المركبات بأنواعها في جنون، وعلا الضجيج في الفضاء مغلفًا بالغبار، وترامت كومات القمامة كالتلال في الأركان، وانداحت مياه المجاري في المواقع الواطئة، وتواصل الغضب والعنف والسباب (أسعد الله مساءك). ويتحسر الفنان على عباسية الزمان الأول، التي ذهبت في أدراج التاريخ (قشتمر، ١١١).
أما حي الوايلية الصغرى، فهو «ذلك الحي البلدي القائم بين الأحياء الحديثة كالزائدة في جسم الإنسان العصري» (ثمن الصنف).
ويروي الفنان أن حي الظاهر كان دومًا حي اليهود، وكانت العائلات المسلمة قليلة نسبيًّا؛ لهذا فقد كان الحي يتعرض لغارات عنيفة يقوم بها فتوات الحسينية، يقذفون أهله بالطوب والحجارة، حتى يصل البوليس الذي يستغيث به اليهود من أبناء الحي. وكان التعصب الديني وكراهية اليهود والقصص الخرافية حول عادات اليهود وفتياتهم وشبانهم … كان ذلك كله هو الدافع لتك الغارات. وفي المقابل، كان اليهود ينفردون بالمسلم الذي يدخل الظاهر، يضربونه، ويذيقونه العذاب، ثم يعيدونه إلى أهله وهو عارٍ من الثياب تقريبًا. ولكن العداء التقليدي زال — بالتدريج — بعد شق شارع فاروق [الجيش فيما بعد]. أصبح حدًّا فاصلًا بين قاهرة الفاطميين والقاهرة الحديثة (الميت الحي). ومن ناحية أخرى، فقد التقى الحيَّان — باب الشعرية والظاهر — وتجاورت العمارات والدكاكين والمقاهي، وأعلن عرابي فتوة الحسينية توبته، وافتتح مقهًى كبيرًا على رأس شارع فاروق من ناحية العباسية. وقبل أن يتغير واقع الحال في الظاهر، لم تكن فتاة مسلمة تتردد على الحي إلا في مناسبات قهرية، وتحت حراسة من أخ أو قريب (أنا حرة، ٥٢-٥٣).
ويعد حي عابدين من أهم أحياء القاهرة؛ لوجود القصر الملكي في قلبه، إلى جانب إقامة الكثير من حاشية الملك وموظفيه وخَدمِه في بنايات الحي (حرافيش القاهرة، ٦). بل إن غالبية البيوت في قطاع كبير من حي عابدين يمتلكها من يعملون في السراي (المهاجر). وعابدين هو تسمية القصر الذي حمل اسم عابدين بك، اشتراه الخديوي إسماعيل ليبني القصر على موقعه (شوارع لها تاريخ، ٧)، وخطط الشوارع المحيطة بالميدان (القاهرة قصص وحكايات، ١١٧). وفي عهد الخديوي إسماعيل بدأ أبناء الطبقة الأرستقراطية في بناء القصور داخل الحي، بحيث تكونت — شيئًا فشيئًا — طبقة منعزلة عن الطبقتين الوسطى والدنيا (المصدر السابق، ١٣). واتسم عابدين — لعقود طويلة — بالأعداد الكبيرة من سكَّانه ذوي الجنسيات الأجنبية، مثل الإيطاليين والأرمن واليونانيين والفرنسيين (القاهرة قصص وحكايات، ٧٤). ثم أصبح عابدين فيما بعدُ الحيَّ المفضَّل لأبناء النوبة. يقول الأستاذ لحسين: أما زلت تعيش في غرفة السطح في عابدين؟ (الشمندورة، ٢٧٨).
أما حي باب الشعرية فهو «زحام وضوضاء وغبار النساء والرجال والصبية» (أفراح القبة، ١٠). هو — في وصف الفنان نفسه — «حي التقوى والخلاعة» (المصدر السابق، ١٠).
وكان حي القلعة مقرًّا للمعسكرات الأساسية للجيش البريطاني (تاريخ المنظمات اليسارية المصرية، ٢٩٤). ويصف الفنان حي القلعة بأنه «رغم فقر سكانه، أغنى أحياء القاهرة مشاهد، وأحفلها ذكريات، ينام والجبل يرعاه، ورمل الصحراء وِسادتُه، تاركًا قاهرة الأزبكية تحت قدميه … إذا أشرقت الشمس، فهو أول من يخلع عن نفسه غِلالة الظلام ويهرع لاستقبالها، في بقعة جزئية منه تتناثر مقابر الخلفاء متهدمة، قد صدِئ صوتُ مآذنها، ونامت أعوادها، كأنما هي ستار مأساة قديمة مضى دورها، وطال مقامها بركن المخزن فاعتلَتْها العناكب، وقديمًا كانت تستقبلها الناس بالتصفيق، تتعرف به مسجد أمير الجيوش يريد أن يُحتضَن وهو ميت كما كان يُحتضَن في حياته … وتتعرف المغاوري يختار من باطن الجبل سقفًا يستره عن أعين المصريين حينما يجمع كُسالى شعبه في تكية ذات حديقة … وتستمد رزقها من ساكني الأكواخ، وتنسى نفسك أمام مئذنة السلطان حسن المتفردة في عظمتها وبهائها؛ إلخ» (عضَّة).
وكان الحلمية هو حي الأرستقراطية في زمن ماضٍ، قبل أن يشد الأرستقراطيون الرِّحال إلى جاردن سيتي (حكاية رومانسية). وكان الحي — إلى عقود قريبة — عامرًا بالكثير من القصور ذات الحدائق، والعمد، والسلالم العريضة، الملتوية (حواء بلا آدم، ٥٢٧).
ويصف الفنان حي درب سعادة بأنه عتيق، تتزاحم دُورُه، ويتضايق طريقه، حتى لكأن الدُّور على جانبيه توشك أن تتعانق (زامر الحي).
وحين أراد الخديوي إسماعيل أن يستغل الأراضي المهجورة الواسعة، الواقعة بين الأزبكية والقصور المطلة على ضفة النيل، سُويت الأراضي وقُسمت إلى قطع قُدمت مجانًا لكل من يتعهد ببناء عمارة في القطعة المخصَّصة له بتكاليف ألفَي جنيه في الأقل. وظهر الكثير من العمارات الفاخرة والشوارع الظليلة، المتقاطعة، في زوايا مستقيمة أو منحرفة، وتتلاقى في ميدانين رئيسيين (مصر: ولع فرنسي، ١٧٦–١٧٨).
ويعد حي جاردن سيتي حي القصور والفيلات والسفارات. وصفه أحد الرَّحالة في القرن التاسع عشر بأنه «سلة أزهار انبثقت منها القصور الفخمة والدور البديعة» (أخبار الأدب، العدد ١١٧)، لكن ظهوره، كحي، بدأ في ١٩٠٦م، بعد أن بدأ تقسيم الأراضي وبيعها في منطقة قصر الدوبارة، عقب إقامة القنصلية البريطانية المطلة على النيل. شُيد العديد من البيوت والفيلات تطل على شوارع ذات تصميم مستدير على النمط الإنجليزي (التطور العمراني لمدينة القاهرة منذ نشأتها وحتى الآن، ٨٦). ويصف الفنان تعدد القصور في حي قصر النيل — وجاردن سيتي مَعْلمه الأهم — بأن لكل قصر «شكل وترتيب، فبعضه مُجلَّل بالنقوش، وبعضه بالتذهيب، وبعضه كالجبال، لا عُرِف باطنه من ظاهره، وآخر مشيَّد الأركان متسع، لا يُعرف أوله من آخره» (السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين، ٤١). وإلى بداية الستينيات، كانت البنايات غارقة في صمت أرستقراطي مَهيب، وكل ما يُسمع من أصوات إنما يأتي من العصافير والبوابين الضخام السود الطيبين الجالسين على الأرائك، يحرسون القصور، ويرتدون الجلابيب البيضاء الواسعة، والعمامات المضحكة الكبيرة (صح). إنه، على حد تعبير الفنان، عالم آخر؛ حيث يعيش الناس في هدوء، وراء الأسوار العالية، تظللها الأشجار، وزهور البوجانفيليا الحمراء، دم الغزال، البنايات الحديثة، أو القصور القديمة ذات الأعمدة الرخامية أو الحجرية على الطراز الأوروبي (الرواية، ٦٠). وكان الحبيبان قد اختارا التمشي — عصر كل يوم — في أحد شوارع جاردن سيتي الهادئة، لا يشعران إلا بوقع أقدامهما (حيث انتهى الأبطال)، ثم تخلَّى حي جاردن سيتي عما كان يتصف به من هدوء وقلة المارة، وتهدَّم — بتوالي الأعوام — معظمُ ما كان يضمه من فيلات (الأفيال، ١٧٨)، ثم تجاورت الفيلات المتناسقة والعمارات الحديثة، الجميلة (عزلة النسر، ٢٣). وشيئًا فشيئًا، أصبح حي جاردن سيتي مكتظًّا بالمكاتب والشركات والبنوك وباعة ورق التمغة والسيارات وعساكر المرور (والعصر، ٢٨).
وفى حي السيدة زينب يجتمع الفقراء والأغنياء. ويتركز الفقراء في قلعة الكبش وقلعة طولون، ويمارسون مِهنًا تافهة أو خطيرة، من حيث تأثيرها السلبي (فتحي رضوان: خط العتبة). وقد تبدَّى تأثير حي السيدة زينب على الدكتور إسماعيل، حين سافر في بعثة لدراسة الطب بإنجلترا. حمل معه إلى هناك صورة الشيخ الدرديري، خادم المسجد، وهو يودعه، وحمل معه قبقابًا للوضوء، كوصية أبيه، وسراويل عريضة تكَّتها محلاوي، وسلة ملأى بالكعك والمنين من عمل أمه وابنة عمه فاطمة النبوية؛ فضلًا عن وصية أبيه بأن يحيا في بلاد برة كما كان يحيا في السيدة زينب، حريصًا على دينه وفرائضه، وترقُّب فاطمة النبوية له. هو أحق بها، وهي أحق به. هي بنت عمه، وليس لها غيره (قنديل أم هاشم). ولما اصطدم الحي الخالص المصرية بالمجتمع الأوروبي، تسلل الشرخ إلى النفسية المتحيرة، وأحدثت الغربة تأثيراتها الحادة؛ «كان عفيًّا فغوى، صاحيًا فسَكِر، راقَص الفتيات وفسَق.» أصبح أوروبي النظرة والعادات والتقاليد، بل إنه بعد أن أمضى شبابه الباكر في حي السيدة زينب دون أن يقرُب فتاة، أسلم نفسه إلى ماري الإنجليزية تفضُّ براءته العذراء. وحين عاد من إنجلترا، كان ذهنه مشغولًا — بدلًا من كلمات أبيه الحاضَّة على التمسك بالقيم — بكلمات ماري التي طالبته بألا تستغرقه آلام مرضاه: «أنت لست المسيح ابن مريم، ومن طلب أخلاق الملائكة غلبتْه أخلاق البهائم … الإحسان أن تبدأ بنفسك … هؤلاء الناس غرقى، يبحثون عن يد تمتد إليهم، فإذا وجدوها أغرقوها معهم»؛ إلخ (المصدر السابق). وأمضَّ إسماعيلَ شعور حادٌّ بالاغتراب وهو بين أهله وأبناء حيه. لم يعد يفهمهم نفس فَهمه للأوروبيين، بل تسلل إليه حيالهم ما يشبه العداء، فواجهوه — في نظراتهم وتصرفاتهم — بعداءٍ مماثل. لقد أصبح غريبًا في وطنه. ويصف الفنان «تل العقارب» بأنه أحقر مناطق حي السيدة زينب وأحطها، بل ربما أحياء القاهرة كلها. وهو تلٌّ مرتفع عما يحيط به من المناطق، مساكنه أشبه بعشش الدجاج، وهو ملاذ الوافدين إلى القاهرة دون سند من مال أو أهل؛ فضلًا عن أنه ملجأ المشردين والفارين من القانون (الزنزانة، ١٥٨).
وقد أُطلق على حي الموسكي هذا الاسم نسبةً إلى الأمير عز الدين موسك أحد أقرباء السلطان صلاح الدين. وهو الذي أنشأ قنطرة الموسكي (شوارع لها تاريخ، ١٥٦). وظل الحي — لأعوام طويلة — مقتصرًا على الأوروبيين. ويهبنا الفنان صورة للحياة في الموسكي أعوامَ العشرينيات: الزحام «شديد كالمعتاد» (عودة الروح، ١ / ٥٨)، وثمة دكاكين على الجانبين لا عدد لها، عرضت بضائعها من الأقمشة الحرير والقطيفة والمصوغات القصبية الحقيقية، وقشر السمكة، والأحذية والشباشب والخردوات والدنتلات والبياضات والأواني النحاسية والصيني … والباعة ينادون على بضائعهم بما يُغري المشترين بالشراء، والمشترون — من ناحيتهم — يشاهدون ويجادلون ويمارسون، وتعلو الأصوات، ويكثر القسَم، ويشتد الشد والجذب؛ إلخ … (عودة الروح، ١ / ٥٨). وحتى الآن، فإن الكثير من الأسر المتوسطة الحال تفضِّل أن تشتري حاجيات أبنائها المقدِمين على الزواج من سوق الموسكي؛ لرخص أسعاره نسبيًّا (سيرة الشيخ نور الدين، ١٨٦).
وكان حي الروضة، أو منيل الروضة، يسمى جزيرة الروضة؛ لأن النيل إذا فاض أحاط بها الماء، وحال بينها وبين الفسطاط، واستقلت بنفسها. وقيل إن تسمية الروضة لأنه — كما يقول ابن المتوج — لم يكن بالديار المصرية وحدها (خطط المقريزي، ٢١ / ٦٢١-٦٢٢). وتوصف جزيرة الروضة بأنها كانت — في العصور الوسطى — عروس المتنزهات؛ لما تمتعت به من موقع فريد، ومواجهتِها لمدينة الفسطاط من الشرق، ولمدينة الجيزة من الغرب. ويتحدث جبر بك السيد عن حي منيل الروضة بأنه «حي هادئ ولطيف» (السراب، ١٨٣).
وكانت الدقي — إلى الثلاثينيات — محاطةً بالحقول (البحث عن النسيان، ٢١). ويتذكر الراوي حين كان يمشي حتى يصل إلى شارع جانبي في حي الدقي. كان الشارع ينتهي، فيما مضى، إلى حقول. وكانت به بيوت كثيرة متباعدة (وقفة قبل المنحدر، ٣٧). أما الراوية فهي تتذكر عندما كان حي الدقي يمتلئ بالغيطان الخضراء، والترع الجافة، والسواقي، تتخلل العماراتِ والمحالَّ والأسواق والطرق المرصوفة (دنيا زاد، ٣٤). وقد أصبحت الدقي، فيما بعد، مركزًا لسكنى الطلاب العرب، فضلًا عن اللاجئين السياسيين من الأقطار العربية (وردة، ٥٣).
أما العجوزة، فقد مضى العهد الذي كانت فيه مساحاتٍ من خضرة الغيطان (تباريح الوقائع والجنون، ٢٠٣). كانت — في العشرينيات من القرن العشرين — مجرد قرية، يصفها الفنان بأنها «دُمَّل في وجه القاهرة» (وجهًا لوجه). وتقع إمبابة على الضفة الغربية من النيل في مواجهة جزيرة الزمالك، في الجزء الممتد بين كوبري الزمالك وكوبري إمبابة. وتمتد شمالًا إلى صوامع الغلال وما بعدها (نفق المنيرة). قيل إن اسمها يرجع إلى نبات كان يُزرع بكثرة في هذه المنطقة على شكل أنابيب، فقيل أنبوبة أو أنابيب، وأُدغمت النون والباء فأصبحتا ميمًا، وقيل إمبابة (المصدر السابق). من أشد أحياء القاهرة كثافةً سكانية، ومركز جاذب للنازحين من الريف إلى القاهرة؛ خاصة أبناء الوجه القبلي للاعتبارات الجغرافية، ولرخص القيمة الإيجارية، وانخفاض مستوى المعيشة (المصدر السابق). وقد نزح إلى إمبابة ناس من بولاق أبي العلاء والفرنساوي والسبتية وجزيرة بدران والسيدة زينب وغيرها من أحياء القاهرة، فأتوا على كل شيء أخضر، وأقاموا بيوتًا أسمنتية (المصدر السابق).
أما حي الجزيرة، فقد أصبح حيًّا قائمًا بذاته قبل نشوب ثورة ١٩٥٢م، وكان يتميز بطبيعته الأرستقراطية الهادئة …
وقيل إن تسمية «الزمالك» أعجمية، ومعناها الأخصاص، وهي بيوت من الغاب، ومفردها «زملك». وقيل إنها جاءت من «ذي الزملك»، وهي خيام كان يقيم فيها حراس قصر الجزيرة الذي أنشأه الخديوي إسماعيل (شوارع لها تاريخ، ٧٤). وقد بدأ حي الزمالك في الإعمار عام ١٩٠٥م، عندما اشترت شركة بهلر، المنطقة الشمالية من الجزيرة، وحوَّلتها إلى حي راقٍ (التطور العمراني لمدينة القاهرة منذ نشأتها وحتى الآن، ٨٦). وحتى عام ١٩١٢م كان حي الزمالك أرضًا زراعية، تمد القاهرة بالفجل والجرجير والكرَّات. فلما أُنشئ كوبري أبو العلا في ذلك العام، شُقَّت الطرق، وقُسمت الأراضي، وشُيدت العمارات والقصور والفيلات، حتى أصبح، فيما بعد، حي السفارات والطبقة الموسرة من الوطنيين والأجانب. وظلت صورة الزمالك هي البيوت الأنيقة، والشوارع الهادئة النظيفة، والوسط الخاص (الثوب الضيق، ٢١١). ولا يخلو من دلالة أن من يتحلق حول بائع الفول هم «الخادمات والخدم» (قصر على النيل، ٧٧). وكانت عقدة عفاف [الثوب الضيق] أن أختها أمينة تسكن الزمالك؛ أرقى أحياء القاهرة في تصورها، بينما هي تسكن شبرا؛ الحي الشعبي (الثوب الضيق، ٦٨-٦٩). وكانت تقارن بين شوارع الزمالك النظيفة الهادئة، وشارع شنودة بشبرا، بكل ما فيه من باعة ومارَّة وصبية وقطط وكلاب وذباب (المصدر السابق، ٩٢). لكن الصورة طرأ عليها تغير، حتى قال الرجل: «الزمالك أصبح لا يسكنها إلا الفقراء الذين كانوا أغنياء» (جذور في الهواء).
ويصف الفنان حي فم الخليج بأنه وطني بكل مقوماته، فسكان شارع قصر العيني يُعتبرون من الطبقة الوسطى، وفي الجنوب الشعور المصبوغة والأسنان الذهبية لنساء في النوافذ واللهجة الممطوطة المرصَّعة بالإيمان، وفي الشمال نساء بلهجة أنيقة، يغلب عليها الأمر والاختصار (الجنة العذراء، ١١٧). ولأن «مصر» هي التسمية الأقدم، من قبل الفسطاط والقطائع والعسكر والقاهرة، فقد سُميت الفسطاط مصر القديمة [ومن أحياء القاهرة الحديثة «مصر الجديدة»]. ويقول الراوي عن حي مصر القديمة: «إنه كان من أهم المحطات التي استقرت بها العائلة المقدسة. ويقال إنها سكنت مغارة تقع الآن تحت كنيسة أبو سرجة، وسط حصن بابليون. ونظرًا لأهمية مصر القديمة في رحلة العائلة المقدسة، وبقائها فترةً زمنية أطولَ من غيرها، فقد أُقيمت كنائسُ كثيرة وأديرة؛ بالإضافة إلى المتحف القبطي» (حكمة العائلة المجنونة، ١٢٦). ويضيف الراوي: إن «كل واحد يعيش في مصر، مسلم أو مسيحي، لا بد أن يعرف شيئًا عن زيارة السيدة العذراء وولدها، وخاصةً من كانوا مثلنا يعيش في مصر القديمة، وهي من أكثرها ارتباطًا بالرحلة، وأكثرها امتلاءً بآثارها» (المصدر السابق، ١٢٦).
وفي زمن الجبرتي، كانت الطريق بين القاهرة وبولاق مقفرة، خالية من العمران؛ لذلك كانت بولاق تُعَد من نواحي العاصمة، ثم أصبحت، فيما بعد، قسْمًا من أقسام القاهرة [الأمر نفسه بالنسبة لمصر القديمة]. وكانت بولاق هي مرفأ القاهرة في الشمال، بينما كانت مصر القديمة مرفأها من الجنوب. وظلت بولاق، لعشرات الأعوام، ميناء القاهرة الأول، تصِلُه المراكب بحرًا من الإسكندرية ورشيد ودمياط، ومن القاهرة يلتحق الرحَّالة بالقوافل المسافرة إلى السويس، ومن السويس يأخذون السفن عبر الأهرام إلى الهند وغيرها من البلاد الآسيوية (مذكرات رحَّالة عن المصريين، ١١)، ثم تحولت بولاق إلى ضاحية مهمة للقاهرة. وكان أهل المدينة قد جعلوا منها متنزهًا، وأقاموا فيها أماكن للَّهو والغناء والسمَر والطرب (قهاوي الأدب والفن في القاهرة، ٧٧).
ومع أن حي روض الفرج يُبين عن أهميته، إلى الثلاثينيات، في قول علام ردًّا على اقتراح سيدة بأن ينتقلا إلى روض الفرج: «ومن أين النقود»؟ (نحن لا نزرع الشوك، ٤٥١)، مع ذلك، فإن روض الفرج ظل، لأعوام طويلة، مصيفَ مَن يُبهظه الرحيل إلى الإسكندرية أو رأس البر. كان أهم معالمه السهرات، والتمشي على الساحل، ومشاهدة فرقتَي الكسَّار وفوزي منيب، واستئجار مركب للتجديف (المصدر السابق، ٣٨٢). وكان زاخرًا بالملاهي والكازينوهات ووسائل السهر؛ البريء وغير البريء (نور القمر). ويصف الفنان تغيُّر ملامح روض الفرج، إبان الحرب العالمية الثانية، بأن الدُّور تزاحمت على أرضه، واختفت الرقعة الفسيحة التي كانت تمتد على مدى البصر في حديقة طوسون والحقول المحيطة بها. قسمت حقول القصب والخبيزة إلى أراضٍ، ونبتت البيوت في الأراضي كالعيدان الجافة، وأحاط بها الصغار كالنمل، وانتشرت كومات القمامة ودكاكين البقالة على النواصي (نحن لا نزرع الشوك، ٧٧٢). تحول روض الفرج إلى مرفأ لسفن الغلال، وأغلقت المسارح والكازينوهات، واحدًا بعد الآخر، حتى صارت ذكرى (نور القمر).
وقد أُنشئ حي إمبابة باعتباره حيًّا شعبيًّا؛ بحيث تجد طبقة العمال فيه مساكن رخيصة مريحة، ثم زحفت إليه جموع من الطبقة الوسطى، فصار الحي مثلًا للزحام المتكاثف (دعاء وعزاء).
وكان حدائق القبة من أرقى أحياء القاهرة، «وسكانه — من الأجانب والمصريين — من أعلى الطبقات» (الجديد ٣ / ٥ / ١٩٢٨م). وفي «إني راحلة» يُبين حدائق القبة — حتى الثلاثينيات من القرن العشرين — عن مَزارع لا آفاق لها، تُطل عليها فيلات، ويتمشى الناس فيها، ويصيدون السمك (إني راحلة، ٢٢)، ثم أصبح الحي وكأنه سوق من الأسواق العشوائية، فقدَ روحه القديمة، وشاخت ملامحه وباخت، لم يعد هناك معنًى لاسمه القديم، صار بلا حدائقَ ولا أشجارٍ ولا مساحاتٍ خضراء جميلة، مثلما كان الأمر في الماضي القديم (سواقي الوقت، ٩٦).
وقد انطلقت حركة الإنشاء في المطرية والزيتون وغيرها من الضواحي التي يمر عليها خط السكة الحديد من محطة كوبري الليمون، بعد أن أُنشئ خط سكة حديد كوبري الليمون في ١٨٨٩-١٨٩٠م (التطور العمراني لمدينة القاهرة منذ نشأتها وحتى الآن). أما الزيتون، فقد كان — إلى أعوام الحرب العالمية الثانية — بلدة بعيدة — والوصف لعباس شفة — لا يبلغها طالبها إلا بالقطار. ويضيف الرجل أنه كان «يسافر» إلى الزيتون مرة كل أسبوع في الأقل، ويعود بأحسن أنواع الحشيش! (خان الخليلي، ٢٨٨). وقد ظلت الزيتون — إلى ما بعد الثلاثينيات — ضاحية هادئة (الدرجة الرابعة) يسكنها السراة (غرام العذارى، ٨).
وكان القطار يجوس خلال الحقول في «المطرية»، بعد أن تختفي القاهرة تمامًا عن الأنظار (نور). بل إن الفنان يصف «الطرقات الضيقة الرمادية اللون التي تنيرها مصابيح غازية صغيرة، تهتز هزاتٍ موسيقيةً هادئة، كأنها تنتشي من ذلك النقيق الخافت الذي ترسله ضفادع الترعة الصغيرة ومساقي المياه التي تروي أراضيَ الضاحية وحدائقها» (المصدر السابق).
أما عزبة النخل، فقد كانت — إلى الخمسينيات — رابضة بين الحقول والأشجار، وسط السكينة الشاملة والهدوء السابغ (صوت من وراء الحجاب).
وفي ١٩٠٥م، حصل البارون إمبان على حق امتياز بناء ضاحية مصر الجديدة، ودفع سعرًا رمزيًّا، جنيهًا واحدًا للفدان، في مساحة خمسة آلاف و٩٥٢ فدانًا صحراويًّا، على بُعد حوالي عشرة كيلومترات شمال-غرب القاهرة. وقد بدأت الضاحية في الظهور عام ١٩٠٦م، بتصميم مستوحًى من الحدائق الأوروبية التي أُنشئت في نهاية القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين (التطور العمراني لمدينة القاهرة منذ نشأتها وحتى الآن، ٨٦). والمفردات الرئيسة في مصر الجديدة هي الشوارع الفسيحة والقصور والفيلات والعمارات الضخمة والتصميمات المعمارية المميَزة، والمترو (صخور شمس يونيو). جمعت بنايات الحي في هندستها المعمارية بين الأسلوبين الشرقي والغربي، وتوافقت شرفات بناياتها الحجرية مع الظروف المناخية في مصر، وشُقت فيها شوارعُ واسعة، ظليلة، بالإضافة إلى كاتدرائية كاثوليكية لاتينية، وفندق ضخم، وناد [هليوبوليس]، وربَطها المترو بقلب القاهرة (مصر: ولع فرنسي، ٢٥٢)، وكما يقول الفنان، فقد جمعت البنايات بين طُرز مختلفة: رومانية وإسلامية وهندية، في جمالية خاصة، تتمثل في السقوف العالية، والشرفات الرحبة، والبواكي المسقوفة، والمساحات الخضراء (ذات، ٢٠٦). وقد اختارت الشركة للحي — في البداية — اسم هليوبوليس، لكن الاسم بدا ثقيلًا على ألسنة العامة، فأُطلق على الحي اسم مصر الجديدة (ترام القاهرة، ٣١). وعُنيت الشركة بتسيير خط للمترو منذ ١٩١٠م، كما مدَّت خطًّا للترام، ينتهي إلى العباسية، وخطًّا آخر ينتهي إلى الزيتون (المرجع السابق، ٣٢). وإلى الخمسينيات، كان مبنى المحكمة آخر حدود مصر الجديدة من جهة الغرب، قبلها كان الموقع مدفنًا (بريد السماء)، وامتدت — بتوالي الأعوام — مساحة مصر الجديدة في كل الأنحاء، فما كان يمثل أطرافها في الستينيات، على سبيل المثال، أصبح موضع المركز في الثمانينيات، ومُدَّت خطوط المترو والأوتوبيس إلى حيث المجمعات السكنية الضخمة، التي سكن معظمها — أو حجزها — العاملون المصريون في دول الخليج (المصدر السابق، ٢٠٥).
أما حي المعادي، فقد أُنشئ في ١٩٠٧م، بعد أن حصلت إحدى الشركات على حق تقسيم الأراضي في هذه المنطقة التي تبعُد عن القاهرة ٢٧ كيلومترًا (التطور العمراني لمدينة القاهرة، ٨٦). كان الحي ضاحية، وكان ملاصقًا للصحراء التي يقصدها الناس لتمضية عطلة نهاية الأسبوع (خفقة الفجر). وقد وصفت «المقطم» حي المعادي عند إنشائه بأنه «على النمط الأوروبي»، مبانيه جميلة حديثة، وقصوره شاهقة مزخرَفة، وأَسقُفُه من الآجر [القرميد]، وشوارع نظيفة واسعة، مرصوفة بالمكدام الأبيض، ومتنزهات بديعة حاوية لكل أنواع الزهور، وتخترقها قناة يجري فيها ماء النيل، وكل منازلها تُدار بالكهرباء (ترام القاهرة، ٣٩). وقيل إن الاسم أُطلق عليها لأن الناس كانوا يعبُرون إليها بواسطة المعدِّية. وقد سكن الإنجليز المعادي أثناء فترة احتلالهم لمصر، وظل الحي موسومًا بطابَعهم حتى بعد رحيلهم عنه، وتميَّز بالهدوء وقلة التلوث البيئي (ضربة حظ). وكان معظم المباني عبارة عن فيلات أنيقة، وشوارعها تُغري بالمشي (البديل). وثمة، إلى الآن، واجهات متناثرة من الأُبهة والبيوت الحجرية (القلوب البيضاء). وكانت المعادي ضاحية من ضواحي القاهرة، ثم أصبحت أحد أقسامها، وهي الحي الوحيد الذي يسمى الكثيرُ من شوارعه بالأرقام. ونحن نتعرف إلى بعض ما يميز المعادي كحي راقٍ في «الضوء الناعم المنبعث من النجف خلف الستائر المسدلة، والموحي بلقاءات أسرية دافئة وحياة مستقرة» (ريح الجبل).
وحلوان، ضاحية تقع جنوبي القاهرة بنحو أربعين كيلومترًا. بناها عبد العزيز بن مروان والي مصر سنة ٧٠ﻫ/٦٨٩م. واتخذ لها اسم قرية من قرى العراق (الموسوعة الإسلامية، ٨٨٠). أحياها ابن مروان «متدفقة عبر المساحات الخضراء التي تشكل وسط الرمال المترامية واحةً فائقة الجمال (كلمات في المدن النائمة). تصفها الفنانة بأنها الضاحية الجميلة التي تحتوي على نبعِ مياه لا مثيل له في العالم (بيت الأقصر الكبير، ٢٢٤). وكانت حلوان في مطالع القرن العشرين — على حد تعبير الفنان — مدينة صغيرة حازت من المحاسن الكثيرة. لهِجت الألسن والصحف بحسن موقعها وطيب هوائها، فثبت لديَّ حقيقة هذه الأصوات لما فيها من أضعاف هذه المحسنات، فإنك لا ترى إلا قصورًا منظمة على طُرز واحد، خالية من الأطراف، وعن بعضها في تباعد، مؤسسة من طبقة لا انخفاض ولا ارتفاع، ملونة بألوان نافعة للبصر حسب إشارة الأطباء بالإجماع» (السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين، ٦٨). ويقول الصديق — تعليقًا على نصيحة الطبيب لصديقه [١٩١٢م] بأن يسافر من قريته في المنوفية إلى حلوان، سعيًا للاستشفاء: «لقد كنا نعرف من قديم أن من كان في مرضك يشير عليه الطبيب بالانتقال إليها، فحلوان هي أوفق «البلاد» لعلَّتك، ومياهها المعدنية فيها شفاء لك على ما أعتقد، ولم يطلب إليك الدكتور خيري السفر إليها إلا لأنه يدري بأن تلك المياه تفيدك» (الضحية، ٥). وكان إنشاء مصحة للسُّل في حلوان مبعثه هواء الضاحية النموذجي الذي «لا تستطيع ميكروبات السل أن تعيش فيه» (مجلة «الجيل»، ٢٣ / ٢ / ١٩٥٣م). ويصف الفنان حلوان أعوام الثلاثينيات بأنها «الرخيصة النائية، المغموسة في السَّكينة والتأمل، مصحة الأعصاب المتوترة، والمفاصل المتوعكة، والصدور المتهرئة، والعزلة الغافية» (الباقي من الزمن ساعة، ٦). إنها «مدينة السكون، كل شيء فيها هادئ، يومئ بالهدوء، وكل شيء فيها يكاد يضع سبَّابته على فمه؛ كي لا يبدُرَ منه صوت يزعج قطَّانها وضيوفها الآتين للراحة والاستجمام» (الرباط المقدس، ٨٣-٨٤). ولأن الرجل كان يحب الهدوء، ويحنُّ إلى مشارف الصحراء، فقد اختار ضاحية حلوان لقضاء أعوام شيخوخته، حين تضعُف خلايا جسمه، وتنتابه الأمراض (المنزل). وعندما مرِض عبد الله المهدي بالروماتيزم، فإنه نُصح بالإقامة في حلوان «مدينة الصحة والجفاف» (الباقي من الزمن ساعة، ٧). كما نصح الطبيب حمودة — بعد أن اشتد مرض الربو عليه — بأن يسافر إلى مكان جاف، وحدد ضاحية حلوان (زقاق السيد البلطي، ٣٧). وحين طلب رشدي عاكف المريض بالسل هواءً جافًّا نقيًّا، فإن الطبيب نصحه أن يدخل المصحة في حلوان (خان الخليلي، ٢١١). ويصف الفنان رجلًا مرفَّهًا بأنه يحيا في بذخ وفخفخة، بين رمل الإسكندرية صيفًا، ورمل حلوان شتاء (يُحكى أن، ١٢٩). لكن البعض كان يجد في حلوان ما يذكِّره بقرافة الإمام الشافعي، بجوها الثقيل الجاثم على الصدور (سراب). ونحن نلحَظ أنه عندما استقلت أسرة عاكف القطار — في فترة الحرب العالمية الثانية — ليدخل رشدي مصحة حلوان، فإن انطلاق القطار كان بين «حقول ممتدة من النضرة والخضرة والمناظر الريفية الفاتنة. ثم أقبلت الصحراء اللانهائية الجرداء، يحفُّ بأفقها الجبل الشامخ» (خان الخليلي، ٢٣٤). وإلى مطالع الخمسينيات، كان الجالس في قطار حلوان يشاهد على الجانبين الحقول المسرعة إلى الوراء؛ حقول البرسيم والقمح المترامية الأطراف؛ فضلًا عن أشجار الكافور والسَّنط على امتداد شاطئ النيل (السباق). ثم تغير كل شيء؛ حتى القطار تغير، القطار المتباطئ اختفى، حلَّ بدلًا منه الديزل، ومعالم الطريق: شريط النيل الذي يبدو من بُعد، والصحراء، والموج الصاخب من الرمال الصفراء، والمساكن المتناثرة هنا وهناك … لحِقَ التغيرُ ذلك كلَّه؛ فالمعادي أصبحت ضاحيةً جميلة، والصحراء تحولت إلى شوارع ومنشئات ومبانٍ، وسور النيل اختفى في معظم امتداداته وراء البيوت العالية. وتغيرت حلوان، حتى المحطة تغير مبناها ورسْمُها ومسالكها والبيوت الحديثة والشوارع والأشجار على الجانبين (الحقيقة والخيال). كما فقدت حلوان الكثير من سُمعتها العلاجية، بعد أن أقيمت فيها عشرات المصانع بما تعنيه من تلوث بيئي (بيت الأقصر الكبير، ٢٢٤). ويلخص الفنان مشكلات حي المعصرة — أقرب الأحياء إلى حلوان — في انعدام الصرف الصحي، ووجود ترعة الخشاب التي تعد مجالًا خِصبًا للأوبئة، واختلاط مياه الشرب بمياه المجاري، وانتشار أدخنة مصانع الأسمنت في سماء المنطقة (حنين إلى الراحة، ٩١).
ويقول الراوي إن نزلة السمان كانت قرية بسيطة في سنة ١٩٤٩م، بيوتها مثل بيوت الفلاحين، لكنها مبنية بالحجر الجيري، يعمل أهلها تراجمةً يرشدون السائحين، ويؤجرون لهم الحمير والخيول والجمال والكارتَّات (أنا والكلب).
أما أحياء الإسكندرية، فقد أضيفت إليها، في عهد محمد علي، أحياءً جديدة، ومنها المنتزه (الجزيرة الخضراء، ٩) والمعمورة التي تخلت، فيما بعد، عن طابعها الأرستقراطي السياحي، وصارت شعبية. ثم اتسعت المدينة فيما بعد، وأُضيفت إليها أحياءٌ أخرى، جديدة.
وثمة من يرجع أهل حي بحري — الجمرك — إلى أصول مغاربية وشركسية وتركية؛ بالإضافة إلى المماليك والبدو (ظل عائشة، ٩). وقد اشتهر الحي بأن عددًا كبيرًا من سكانه قدِموا من رشيد (الجزيرة الخضراء، ١٠-١١). ولعله من هنا جاء قول الرجل إن السكندري الحقيقي هو الرشيدي! (رباعية بحري). وللبحث عن النضارة وزيادة الوزن، فإن النسوة يترددن على حلقة السمك لشهرة دم الترسة (ظمأ الليالي، ٢٣).
ويقول محمود باشا الفلكي إن اسم المنشية يدل على أن هذا الحي أُنشئ في البحر بواسطة الأحجار المنقولة والرواسب البحرية. وبعد أن أصيب حاتم رضوان في حبه، فإن نظرته المتأملة إلى الميدان الذي سُمي الحي باسمه، تتعرف على مبنى البورصة، وتمثال محمد علي، والكنيسة الإنجيلية، وبقايا عصر إسماعيل من البنايات ذات الطراز الأوروبي، والنخل السلطاني، والحديقة المستطيلة، وزحام المترو والأوتوبيسات والسيارات والحنطور والكارو والمارة وسراي الحقانية والقهاوي ومكتبة دار المعارف ودكاكين الطعام والأقمشة والأدوات المنزلية (الشاطئ الآخر، ١٢٦).
وكوم بكير جزء من حي اللبان، وقد أُنشئ للترفيه عن جنود الاحتلال البريطاني في فترةِ ما بين الحربين. حجرات متلاصقة، أشبه بالعلب الصغيرة، لكل واحدة باب ونافذة، واللمبات مُضاءة قُرب الأبواب، وإلى جانب الجدران امتدت الكنبات والكراسي، وتراصت، والمومسات يقفن أو يقعدن، يُطلِقن الآهات وعبارات الغواية؛ تحريضًا للمارَّة على الدخول (زنقة الستات، ١٨). «اتفضل يا أفندي، عندنا حاجة على ذوقك والنبي، وبربع جني [جنيه] بس، اتفضل يا خويا، على عينك يا تاجر، واللي ما يشتري يتفرج» (ترابها زعفران، ١٠٤-١٠٥). وكان أبناء الإسكندرية يسمون الحي أحيانًا «الوسعاية» (زنقة الستات، ١٠٤).
وغالبية سكان حي كرموز من العمال الذين يعملون في شركة الغزل التي تقع داخل الحي (الوحش).
ويوجد في حي مينا البصل العديد من المرافق المهمة والبنى الأساسية، مثل بورصة القطن المصري، وبورصة الأوراق المالية، ومكابس القطن، وأبواب الجمارك.
ويتجمع في حي القباري أبناء الصعيد الذين وفَدوا إلى الإسكندرية سعيًا وراء ظروف حياة أفضل. وفي بحث اجتماعي لمنطقة القباري [١٣ أغسطس ١٩٥٥م] ثبت أنها ليست مقصورة في السُّكنى على أبناء المدينة، فنسبتهم تبلغ ٥٥٫٩٪. أما الباقون فهم من أبناء الصعيد الذين وفَدوا إلى المنطقة للعمل والإقامة، فكوَّنوا مجتمعًا شبه صعيدي، وسُميت الحارات التي يقيمون فيها باسم موحَّد هو «حارة الصعايدة» (التصنيع والعمران، ١٣٣).
والورديان منطقة عمالية في غالبية تركيبتها السكانية، وربما كانت أهم مناطق تمركُّز أبناء الصعيد الساعين وراء الرزق في الإسكندرية؛ لذلك فهي تتسم بطابَعها المميَّز الذي يَشيع فيه جوُّ التجمعات السكانية المرتبطة بأعمال الشحن والتفريغ وخدمات البحر بعامة؛ فضلًا عن مستودعات الأخشاب وشون الغلال ومدابغ الجلود (صومعة الناسك).
وكان شاطئ العجمي — إلى ما بعد الخمسينيات — خاليًا من الناس تقريبًا، إلا من بعض الأثرياء الأوروبيين الذين كانوا يملكون فيه بيوتًا لقضاء عطلة نهاية الأسبوع (حياتي في مصر، ٤٧).
ويصف الفنان العامرية بأنها مدينة، وأنها بلا هوية (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٢٧٨)، ثم يضيف بأنها أُولى المدن من ناحية الغرب قُربًا إلى الإسكندرية، ثلاثون كيلومترًا إلى الغرب، جنوب غرب بحيرة مريوط، يقال إنها حملت اسمها من قرية «ماريا» اليونانية القديمة، المدفونة قرب البحر، ويقال إن قبائل ربيعة وهلال بني عامر استقرت في البلدة بعضَ الوقت قبل أن تواصل طريقها إلى الغرب، فحملت العامرية لقب القبائل العربية (المصدر السابق، ٢٧٨). وقد عُرفت العامرية أيامَ محمد علي باسم «كنجي عثمان»، وهو أمين الضيافة عند الوالي، ثم صارت في عهد عباس باشا «برنجي مريوط»؛ أي أول مريوط. وكانت العامرية سوقًا يلتقي فيه عرب مديرية البحيرة بعرب مريوط وببعض تجار الإسكندرية مرةً كلَّ أسبوع، وفيما عدا ذلك لا يوجد سوى قليل من البيوت الصغيرة المتناثرة، ومحطة سكة حديد قديمة، وقطار يحمل الماء إلى الصحراء مرةً في الأسبوع، يخرج إليه السكان القليلون يملئون الجراكن المحمولة على أجناب الحمير (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٢٧٧). والآن، فإن الفنان يصف العامرية بأنها ضاحية هادئة، بعيدة عن أدخنة المصانع وضجيج المواصلات (وذات مساء).
وتعد منطقة جبل ناعسة — هي حي من قبيل التجاوز — مكانًا متميزًا، يختلف عن بقية أحياء الإسكندرية. مكان مرتفع، له خصوصيته المتمثلة في ناسه الذين يشكلون خليطًا من الزبالين وتجار الورق الدشت، يجمعون الورق من الشوارع، ويبيعونه لتجار الورق، الذين يبيعونه بالتالي إلى المصانع، ليُعاد تصنيعها. مهنة أتاحتها لهم الحياة في الإسكندرية كمدينة كبيرة، بها الكثير من مخلفات الورق، والمصانع التي تحتاج إلى تلك المخلفات. وبالإضافة إلى ذلك، فهم يبيعون المخدرات (الوحش)، ويمارسون العديد من المهن التي تدخل في إطار الجريمة؛ حتى الزوجات يبعن الحشيش والأفيون، أو يأتيهن المال من أقارب الزوج أو صبيانه، والأزواج في السجن لقضاء فترات عقوبتهم من بيع المخدرات، والزوجات يسلِّمن أجسادهن لرجال في غيبة الأزواج الذين غُيِّبوا في السجن. والضعيف في الحي يموت، يقهره الأقوياء. مجتمع غريب وشرس، تشغله أحلامه وتطلعاته ومطامعه. يُسقط كلَّ الاعتبارات سعيًا وراء المادة، إنهم يُسقطون حتى الأضعف من العلاقات الإنسانية، وينظرون بعدوانية، أو بتطلع، إلى المجتمعات الأخرى، القريبة والبعيدة، لا شأن لهم بالسياسة، ولا يعرفون اليسارية أو الشيوعية، وإنما يعرفون المباحث والمرشدين. وكما يقول جابر، فإنه يستطيع أن يجلس في غرزة، لكنه لا يستطيع أن يجلس وسط مجموعة تتحدث عن أشياء خطيرة قد تودي إلى الموت. إنه مجتمع أشبه بما قدَّمه لنا مكسيم جوركي في «أوتشركاته»، يطفح بالشخصيات غير السوية من جامعي القُمامة والزبالين وباعة النُّفايات والقوادين والمومسات والبلطجية ومحترفي الجريمة (جبل ناعسة، الرواية). مع ذلك، فإنه من الصعب أن نَسِم مجتمع جبل ناعسة بالتميز إطلاقًا. أنت تستطيع التعرف، على نحو أو آخر، إلى تلك الحياة التي سجلها الفنان بضربات فرشاة سريعة، في البلقطرية مثلًا، أو في اللبان، أو في مناطق أخرى في الإسكندرية …
ويقع غربال شمالي الإسكندرية، وهو حي عُمَّالي فقير، كان جزءًا من حي محرم بك الذي ظل راقيًا لأعوام طويلة، وفي منطقة مجاورة، منخفضة قليلًا، كانت توجد أراضٍ زراعيةٌ تصل إلى ترعة المحمودية، مملوكة لإقطاعيٍّ اسمه غربال. باع الأراضي مقسمة، فتحولت إلى قطع سكنية. وظل الحي مجرد أرض فضاء شاسعة، أو أرض زراعية مهمَلة، إلا من بيوت قليلة متناثرة، حولها أراضٍ زراعيةٌ من كل جانب، تصل إلى ترعة المحمودية، وساقية يتيمة في آخر الشارع (الجهيني، ٢٦). وعرض مالكُ الأراضي بيعها، المتر بأربعة قروش، مع تسهيلات في السداد. وكان الصعايدة أكثر مَن أقبلوا على شراء الأرض. إذا تعذر البناء بالطوب، أقاموا أكواخًا من الصفيح، ثم امتدت مساحة الحي واتسعت، وتعددت البنايات ما بين متوسطة وفقيرة، وتزايدت مساحة الأراضي والمساكن، حتى انتهى الحي إلى صورته الحالية (ليالي غربال، ٤٤) باسم «حي غربال». وأعداد كبيرة من أهل غربال يعملون في نقل الزبالة وبيعها (المصدر السابق، ٥٥). والآن، فإن الأكواخ التي يسكنها الفقراء سمة مهمة لحي غربال (ليالي الإسكندرية، ٢٣).
ولم يكن حي غيط العنب مزدحمًا بالبنايات والبشر والسيارات والعربات، كما أصبح عليه الحال فيما بعد. كان به شارعان: النخيل والطابية، الذي يمتد — عبر الميدان — إلى شارع اللبان (عاريات شواطئ العجمي، ٢٠). ومعظم بيوت غيط العنب من طابقين أو ثلاثة، من الطوب الأحمر القاتم العاري من غير ملاط، والشوارع بينها ترابية، وأشجارها وحدائقها كثَّة، وريفية الشكل (ترابها زعفران، ١١٥). والكثير من سكان غيط العنب حققوا ثراءً من تربية الماشية (ليالي غربال، ١٣١).
أما حي العطارين بالإسكندرية، فقد اكتسب صفته التجارية من المؤسسات التجارية القائمة فيه: البورصة وعشرات المكاتب للمحامين والمحاسبين، وتسهيل السفر، والاستيراد والتصدير؛ حتى دور السينما والمطاعم والقهاوي تحقق للحي نشاطًا تجاريًّا مؤكدًا (النظر إلى أسفل ٢٧-٢٨). ويلحظ الأب أن الحي يخلو من عطَّار واحد، ويجيب عن سؤال: أين ذهبوا؟ يقول: نقلوا دكاكينهم إلى بحري (المصدر السابق، ٦).
أما محطة سيدي جابر فقد كانت، إلى مطالع القرن العشرين، نقطة انتهاء للإسكندرية القديمة، وبداية انطلاق نحو الضاحية الجديدة — الرمل — التي بدأت تنمو على استحياء. واسم جابر لواحد من أئمة العلم والدين، وقد أطلقه أهل الإسكندرية على حي راقٍ من أحياء المدينة (كوم الناضورة، ٩٥). وحتى الآن، فإن تسمية الرمل تطلَق على كل ما هو شرقي المدينة القديمة.
كانت منطقة سيدي بِشر صحراء متراميةً عبر قطار أبو قير، وقطار بضائع المعسكرات الإنجليزية التي كانت تمتد في الناحية الأخرى من القضبان. أطلق الناس على الناحية القريبة من شاطئ البحر اسم «سيدي بِشر بحري»، وعلى الناصية البعيدة عن الشاطئ اسم «سيدي بشر قبلي»، ثم شمل العمران المنطقة جميعًا، فهي سيدي بشر (أبو قير، ١١١). وكان حي المندرة مجرد ضاحية صغيرة، يظنها القادم من بعيد واحة، فمنازلها متناثرة، ومعظمها من طابق واحد (الليل والوحش). ثم أصبحت المندرة، بالتطوير، ضاحية جميلة على الكورنيش، منعزلة تمامًا عن الإسكندرية، يصعُب الوصول إليها إلا بالقطار (الزورق). وكانت، قبل أن يخنقها الزحام، مصيفًا جميلًا للعائلات، وتوجد بين المصيِّفين أُلفةُ الذين جمعهم مكان واحد. وبعد الغروب تقل الحركة على الساحل، وفي الطريق، وتُضاء المصابيح الخافتة، ويخيم السكون (الليل والوحش). ثم زحف العمران على المندرة، وامتدت خطوط المواصلات العامة، وتدفَّق إليها المصيفون، فأصبحت من أشد الشواطئ السكندرية زحامًا (الزورق).
وتعد أبو قير نهاية نتوء الحجر الجيري الطويل الذي يبرز من الصحراء الغربية. وكان على النيل أن يلتف حوله حتى يصل إلى البحر؛ لذلك فإن شهرته مرتبطة بالنيل (الإسكندرية تاريخ ودليل، ٢٢٤). ويقال إن «أبو قير» تحريف لكلمتَي «أبا كير»، أي الأب كير، وهو قديس مسيحي، وُلد بالإسكندرية في النصف الأخير من القرن الثالث الميلادي. وكان له رفيق في النضال اسمه يوحنا، واستُشهد كلاهما في عصر دقلديانوس، عصر الشهداء، ونُقلت جثَّتاهما إلى أبي قير، بالقرب من كانوب، بعد دفنهما تحت كنيسة القديس مرقس بالإسكندرية. وفي اجتهاد، أن «أبو قير» تنتسب إلى الأنبا كيراوقيروس الطبيب الناسك الذي استُشهد بالإسكندرية، في العصر الروماني عام ٣١٢م (الإسكندرية روعة وعطاء، ١٠٧). وفي حكايات ألف ليلة وليلة، أن المكان المُسمى «أبو قير» هو الموضع الذي أقام فيه أبو صير قبرًا لصديقه أبو قير، نقش على شاهده أبياتًا تشير إلى دلالة حكايتهما. وإلى الأربعينيات من هذا القرن، كانت ضاحية أبو قير — والتعبير للفنان — ضاحية قصية (ثلاثة رجال وامرأة، ١٣٣)، تجمع بين القرية والمصيف (شبرا، ٣٠). وهي، إلى الستينيات، «مصيف الفطرة» (يوم الوداع). وكما يقول إ. م. فورستر، فعلى الرغم من اعتماد مصير أبو قير على الإسكندرية، فإنها تحمل ملامحها الخاصة (الإسكندرية تاريخ ودليل). وظل القطار، لأعوام طويلة، هو وسيلة المواصلات الوحيدة بين الإسكندرية وأبو قير. فلم تكن هناك سيارات على طريق الكورنيش تسير أبعد من ستانلي (الليل والوحش).
واللافت أن صورة المدينة، وصورة الأحياء بالتالي، قد تبدلت بتوالي الأعوام؛ هُدم العديد من الأحياء القديمة أو معظمها، ورُفعت بنايات جديدة، ووُسعت ميادين، وغُرست أشجار، ومُدَّت قضبان، وأُجريَ ترام (قصة حياة، ٩٠).
وثمة أحياء عشوائية تنمو — على حد تعبير الفنان — بلا منطق ولا اسم (زهر الليمون، ٦٧). ففي الثلاثينيات، على سبيل المثال، كانت المنطقة المجاورة لجامعة القاهرة كلها عبارةً عن حقول تتناثر وسطها بيوت فقيرة كالعشش (محاورة الجبل). ويصف جابر الإسكافي حي الترجمان بأنه «هذا الحي الغبي.» سكانه إما حُفاة، وإما ينتعلون أسوأ النعال التي كان لها شرف الانتماء إلى عشرة ملَّاك (نهاية المطاف). أما حي القللي، فشوارعه ملتوية وضيقة، كأنها جحور، والأطفال كثيرون وصغار، كأنهم نمل، والأزقة ضيقة ومظلمة كأنها سراديب، والناس يتصرفون بحرية، دون حذر، كأنهم في منأًى عن المجتمع، كأنهم في منفًى (حكايات صبري موسى، ٢٤٠). وثمة منطقة الغجر بالإسكندرية التي نزح إليها، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أعدادٌ من أبناء البحيرة والصعايدة. إنهم ليسوا، كما تدل التسمية، غجرًا بالمعنى المتواتر لهذه الكلمة، ليسوا طوائف الرَّحل الذين يمارسون حياة خاصة، لها سماتها التي تختلف عما يحياه أبناء المدن والقرى، لكنهم مهاجرون قدِموا من مدن قريبة وبعيدة، وأقاموا في ذلك المكان. كوَّنوا مجتمعهم الخاص الحافل بالقليل من الخير، وبالكثير من الشر، فأطلق عليهم الناس تسمية الغجر، وهي تسمية لا شأن لها بالنسب ولا بالانتماء، لكنها تتصل بنوعية الحياة التي اختارها هؤلاء الغجر. لقد أدرك الفولي — أول من أنشأ كشكًا في المنطقة — أنهم تحت سلطته، فأبقاهم في الأرض حول كوخه. بنَوا أكواخًا مماثلة، من مخلَّفات معسكرات الإنجليز المحترقة في كوبري الناموس وأرض سيوف شماعة والرأس السوداء. وتدربت النسوة على أعمال الغجر — وإن لم يكُنَّ من الغجر أصلًا — فحملنَ القفف، وتعالت أصواتهن بالنداء الشهير: أشوف البخت واضْرَب الودع … وأيضًا محاولة نشل الرجال في المواصلات العامة. أما الرجال، فقد تعلَّموا مهنة تصليح المفاتيح، أو مهنة النشل، في حين فضَّل البعض أن يعمل في زراعة الأرض، وفي حياة أشبه بتلك التي يحياها أبناء جبل ناعسة، فإن سكان منطقة الغجر، أو حي الغجر، يمارسون كل الرذائل والموبِقات وأفعال الشر. إنهم يَسطون على جيوب الناس بقراءة الودع الكاذبة أو بالنشل؛ حتى حجاج بيت الله الحرام، يحاولون سرقة ما يضعونه داخل ملابس الإحرام، والنسوة تحولن إلى ناضورجية. يقفن في دهاليز البيوت والشُّرفات ورءوس الحارات، يراقبن الداخلين بعد انسحاب النهار. يضحكن بأصوات «معينة» كإشارات للأزواج داخل البيوت؛ ليأخذوا حِذرهم من الخطر القادم، فالرجل إنما يبني جسمه ويقوِّي أعصابه ليمنح الزوجة الرعاية التي تنشدها على السرير. والناس في «الغجر» لا يجيدون العشق، ولا يعرفون الكتابة، يعرفون فقط كيف يصنعون الحب بأمزجة خدرها الشم والحشيش وحقن الماكس. الحب لديهم امرأة تخلع ثوبها، يرتحلون عبرها للحصول على اللذة. حتى ضابط القسم، مضى عن المكان وبوجهه الجميل ندبة مطواة، بينما ظل باعة الحشيش في حيهم لا يغادرونه (الغجر الرواية). وكما يقول وارين فرنش، فإن الحي المتخلف في العاصمة هو جزء بدائي فيها، يعَدُّ غريبًا عنها (جون شتاينبك، ٢٣٠).
•••
إن أصوات الباعة في مواعيد محددة — على حد تعبير الفنان — تؤلف بصورةٍ ما بعضَ معالم شخصيات الأحياء (البيت الصامت، ١٤٧). وقد كانت أحياء المدن، في أعوام الاحتلال، تنقسم إلى حيَّين، أحدهما للوطنيين، والآخر للأجانب. وهو ما اصطُلح على تسميته حي العرب وحي الإفرنج. ومع أن الفنان يلاحظ تلاصق بيوت الأغنياء والفقراء في الأحياء الشعبية (قلب الليل، ٢٧)، فإن اللافت — في تقدير علم الاجتماع — أن الأمية والفقر والْتِصاق البيوت بعضها بجوار بعض، سماتٌ تميِّز الأحياء الشعبية عن الأحياء الأخرى (عالم الفكر، المجلد السابع، العدد الرابع، ٩٧٣). الأحياء الشعبية مزدحمة وصاخبة، والشوارع ضيقة تطفح دومًا بالبِرَك والمستنقعات، والقهاوي كثيرة زاعقة (هروب الطائر الأبيض، ٢٦)، وثمة الأطفال الكثيرون الذين كأنما أنتجتهم معامل التفريخ، والماء المُراق تفوح منه رائحة الصابون، وقطة، أو عدة قطط، تتنازع فضلات سمك ملقاة على الطريق، وعربات بائعي الخضراوات الجائلين، والنسوة من حولها … تلك، وغيرها، مناظر إن فصَلْتها عن الأحياء الشعبية، فقدت ماهيتَها، فمن الصعب تصور حياة بدونها (بعد الغروب ٢٧-٢٨). والأخبار في الأحياء الشعبية مثل كرة الثلج، تزداد بتحركها ضخامة، فهي تنتقل بسرعة، يضاف إليها كلَّ لحظة شيءٌ جديد (عتريس الأكبر، ١١٥).
ولعل أهم ما عانته الأحياء المختلفة — أحياء الضواحي على وجه التحديد — تلك الموجات المتتالية من السكان الجدد، انتقلوا إليها من الأحياء الأخرى، إما لهجر الأحياء الشعبية التي عاشوا فيها، أو لاكتظاظ الأحياء الأخرى بما لا يأذن بسكان جدد. يقول الراوي: «في الزمان الأول، كانت البيوت تُطلُّ على الحقول والحدائق، وتَعبَق بشذى الحنَّاء، وتغوص في الهدوء. اليوم اكتظت بالبيوت والسكان والخرائب الموقوفة التي انقلبت أسواقًا لتجارة الخردة وقطع الغيار القديمة، وازدحم الطريق بالصبية، وصار ناديًا أهليًّا للعب الكرة» (الخندق). ولم يعُد التعرف إلى الملامح شرطًا لتبيُّن إن كان الشخص من أبناء الحي. توافد على الأحياء أفراد وأُسر، عشرات ومئات، زحفت الغربة، فلم يعُد أحد يدري مَن جارُه، ولا مَن هو عابر طريق (الصهبة، ٢٢). وربما فرضت طبيعةُ الحي حتى الأزياءَ التي يرتديها أبناؤه. وقد كان كمال يكتفي في حيه — الجمالية — بلُبس الجاكتة فوق الجلباب، فإذا زار أصدقاءه في العباسية، ارتدى بدلة صيفية تُناسب الحي وآله (قصر الشوق، ١٦٠). حتى الصحو في أحياء الطبقة الوسطى وما فوقها؛ يختلف في موعده عن الصحو في الأحياء الشعبية. إن سكان الأحياء الراقية يستيقظون في الضحى (تلك الأيام، ٢٤٨).
انتقل الكثير من أبناء حي الجمالية، في العشرينيات والثلاثينيات، إلى حي العباسية، وهو ما مثَّل — على حد تعبير الفنان — «وثبة من القرون الوسطى إلى أعتاب العصر الحديث. توارت الحارة والأزقة بعبيرها العنبري ومصابيحها الغازية وعرباتها الكارو وملاءاتها اللف والجبب والقفاطين والعِمم». حلَّت بدلًا منها عصرية مقتحمة، قوامها المياه والكهرباء والصرف الصحي، والبيجاما بدلًا من الجلباب، والكرة بدلًا من السيجة، والجري وراء عربة الرش (صباح الورد). ويتلفت أحمد عبد الجواد حوله ويقول: «كل شيء جديد إلا أنا» (السكرية، ١٧٠). وبعد أن كانت معظم الأحياء وطنية، صارت الأحياء الإفرنجية هي الموضة، كما قالت أم أحمد الخاطبة لأم الراوي. وانتقل، على سبيل المثال، أعيان الجمالية إلى العباسية الشرقية، وشيدوا قلاعًا ضخمة. أما أبناء الطبقة الوسطى، فقد انتقلوا إلى العباسية الغربية؛ سكنوا البيوت الصغيرة، أو اشتروا ما يناسب دخولهم (أم أحمد). وإلى أوائل الخمسينيات، كانت العباسية حد القاهرة الشرقي، وكانت القاهرة — بعد ميدان فاروق [الجيش] وشارع عشرة — تذوب في صحراء العباسية (زمن الحرية).
وفي الإسكندرية، كان أمام الأجانب والأغنياء من المصريين — كي يبتعدوا عن المناطق الشعبية — أن يتجهوا إما إلى المكس في الغرب، أو إلى الرمل في الشرق. ورغم الجمال الطبيعي في مناطق الغرب، فإنهم فضَّلوا منطقة الرمل؛ ابتعادًا عن التخلف الذي بدأت تتضح آثاره السلبية حول محطة القباري للسكة الحديد؛ نتيجة لهجرة الآلاف من أبناء الصعيد إلى المنطقة، والإقامة فيها، والعمل في عمليات الشحن والتفريغ؛ مما جعل من حركة الطريق بين قلب المدينة والمكس أمرًا متعذِّرًا نسبيًّا، ويحتاج إلى اجتياز عنق زجاجة التخلف الذي تشكله العناصر الوطنية. ثم حدد «صورة» المنطقة نقْلُ المذبح من منطقة الشاطبي إلى غرب القباري، وما استتبع ذلك من إنشاء مدابغ كثيرة، وهجرة الآلاف من الأيدي العاملة إليها (الشارع الجديد الرواية).
وقد يدل المظهر الشخصي على الحي الذي ننتمي إليه. يلاحظ الرجل أن هيئة الشخص الذي يتحدث عنه تنفي أنه من مصر الجديدة، وأن هيئته لا تعطي أكثر من بولاق أو الزاوية الحمراء (يناير، ٦٤). وثمة أحياء يختار السكنى فيها أبناءُ محافظة معينة، أو مركز بالذات، في الصعيد. وكان سكان حكر أبو دومة القديم، القريب من الكورنيش بروض الفرج، من مركز طما، التابع لمحافظة سوهاج، ويعمل غالبيتهم على مراكب النقل في النيل، بين القاهرة والصعيد (رسمية سيأتي دورك). أما وسيلة التنقل بين أحياء القاهرة المختلفة، فضلًا عن المدن الأخرى، فهي سوارس، قبل إلغائه، والكارو، والحنطور، والسيارة — ملاكي وتاكسي — والأوتوبيس، والترام، والقطار إلى خارج القاهرة.
والعلاقة بين أبناء الأحياء القديمة، الشعبية، تختلف عن العلاقة بين أبناء الأحياء الجديدة. بل إن المشكلة التي يعانيها هؤلاء الذين انتقلوا من الحي الشعبي إلى الحي الأكثر تمدينًا؛ أن سكان الحي الجديد ليست لديهم تلك العواطف السخية التي طالما الْتقَوا بها في حيهم القديم (شباب القلب). ويروي الفنان أن حمارًا رفس شيخًا في الطريق، فأغمي عليه. فلما أفاق وجد نفسه في بيته، على سريره. عرَفه أهل الحي، فحملوه إلى بيته. وقال الشيخ: «لو وقع لي هذا في الحي الجديد الذي نقيم فيه الآن، لجاء الإسعاف وحملني إلى المستشفى» (من النافذة، ٩٧). وإذا كان التكافل خاصية أساسية في حياة القرية المصرية، فإن الحارات المسدودة — والتعبير للفنان — هي التي تعمل على تصفية الود بين الجيران ما تعمله الزجاجة في تعتيق الشراب (السلحفاة تطير). العلاقات شبه الأسرية خاصية أُولى في حياة أبناء الأحياء الشعبية. ولعلنا نجد — مقابلًا لذلك — تلك العلاقات المفككة، أو المفتقَدة، في الأحياء الحديثة، فالجيران لا يتزاورون، ولا يُحس أحدهم بالآخر. إنه عالم تسوده الفردية وفلسفة الفرد (شيء في صدري، ٢٠٦).
والانتقال من حي إلى آخر قد يكون بهدف الانتقال من طبقة إلى أخرى. وكما يقول حسن الساعاتي، فإن «إقامة السكان في مَنطِقةٍ ما، ظاهرة جغرافية من ناحية ثانوية فقط. أما العامل الرئيس الفعال فهو مكانة السكان المقيمين الاقتصاديةُ والحضارية. وهي مكانة تُكتسب من الإقامة في حي معين. ويعد ذلك من أهم العوامل لانتقال بعض السكان من منطقة تكون قد أخذت في التخلف، إلى منطقة أخرى تُضفي على من يقيمون فيها وجاهة، كما ترفع من قدرهم» (التصنيع والعمران، ١١٤). وحتى يطمئن الراوي إلى تزويج أختيه اليتيمتين بما يضمن مستقبلهما، فقد قرر الانتقال من البيت القديم بدرب الحجر، خلف حارة التمساح، إلى شقة صغيرة في جاردن سيتي (كنا ثلاثة أيام). ومثلما أرادت أسرة كامل علي (بداية ونهاية) أن تعبر عن انتقالها إلى طبقة جديدة بالسكنى في مصر الجديدة، بدلًا من بيتها القديم في شبرا، انتقلت المرأة من الحي القديم والحارة الضيقة المظلمة، إلى حي أوسعَ منير، يسير فيه الترام (قصة عذراء). ومع أن أهل الحي الذي يقيم فيه رشاد أفندي كانوا يحترمون تواضعه ويحبونه، فإنه كان يعاني رغبة في أن ينتقل من الحي إلى حي آخر راقٍ؛ «حيث لا أطفال يلعبون في القاذورات، ولا نسوة يشتمْن، ولا بيوت خربة تبعث الغمَّ في القلب» (أستاذ في الحارة). حتى قارئة الفنجان الحاجة زبيدة كانت تسكن حي السيدة زينب، فلما عادت عليها مهنتها بالنقود، انتقلت للإقامة في فيلا بالهرم (الرجل والعصا، ٩٠-٩١). وعندما تيسرت الأمور في حياة الأسرة، فإن أول ما شغل الزوجة هو أن «نسكن في حي يليق بمستوانا» (هروب الطائر الأبيض، ٢٦٧). الأمر نفسه بالنسبة لعبد المقصود أفندي وزوجه عواطف هانم، كان أول ما حرَصا عليه هو الانتقال من حي السيدة زينب إلى حي الزمالك (خريف امرأة). وكانت مشكلة الدكتور الحديدي — منذ قدم إلى الحي البرجوازي — هي ألا يكتشف أحد أصله وفصله، «وتبدو للأعين النائمة شعرة واحدة تكشف عن الجذور والسيقان التي يمت إليها» (لغة الآي آي).
وربما اختارت بعض الأسر أن تقيم بالقرب من أحد الأولياء للاحتماء بكراماته، وهو ما فعلته أسرة عاكف، عندما فضلت الانتقال من السكاكيني الذي توالت عليه غارات الألمان، إبان الحرب العالمية الثانية، إلى الحسين الذي يحظى بوجود ضريح سيد الشهداء. يقول الأب: «هذا الحي في حِمى الحسين رضوان الله عليه، وهو حي الدين والمساجد. والألمان أعقل من أن يضربوا قلب الإسلام وهم يخطبون ودَّ المسلمين» (خان الخليلي، ١٢). واللافت أن حي السكاكيني كان موطنًا للكثير من الأسر اليهودية إلى قيام حرب ١٩٤٨م (عبد البديع عبد الله: زمن الحرية، مكتبة غريب، ١٦٦). وعندما هاجر الجد — وهو شاب — إلى القاهرة سعيًا للرزق، فإنه اختار الإقامة قرب جامع السيدة زينب؛ تبركًا بأم العواجز (قنديل أم هاشم، الرواية).
الخرابة
إن أية قطعة أرض خالية بين البيوت تسمى خرابة (أحزان مدينة ٦٠، الخرابة والمصنع). وعادة، فإن الخرابة تتحول إلى ملقف للزبالة (في حارة فرط الرمان)، يمتلئ بالأوراق القديمة وكومات الزبالة والأتربة ورائحة العطن والمخلفات الآدمية (ظلال الطيف). والخرابة في زقاق المدق تسطَع فيها رائحة تراب وقذارة، أرضها مغطاة بأنواع لا يُحصيها العدُّ من القاذورات المتنوعة، كأنها مزبلة (زقاق المدق، ٥٠). وفي الأغلب، فإن البيت حين يتهدم يتحول إلى خرابة (قلب الليل، ٩). وبعد أن تهدمت معصرة الزيوت، تحولت إلى خرابة، وأصبحت مأوًى للعفاريت والأشباح، ومكانًا لقضاء حاجة عابري السبيل (أم العواجز، العجوز والدنيا وأنا).
كانت الخرابة — قبالة فرن جعدة بزقاق المدق — سكن زيطة صانع العاهات وعيادته لتشويه الشحاذين في آن (زقاق المدق، الرواية). وقد أقام جعفر الراوي — بعد أن ضاقت به الحال — في خرابة، هي مِلكُه بوضع اليد، وهي ما تبقَّى من بيت جده القديم، بعد أن تهدَّم وتحول إلى خرابة (قلب الليل، ٩). ووجدت نعسة العرجة وابنها الشيخ شيخة في الخرابة القريبة من الجامع ملاذًا للنوم (الشيخ شيخة). ويعتقد البعض أن الأرواح تتحول في الليل إلى قطط تجوس في الخرابات (أحزان مدينة، ٥٩). والخرابة في أذهان الصغار تعني في الأغلب العفاريت التي تترصد للإنسان عندما يقترب منها (لقاء مع بطلة قصة تافهة). وكان الأطفال يخافون الخرابة الواقعة في قلب الحارة، ولايجرءون على الدنو منها ليلًا؛ لئلا يظهر لهم عفريتها ويحملهم إلى خرابته؛ فيقتلهم أو يرميهم في النهر (ليلة النهر). مع ذلك، فقد يلجأ الأطفال إلى الخرابة لممارسة ألعابهم فيها (ظلال الطيف)، وبالذات إذا كانت أرض الخرابة رمليةً نظيفة وواسعة (روزا وآديل). وفي الخناقات تتحول الخرابة إلى ساتر يختبئ البعض وراء كومات الزبالة؛ للفرار، أو لمباغتة الأعداء (حرب أطاليا، ٢٧). وقد تصلح الخرابة ساترًا للاحتماء من المعارك التي تنشب فجأةً بين جيران الحارة الواحدة، أو بينهم وبين المغيرين من الأغراب (حرب أطاليا، المجموعة). وربما لجأ البعض إلى الخرابة، يختفي عن الأعين وراء كومات الأتربة والأحجار، وهو ما فعله خليل عندما تصور أنه قتل شابًّا عايره بدَمامته (الزوجات العشر، ١٢٩). والخرابة هي أنسب الأماكن للقاء اللصوص، يختفون فيها، أو يُحصون سرقاتهم (شال الحمام). كما تُستخدم الخرابة لإخفاء أسلحة وأشياء ممنوعة (بدرية الإسكندرية، ١٠٩). وكانت الخرابة المتخلقة بين بيت المال ومقر قاضي القضاة؛ هي الموضع الذي اختاره للقائهما رجلٌ من المتشردين وغجرية من رعاة الأغنام (الحاوي خطف الطبق). أما الخرابة المهجورة في أقصى القرية، فكانت هي المكان الذي لجأ إليه الرجال لمضاجعة البنت «الهبلة» بعيدًا عن الأعين الراصدة والمتطفلة (الكائن الليلي). كذلك كانت تسكن الخرابة، في نهاية الحارة القديمة، فتاة بلهاء، تسلل إليها شخص مجهول وضاجعها، فحملت منه (البلهاء وطفلها). والخرابة عمومًا قد تصبح موضعًا للِّقاءات العاطفية بين المطحونين ماديًّا (في حارة السيدة).
الخرابة أنسب الأماكن لإلقاء القاذورات من نوافذ البيوت (في ميدان الفوضى). وكما يقول الأستاذ، فإن الخرابة إذا لم تُمْسِ مأوًى للُّصوص وقطاع الطرق، فستصبح على الأقل مخزنًا لقمامة الحي كله (صاحب القوس الأكبر). وتمارس كائنات الخرابة حياتها، ليلًا، في الضوء المنبعث من النوافذ والشرفات، ومن أنوار الطريق. وقد تقام في الخرابات أحيانًا سرادقات الموتى (الليلة المباركة). وقد تقام في داخلها عشة يقيم فيها من يعجِز عن استئجار حجرة (في حارة السيدة).
خلاء
كان الخلاء، أو البرية، هو المكان الذي تلقَّى فيه الرسل الثلاثة، موسى وعيسى ومحمد، وحيَ الله بأن يكونوا رسله إلى البشرية. ويلجأ رجال الصوفية إلى الخلاء للحياة فيه، بعيدًا عن حياة الناس (قبض الجمر، ٩٤)، عن صراع البشر (أيام الإنسان السبعة، ٣١). ويحرص الكثيرون على أداء صلاة العيدين في الخلاء، سنةً عن الرسول (وقائع سنوات الصبا، ٥٠). وحين تُفاجئنا الأقدار بما لم نكن نتوقعه، بنقيض ما لم نكن أعددنا أنفسنا له، فإن الاتجاه إلى الخلاء هو التصرف العفوي، أو التلقائي … ذلك ما حدث لعبد الرحمن؛ كان الخلاء هو النهاية التي اتجهت إليها خطواته، بعد أن عاد إلى أمه التي ابتعد عنها عشرين عامًا. أراد أن يتطهر في حِضنها بعد أن طال غضبها عليه؛ للجرائم العديدة التي ارتكبها. ويُفاجأ بأن الأم لم تعد تسمع أو تبصر، فيتجه إلى الخلاء (الصدى). وحين أراد رجال القرية أن يُبعدوا سعدون عن نسائهم، طردوه إلى الخلاء ليواجه الجوع والأرض الشراقي (الكائن الليلي). وفي قصة «الخلاء» — التسمية صريحة — يعود المعلم شرشارة بعد عشرين عامًا لينتقم من غريمه القديم الذي سحقه وسلب عَروسه. كان قد أنفق الكثير من ماله وعمره حتى يحقق انتقامه، لكنه فوجئ بموت غريمه، وبأن عروسه قد أصبحت أمًّا لشبان، وتاجرة في السوق، ولم يعُد فيها ذلك السحرُ القديم. ومضى شرشارة وحيدًا إلى الخلاء (الخلاء). وقد سعى المعلم حندس لقتل ابن غريمه الذي قتله منذ عشرين عامًا؛ خشيةَ أن يثأر الابن لأبيه. صحب أعوانه، يقودهم أعمى إلى الخلاء، عن طريق الجبل. وفي المكان الذي توقع أن يلتقي فيه بعدوِّه، فاجأته ضربة مجهول، وسقط صريعًا وسط أعوانه (كلمة غير مفهومة). وإلى أوائل الستينيات كانت صحراء مصر الجديدة مجالًا للبدو الرُّحل، يجمعون منها الأوراق والحشائش على الحمير، يفتشون في الأرض ويَنبِشونها (المهاجر). والعادة أن تقام الموالد في الخلاء. يتحول المولد إلى سرادقات وخيام وأمواج هائلة من البشر. والنوم في الخلاء يُستحب صيفًا (الحب يأتي مصادفة، ١٠٣). وربما لجأ البعض إلى التمشي في الخلاء؛ بحثًا عن نسمات هواء نقية (روح وجسد). وربما قاد الشاب سيارته إلى الخلاء؛ ليقيم علاقة جسدية مع فتاته، بعيدًا عن الأنظار (مؤامرة).
خيمة
وتسمى أيضًا بيت الشعر، وتُصنع من قطع نسيجية طويلة، تكون قماشًا خشنًا أسود اللون أو بنيًّا، وتُحاك من شعر الماعز أو صوف الخراف. تصفها الموسوعة العربية الميسرة بأنها «بيت أو مظلة، تُصنع من قماشِ أشرعة السفن المبطَّن باللباد أو الجلد، وتُثبَّت على قوائم، وتُشد على أوتادٍ استعملها الرحالة والصيادون والكهنة في التعبد.» ثمة خيام البدو، وخيام الجنود في المعسكرات، وخيام الرحلات، وخيام الفارين من الكوارث. وكان الخلفاء يحملون الخيام إلى الصحراء، ومعهم الجواري وآلات الصيد وأبسطة الحرير (رجل يشتري الحب، ٣٣٥). والخيمة فسيحة من الداخل بعكس ما تبدو عليه من الخارج: ستارة من القماش الملون المزركش تَشطرُها نصفين لتجعلها مكونة من صالتين، والأرضية مكسوة بالسجاجيد من صوف الأغنام المصبوغ بالألوان الزاهية، وتناثرت عليها المساند الحريرية، وأركان الخيمة مرفوعة قليلًا؛ مما يسمح للعين أن تشاهد مناظر الصحراء بتلالها البرتقالية وزرقة الأفق بعدها (السراية، ٢٧٩). والخيمة لازمة مهمة في الموالد، في كل خيمةٍ قارئ أو مطرب أو قارئ سيرة أو شاعر شعبي (أيام الإنسان السبعة، ١٦١). ويصف الفنان داخل خيمة أصحابها من الفقراء: ثمة عمود رئيس ضخم في الوسط، معلق عليه لمبة جاز، والأرض مفروشة بحصير ومفارش قديمة، وفي ركن وُضعت بعض المفارش والوسائد فوق الحصير، بينما صُفَّت في الأركان صناديقُ مغلقة وقُفَف وخيرزانة طويلة، بالإضافة إلى أطباق وأكواب وكيزان من الصفيح (الزهرة الصخرية، ٥٣). وقد توضع الخيمة على الشاطئ بديلًا للكابين والشمسية في آن (وقائع سنوات الصبا، ٦٧). والخيمة هي بيت البدوي (الأيام، ١ / ١٤، حمار الحكيم، ١٢٥). موقعها في الصحراء أو البادية، يتم اختياره بالقرب من الماء، ومن موقع الكلأ والرعي (المأثورات الشعبية أكتوبر، ١٩٨٦م). والخيمة أيضًا هي بيت الأسرة الغجرية. تُدق الأوتاد، وتُمد الحبال بين نخلتين معوجَّتين تظلان الخيمة، في حين تتناثر المعيز والأغنام في الخلاء (كوب الشاي الأخير). وينصُبُ العمال خيامًا يقيمون فيها في قلب أماكن العمل، أو بالقرب منها (مملكة التراب). وتُقام الخيام عادةً في أوقات الكوارث والأوبئة (البحيرة الوردية، ٢٩). خيام الإيواء ظاهرة تعقُب الكوارث كالحروب والأوبئة والحرائق؛ إلخ (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٢٩٩)، يقيم فيها المتضررون (الأحباب). وقد أفاد الفدائيون — في أعوام النضال ضد الاحتلال الإنجليزي — من الأرض المهجورة في نصب خيمة، وضعوا أمامها لافتة مكتوبٌ عليها بخط صغير: اللجنة العامة للكفاح المسلح، معسكر تدريب شبرا (قصة حب). وتتحول الخيمة — بعد استعمالها في الحرب — إلى بالْطو يَقي برودة الجو (الحرام، ٧). وقد تقلصت بيوت الشعر في البادية، وأقيمت بدلًا منها بيوت جديدة من الأسمنت (الكلب جاك).
درب
يأخذ الحي اسمه من الدرب عادة، والدرب طريق صغيرة، ضيقة، تشق الشوارع الكبيرة عادة، ويقفل كلًّا من طرفيه باب (القاهرة قصص وحكايات، ٢١)، والدرب يُفضي إلى العطفات [العُطوف] والحارات والأزقة. ودروب الأحياء الشعبية ضيقة، قذرة، دكاكينها قائمة على جنباتها، ودورها بالية عتيقة، متربة الجدران، عالية الأبواب، متقاربة النوافذ، تكاد يد الجار تلامس من خلالها يد جاره. أما أرض الطريق، فهي مكسوة غالبًا بكتل البازلت المربعة، المقلقة، وعلى الجانبين تتراكم كومات القمامة، تحيط بها المياه الآسنة (السقا مات، ٩). ويصف الفنان درب القرود بأنه «أشبه بثعبان رفيع رمادي، يتلوى داخل حي الحنفي، فلا تعرف له رأسًا من ذيل، والبيوت على جانبيه متربة، جدرانها خارجة داخلة بلا نظام، تتدلى من نوافذها قفف وخَضراوات وأشياء منزلية، تُشعرك للوهلة الأولى أن هذه البيوت تضيق بمحتوياتها» (حكايات صبري موسى، ١٩٠). أما درب البرابرة، فقد اشتهر بصناعة علب الملَبس والحلوى والشيكولاتة، وبيعها (سور الأزبكية، ٥٥). وقد اشتهر درب طياب — حتى صدور قانون إلغاء البغاء — بتجارة الدعارة؛ لذلك فإن الحركة كانت تدبُّ فيه منذ العصر، الأرض تُرش بالجرادل، والأبواب تُفتح، والمقاعد تُرصُّ في القهاوي، وتبدو النسوة في النوافذ، وأمام الأبواب المفتوحة، في أزياء مكشوفة؛ يتزينَّ، ويدخِّنَّ، ويتبادلنَ الأحاديث، ويطلقنَ الضحكات المتهتكة التي تلعلع في الجو، ويحترق البخور في الدهاليز (الجامع في الدرب، العالم الآخر). فإذا أتى الليل أضاء الدربَ مصباحان غازيان، متباعدان، يغلفهما الغبار الراسخ، فيغرق جنباته في شبه ظلام مثير للشهوات (حضرة المحترم، ٢٤).
دكان
عبارات الباعة في الدكاكين تكاد لا تتغير: أيوة … حاضر … كلمة واحدة … عندنا والله التمن واحد … دا صنف ممتاز … إحنا بنكرم في الصنف … لسة ما جاش (مملكة نبيل).
أما في الأحياء الوطنية فتعلو أصوات الورق وهو يتحول إلى قراطيس، والصنجات وهي تصطكُّ بكفة الميزان، وصاحب الدكان قابع خلف مكتبه الجانبي، وعيناه تمسحان الدكان بنظرات فاحصة (المصدر السابق). وكان دكان أحمد عبد الجواد متوسط الحجم، تكدست رفوفه وجنباته بأجولة البُن والأرز والنقل والصابون، وفي الركن الأيسر، قبالة المدخل، مكتب أحمد عبد الجواد بدفاتره وأوراقه وتليفونه، وفي اليمين خزانة خضراء تشي بالصلابة، يذكِّر لونها بالأوراق المالية (بين القصرين، ٤٤). وثمة دكان ضيق ومستطيل، وإن ازدحم بأشكال وألوان من الناس، والسقف واطئ، به منحنيات، والحوائط كلها، من الأرض إلى السقف، مملوءة بالأرفف، والأرفف مملوءة بالعيون، والعيون مملوءة بالبضاعة (الرجل الكئيب). وفي الدكان، على مدخل الحارة بالقرية الصعيدية، صُفت السلع على الأرفف، وفي الأسقف، حصل عليها من تاجر بالموسكي لقاء كمبيالات (الرقصة المباحة). وثمة من يُحيل إحدى حجرات بيته — يوسف سليم مثلًا — دكانًا يُطل على الشارع (الطوق والأسورة). وغالبًا، فإن صاحب دكان البيع والشراء يختار لمجلسه موضعًا عند مدخل الدكان ليرقُبَ حركة الطريق، ويأخذ مع الزبائن ويعطي، وليرقُبَ ما بداخل الدكان كذلك (عمامة بيضاء).
كان للفحم — حتى انتزع البترول مكانته الأهم بين مواد الطاقة — دكاكينُه الموجودة في الشوارع والأسواق (الدكاكين). ودكان العطار يحفِل بأصناف العطارة والأعشاب وشمع العرائس وسبوع المواليد ومستلزماته من الأباريق والقُلل المزوقة (يا عشاق النبي). أما دكان البقالة فهو يتسم بالصيحات التي تتعالى أمام الحاجز الخشبي: بتعريفة حلاوة … بقرش جبنة … قزازة خل … نص ورقة زتون … بنكلة كسبرة … قدح عدس … إلخ (نحن لا نزرع الشوك، ١٦٥). ثمة المعلبات على الأرفف، وأقراص الجبنة ولفافات الحلوى على الرخامة المستطيلة التي وُضعت تحتها صفائحُ من الجبنة البيضاء. أما جوالات السكر والأرز وصناديق الصابون، فتوضع داخل المخزن الذي يحجُبه عن باحة الدكان حاجزٌ خشبي. كما كُوِّمت أكياس كثيرة من الشاي وعلب الكبريت، على أرفف أخرى عريضة وراء المكتب الصغير (شتاء جريح، ٢٣٩). وقد شهدت دكاكين البقالة تحولًا في العقود الأخيرة؛ تبدلت التسمية إلى «سوبر ماركيت»، يقتني فيه الزبون ما يشاء من الأرفف، يضعه في سلة، ويدفع الحساب وهو يغادر المكان. تكاد صورة البقال الذي يقف وراء الرخامة، ليبيع كل شيء بالقطعة، وبنفسه، تقتصر على الأحياء الشعبية.
أما دكان البقالة في القرية فيختلف عن مثيله في المدينة، في نوعيات البضاعة التي يقدمها، فالرفوف مزدحمة إلى السقف بالعلب والأحقاق وكيزان الصابون والسكر والقماش وزجاجات المصابيح، والعلاقات من السقف محملة بملافح الرجال وشيلان البنات الحمراء والخضراء، والصناديق بجوار الحيطان مليئة ببلح التمر والعدس والفول، وعلى الأرض بلاليص العسل الأسود، وأجولة الأرز والملح (أيام الإنسان السبعة، ٩٨). كل الأشياء تتكدس بلا نظام، غارقة في الغبار والوساخة (المصدر السابق، ٩٨).
وبائع الفول يبيع الفول صرفًا، ويبيعه بالزيت على اختلاف ألوانه، ويبيعه بالسمن، ويبيعه بالزبد، ويضيف إليه عند الحاجة فنونًا من التوابل تدفع المشتري إلى طلب المزيد (الأيام، ٢ / ٩). ومفردات الأدوات التي يضمها دكان الجزار هي القُرمة والميزان والسكاكين والفوط والثلاجة (المراهقون، ١٠٦). يقف الجزار في مواجهة القرمة، من حوله اللحوم المعلقة، الشاش يغطي أغلبها، شاش مندي باللون الأحمر (القرمة). وثمة دكان تقتصر بضاعته على بيع عفش الذبائح: الرءوس والكوارع والطحال والحلويات والكرش والنفوس، وكل ما يتبقى من جسم الذبيحة بعد أن يأخذها الجزار (في سيدي زينهم). يطلق عليها الجزارون «الساقط»، وإن كانت من الأكلات الشعبية المفضلة. وللمسامط لغتها، فالعين تسمى الجوهرة، واللسان الأبوكاتو، والجبهة خد الجميل؛ إلخ … وكان دكان بيع السمك — قبل استخدام الغاز — يعاني ضوضاء وابور الجاز، وطشطشة قلي السمك في الزيت، والسواد الذي يكسو السقف والجدران والحوض والحنفية والبالوعة في أحد الأركان والأرض اللزجة الرطبة المليئة بمخلفات السمك؛ من زعانف ومصارين ونخاشيش، وتنتشر في الجو رائحة الزفارة والقلية والثوم والكمون (في سيدي الحبيبي). وتلتقط أصابع بائع السمك، المقلي والمشوي، قطع السمك المقلي من الصواني النحاسية الصفراء المفروشة بعيدان خضراء من بقدونس وجرجير، وتقذف بها في عجلة لتعبئتها في قراطيس جاهزة من الورق، وتقذف وراءها بلفائفَ صغيرةٍ معبأة بالدَّقة، ثم يُدفع بها إلى الأيدي الممدودة (المصدر السابق). ويختلف دكان الساندوتشات بالنصبة الزجاج، والأيدي تمتد فوقها، تكاد تحجب البائع، تأخذ الساندوتشات وتختار زاوية في الدكان لأكلها (الواقعة). ويصف الفنان دكان الفاكهي بأنه «من أرقى الدكاكين لذةً وثمرة وبهجة. هنا يحمرُّ في لحْظِك البرتقال خجلًا، فيتحير في ظاهره ماء الحياة، وجوفه بماء الحلاوة، ويعرض عليك التفاح، وجنة حمراء تضرب إلى السمرة كأنها كانت نائمة في الشمس، والكمَّثرى تنخرط في امتلاء وانتفاخ إلى أسفل، وقد مزق النضج جلدها؛ مما يُغري بها العض والهبش، ثم العنب المزدحم جماعات وطوائف كأنه أكياس صغيرة عُقدت على الخمرة الصهباء، ثم العناب في أسباته الرقيقة كأنه اليواقيت، والبطيخ المنتفخ في فخامة وأبهة؛ إلخ» (المصدر السابق). أما دكان الفطايري، فإنه، كما يقول الفنان، يستدعي إلى النفس صور الطفولة (المصدر السابق). يرصُّ الرجل على «البنك الرخامي» قطعًا صغيرة من العجين، في حجم قبضة اليد، يمسك إحدى قطع العجين، ويضغطها بين يديه، ثم ينشرها في الهواء، ثم يأخذ في طي أطرافها وتطبيقها وهو يغمس أصابعه بين حين وآخر في آنيةٍ مَلأى بالسمن، ويقطِّر منه في جوف الفطيرة، ثم يقذف بها في فوَّهة الفرن (في حارة السيدة). أما دكان الحلواني، فإنه يتميز بالفاترينة التي تمتد طوليًّا في المنتصف تمامًا، فيها أصناف الجاتوه، وعلى الأرفف زجاجات بأحجام مختلفة، وأشكال جميلة مرصوصة بعناية، إلى جانب علب الشيكولاتة الفاخرة (البشروش، ٧). وثمة دكان الأحذية الذي يتولى تصليح الأحذية وتلميعها، الكراسي الدوارة التي يجلس عليها الزبائن، والمكنة، والسندان (البشر الثلاثة). يجلس الرجل في عمق الدكان المستطيل وراء ماكينة الخياطة، يعاونه ثلاثة شبَّان لمسح الأحذية، يجلسون صفًّا أسفل الكراسي المتحركة (ذوو الدخل المحدود). والترزي يقف أمام البنك، على كتفه المازورة، وأمامه قماش يُعِده لبروفة زبون (الركن المهجور). أما الترزي العربي فهو يجلس متربعًا فوق الكنبة، ساقه اليسرى أسفل جسده، بينما ركبته اليمنى تُستخدم كمسند لما يحيكه من قماش: جلابيب بلدية وصديريهات وقمصان وقفاطين مما يرتديه أولاد البلد، بينما يجلس بالقرب منه صبي يؤدي عمله المكمِّل لعمل الرجل؛ وهو تثبيت الزراير على الملابس المختلفة (نهاية اللعبة). أما دكان الرفَّا فيقتصر ما فيه على نُتَف أشتات من الخِرَق والخيوط (الدكاكين). والمكوجي هو المنتدى المفضل للخادمات، قد يتزوجن بعلاقة مع صاحبه، أو مع أحد المترددين عليه، أو يُصغين إلى تحريض بسرقة أسيادهن، أو ينسَقْن — بالغواية — في طريق الخطيئة. وعادةً، فإن المكوجي العربي يستخدم قدمه اليمنى وهو منحني الظهر على المكواة، ويبخ دشًّا من الماء قبل أن يجري بالمكواة (فيلم تسجيلي قديم جدًّا). ولدكان المكوجي رائحة محببة، حين تمشي المكواة على القماش النظيف المبلول، وله في الشتاء دفء لذيذ، حتى في الصيف لا يضيق به أصحابه ذرعًا، فإنهم إذا لفَحتْهم الشمس عند سيرهم أو جلوسهم في الطريق، يجدون في عودتهم إليه راحةً في بخاره الرطب (السلم اللولبي). أما أهم ما يَسِمُ محالَّ بيع التحف القديمة، فهو الفازات والشمعدانات والتماثيل الخشبية والبرونزية والأثرية، على شكل مقاعد ودكك وأيقونات وصوانٍ وفوانيس وشماعات وطفايات وشمعدانات ذات أفرع رباعية وثُمانية (الموت والتفاهة، ١٦٢). وأما دكان الروبابيكيا، فهو صغير، به ملابس قديمة وتليفزيونات وفيديو وعطور وأحذية، يبيع القديم والجديد، ويشتري ويرهن (الموت والعصافير). ومفردات دكان الحداد هي الكور الدائب النفخ برتابة، تحيط به — كالسياج — أسياخُ الحديد المَحمي، وطرقات المطارق التي لا تنقطع (سوق الحدادين). وكم قاوم أحمد عبد الجواد التأثر وهو يرى دكانه قد تغير مظهرها ومخبرها! رُفعت اللافتة التي حملت اسمه واسم أبيه، وتحولت الدكان إلى دكان طرابيش للبيع والكي، يتقدمها الوابور والقوالب النحاسية (السكرية، ١٦٩). [اندثر دكان الطرابيشي في زمن تالٍ]. ودكان الحلاق يتميز عادة بستارة في مدخله من السلاسل المزوقة بوحدات الخرز الملون تمنع تسرُّب الذباب، وتنبه الأسطى إلى دخول زبون جديد (شكوى). أما المناشف، فتوضع على الحامل الخاص بها أمام الدكان (الصف المنتظم). ويعمل مقص الحلاق مرةً واحدة في الشعر، وعشرين مرة في الهواء، ويسنُّ الموسى على راحة يده، فلا يجرحها (مشية السمكري). وبعد أن ينتهي من حلاقة الرأس أو الذقن أو منهما، فإنه يلتقط الخيط بفمه، ويجذب شعر الجبهة والأذنين والوجنتين، ثم يمشي بحجر الشبَّة على الخدين وجلد الرقبة. وكان الحلاق كامل يقتعد كرسيًّا على عتبة دكانه، والمذبَّة في حجره، قد يغلبه النوم فلا يصحو إلا إذا اقتحمه صوت بنداء أو بدعابة (زقاق المدق، ٦). وعمل صبي الحلاق هو أن يهش الذباب من أمام الزبون بمنشَّة من الخوص، أو يُهوِّي — في الصيف — بمروحة من الخوص على وجه الزبون (حرافيش القاهرة، ٣٠). وتصف الفنانة محل الكوافير: «نساء أسلمن رءوسهن لرجال يقصون الشعر، يلفونه على لفافات أسطوانية صغيرة، يفردونه بالمكاوي الساخنة، يصفِّفونه، نساء مددن أيديَهن إلى فتيات تشذِّب لهن أظافر اليدين ويَطلينها بطلاء أحمرَ ناري، نساء غمسن أقدامهن العارية في أطباق بلاستيك صغيرة مملوءة بالماء، العاملات والعاملون منهمكون في الشَّعر والأيدي والأقدام، والنساء يتأملن أنفسهن في المرايا» (خديجة وسوسن، ١٩). والكوافير يعرف متى يكون «الميش» مطلوبًا، ومتى يكتفي بالآرت شو، أو البوستيج، ومتى تكون الباروكة هي الشرط الوحيد لإبراز فتنة المرأة، ويعرف كيفية عمل حمامات الزينة، ومكان وضع البلسم من جذور الشعر، وموعد الغسيل، وكيفية إمساك الشسوار لتجفيفه، والتسريحة التي تليق بكل وجه؛ إلخ (مايسة). وثمة الصيدلي في ردائه الأبيض، يقرأ الروشتات، ويأتي بالدواء المطلوب من الأرفف الكثيرة التي تغطي الجدران. قد يدخل الغرفة الداخلية ليصنع مزيجًا، يمسك بزجاجة بنِّية، ويضع فيها محاليل مختلفة من زجاجات كبيرة بيضاء، ثم يرفع القُمع، ويغلق الزجاجة بسدادة من الفلين، ويكتب على الملصق اسم الدواء، وعدد مرات تناوله، ثم يرجُّ الزجاجة بقوة، ويعطيها للزبون (خديجة وسوسن، ١٠). أما دكان الخطاط فيختلف عن بقية الدكاكين؛ بما يتناثر داخله من لافتات جميلة، وطاولة تتوسطها رُصت عليها قنِّينات الألوان والأقلام والمساطر (خان الخليلي، ٤٣). واللافت في دكان مبيض النحاس وقفة الرجل، يحك زنجرة الطشت والحلل الكبيرة بالرماد بقدميه، وهو غارق لصدره في حفرة استحدثها في ركن الدكان (فيلم تسجيلي قديم جدًّا). وكان دكان المعلم حسب الله، في حارة العوالم المتفرعة من شارع محمد علي، يقود أشهر الفِرق الموسيقية في تاريخ مصر، أفرزت الصورة التي عبر عنها المثل الشعبي «لابس مزيكا» باعتبار أن العازفين الحقيقيين في الفِرقة لا يزيدون عن ثلاثة أو أربعة، في حين يرتدي الباقون زي الفرقة، فيما عدا الأحذية التي كانوا يستبدلونها بتلوين أقدامهم بالورنيش الأسود، وتلميعها (عتريس الأكبر، ١٠٨). وكان دكان الحانوتي، والقول للفنان، «يبعث رجَّةً في الأعصاب كرجَّة الكهرباء أو الزلزال.» أما الحانوتي نفسه فهو «يصنع النعش، وهو أثلج الناس صدرًا، ولا حرج عليه» (الدكاكين).
•••
وجود دكان في حارة يهبها قيمة تميزها عن الحارات الأخرى، يمنحها طعم الشوارع الكبيرة ذات الأهمية (المصنع). والرصيف المقابل للورش الصغيرة يُعَد جزءًا منها (قنديل أم هاشم).
ويجلس أمام دكان البقال في القرية، كل ليلة، عددٌ كبير من رجال القرية، يخوضون في موضوعات شتى (الأرض، الرواية)، يتخاطفون سيجارة، يرصُّون كرسي معسل، يتراهنون على كسر أعواد القصب بسيف كف اليد، يتراهنون على أكل قطع الصابون وشرب الجاز؛ فضلًا عن التعليق على نسوان القرية عندما يَسِرْن أمامهم في الظلام (الليل الرحم).
وقد يحوِّل بعض التجار دكاكينهم إلى حجرات يغلقونها عليهم في الليل، وينامون داخلها (الإنسان). كما قد يتحول أحد الدكاكين إلى دور وسيط بين النافذة والقهوة، كأن يتابع المرء ما يدور بين الجالسين في القهوة والقابعة وراء النافذة؛ ذلك ما فعله الحلاق في دكانه حين تحوَّل إلى عين للزوج، فهو يراقب الشاب الذي يجلس في القهوة، فإذا غادر الزوج البيت، بادر الشاب إلى الدخول بإشارة من الزوجة في النافذة (ثمن زوجة).
دوَّار
لعل التسمية مأخوذة من «دار». يخصص في الأساس للضيوف، ولاجتماع الرجال في العصاري والأماسي. يجلس العائل في الوسط، ويخوض الجميع في مناقشات، بينما أكواب الشراب تدور عليهم. كما يخصص الدوار للاحتفالات ومجالس العزاء (قدر الغرف المقبضة، ٦). والدوار يطل على الطريق. وكان دوار الحاج كريم يقوم على رأس حارةٍ كلُّها آله وعصبته (أيام الإنسان السبعة، ٧). وشرفة الدوار توضع فيها دكك، وتُفرَش بالحصر البيضاء، وتنحدر سلالم الشرفة إلى الشارع (المصدر السابق، ٨٦). ودوار العمدة هو المكان الذي يستقبل فيه العمدة أبناء قريته، يناقشهم، ويحاول حل مشكلاتهم، ويزيل الخصومات قبل أن تستفحل. عبارة عن ساحة فسيحة، تضم غرفة التليفون، وغرفة السجن، وغرفة الاستقبال، وغرفة مكتب العمدة، وغرف الأغراض الشخصية للعمدة (أصوات). وثمة وصف آخر لدوار العمدة بأنه المكتب القديم ذو العرائس الخشبية، فوقه عدة التليفون الميري، وغرفة الحجز، وغرفة السلاحليك (شقق رجل عجوز أيضًا). وكان الفلاحون، في السابق، يسمُّون دوار العمدة «السراي». وكان بقاء العُمدية في الأسرة استمرارًا لبقاء تسمية السراي على الدوار (الشيخ مرسي يتزوج الأرض). إنه تمثيل للسلطة التنفيذية في أجلِّ مظاهرها (الصدى).
دير
يُطلق اصطلاح الدير على أماكن الإقامة المحاطة بالأسوار، وهي الصورة التي ما زالت عليها الأديرة في مصر (الأديرة الأثرية في مصر، ١١). ونشأة أيِّ تجمع رهباني تبدأ بمسكن ناسك متوحد مشهور، يتحول، فيما بعد، إلى مزار لتلاميذه ومحبيه والمؤمنين بمعجزاته (المرجع السابق، ٢٥). ويلخص الفنان صورة الدير في البناء الكبير بقبابه المتتابعة، وأنقاض الصوامع المهجورة، والعظام والجماجم على السفح (أبونا توما). الدير يشيَّد في حِضن الجبل غالبًا، أو فوق التلال، تميزه عن الطبيعة المحيطة به أسوارٌ عالية (خالتي صفية والدير، ٢٩). إنه قابع في وسط الصحراء، أسواره عالية، في داخله أشباح تُرفَل في أكفان سوداء، متسخة، خشنة، ولِحًى كثة مشعَّثة (الفصل قبل الأخير من حياة طريد). وهو، كما يصفه الفنان، يشبه القرية — إلى حدٍّ ما — بطرقاته المتعرجة وبيوته، أو قلاياته المبنية بالطين، تغطيها أسقفٌ على هيئة قباب (خالتي صفية والدير، ٣٦). ويطوف أحد الرهبان على سور الدير العريض للحراسة، معلقًا إلى كتفه بندقية عتيقة (أبونا توما). وعلى مبعدة من بناء الدير الضخم، تتناثر أبنية صغيرة قليلة، متداعية، يتكوم معظمها في صمت، مهجورة (أبونا توما). وحجرات العبادة في الدير اسمها القلايات، أو الجلايات — كما ينطقها أهل الصعيد — يخلو فيها رهبان الدير إلى أنفسهم، وإلى العبادة والتأمل معظمَ الوقت (خالتي صفية والدير، ٣٣). ورهبان الدير مشغولون دومًا بالصلاة، وبالترنم بكلمات الله، وتسبيحات الآباء والقِدِّيسين، ويذهبون إلى كنيسة الدير، ويعودون محمَّلين بزاد روحي من التقوى، وبقُفَف مملوءة بالخبز الجاف، يأكلونه على مدار السنة مبللًا بالماء الذي يصعدون به من البئر في صحن الدير (أبونا توما). وربما انشغل بعض الرهبان في خصف القُفَف، وصناعة الأقفاص بسعف النخيل وخيوط الكتان والخوص والإبر وغيرها (المصدر السابق). وكنائس الأديرة ليس بها مقاعد أو دكك، ويلتزم الحضور بالوقوف، رهبانًا كانوا أم غير رهبان (الأديرة الأثرية في مصر، ٩٠). وتمتلئ مكتبة الدير بالكتب، والأروقة والصوامع بالسلاسل والقفف (المصدر السابق). والفتاة التي لا ترغب في الزواج قد تتطلع إلى نذر نفسها للَّاهوت، والحياةِ في دير (سيرة الشيخ نور الدين، ١٤٢). وقد تكون حجرات الدير مُصمَتة، فيما عدا كوات صغيرة يدخل منها الضوء والهواء (الزهرة الصخرية، ٣٧). وثمة قاعة رئيسة مستطيلة، تختلف عن كل مباني الدير بسقفها المرتفع، وبالطاقات المستديرة العالية الموجودة تحت سقفها مباشرة، كأنها طاقات أبراج الحمام، وهي تتسم بجوها الرطب طيلة أيام السنة، حتى في عز الحر، وتضم آثار الدير الكثير من اللوحات وقطع النسيج والأخشاب المنقوشة والأيقونات (خالتي صفية، ٣٨-٣٩). وفي كل ديرٍ مَن يغسل سراويل الرهبان العجائز، ويكنس قلَّاياتهم، ويمسح أبهاء الكنائس، ويرفع الماء من البئر، ويروي الزرع (الفصل قبل الأخير من حياة طريد). والرهبان يقومون بواجب الضيافة في أحيان كثيرة للجوالين في الصحراء، بل يسعون إلى صداقة الناس، ومعرفة أخبار الناس والبلاد (الزهرة الصخرية، ٣٨). ويمر البدو بالأديرة في أثناء جولاتهم، يتوقفون ليتناولوا طعامهم، يدخلون أحواش الأديرة ليريحوا خيولهم وجمالهم وإبلَهم، ويصل إليهم الطعام والشراب عن طريق الكوات التي يتدلى منها حبال، ثُبِّتت في أطرافها قُفَف مملوءة بالطعام والشراب. وقد يحتمي البدو بالحجرات الداخلية في الدير إذا قامت عاصفة رملية (الزهرة الصخرية، ٣٨). ومن يخالف نُظم الحياة في الدير، فإنه يواجه الطرد؛ لأن «ابن الطاعة تحلُّ عليه البركة، وابن المعصية يُطرح خارجًا» (الفصل قبل الأخير من حياة طريد). وهناك العديد من المعابد الفرعونية، تحولت إلى أديرة لرهبان المسيحية، مثل دير المحرق في الصحراء الغربية، ودير العربة في الصحراء الشرقية، وغيرهما (نوة الكرم، ٢٣٨).
رصيف
الرصيف لسير المشاة. ومن مألوف قول المصريين: أنا واقف على رصيف الحكومة. تقال لأصحاب البيوت أو الدكاكين الذين يطلبون من الآخرين أن يبتعدوا عن الرصيف (سور الأزبكية، ٢٦). وقد يكون الرصيف مكانًا مناسبًا للانتظار (سأكتفي بالحب)، وأحيانًا، فإن الرصيف، في موضع محدد، يصبح موعدًا للقاء؛ منطقة الأمريكيين مثلًا، كان الشبان والفتيات — أعوام الأربعينيات — يلتقون فيها، في اتفاق غير مكتوب (قصر النيل، ١٦٢). وعندما يعاني شخصٌ ما الملل، فإنه يلجأ إلى التسكع على أرصفة الشوارع المزدحمة في قلب المدينة (معجزة كل يوم). والرصيف هو المكان الذي ينام فوقه من يشغلهم أن يكونوا أول الطابور، كالوقوف أمام بنك أو سفارة؛ إلخ (ذات، ٢١٦)، وهو الموضع الذي يفضله الباعة الجائلون ﻟ «فرش» بضاعتهم (نصف الحقيقة الآخر، ٢٨٥). يحتله، في أحيان كثيرة، باعةُ الفاكهة والخضر والشامبوهات وأدوات التجميل الزائفة والجوارب وغيرها، غير آبهين بقوانين إشغال الطريق، مقابلًا لدفع نقود إلى سلطة الإدارة يحمِّلونها على ثمن البضاعة (تغريدة البجعة، ١٨٤). وقد تحتل بائعة الفجل جانبًا من الرصيف، ترصُّ الحِزَم على قفص من الجريد، وبجوارها سلة ممتلئة بالليمون (في حارة السيدة). وثمة من يفرش حصيرةً على الرصيف، ويتغطى بلحاف، فالرصيف مأواه (حرافيش القاهرة، ٥٤). وبدأ المعلم مصباح بائع الكتب في سور الأزبكية حياته بائعًا على الرصيف لكتب مستعملة مما يباع بالكيلو لبائعي اللب والحمص والفول السوداني (سور الأزبكية، ٧١). والرصيف هو المكان الذي يؤدي فيه ماسح الأحذية عمله (سياحة البطل). والذين بلا مأوًى يلجئون إلى الرصيف (تفاصيل ما يحدث في الليل)، فالإنسان الذي يفتقد المأوى يلجأ إلى رصيف ينام فوقه لصقَ الجدار (أيام الإنسان السبعة، ١٤). وعندما افتقدت زينب المكان الذي تأوي إليه، لجأت إلى الرصيف تبيت فوقه (الطريق الآخر). وثمة أُسر تحيا بأكملها على الرصيف (حمار الحكيم، ٦٧). وقد انتهى الحال بالأب الذي أغْوَته غازية إلى الدروشة، والجلوس — بملابس مرقعة — على رصيف جامع السيدة زينب (هجرة الضحاك). وثمة من يختارون موضعًا على الرصيف طلبًا للتسول (٥ باب). وقد يتحول الرصيف إلى مكان انتظار لوسائل المواصلات (كنت بحاجة إليك)، فيضطر المشاة إلى السير في الشارع، حتى يظهر الرصيف، فيعتليه (ذات، ١٨٢). ويتحول بعض الأرصفة، بتأثير الأتربة المكومة فوقه، إلى بقايا، أو أجزاء، من رصيف (ذات، ١٧٧). ولاستخدام الرصيف قواعد، يجب عدم إهمالها، فإذا زادت — مثلًا — صناديق معروضات الباعة فوق الرصيف، أتت سيارات البلدية، وقفز جنود الشرطة كالجراد، يحملون الصناديق، ويحملون الباعة، إلى داخل العربة (جراح قديمة). ويرتبط الرصيف — عادة — ببنات الليل، فهن بنات الرصيف (الرصيف). وعندما نريد أن نتحدث عن شخص شَقيت حياته، فإننا نصفه بأنه «تربَّى على الأرصفة» (عتريس الأكبر). والصلة بين الرصيف والأمكنة الأخرى تَبين في حرص الراوي على الجلوس على قاعدة الرصيف الحجرية في مدينة إخميم، يناجي محبوبته، عندما تتلاشى إيقاعات أقدام المارة، وتنام البيوت (عميش في إيطاليا). كما تتحقق الصلة بين الشجرة والرصيف بالأشجار الممتدة على طول الرصيف، تمنع حرارة الشمس من الجالسين، أو الوقوف عليه (أشياء صغيرة). وربما وُضعت أمام الدكان مصطبة أسمنتية، تُصف فوقها البضائع، أو للتجميل (سبيل الماء، ٥٤) [راجع: المصطبة].
زاوية
جمعها زوايا، وتطلق على كل مبنًى أو مسجد صغير للصلاة والعبادة (أبو العباس، رباعية بحري)، وإن كان معناه في المغرب بيت الصوفية. يقول المقريزي إنها كانت دورًا لعباد الله الصالحين من الصوفية وفقراء العجم والخدَّام من الحبش والأبناء وغيرهم من أهل الصلاح والورع (خطط المقريزي، ج٤)، لا مئذنة لها. كانت قديمًا تُعد لإقامة بعض المصلين، للتعبد بين جدرانها، ولم تكن تقام فيها صلاة الجمعة، ثم أصبحت الجمعة تقام في أكثرها. ولأن الزوايا لا تشترط إمامًا معيَّنًا من وزارة الأوقاف، فقد اختار أمين عزب زاوية خطاب بالإسكندرية، يؤم فيها المصلين احتسابًا، ويُفتي بما غمُض عليهم من أمور دينهم، ويقضي في شئون دنياهم (المصدر السابق، ٤٨). وهذا هو ما فعله شيخ الصوفية يوسف بدوي، فقد اختار زاوية الأعرج بشارع الميدان، يلتقي فيها بمريديه، وقصَده في الزاوية خلق كثيرون من أهل بحري والأحياء المجاورة (المصدر السابق، ٦٢).
زقاق
الزقاق في اللغة هو الطريق الضيق، نافذًا أو غير نافذ، ويُجمع على أزقة. والزقاق في الأغلب مسدود (تل القلزم، ١٢٠). وهو أصغر من الدرب، وربما يتفرع عنه. ويختلف الزقاق عن الشارع والدرب والحارة والعطفة، في أنه لا يفضي إلى شيء. في نهايته بيت أو مخزن أو متجر أو حائط. والخوخة زقاق صغير يصل بين حارة وحارة أخرى. ولخصوصية المكان ومحدوديته، فإن العلاقات بين سكانه تختلف عنها في أماكن أخرى. وبالتحديد، فإن العلاقة بين أبناء الزقاق بديهية أو مفترضة. المدخل واحد، ووحيد، والنوافذ تقترب فتكاد تتلاصق، وتطورات الحياة معلنة، والخلافات الطارئة ما تلبث أن تغيب بتدخل الجيران، أو بتجدد اللقاءات، والتكافل يفرض نفسه، فيبدو الجميع كأنهم أفراد أسرة واحدة، يتفقون ويختلفون، وربما علا بينهم الشجار، لكن خصوصية العلاقة سمة ثابتة ومتواصلة، والوجه الغريب يسهُل اكتشافه، والعلاقات المحرمة يصعُب حدوثها داخل الزقاق. الكل يعرف الكل، فلا سبيل إلى التجاهل أو التغاضي أو الادعاء بما ليس صحيحًا … ذلك ما يُبين عن نفسه بوضوح في زقاق المدق: حميدة تحب عباس الحلو، عباس الحلو الحلاق صديق لكل أبناء الزقاق، وبالذات المعلم كامل الحلواني، حتى حسين كرشة الذي غادر الزقاق بحثًا عن المستقبل الأفضل، يحرِّض عباس الحلو — في زيارة سريعة للزقاق — على السفر إلى القناة، والعمل في معسكرات الإنجليز، والفتاة الجديدة التي تقطن شقة حميدة، يتحدث أبناء الزقاق حالًا عن وجهها الذي كأنه فلقة القمر! وعندما يَفِدُ فرج القوَّاد مع مواكب الانتخابات، فإن حميدة تتنبه على الفور لهذا الغريب.
الزقاق متفرع من شارع الصنادقية، وهو شارع تخصص حِرفيُّوه في صناعة الصناديق التي كانت تُستخدم بدلًا من الدواليب التي تُعَد من الأثاث الحديث في معظم البيوت المصرية. الزقاق — في الرواية — هو البطل الرئيس، به تبدأ، وبه تنتهي، والفنان يضفي عليه من الصفات الإنسانية ما يجعله «يبكي صباحًا، ويُقهقِه مساء، فالنسيان من شِيَمه» إلخ … واستاتيكية الحياة فيه، بل وفقرها، هي التي دفعت بعض أبنائه إلى البحث عن فرص أفضل خارجه، مثل حسين كرشة وعباس الحلو وحميدة. وكان حسين كرشة أشد الجميع رفضًا لكل ما في الزقاق، ولكل مَن فيه أيضًا، وسافر إلى معسكرات الإنجليز، بعد أن قطع كل صلة بينه وبين الزقاق …
زقاق المدق، كما يصفه الفنان، «أثر نفيس. كيف لا، وطريقه المبلَّط بصفائح الحجارة ينحدر مباشرة إلى الصنادقية! تلك العطفة التاريخية، وقهوته، المعروفة بقهوة كرشة، تزدان جدرانها بتهاويل الأرابيسك. هذا إلى قِدَم بادٍ وتهدُّم وتخلخُل، وروائح قوية من طب الزمان القديم الذي صار — مع كُرور الزمن — عطارةَ اليوم والغد» (زقاق المدق، ٥). وتحُدُّ الزقاقَ ثلاثةُ جدران، باب على الصنادقية، يصعد في غير انتظام، وفي جانبٍ منه دكان وقهوة وفرن، وفي الجانب الآخر دكان ووكالة، وينتهي ببيتين متلاصقين، يتكون كلاهما من طوابق ثلاثة (المصدر السابق، ٥).
•••
هل كل الأزقة مثل زقاق المدق الذي «يكاد يعيش في شبه عزلة عما يُحدِق به من مسارب الدنيا، إلا أنه على رغم ذلك يضجُّ بحياته الخاصة، حياة تتصل في أعماقها بجذور الحياة الشاملة» (زقاق المدق، ٥)؟ من الصعب وصف الشارع المؤدي من الغرفة التجارية بالإسكندرية إلى شارع سعد زغلول بالزقاق. طبيعة الزقاق تختلف بأنه بلا رصيف — في الأغلب — وغير مُسفلت، ومسدود في نهايته (صياد اليمام، ٢٦٧). وثمة زقاق يضم بيوتًا تسعة، وينتهي بسور حجري عالٍ وعتيق، يحجب عالَمَ الزقاق الموصد عن جنينة الباشا التي تمتد وراءه إلى مدًى يجهله سكان الزقاق، تهُبُّ منها روائح الفاكهة، حسب المواسم، عالمان منفصلان (الشيخة بلبل). وإذا كان نجيب محفوظ هو أول من أطلق اسم الزقاق على رواية، هي زقاق المدق، فإن صالح مرسي قد اختار الزقاق اسمًا لعمله الروائي الأول: زقاق السيد البلطي.
والزقاق هو التعبير عن المدينة التقليدية، تلك التي لم تتأثر كثيرًا بما وفَد على المدينة الحديثة من عادات ومعتقدات وأنماط سلوكية. ولعل — الزقاق من ناحية أخرى — هو همزة الوصل من حيث البعد الاجتماعي والأخلاقي بين الريف والمدينة. إنه يشكِّل — على نحوٍ ما — ملاذًا للقيم والموروثات التقليدية، بعكس الحياة المغايرة في المدينة التي يختلف إيقاعها.
زنزانة
الرائحة العطنة يتبينها من يقترب من باب الزنزانة، رائحة بول تتجمع في بحيرات صغيرة بالقرب من الأركان (رائحة البرتقال، ٨٠). وما يكاد النزيل يخطو بقَدمه على أرض الزنزانة، ويصطكُّ الباب خلفه، حتى يسمع دوران مفتاح الطبلة الحديدية بتكَّاته الثلاث (سبعة في زنزانة). ينفرج الباب ليتسرب شعاع ضوء من الطرقة العلوية للسجن إلى أسفلت أرض الزنزانة (المصدر السابق). والداخل إلى الزنزانة لا يرى — بعد إغلاق بابها وراءه — تفاصيلَ وجوه المقيمين بها قبل شعوره بالمحاصرة المكانية، والصمت الساكن في حوائطها وسقفها وأرضها الرطبة. يحدث ذلك للحظات، حتى يتعود على الرؤية في ضوئها الرمادي الخافت (المصدر السابق). ويروي إسماعيل الشيخ قصة إيداعه الزنزانةَ للمرة الأولى في حياته: «مددت ذراعي أتحسس المجال، تحركت بحذر شديد. سرَتْ برودة الأرض في قدمي، لم أعثر بشيء إلا الجدران، لا يوجد في الحجرة شيء، لا كرسيَّ ولا حصيرة ولا أيَّ قائم، الظلام والفراغ والحيرة والرعب، والزمان في الظلام والصمت يتوقف تمامًا» (الكرنك، ٥١). ومساحة الزنزانة محدودة للغاية، أرضها صلبة ناعمة تنفث برودةً ورطوبة كبلاط الحمَّام، ويتجاور فيها كُتلٌ من اللحم طرية وساخنة ولَزِجة، مختلفة الأشكال والأحجام، أذرع ورءوس وظهور وبطون آدمية، كلها تعاني من درجة السخونة، ومن رائحة الأنفاس (المربع). ثمة زنزانة عرضها لا يزيد على مترين، وطولها ثلاثة أمتار، ليس بها أي منفذ للتهوية سوى طاقة أعلى الباب لا تأذن لرأس آدمي بالإطلال منها، عليها أسياخ متقاطعة من الحديد (سجناء لكل العصور، ٥٧)، لا يبين منها سوى صفحة السماء، وفي أرضها دلوان؛ أحدهما لماء الشرب، والآخر لقضاء الحاجة (الليلة الأولى). الجردل هو دورة المياه في أية زنزانة (الزنزانة). وثمة زنزانة مفروشة بأبراش الليف، والأغطية بطاطين، والباب غليظ مصفَّح بشرائح الحديد ورءوس المسامير، والجدران نظيفة، لكنها صلدة ثابتة، ومن الشباك بأعلى، نُصِب مربع ضوء شاحب خلف الباب، «وأنا والبول في الركن» (قدر الغرف المقبضة، ٨١). والزنزانة تصبح ضيقة للغاية إذا أُودع فيها سجناء كثيرون، فهم ينامون بالعرض متجاورين، يضع كلٌّ منهم جنبه لصق الآخر (سجناء لكل العصور، ٢٥). وفي وقت محدد، يفتح جندي باب الزنزانة، ويقود السجين إلى مرحاض في نهاية طرقة، ويتبعه السجين مُغمض العينين، تفاديًا لألم الضوء (الكرنك، ٥٢). والعادة أن يتقاضى الحراس ثمنًا لكل شيء: نزهة في الحوش، قضاء الحاجة خارج الزنزانة، جرعة من ضوء الشمس (الهروب من الموت). والزنزانة من الداخل عالم آخر، مختلف، يسوِّي حساباته بقانونه الخاص، وله عُملته الخاصة، وهي السجائر والمخدرات والقمار والشذوذ، وله رجاله الذين يتحكمون في كل شيء فيه (الليل الطويل). والنزلاء السابقون يعلِّمون الوافد الجديد أن يرسم على جدران الزنزانة خطوطًا متوازية يحصي بموجَبها الأيام أو الشهور، فإذا طالت المدة قد يهمل الاستمرار في اللعبة، يترك للأيام حساب نفسها، فتتحول الزنزانة إلى صحراء ممتدة، لا فواصل ولا علامات مميزة (البصقة، ٦٤). وقد يكتب النزيل يوم خروجه على الجدار فوق رأسه، يحفره بمسمار وبخط صغير (الخروج). ويصف الفنان زنازين الدور الأرضي بأنها «قبور حقيقية مظلمة»: المساجين مُهلهَلو الثياب، نابتو اللحى، منحرفو الخِلقة، شائهو الأفواه والعيون، يمشون الهوينى أو يقفزون بشكل مفاجئ، أو يصرخون، أو يتعاركون، أو يضحكون (قدر الغرف المقبضة، الرواية).
وثمة زنازين تحت مستوى الأرض، النزول إليها عبر درجات منحوتة في الصخور، تنتهي إلى ممر أشبه بنفق ضيق مظلم، نهايته باب الزنزانة، لا تطل على الخارج إلا من طاقة صغيرة مستديرة في حجم البرتقالة (هزل الختام). وكان نزيل سجن القلعة ينزل سلالم حجرية يزيد عدد درجاتها عن الأربعين، حتى يصل إلى الزنزانة المنفردة في أعماق بطن الجبل (ابنة رجل خائن) [اقرأ: السلم]. أما زنزانة المحكوم عليه بالإعدام، فإنها تتحول إلى مقبرة يُنتظر فيها الموت الفعلي، حين ينفتح الباب فلا يُدري إن كان ذلك لتقديم الطعام أم لبداية السير إلى حبل المشنقة (كأن).
والتكديرة تعني عقاب النزيل، بمنعه من مغادرة الزنزانة لمدة محددة، تطول أيامًا أو أسابيع (سبعة في زنزانة). وزنزانة التأديب أو الحبس الانفرادي تسمى أحيانًا الحمرا (في الظلام، ١٥٦). لولا الثقب في الباب الموصد لباتت أيام النزيل فيها ليلًا متصلًا (المصدر السابق، ١٣). ويواجه فيها النزيل قص الشعر والصفعات والركلات (قصة يوسف). ويصف الفنان زنزانة الانفرادي بأنها حجرة متر في متر، لا يرى منها السجين سماءً ولا أرضًا، وبعد أربع وعشرين ساعة يحدث نفسه (الزنزانة، ٦٩). وطبيعي أن الإغلاق المستمر للزنزانة يجعل أي انفلات نحو الهواء الطلق متعةً حقيقية (البصقة، ٤).
ساحة/وسعاية
كانت الوسعاية هي الشخصية الرئيسة في رواية البلد (البلد، الرواية). إنها الشاهد على كل الأحداث التي تمر بها البلد، بل لعلها المرادف للبلد. ويخاطب إسماعيل نفسه وهو يتأمل الوسعاية: هذه الوسعاية شهدت كل حياته (البلد، ١٨). وكانت الوسعاية معْبرًا هامًّا بين مصانع النسيج في مدينة المحلة، بمبانيها الضخمة الحديثة في أطرافها، وبين سوق البلد القديم، جامع المتولي، وحي سوق اللبن العتيق. وكان يحيط بها صهريج المياه بحديقته الصغيرة، وزاوية الصلاة التي تنتهي بضريح سيدي الأنصاري (عربة الهريسة).
والرحبة هي البرحاية — المرادفة للساحة أو الوسعاية — التي تتقابل عندها كلُّ شوارع القرية وحواريها، فهي قلب القرية (السنيورة). لذلك يصف الفنان الساحة بأنها ترمز إلى التجارة (من حوار للكاتب مع نجيب محفوظ). وفي الساحة تقف عربات الأجرة لتنقل المسافرين إلى مدن وقرًى أخرى (أيام الإنسان السبعة، ١٠٢). والساحة هي المكان الذي تُقام فيه الموالد، سواءٌ في المدينة أو القرية. وساحة المولد، كما يصفها الفنان، زيطة، ناس وقهاوي وصواوين وحلقات ذِكر وحُواة وغوازي وطبل وزمر (حكايات صبري موسى، ٢٠٢). وكانت ساحة سيدي نصر الدين هي الموضع الذي تُقام فيه حلقات الذكر: الأنوار والزينات والأعلام والبيارق، والزحام الهائل، وتلاغط الأدعية والابتهالات والأذكار، وتطوُّح الأجساد في حلقات متقاربة، ومتباعدة، وتزاحم الكثيرين على الأرصفة، وفي مداخل البيوت والشرفات والنوافذ (الصهبة، ١٠). وعادة، فإن سوق العيد يقام في الوسعاية (اليد الكبيرة). والوسعاية، أو الساحة الواسعة، هي المكان الذي تقام فيه المناسبات المهمة، كالأفراح والعزاء (السفينة). وهي أنسب الأماكن لأداء الصلوات، أو للاجتماعات الجماهيرية (إمام آخر الزمان، ٤٨). وفي أوقات الثورات، أو المظاهرات، فإن الساحة تتحول إلى مكان يُعسكر فيه الجنود. وقد أقام جنود الإنجليز في الساحة المواجهة لبيت بين القصرين — إبان ثورة ١٩١٩م — معسكرًا لهم (بين القصرين الرواية). ويمارس الأولاد لعب الكرة في الساحات الخالية (في البغالة). وتشهد الوسعاية زحامًا من النساء والأولاد العرايا عندما تقام بها حنفية مياه (بيوت وراء الأشجار، الرواية). وعندما تتسع مساحة المباني، فإن أول ما يحدث هو تقليص مساحة الوسعاية (حادثة شرف) [راجع «حنفية المياه»].
ساقية
مهمتها الأولى هي ري الأرض المرتفعة، بأن يجرَّها ثور — أو اثنان — وقد عُصبت عيناه كي لا يرى سوى العمل (عودة الروح، ٢ / ٣٤). وبالطبع فإن أداء الساقية يرتبط بالفيضان، فهي تؤدي عملها على أكمل نحوٍ إذا جاء الفيضان وفيرًا، لكنها تعطي مياهًا قليلة إذا قلَّت مياه الفيضان. والمواعيد تؤخذ عند الساقية، كما أنها تُعَد مكانًا للِّقاء والاستراحة (الغريب، دولت، ٢٣٢)، ففي ساعة القيلولة، تحت مساحات الظلال المتآكلة، يجلس الرجال فوق مدار الساقية، يتحدثون، ويلعبون السيجة (أخبار عزبة المنيسي، ٢٤٦)، ويقضون أوقات السَّمر في ضوء القمر. وقد يتلاقى حولها المحبون بعيدًا عن النظرات، أو الأشقياء لتدبير جرائمهم، وتُخفى في مياهها المسروقات، وربما ألقى القاتل بجثة القتيل في ساقية مهجورة (يوميات ضابط في الأرياف، ٣٤)، أو حتى مستعملة لمن لا يستحب أن تحويهم المقابر. تُلقى فيها الجثة بعد ربطها بحجر، وتتكفل مياهها بالتحام لحمها وعظامها وما ترتديه في أيام (الغريب، دولت، ٢٣٢).
والساقية المهجورة مكان مناسب لإخفاء جثة القتيل (يوميات ضابط في الأرياف، ٣٦). قد تجتذب الذئاب للإقامة فيها وحولها (أطفال الذئاب). والسواقي في معتقد أهل القرى مسكونة في الليل غالبًا (أحزان مدينة، ١٦٨). ولها عبْدة تجرِّف من تستطيع إلى بطن الساقية (ديروط الشريف، ٧٢).
سبيل
معناها الطريق، أي إنها أُعدت لسقيا عابري السبيل (القاهرة قصص وحكايات، ١٠٢). جمعها أسبلة، وهي مبانٍ أنشأها أهل الخير بهدف توفير المياه اللازمة للشرب بصفة دائمة، وتسبيلها على الناس في الأحياء والطرقات (التطور العمراني لمدينة القاهرة منذ نشأتها وحتى الآن، ٧٤). عبارة عن بناء من الأسمنت يشبه الضريح الصغير، له أربع نوافذ تطل على الجهات الأربع، فوق كل نافذة كوز من الصفيح (العراوي، ٣٣). وكان السبيل، في البدايات، يوضع في أحد أركان المسجد للشرب، يعلوه في بعض الأحيان كُتَّاب لتحفيظ القرآن، ثم استقلت الأسبلة فيما بعد (العمارة الإسلامية، ٢٠). وكان الماء يُحمل إلى الأسبلة من النيل على ظهور الجمال. وعادةً، فإنها تزدان بأعمدة رخامية وشبابيك من البرونز، وقد يشغل الطابق العلوي في السبيل «كُتاب» يتعلم فيه الأطفال — بالمجان — القراءة والكتابة والحساب، وإلى أيام الحملة الفرنسية كان في القاهرة ٦٠ سبيلًا رئيسًا (وصف القاهرة وقلعة الجبل، ٨٥). وأصبح عدد الأسبلة — في القرن الثامن عشر — حوالي ثلاثمائة سبيل (المجتمع المصري في العهد العثماني، ٩٠). وقد يُلحق السبيل الخاص بالناس بأحد المساجد. والسبيل موضع مناسب لجلوس الشحاذين (على لوز). وكان سبيل أم عباس — نسبة إلى والدة الخديوي عباس حلمي الثاني — في ميدان الجيش، غرفة بها نافذة. وفي النافذة حوض به ماء بصفة مستمرة، وبجواره كوز ليشرب منه المارة (مآذن دير مواس، ٢٤٥).
والسبيل في القرية عليه قبة صغيرة، كأنه شيخ صغير، تستر زيرين باردين في الظل؛ فضلًا عن طلمبة ماء تضخ الماء في حوض لسُقيا الدواب (أيام الإنسان السبعة، ١: ٤). وكان في مناطق متناثرة من القاهرة أحواض لشرب الدواب (في سيدي زينهم).
سجن
السجن كما يُعرِّفه ف. ي. إمري «عالم صغير، لكنه غامض غريب، لا يكاد يعرف الناس عما يجري وراء أسواره إلا بالقدْر الذي يحقق أهداف الكاتب، أو يُشبع فضول القارئ. إنه لا شك عالم منعزل تحيط به الأسوار العالية من كل جانب، يتساوى فيه المجرم المسجون وموظف السجن اللذان يعيشان خلف أسواره سنينَ طويلةٍ دون كبير حرية واختيار» (عالم الفكر، المجلد الرابع، العدد الثالث). ويقول الفنان على لسان اليمامة: «ابن آدم أوتي اليد واللسان، فابتدع السجن. أبشع ما قام على الأرض من بناء، يزجُّ فيه باسم مقدساته كل من يخالفه (محب، ١٥٤). ويسأل علي فضة: من الذي اخترع السجن؟ ويجيب عن سؤاله: في قديم الزمان كان الأسرى يهربون من العمل، فلزِم عملُ سور حول أماكن نومهم. إذن فالحرب هي السبب. ويستطرد: بل اكتشاف الزراعة لكي يعملوا. ويعلو صوت: لعنة الله على الحرب والزراعة معًا (سجناء لكل العصور، ٥١). كان السجن — إلى أواخر القرن التاسع عشر — اسمه «الحبسخانة» (الأهرام ٢٧ / ٤ / ١٩٩٥م). وكان — في القديم — مكانًا مُعدًّا للتعذيب والانتقام، ثم تطور — في العصور التالية إلى الآن — ليصبح مكانًا للإصلاح والتقويم، أو هذا هو المفروض. قد يكون السجن مؤقتًا في حجرة ملحقة بقسم الشرطة، قبل أن يُنقل إلى سجن الترحيلات. وبعد أن استقبل السجان — بكشافه الكهربائي — أحمد شوكت وشقيقه عبد المنعم شوكت، في الدور الأرضي في قسم الجمالية، صوَّب ضوء مصباحه إلى داخل حجرة فتحها بنفسه؛ ليهتديا إلى البرشين اللذين سيجلسان عليهما، وأضاء الكشاف المكان فبدا متوسط المساحة على السقف، ذا نافذة صغيرة في أعلى جداره، تعترضها القضبان الحديدية (السكرية، ٢٨٢). المشهد الذي يكاد لا يتغير في أي سجن: النوافذ، وأذرع المساجين تلوح منها، والأهل واقفون خارج الأسوار يصرخون (قدر الغرف المقبضة، ١٠٣). وكما يقول فوكو، فإن السجن يمثل المكان الذي تمارس فيه السلطة ببذاءة وتبرُّج في شكلها الأكثر تقليدية، والأكثر وقاحة، والأكثر صبيانية (مدخل لدراسة النص والسلطة، ٣١-٣٢). السجن «حياة رهيبة، يتولى فيها أناس حبس أناس، وخنق أناس، وضرب أناس وحشدهم وتكديسهم، هكذا في علب محبوكة من الزنازين والحجرات (الرجل والنملة). المرء يلتقي داخل السجن بكل ما يمكن أن يخطر على باله من تُهم ومتهمين ومعتقلين وبواعث اعتقال ووسائل تعذيب» (المصدر السابق). وكما يقول الفنان، فإن السجن ليس إلا كلمة «ممنوع» كبيرة وشاملة، ممنوع كل شيء إلا ما يُبقي عليك الحد الأدنى اللازم كي لا تموت (مسحوق الهمس). ويقول المحامي: «السجن كالجامع، مفتوح للجميع، وأحيانًا يدخله الإنسان لنبل في أخلاقه لا اعوجاج» (الطريق).
•••
سجن الترحيلة، أو التخشيبة — ويتبع قسم الخليفة — (الزنزانة، ٢١٩) هو المكان الذي ينتقل إليه النُّزلاء من الأقسام. فناء مربع تحيط بأضلاعه الأربع حجرات متجاورة في صف واحد، ومن طابق واحد، وفي وسط الفناء نُصُب يشبه التمثال وسط دائرة مزروعة بالنجيل والزهور. ضلع به باب مكتوب عليه «الزيارة»، وضلع به بابان «المخزن والاستقبال»، وضلع ثالث به ثلاثة أبواب «الضابط النوبتجي والكتبة ودورة المياه»، وضلع به باب واحد تصعد إليه بعدة درجات مكتوب عليه «مأمور السجن» (المصدر السابق، ٥٢). وعنبر الاستقبال عبارة عن حجرة كبيرة سقفها بعروق خشب، يودَع فيها كلُّ أنواع المتهمين، وما يكاد النزيل يدخل السجن حتى يخضع لتفتيش دقيق؛ بحثًا عن الممنوعات (المصدر السابق، ٥٢). ويحني النزيل رأسه في البداية لماكينة الحلاق، فيجزُّ ما بها من شعر، ثم يقف وظهره إلى الحائط، ويضع على صدره لوحًا مكتوبًا عليه اسمه ورقمه بالطباشير، وتُلتقط له صورة وهو في هذا الوضع (المصدر السابق، ٥٤). ويضم عنبر الإيراد نُزلاءَ من كل صنف ولون، مستويات اجتماعية مختلفة، ونوعيات من الجرائم متباينة (المصدر السابق، ٦٣). وفي زنزانة الإيراد يفترش النزلاء البطاطين على البلاط (المصدر السابق، ٦٠)، وتُربط في قضبان النافذتين حبالٌ مدلَّاة على الجدار، معلَّق بها سِلال وحقائب النزلاء (المصدر السابق، ٦٠). وإن وصف الفنان زنزانة في عنبر الإيراد بأن عرضها متران ونصف، وطولها سبعة أمتار، فهي تسمح لكل فرد بمساحة نصف متر عرضًا وربع متر طولًا؛ بشرط أن تكون الرءوس جهة الحائط، وتتقابل السيقان كشرائح السردين في العلب (المصدر السابق، ٦٣). والنزلاء يُقسَّمون إلى ملكي وميري؛ الملكي هو الذي يحتفظ بثيابه ويأكل طعامًا من الخارج. أما الميري فيرتدي ملابس السجن؛ البدلة الدمور، ويأكل الطعام الذي يقدمه له السجن، والذي يقتصر على الخبز والجبنة القريش، مقابلًا لكنس الزنازين ومسْحِها ورفع البول وتنظيف دورة المياه (المصدر السابق، ٥٧). وطعام السجن، عمومًا، اسمه «اليمك»، وهو مزيج من فول خاص، حبَّاته كبيرة ومليئة بالسوس (في معتقل أبو زعبل، ٩). ويقسَّم النزلاء إلى مجموعات: النشالين والحرامية، تجار العملة والمخدرات، المزوِّرين والمرتشين والمزيِّفين والمختلسين، المعتدين جنسيًّا، القتَلة (المصدر السابق، ٥٥). والمال هو قوام الحياة داخل السجن؛ فبالمال يحوِّل طبيب السجن النزيل إلى مستشفى خارجي ليتمتع ببعض الحرية، وبه أيضًا يسهُل تهريب الممنوعات، ويترك السجان باب الزنزانة مفتوحًا طيلة النهار، أو يُشخِّص الطبيب النفسي حالة النزيل بأنه مجنون، فيحال إلى مستشفى الأمراض النفسية، خطوة أولى قبل الإفراج (المصدر السابق، ١٧). وتختلف الزنازين أحيانًا باختلاف نوعيات نزلائها؛ الزنزانة التي يقيم فيها المتهمون بسرقة أموال عامة — مثلًا — تبدو حوائطها مَطليَّة حديثًا، وخالية من أية شعارات، ومُزدانة بصور نجوم السينما والكرة، والحقائب معلقة بالحبال في قضبان النافذتين، والبطاطين خامتها أفضل، ونصيب الفرد من المساحة أكبر، ويستخدم النزلاء أوانيَ للطعام، ويشربون الماء في زجاجات بلاستيكية، ويتدلى من السقف ثلاثة مصابيح كهربية (الزنزانة، ٨٧). وهناك بعض الميزات — مثل التليفزيون — موجودة في زنازين بعض السجون. وبين وقت وآخر، يُجري الجنود على الحقائب المعلقة والفرش فرزًا وفحصًا وتقليبًا دقيقًا وتفتيشًا، اعتاده النزلاء واستعدوا له (المصدر السابق، ١٣٠).
•••
العادة أن تُفتح الزنازين في الثامنة صباحًا، فيتقافز النزلاء من فوق حوض البول إلى دورة المياه، ثم إلى طابور العرض والعيادة والطبلية والزيارة، ثم طابور الخدمات، أي المحبوسين في عنبر الميري، الذين يَفِدون كلَّ صباح إلى عنبر الملكي؛ لرفع البول والمخلفات ومسح الزنازين وكنس الفناء (المصدر السابق). يعلو الميكروفون بأسماء المطلوبين للمساءلة، فيجلسون القرفصاء، ثم يخرجون في طابور من الباب الحديدي الكبير إلى فناء الإدارة الخارجي، ويستقلون العرباتِ ذاتَ القضبان الحديدية إلى الجهات المختلفة (المصدر السابق، ٦٦). وينادي الميكروفون على الطبلية، وهي — بلغة السجن — استلام السجين لما يُحضِره له الأهل من طعام وملابس، وإعادة الأوعية الفارغة والملابس المتسخة. وينادي الميكروفون على المرضى الذين يطلبون العرض على الطبيب في المستشفى (المصدر السابق، ٦٦). والزيارة نوعان: خاصة، وتتم في صالة كبيرة، حيث يجلس السجين مع زوَّاره على دكك خشبية، وتحدُث مرةً كل أسبوعين للنزيل الذي مضى على حبسه شهر، أو بأمر من وكيل النيابة، أو بكارت توصية. أما الزيارة الثانية فتسمى «السلك»، وهي حق للمسجون مرةً كل أسبوع، ولكن من خلال سلك يفصل بين السجين وزوَّاره، فيتكلم الجميع بصوت عالٍ، بحيث تختلط الأصوات، فتتحول إلى صخب يصعُب سماعُه بصورة حقيقية (المصدر السابق، ٦٧). وعندما يحضُر الأهالي لزيارة السجناء، يضع حراس السجن بصمة ختم السجن على بطن كف الأهل الزائرين قبل دخولهم إلى صالة الزيارة؛ تمييزًا لهم عند الخروج، حتى لا يفرَّ أحد السجناء، متسترًا بأهله (المصدر السابق، ١٩٨). وإدارة السجن لا تعترض على غناء النزلاء، أو هذرهم، أو حتى صخَبهم، لكنها تمنع الشجار ولعب القمار وتعاطي الخمر والمخدرات (المصدر السابق، ٩٢). كذلك فإنها تبُثُّ عيونًا من قدامى النزلاء في كل زنزانة، ينقُلون إليها ما يصل إلى أسماعهم من اعترافات مجانية (المصدر السابق، ٩٢).
•••
السور الأصفر، والوصف للفنان، يمتد بامتداد الشارع. داخل السور مبنًى ضخمٌ مستطيل من ثلاثة طوابق، نوافذه الصغيرة المتوازية أشبه بفجوات معتمة (حديث من الطابق الثالث). العنبر طويل، واسع، أشبه بصندوق مستطيل، في أوله باب مصفح، وفي آخره دورة مياه، وفي جنباته نوافذُ كبيرة بقضبان حديدية (في معتقل أبو زعبل، ٨٤). أما عنبر «ج» فهو حبس مؤقت للمتسولين، ولمن تحت العلاج من المساجين والأحداث؛ ممن هم تحت التسنين، لتحديد إمكانية استمرار حبسهم أو تحويلهم لإصلاحيات الأحداث (قدر الغرف المقبضة، ٨٣). وثمة عنبر مخصص لاستقبال المشاغبين من المحكوم عليهم بالمؤبد؛ لترويضهم، وأحيانًا لقتلهم: «يروي السجناء أنه يكفي أن يغلقوا على أي سجين إحدى زنزاناتهم الرطبة المظلمة، عدة أيام متتالية، حتى يفقد بصره وتضعُف روحه المعنوية، فإذا ما أتبعوا ذلك بضرب وإهانة، فعلى السجين السلام» (سجناء لكل العصور، ٦٠-٦١).
العنابر الصفراء الثلاثة، حديد النوافذ الأسود المتقارب المتقاطع، الزنازين الضيقة المتلاصقة المعتمة، الأبواب الخشبية الضخمة المغطاة بالصاج، الشاويشية والفسحة والتمام (سبع في قفص). وعنابر الرجال تفصِلها عن عنابر النساء مسافة، يتوسطها سورٌ عالٍ كبير، يمتد بعد بنائه الحجري بأسلاك شائكة (المكتوب). والفرش الذي ينام السجين عليه اسمه «النمرة» بلغة السجن، وهو مؤلَّف من بُرش وثلاث بطاطين (الباب). ونزيل السجن في حالة انتظار دائمة، منذ أن يضع قدميه في السجن، حتى لو كان الحكم بالمؤبد، ينتظر لحظة الإفراج، «وكل ما يفعله بين ساعة دخوله سجينًا وساعة خروجه طليقًا؛ أن ينتظر» (هذه المرة). فإذا انطلقت صفارة القيلولة في الثانية عشرة ظهرًا، دخل النزلاء الزنازين لمدة ساعتين (إغلاق النوافذ). ودائمًا يتعجل النزلاء العشاء، ليسبقوا العتمة قبل أن يحل المساء (سجناء لكل العصور، ٧١). والخامسة مساء هي ساعة التمام في السجن. يدخل النزلاء زنزاناتهم قادمين من ردهات العنبر، ومن فوق الكباري والسلالم الحديدية بين الأدوار، ومن الحوش، والورشة، والفرن، والمغسل، والمطبخ. ويظل الجميع وراء الأبواب الموصدة حتى صباح اليوم التالي (إغلاق النوافذ). بعد الخامسة، تنقطع سبل الاتصال، والتعبير للفنان، بين البشر المسجونين والبشر المسجونين (المصدر السابق). يترافق الظلام والصمت، «صمت يهيئ للصراخ أن يتعالى إذا حدث خطأ وأفلت نزيل من الإحصاء وارتبك العد» (الرجل والنملة). وينتهي التمام، وتُغلَق جميع الأبواب بالمفاتيح الكبيرة، ويتهيأ السجن للنوم (الصفيحة)، وتتعالى شتائم الحراس، وتخفت الأصوات، ويحل الصمت، ويستمر، لتبدأ — في الظلام — حياة أخرى، نبضها زعيق وقهقهات وشتائم (الرجل والنملة). وللسجناء ألعابهم التي يمارسونها في غيبة الحراس، فهم يلعبون الورق، يصنعونه من ورق علب السجاير، ويلعبون السيجة على بطانية مطوية عدةَ طيات، يرسمون فوقها تسعة مربعات صغيرة، مقطعة من الآجر الأبيض، منتزعة من الحائط (سجناء لكل العصور، ٧٢). والجنس في السجن قيمة مهمة، ومغزًى حقيقي في فلسفة الحبس. ومن هنا تنشأ علاقات شاذة، وتكثر كتابة الرسائل، ويطول التحديق في الصور العارية، وتَشرُد التصورات في آفاق بلا نهاية (الزنزانة، ١٣٦). وقد تتم حفلات زفاف بين سجين قادر وسجين لا حيلة له، فيطيل شعر رأسه، ويحرص على أن يخلو جسمه من الشعر، ويستبدل باسمه اسم أنثى (إغلاق النوافذ). وإذا كان الفنان قد رصد الحالة، فإن الفنان الراحل غالب هلسا قد أجاد تصوير تلك العلاقة الغريبة بين سجينين في ذكرياته الشخصية أثناء فترة السجن. وعلى السجين الذي يعلن التمرد أن يواجه احتضان «العروسة»؛ وهي آلة خشبية أُعدت إعدادًا خاصًّا كي يُربط فيها المذنب ربطًا محكمًا ليتم جلده، وتوضع العروسة في فناء السجن، بينما يصنع المسجونون دائرة، ويمسك «الجلاد» الجلدة المكونة من أربع شُعب، كل شعبة ذات بضع عُقد، وإلى جواره الضابط والطبيب وعدد من العساكر، ويُنزع عن السجين ثيابه، فلا يُترك له إلا السروال، وينهال الجلاد بالجلدة على ظهر السجين، بينما الضابط يوالي العد، والضابط يطمئن إلى أن الضربات ليست قاتلة (في الظلام). وقد يكون العقاب ﺑ «البسطة»؛ وهي لسعات بالعصا على قدمَي النزيل إذا شكا أمرًا، أو طلب طلبًا، ولو كان جرعةَ ماء (قفص الدجاج). وثمة الإيذاء البدني المتمثل في مجموعة كبيرة من حراس السجن، يحيطون بالسجين ككلاب الصيد، يَسومونه ضربًا، يلجئون إلى أيديهم وأقدامهم وعِصيِّهم وسياطهم والقايش ذي الأطراف النحاسية الموجِعة (قصة يوسف). وربما منعوا عنه الطعام والماء، وقد يكبِّلون يديه بالقيود الحديدية وراء ظهره، ويُحكِمون وثاق ساقيه، ثم يستخدمون القضبان المُحماة والسجائر في كيه. وأحيانًا يخلعون عنه ثيابَه كلَّها ويوثِقونه إلى العروسة، ويطلقون عليه الكلاب المدربة تنهش لحمه، ثم ينهالون عليه بالسياط بعد غمسها في الماء المالح، ويجبرونه على تجرع كمية هائلة من شربة الملح حتى يتبرز — بلا إرادة — وهو يحتضن العروسة (المصدر السابق). ومن أبشع وسائل التعذيب إلقاءُ المسجون في مجرور الفضلات حتى رأسه. كلما طفا ليستنشق الهواء، دفعوه إلى الداخل بأحذيتهم الثقيلة (المصدر السابق). وحتى يفرَّ السجين من العذاب الذي يعانيه، فإنه يستطيع أن يدَّعي المرض — ولكل مرضٍ أعراضه — حتى يطلب التومرجي إحالته إلى مستشفى السجن. أما الحجرة المخصصة للزوار، فهي صاخبة، تضم عشرين مسجونًا يَستقبلون بلهفة مجنونةٍ مائةً أو أكثر من الأهل. الكل — عبر السلك — يصرخون في وقت واحد (هذه المرة).
ولكل مديرية سجنها العمومي الذي يستقبل المحكوم عليهم بالحبس أو السجن من أبناء المديرية نفسها، والمراكز والقرى المحيطة بها (شيء يجنن).
وسجن مصر هو المحطة التي يتوقف فيها النزلاء القادمون من السجن الحربي إلى طرة وأبي زعبل والواحات (الرجل والنملة)، والنزلاء ليسوا مجرمين عاديين، لكنهم من السياسيين الذين سُجنوا بأحكام، أو اعتُقلوا بلا أحكام (الرجل والنملة).
وفي منطقة طرة عدة سجون: سجن الأجانب، والسجن السياسي، وسجن مزرعة طرة، أو ليمان طرة (الزنزانة، ٩٣)، وفي هذا السجن تُفتح زنازين العنابر في الصباح الباكر، وعبر الأدوار الثلاثة التي يضمها المبنى، تهبط جماعات المساجين الجنائيين من الدورَين العلويَّين للعمل في المزرعة القريبة، فلاحون وصعايدة يحزمون سراويلهم القصيرة بحبال، ويضمون ستراتهم في الصقيع، ثم يصطفون ليتمِّمَ عليهم العساكر قبل الظهر (رائحة البرتقال، ٧٥). وفي جبل أبو زعبل، على السجناء أن يقضوا يومهم في تكسير البازلت، وحمله في المقاطف، والسير به إلى أماكن التجميع، والأقدام العارية ينغرس فيها الشوك والزلط والمسامير (الرجل والنملة). وقد ألغي — فيما بعد — النصُّ على تكبيل المحكوم عليه بالأشغال الشاقة بالحديد في قدميه، بعد أن كان منصوصًا عليه في لائحة السجون الصادرة عام ١٩٤٩م.
أما سجن القناطر، فإن جدار العنبر العالي تقسمه صفوف متتابعة من شبابيك الزنازين الصغيرة، المقسمة بالقضبان الغليظة. وداخل العنبر على اليمين والشمال، صالة مبلَّطة شديدة الطول، على جانبيها صفَّان من زنازينَ أبوابُها صغيرة متتابعة (قدر الغرف المقبضة، ٨١). والفاصل بين سجن النساء وسجن الرجال في القناطر جدار سميك، مجرد جدار سميك، بما يُشعِر كلَّ طرف — في ظروف استثنائية — بقرب الطرف الآخر (مجرد ذكريات ١ / ٢٣٧). بل إن سجن القناطر يتميز بأن عنابر التأديب للرجال في مواجهة سجن النساء، تصل منه أصوات الأفراح الصاخبة التي يُقِمنها عشيةَ الإفراج عن إحداهن (رائحة البرتقال، ٥٧).
منتهى التناقض كما ترى!
أما سجن الوادي الكبير، فهو عبارة عن ثلاثة أبنية كبيرة مستطيلة متوازية، على مساحة هائلة من أرض الصحراء، يحيط بها سور شاهق، عليه منصات مظللة. يقف فوقها عساكر الحراسة، تحيط بالسجن خارج السور مرتفعات صخرية سوداء ورمادية ومحمرة (قدر الغرف المقبضة، ٩٢).
وللسجن دفتر، والدفتر تقيَّد فيه أسماء النزلاء، وتاريخ الوصول، ونوع الجريمة، ورقم القضية، ومدة العقوبة، ومن أين جاءوا، وإلى أين يذهبون (قفص الدجاج).
والعلاقة بين السجين وموظف السجن، أيًّا كانت رتبته، تعيش دائمًا خلف جدار سميك من الحذر والخوف واللامبالاة (عالم الفكر، المجلد الرابع، العدد الثالث). مأمور السجن ومعاونوه هم المهيمنون بصورة مطلقة؛ «حيث لا رقيب عليهم، ولا غالب لهم، ولا رادَّ لمشيئتهم، فهم آلهة تلك المملكة المغلقة، إنهم أبالسة تلك القبور الموحشة» (قصة يوسف).
ولمأمور كل سجن عمومي منزلٌ يقام داخل السجن، له باب خاص، لكنه محاط بالسور الذي يحيط بالسجن من كل جانب (شيء يجنن). ومن لوائح السجون أن النيابة تُجري تفتيشًا مفاجئًا، مرتين كل شهر، للسجن الذي يتبعها، سواء أكان ملحقًا لقسم شرطة، أو سجنًا عموميًّا (يوميات نائب في الأرياف، ٩٣).
سرادق
ويسمى الصوان (يناير) أو الشادر (أنا الشعب، ٢٢). يُقام للمناسبات السعيدة والحزينة (للصاحب عند الصاحب). والسبب، في الأغلب، عدم اتساع البيوت الحديثة لمناسبات الأفراح والمآتم والموالد. ويُستخدم السرادق لاستقبال أبناء الطرق الصوفية القادمين لمولد أحد الأولياء من مدينة بعيدة، وينام فيها مريدو الولي وأتباعه ومحبُّوه، ويتبادلون الطعام. وقد يخصَّص السرادق لإقامة الحفلات المسرحية والاستعراضية والغنائية (أنا الشعب، ٢٢). والعديد من الكليات والمدارس الثانوية تقيم سرادقًا في أفنيتها للامتحانات (المصدر السابق، ٩٧). وعادةً، فإن كميات البطيخ الهائلة توضع في شادر/سرادق (المصدر السابق، ٢٢). يُصنع السرادق من قماش الخيامية، به نقوش حمراء وزرقاء بتخطيطات الأرابيسك، في قلب كل وحدة من التعريفات يتكرر اسم الله بالخيط الأبيض، والقماش مسنود إلى عوارض خشبية مائلة نوعًا ما (حجارة بوبيللو، ٩٧). وقد تكون نقوش السرادق فرعونية أو شعبية أو فارسية، أو مستوحاة من الفن الأوروبي. والنقوش من الداخل فقط، أما الخارج فمِن قماش قلوع المراكب؛ لأنه يعطي شكل الخيمة. يدق الرجال، أولًا، أعمدة بناء السرادق، ويثبِّتون السرادق عليها، ثم يضعون السماعات والأضواء والكراسي (الغجر، ١٦). وتتدلى حول السرادق المصابيح المدوَّرة من حبال زجاجية لامعة وملونة (مجانين الله). وعندما يخصَّص السرادق لحفل الزواج، فإن النساء يجلسن على مقاعد متلاصقة، بينما الأضواء الباهرة تغشى المكان، والكلوبات معلقة في مساحة السرادق وأمامه، ويجلس العروسان في الكوشة، ترقص أمامهما امرأة عارية الذراعين، ويدق رجل على الطبلة، ويحتضن رجلٌ آخرُ العود، ويعلو الهتاف والزغاريد من كل جانب (بيوت وراء الأشجار). فإذا كانت المناسبة مأتمًا، فإن الأرض تُفرش بالكراسي، وتوضع منضدة الأريكة الكبيرة فوق الرصيف، وفوقها مسندان كبيران نحو الحائط من أجل القارئ (وقائع سنوات الصبا، ١٣٥). يجلس القارئ في صدر السرادق، يتلو القرآن، وأهل الميت يستقبلون الناس ويصافحونهم: البقية في حياتكم … حياتكم الباقية (انتصار الهزيمة). وليالي العزاء والمأتم تقام، غالبًا، في سرادق يقام بالقرب من بيت الميت (المرآة المشروخة). وبعد أن تنتهي المناسبة، يتسلق العمال السرادق، فيطفئون أنواره، ويُنزلون سقفه، ويَنزِعون الأعلام من أعلاه، ويهدُّون قوائمه، ويرفعون أبسطته المترِبة، ويكدسون أشلاءه في سيارة، ويمضون (عبد التواب أفندي السجان).
وتواجه مهنة «الفراشة» — في السنوات الأخيرة — تحديًا يهدد وجودها، بعد أن تعددت دور المناسبات التي تقام فيها مناسبات العزاء (حرافيش القاهرة، ٨١). كما أثرت دور المناسبات، بالطبع، على فن الخيامية، بالإضافة إلى صناعة السرادق المطبوع.
سرداب
السرداب من العناصر المعمارية القديمة. يقع — في الأغلب — أسفل البناية، ويُفضي إلى مكانٍ ما، قد يكون مخزنًا أو معتقلًا أو أماكنَ إيواء، وقد يفضي إلى الخلاء إذا كان صاحب البيت ممن يواجهون الخطر. وكان الناس — قديمًا — يلجئون إلى السرداب أيام الصيف؛ تخلصًا من الحرارة الشديدة، وللتمتع بالهواء البارد.
سطح
سُمي بذلك من التسطيح، فسطوح المنازل مسطَّحة (قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية).
قيل إن السيد أحمد البدوي لبِث مرةً أربعين عامًا على سطح داره ينظر في أعماق السموات (العاشق المتنقل)، وقد مات البدوي على سطح أحد البيوت في مدينة طنطا. صعِد إليه، وراح يهتف باسم الله حتى مات (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٨٤). والدِّيَكة تصيح من فوق الأسطح، تؤذِن بقرب النهار (الكنز).
وتتشابك الهوائيات على الأسطح كشواهد قبور ممتدة (الظل). والسطح هو أنسب الأماكن لنشر الغسيل (القمر والقدر). توضع الثياب المغسولة على حبال تمتد في غير نظام، تتقاطع حينًا، وتتوازى حينًا، فتصنع مثلثات ومربعات (الزحام). ويتناوب السكان على المساحة الخالية من السطح في نشر غسيلهم (فلة … مشمش … لولو). وهو أنسب الأماكن لتربية الطيور (الوليف، حرب الأعصاب). وبعض الأسطح يوجد بها حجرة صغيرة صيفية، وحجرة لتربية لكتاكيت والأرانب (الصعود إلى القمر). وقد خاضت خديجة معركة مع حماتها، حتى استولت على عشة الدواجن التي تربيها الحماة، ثم استولت على مملكة السطح بأكملها (قصر الشوق، الرواية). والأسطح في بيوت الفلاحين توضع فوقها كومات القش والذرة الجافة (كوب الشاي الأخير) وأقراص الجلة (التوهمات، ٦١). وقد تتحول إلى مخازن لزكائب القمح وأعواد التبن (الرحيل) والحطب (القمر المشوي). الأمر نفسه تقريبًا في مدن الصعيد وقراه، فهي عامرة بصوامع الغلة وأبراج الحمام المدهونة بالأبيض، وعشش الطيور والإوز والدجاج (صخور السماء، ١١). وربما أفاد أطفال البيت من السطح باللعب فوقه (أوقات خادعة، المستأجر). وأسطح القرى وسيلة انتقال الصغار من بيت إلى آخر (الإدانة، ١٩). ولقاءات سكان البيتين المتلاصقين تتم بالقفز من السطح إلى السطح الملاصق (عودة الروح ١ / ٧٣). كما أن السطح وسيلة الفرار إلى الأسطح المجاورة (في زماننا). وكان الراوي يعبُر سطح بيته إلى سطح بيت عمه، يحشو جيوبه بكيزان الذرة المنثورة فوق السطح، كي تحمِّصَها الشمس فتصبح قابلة للطحن أو التدشيش بالرحاية (وكالة عطية، ٧٨). واستغل صابر الرحيمي تلاصق البيتين، فقفز من سطح أحدهما إلى الآخر، ليرتكب جريمته ويعود. قالت له كريمة: ادرس العمارة الملاصقة للفندق … شقة مأجورة لخياطين وبياعين بدل نصف عمر، فهي تخلو ليلًا، ولا يصعُب الدخول إليها أو الخروج منها …
– هذه هي العمارة …
– سطحها ملتصق بسطحنا.
– يعني الانتقال سهل!
– تجيء إلى سطحنا. يجب أن ننتظره في الشقة (الطريق، ٩٩).
ويتجمع جيران البيت الواحد، أو البيوت المتجاورة، فوق السطح، في أمسيات الصيف، للسمر وتبادل الأحاديث (خرائط للموج، ٣١). وسطوح القرية هو المكان الأنسب لقضاء الأمسيات بالنسبة للنساء؛ يفترشن القش، ويخُضْن في الأحاديث (النهاية السعيدة، كوب الشاي الأخير). وقد تغري الأسطح المتلاصقة النساء باللجوء إليها لتبادل الشتائم إن أسفر الخلاف عن ملامحه (يوميات نائب في الأرياف، ٦٩). وفي الأحياء الشعبية التي تعاني حجراتها تكدُّسًا تصعد الأمهات بأطفالهن إلى السطح ليتعرضوا للهواء (الثلاثون من فبراير). وحفلات الخطبة أو الزفاف تقيمها الأسر الفقيرة، أو المتوسطة، فوق أسطح البيوت (رأسان في الحلال). يتحول السطح إلى شعلة مزدانة بالأنوار الملونة، ويوضع فيه مكبِّر للصوت تلعلع منه الأغنيات والمونولوجات (نشرة الأخبار).
ولأن سطح بيت أحمد عبد الجواد كان يعلو ما عداه من بيوت، أو لأن الصعود إلى الأسطح المجاورة كان وقفًا على النساء، فقد حولت أمينة السطح إلى عالم خاص بها، بديلًا لعالم البيت الذي تخضع فيه لسطوة زوجها بصورة مطلقة، وللعالم الخارجي الذي لا تعرف عنه إلا ما يحدثها عنه الزوج والأبناء. السطح «هو الدنيا الجديدة التي لم يكن للبيت الكبير بها عهد قبل انضمامها إليه، خلقته بروحها خلقًا جديدًا، على حين ظل البيت محافظًا على الهيئة التي شُيد عليها منذ عهد سحيق» (بين القصرين، ٤٠-٤١). «هنا السطح بسكانه من الدجاج والحمام وبستانه المعروش. هو دنياها الجميلة المحبوبة، وملهاها الأثير في هذا العالم الكبير الذي لا تعرف عنه شيئًا، وكشأنها في مثل هذه الساعة، مضت تتعهده برعايتها، فكنسته، وسقت زرعه، وأطعمت الدجاج والحمام، ثم تملت طويلًا المنظر المحيط بها بثغر باسم وعينين حالمتين، ثم ذهبت إلى نهاية البستان، ووقفت وراء السيقان الملتفة المتشابكة، تمد بصرها من ثغراتها إلى ما يليها من فضاء لا تحده حدود» (المصدر السابق، ٤٢).
والسطح، أحيانًا، وسيلة للراحة. وكانت سعدية تصعد بمقعدها إلى سطح البيت المسوَّر، وتمد قدميها إلى مقعد آخر، وتنشغل بقراءة مجلة (بيوت وراء الأشجار). وربما اختار البعض سكنى سطح عمارة عالية؛ لحبه للهواء الطلق (أنانية)، وربما صعِد إلى السطح ليخلو إلى نفسه، يحاورها فيما يعانيه من متاعب (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٦). وكما يقول الفنان، فإنهم يسمونه «السطوح»، وكأنما يقصدون كوكبًا منقطع الصلة بالأرض» (قدر الغرف المقبضة، ١١٣). ويقول السيد أفندي: «هذا السطوح خير ملجأ للعشاق، وتناجي الأشواق. وغنوة السطوح هي أول نغمة شغفت أذني بها وأنا لا أزال في المهد صبيًّا، كانت تغنيها لي أمي وهي تلاعبني وتطعمني الحلوى» (الخادمة). وكان السطح مجال طفولة وصِبا إسماعيل، جعل من جداره لوحة طويلة عريضة للرسم، والسماء فوقه بطيورها ونجومها. ويشعر بالوحدة فيغنِّي، ويستقبل بنات الأقارب والجيران، ويتعرف إلى تجاربه الأولى في الدين والجنس، فهو يصلي في ناحية، ويمارس لعبة «عريس وعروسة» في ناحية أخرى (قشتمر، ١٥). وفي صبا عامر عمر عبد العزيز حدث الميل المتبادل بينه وبين عفت بنت عبد العظيم باشا داود، فوق السطح، في ظل الغسيل المنشور. ثم نما مع الأيام والزيارات المتبادلة حتى صار حبًّا وحلمًا للمستقبل (حديث الصباح والمساء، ١٣٩). ولما أراد شعبان أن يلتقي بجارته منال، فإنه صعد إليها على السطح، وحاول استمالة ودَّها وهي تنشر الغسيل (الممكن والمستحيل، ٥٩). وقد اتخذ فهمي أحمد عبد الجواد من سطح البيت مكانًا يتطلع فيه إلى مريم بنت الجيران، ويغازلها. كانت تصعد إلى سطح البيت الملاصق لنشر الغسيل أو جمعه. ثم كان ذلك اللقاء باعثًا لكي يحاول فهمي إقناع والديه بخطبة مريم. فرض ذلك ما أشاعه الأب في البيت من سلطة بوليسية صارمة (بين القصرين، الرواية). وكان أول علاقات الولد العاطفية عندما زنق البنت في أحد أركان السطح، وراح يقبِّلها، ويعبث بثدييها الصغيرَين (لا يذكر البداية). وكان السطح — وبئر السلم كذلك — هو المكان الذي يخلو فيه جميلة وقاسم إلى نفسيهما، يمارسان العبث الذي اكتشفتْه، بالمصادفة، بهيجة أخت جميلة (حديث الصباح والمساء، ٣٦). وظل السطح هو المكان الذي اختاره حمدي ونعيمة للقاءاتهما، يصعدان إليه في غيبة من الأعين، «فيتناجيان ويتباثَّان لواعج الهوى» (بيت الطاعة). وقد تكرر ما فعله ياسين — بعد ذلك بعشرات الأعوام — حين ضبطت الأم ابنها خلف كومة الحطب فوق السطح مع الأرملة سعدية العمشة التي كانت تجلب لهم الماء (أبو الرجال). وإذا كان أحمد عاكف قد اكتفى بموقفه وراء النافذة، ينتظر أن تُطل نوال من نافذتها المقابلة، فإن جرأة رشدي الشابة دفعته لملاحقة نوال في السطح، يفصل بينه وبين السطح الملاصق جدارٌ يأذَن لكلمات الغزل أن تصل من فمه إلى أذنيها (خان الخليلي، الرواية). فشلت محاولات رشدي لاستمالة نوال من خلال وقفته وراء النافذة إلى شرفتها بالطابق العلوي، فانتهز فرصة صعود الفتاة إلى سطح البيت تتأمل — كعادتها — الحي العتيق؛ مآذنه وقِبابه وأسطح عماراته وامتدادات الأفق إلى الصحراء المحيطة، فصعِد وراءها، وحاول مغازلتها. ومع أنها صدَّته، فقد كان أسعده — ولو بالزجر — مجردُ ردِّها على كلماته، ونزل من السطح تلُفُّه سعادة عميقة (المصدر السابق، ١٤٦)، بل إنه عندما أراد فريد أن يختلي بنهيرة — زوجته شرعًا وإن لم يُتح لهما الدخول رسميًّا — فإنه اختار غرفة السطح (في الظلام، ١٠٢). ونتيجة لأزمة السكن المتفاقمة، فقد تضطر بعض الأسر لأن تبني لأولادها شققًا صغيرة فوق السطح (ذات، ١٤). وبنى المالك في سطح البيت أربع حجرات تناثرت في فراغه، وجعل لكلٍّ منها مُلحَقًا داخليًّا للطبخ والاستحمام (أبواب الليل). وعندما ازدادت الضائقة المالية، أقدمت سيدة على ترك شقتها، والسكنى في حجرتين صغيرتين أعلى بناية (نحن لا نزرع الشوك، ٦٧٠). وربما خُصصت حجرة الغسيل في السطح لسكنى شابٍّ أعزب، أو أسرة فقيرة (التمثال). وأحيانًا يستأجر البعض غرفة أعلى السطح كانت مخصصة لتربية الحمام (الزوجات العشر، ١٢٦). وقد يكون السطح بأكمله لنشر الغسيل، ثم يبني فيه المالك حجراتٍ متناثرةً في فراغه (أبواب الليل). وهو ما فعله مالك البيت عندما حوَّل السطح إلى حجرات صغيرة يؤجرها للطلبة الذين قدِموا للدراسة في المدينة (ظمأ الليالي، ٥). وثمة حجرة ذات جدران من الصفيح وسقف من البوص والحصير، يسكن فيها ذوو الدخول المحدودة؛ سواء أكانوا أفرادًا أو أسرًا (تباريح الريح). وقد اختار حسين لإقامته في طنطا غرفة فوق السطح، مكونة من حجرتين، غير المرافق (بداية ونهاية، ٢٠٧-٢٠٨). وغرف الأسطح يسكنها، في الأغلب، طلبة من الأقاليم (القاهرة الجديدة، ٤٧). والكثير من الطلاب المغتربين يسكنون حجرة صغيرة فوق سطح أحد البيوت، كان أصحاب البيت يستخدمونها للغسيل وإيواء الطيور (أيام الطفولة، ٩٣)، وعثر البطل — بواسطة أصحابه — على غرفة جيدة في سطح عمارة تؤجرها سيدة تقيم هي وابنها الصغير في شقة تقابل الغرفة في الجهة الأخرى من بسطة السلم (قدر الغرف المقبضة، ٤٦). ولم يجد حسين القادم من الريف مكانًا يقيم فيه أثناء دراسته بالقاهرة، سوى غرفة علوية في سطح أحد البيوت، ذات دورة مياه بعيدة عنها (التجربة الأولى). ويستأجر حجراتِ السطح في بيوت الإسكندرية الوافدون من الصعيد، ويعملون في مسح الأحذية، أو في بناء العمارات، أو بيع السوداني والحلوى — صيفًا — على الكورنيش (ليالي الإسكندرية، ١٨). وكانت الظروف المادية وحدها هي التي ألجأت أسرة «شربات» للسكنى في غرفة فوق سطح بيت مكون من طابقين بجوار الحقول في إمبابة (شربات). وسكان الأسطح يعانون إحساسًا خبيئًا بالهزيمة والانكسار، إحساسًا يرونه في عيون الناس الذين يغلقون في وجوههم النوافذ، وفي عيون سكان العمارة، وفي لهجة البواب عندما يتكلم معهم (قدر الغرف المقبضة، ١١١). البواب لا يحترم، في الأغلب، سكان الحجرات المتناثرة في سطح العمارة، ولا يحيِّيهم في نزولهم وطلوعهم (أبواب الليل)، وإن أكد الرجل أن الذين يسكنون فوق السطوح يملكون السماء والأرض (الظل). وأحيانا، فإن ذوي الأمزجة السوداء يلجئون إلى السطح، باعتباره أعلى ما في البناية، فيقذفون بأنفسهم من فوقه (١٩٥٢).
•••
والسطح هو المكان الذي يستطيع المرء أن يشاهد منه المدينة (٦ أشهر حب). تبدو من ورائه قمم البيوت وأطراف المآذن (نحن لا نزرع الشوك، ٦٧٣)، وتبدو الشوارع مثل مساقي المياه في الحقول، ويبدو البشر مثل النقط الصغيرة، والسيارات مثل علب الكبريت (القلوب البيضاء). وكان وسيلةً تتعرف أمينة من خلالها إلى العالم الخارجي، يختلف عن المشربية في أنها تكتفي فيه برؤية الأسطح المجاورة والقباب والمآذن، وتترك لخيالها تصور الحياة فيما حول تلك القِباب والمآذن: «ما تكاد تنفُذ ببصرها من ثغرات الياسمين واللبلاب إلى الفضاء والمآذن والأسطح، حتى تعلو شفتيها الرقيقتين ابتسامةُ حنان وأحلام. تُرى: أين تقع مدرسة الحقوق حيث يجلس فهمي في هذه اللحظة؟ وأين مدرسة خليل أغا التي يؤكد لها كمال أنها على مسيرة دقيقة من الحسين؟» (بين القصرين، ٤٣). أما في القرية، فإن السطح يُشرف على الغيطان والجداول والطرق والبيوت (حمار الحكيم، ٩٤). وكان أحمد يطل من سطح البيت على ملامح القرية: أشجار الكافور الضخمة، وجماعات أبو قردان التي تسكنها، والجميزة العجوز عند حافة النهر، والغيطان التي يميز فيها القصب من الذرة (الأفق المجهول).
وعلاقة السطح والشارع تبين عن بعض ملامحها — في القرية بخاصة — عندما فرض جنود الهجَّانة حظر التجول على قرية أم محمد. تحولت الأسطح إلى طرقات تدبُّ فيها الحياة، وتنقر في أرضها الدجاجات، ويلعب الأولاد. يساعد على ذلك أن دور القرية كلها من طابق واحد، ومتلاصقة، والحارات الضيقة التي تفصل بينها يسهُل عبورها قفزًا. أما الشوارع الواسعة التي تُعَد على الأصابع، فتتحول إلى أسطح مقفِرة تعبث الريح بما في أرضها من بقايا القش والأوراق (قرية أم محمد). والواقف في الشارع ينادي، وهو مترجِل، أو من داخل سيارة، على الواقف وراء النافذة (يوميات نائب في الأرياف، ٨).
أما علاقة السطح بالسلم فنتعرف إليها في اللقاءات الجنسية بين الفلاح الشاب محمد والست أم جاد، تستكمل السلالم الناقصة في البيت، وتجلس تنتظر (أكبر الكبائر). وكانت علاقة السطح بالبيت باعثًا لتعرُّف جلال إلى خطيبته. كان السطح يطل على بيتها، بحيث يراها كلما حاول ذلك (المستنقع، ٣٧).
وقامت علاقة بين السطح والنافذة في وقفة معاون النيابة الشاب خلف النافذة، يبحث بعينيه فوق الأسطح عن قميص حريمي، لكى يطمئن إلى وجود نساء في مدينة الجنوب ديروط (يوميات نائب في الأرياف، ١٦٢). وقد تنشأ العلاقة بين السطح والنافذة إذا كان السطح في مستوًى أقل من مستوى النافذة. وكان الرجل يقف تحت نافذة المرأة المطلة على السطح ويصفِّر بفمه صفيرًا طويلًا متنغمًا، فينفتح الشباك، ويبدأ حوار (التوهمات، ١٢٨).
ويورد الفنان — في أسطر متتالية — علاقات الشارع والبيت والسلم والنافذة والسطح. فالحبيبان يتحادثان بالأعين والابتسامات من خلال النافذتين المتقابلتين، وينتظرها على ناصية الشارع، ويتسلل وراءها — في غُبْشة الليل — إلى داخل البيت، ويحاول تقبيلها على السلم، ويتذكر علاقته السابقة مع الصغيرة بهية فوق سطح البيت، واللحظة التي ضبطته فيها زوجة أبيه، فتنهال عليه بالضرب (هروب الطائر الأبيض، ١٨-١٩). وكان يحلو للأستاذ دسوقي أن يجلس على أحد الكراسي، في السطح، يستند بمِرفقه على السور، وينظر مليًّا إلى المدينة المترامية أمامه (صباح جديد)، وهو ما كان يفعله عبد الخالق: يقف على السطح، بالقرب من حجرته، يتأمل المدينة — على مدى البصر — ساكنة، والأسطح المقابلة والمحيطة قذرة، والنوافذ مغلقة صمَّاء (زهر الليمون، ٧). وتتضح العلاقة بين السطح والسلم والشقة في صعود الشاب من الشقة إلى السطح، ويظل في وقفته على السلم، يطمئن إلى أن أم فتاته غادرت الشقة، فينزل إلى فتاته (المراهقون، ٣٦).
سلم
يعد السلم أحد المرافق الأساسية في البيت، فهو حلقة اتصال بين طوابقه من الباب الخارجي إلى السطح، وحلقة اتصال بين الشارع والطوابق العليا، وبين الطابقين (الوجبة). وهو يشيد من الخشب، أو من الحديد، أو من الأسمنت المغطى بالرخام.
السلم شاهد صامت على حياة البشر، فهو مكان أثير لدى الأطفال يمارسون فيه ألعابهم (قصر الشوق، ٥٣، في ضوء القمر)، ويتواثبون عليه (الأم الثانية). وثمة أجيال متعاقبة من الأطفال، صاروا، فيما بعد، كبارًا، خطُّوا عليه عباراتهم الصبيانية، البذيئة، وروائح متباينة من حياة الناس وطبيخهم وعطورهم (سارق الكحل) ونومهم ونسلهم ووسَخهم المتراكم طول السنين، ومواقد الجاز تفحُّ من خلف الأبواب، وأصوات الأمهات المجهَدات تدعو على الأولاد الذين لا يهدءون أبدًا، وتلعن الأيام السوداء. وقد يستخدم الأطفال درابزين السلم في «الزحلقة»، ينزلون عليه بدلًا من السلم (نائب عزرائيل، ١٠٥). والسلم هو البديل المتاح إذا تعطَّل المصعد في العمارات ذات الطوابق المرتفعة (أطفال بلا دموع، ١٧). ينقطع التيار الكهربي، أو يتعطل المصعد، فيلجأ الناس إلى السلم (عداد نور العمارة، ٢٧) مهما تتعدد الطوابق (أزمة ثقة). وثمة سلم الخدم يصعدون إليه، ولا يصعدون على سلم السكان (قاع المدينة). سلم الخدم يستخدمه حاملو المقاطف الثقيلة من الخدم والباعة وتجار الروبابكيا وصبية البقال والمكوجي وبائع الثلج (السلم اللولبي). وكان السلم الوحيد الذي يؤذَن للراوي باستخدامه هو سلم الخدم (الساعة تدق العاشرة، ٢١)، وهو مدسوس أحيانًا، والتعبير للفنان، «في مناور كالبئر السحيق. هنا تبرز أمعاء العمارة من صفائح القمامة، تعرف أكل السكان ومقدار نهمهم، من لحاف الخادم ومرتبته الملقاة على السلم، سوداء كالهباب، مبقعة بدماء البق، تعرف مدى نظافتهم واحترامهم للآدمية. سوق دائمة لتبادل المعلومات، وهي في ظن أصحابها أنها أسرار، فلا ينقضي من النهار ساعة أو ساعتان، حتى يتبين التبدل الطارئ على صورة العلاقات الغرامية بين الخدم والباعة، وحتى يكون كلُّ ما حدث في الليلة السابقة في كل شقة عِلمًا مشاعًا» (السلم اللولبي). ولما أقدم فرغلي على اقتحام السلم «البريمو»، السلم الرخامي، «والباب المزخرف بالنحاس اللامع، فإنه تعرَّض لعضة ركس؛ كلب الشقة التي صعد إليها» (المصدر السابق). وإذا أردنا إدخال شيء إلى الشقة، بحيث لا يراه السكان، فإننا نصعد به من سلم الخدم (حمار الحكيم، ١٩). وسلم الخدم وسيلة الفرار من داخل الشقة، أو الصعود إليها في غيبة النظرات الفضولية (نظرة وداع). وربما استخدم العشيق سلم الخدم ليلتقي بعشيقته، بعيدًا عن الأعين (لعبة ولد اسمه حسن، ٣٠٩).
كان أهم ما تحرص عليه الأم كلَّ صباح أن تلاحق ابنتها بالدعاء، وتلحظها بحنان وهي تهبط السلم في طريقها إلى المدرسة (كله تمام). والسلم فرصة للفرار، وللمطاردة أيضًا (في الخليج المصري)، وهو سبيل جميع السكان، يهرولون عليه في طريقهم إلى المخبأ للنجاة من الخطر في أيام الحرب (خان الخليلي، ٧٢، أم)، وهو المكان المناسب لمساومة الباعة السرِّيحة الذين يصعدون البيت ببضاعتهم (حرب الأعصاب). وهو أيضًا المكان المناسب لتبادل الأحاديث بين سيدات البيت (المصدر السابق)، والتكلم — بالنسبة للأحياء الشعبية — في أسعار الخضر، والشكوى من غلاء الأحوال، وتناقل الأخبار العامة والخاصة، ونقل أخبار الآخرين (الوجبة، حجرة المرحوم). والسلم، عمومًا، يمثل جسرًا للعلاقات بين أبناء البيت الواحد (شرك) أو العكس، فعندما غضبت سميحة [ذات] على ذات، والتقت الاثنتان على السلم، أقبلت ذات على صاحبتها محيِّية، لكن سميحة أشاحت بوجهها، وواصلت صعود السلم في تجهُّم (ذات، ٣٣٧-٣٣٨). وقد كوَّن شاكر المغربي [النظر إلى أسفل] انطباعه عن والد عبد الحميد من التقائهما — مصادفة — في صعودهما أو نزولهما على السلم. قال لعماد: لماذا يكرهني أبوك؟ قال عماد: من أوهمك؟ قال شاكر: نظرته، كأنها بصقة (النظر إلى أسفل، ١٠). وكان أول لقاء لأحمد عاكف والصغيرة نوال على سلم البيت. سمع وقْع قدمين خفيفتين وراءه، نظر خلفه فرآها. ومع أنها كانت تلميذة في شكلها وزيها، فقد تولاه الارتباك، وتنحَّى للفتاة جانبًا وهو يهمس: تفضلي! (خان الخليلي، ٣٥). وكان لقاء السلم هو بداية العلاقة بين الراوي وصاحبته (٦ أشهر حب). أما بداية الحب بين الجارين، فقد جاءت في التقائه بها — للمرة الأولى — في سلم البيت الصغير بحي الدرَّاسة (العمر كله). وربما لجأت الجارة إلى السلم لإغواء جارها الذي يسكن طابقًا علويًّا. تجلس على درجة السلم، تُهمل عُري فخذيها لتلفت نظر الجار (السقوط على الأرض). وعندما أرادت زينات أن تلفت نظر الأستاذ بهلول إليها، انتظرته على سلم البيت لتبذل له ابتسامة مشرقة، وكلمات ماكرة (صانع التماثيل). وكانت بداية العلاقة بين الراوية وجارها، عندما بدأا في تبادل تحية الصباح على بسطة السلم (درب التبانة). أما صابر الرحيمي، فكان أول مخاطبته لكريمة، ومغازلته لها؛ عندما رقيَ وراءها السلم إلى الدور الرابع، واقتحمها بكلمات جريئة، وكان ذلك بداية علاقتهما (الطريق، ٤٨). وكان الشيخ عبد الحميد يحرص على صعود السلم والنزول منه، لعله يصادف جارته الشابة السمراء الجميلة (أحلام الشيخ). والسلم هو أنسب الأماكن للعلاقات العابرة السريعة، أو للاتفاق على موعد للقاء بين الفتاة والشاب من سكان البيت الواحد. كانت أتينا تنتظر الراوي على بسطة السلم ليحددا موعد اللقاء بينهما (حانة المحطة). وهو ما كانت تفعله بنت الجيران حين تنتظر عودة عبد المنعم شوكت في بسطة السلم لتبثَّه حبها، وليخطفا لحظاتِ حبٍّ سريعة (السكرية، ١٠٠-١٠١). الأمر نفسه أقدم عليه محمود، عندما انتظر فتاته في مدخل البيت المظلم، وأطبقت يداه على ذراعيها وهي تضع قدمها على أولى درجات السلم، في طريقها إلى شقتها بالطابق الأخير. ثم حاول أن يعانقها، لكنها أفلحت في صدِّه، والتملص من ساعديه (قمر). ثم كان لا بد للقاء السلم — نتيجة لانغماس عبد المنعم في الاجتهادات الدينية — أن يجد نهايته. ما كاد يبلغ مدخل السلم، حتى فتح باب الدور الأول، وتسلل الشبح اللطيف الذي كان ينتظر، وصارحها على بسطة السلم:
– هذا خطأ كبير.
– أي خطأ؟ لست أفهم شيئًا.
– يجب أن تفهمي … أنستطيع أن نعلن ما نفعل؟
– نعلنه؟!
– انظري كيف تستنكرين! ولكن لماذا لا نعلنه إن لم يكن عيبًا مُزريًا؟
وشعر بيدها تتصيده، فارتقى أولى درجات السلم التالية. وكان مطمئنًا إلى أنه جاز منطقةَ الخطر بسلام:
– اعترفي بأننا مخطئان، فلا ينبغي أن نُصرَّ على الخطأ.
– عجيب أن أسمع منك هذا الكلام!
– لا عجب، إن ضميري لم يعُدْ يتحمل الخطيئة … إنها تعذبني وتفسد عليَّ صلاتي (المصدر السابق، ١٣٨).
ثم وجه إلى الفتاة نصيحته: عودي إلى بيتك، لا تفعلي شيئًا ترين وجوب التستر عليه، لا تقابلي أحدًا في الظلام. ورقي السلم وثبًا (المصدر السابق، ١٣٩). وقد — طالما — سمعت دولت من صديقاتها عن القُبلة المختلَسة بين طابقين (في ليلة رأس السنة). وسبقت نوال الجميع — ذات مساء — بعد خروجها من المخبأ، وعطفت رأسها نحو أحمد راشد، ولامته بنظرة ذات معانٍ، ثم ارتقت سلم البيت، وتبعها أحمد عاكف، لكن الخجل غلبه، فتوقف قبل أن يبدأ في صعود السلم (خان الخليلي، ١٠٩). وكان الجار يتعمد — عند نزوله من شقته — أن يرد الباب خلفه في شيء من العنف؛ حتى يتأكد أن نداءه قد وصل إلى الجارة في الشقة التحتانية، وتخرج إليه الجارة لتلتقط في يدها ورقة بموعد اللقاء القادم (مغامرة غرامية). وكان السلم بدايةَ تعرُّف صلاح إلى ساكنة الشقة المقابلة، وكان هو السبيل لتطور العلاقة بينهما (همزات الشياطين). وحتى يستطيع الجار التحدث إلى جارته، فإنه انتظرها وراء باب شقته، فلما تعالى وقْعُ أقدامها، خرج إلى الطرقة ليلتقيا، وليحدثها فيما يريد (الطريق، ٤٤). وتعددت لقاءات سيد أفندي وعائشة على درجات السلم في صعوده ببيت المعلم محمد، قبل أن يتقدم لخطبتها (زقاق السيد البلطي، ٦٨). وغالبًا ما تنشأ علاقة الحب الأولى، حب الطفولة والصبا، فوق درجات السلم. يتحدث الراوي عن الصَّبية التي مال قلبه إليها. يأخذها من ذراعها، ويدخلان من البوابة، ويجلسان على درجة من السلم الذي يرتقي درجات، حتى ينتهي إلى بسطة تلوح وراءها السماء الزرقاء والمآذن، ويجلسان صامتَين جنبًا إلى جنب، تتناوبهما مشاعرُ غريبة وجديدة ومبهمة؛ إلخ (الحاوي خطف الطبق). وكان السلم طرفًا ثالثًا، أو واسطة، في علاقة علوان فواز محتشمي [يوم قتل الزعيم] ومحبوبته راندة. بدأا بالمداعبات العابرة والعبارات الرمزية، ثم دسَّ في يدها رسالة اعتراف، وأهدته — في المقابل — قصة عاطفية. فلما أنهيا الثانوية العامة في عام واحد، طلب من جده أن يخطب له راندة (يوم قتل الزعيم، ١١). وقد يستخدم الحبيبان حَنيَّة السلم لممارسة علاقتهما العاطفية (قديسة من باب الشعرية، وكالة الليمون، ٢٦٣). وكانت بداية العلاقة الحسية بين لوزة والأستاذ محمد، عندما ابتسمت له وهو يصعد السلم. وتكررت لقاءاتهما، وتلامسا، ثم التقيا في بئر السلم (السكن في الأدوار العليا، ٧٣). وهبطت فردوس — ذات يوم — في الحوش المظلم لتسلِّم رسالة مسجلة إلى زوج أمها، ففتنها شارب ساعي البريد وشعره الكستنائي اللامع وغزله اللذيذ، فاستسلمت له وراء السلم في لوثة من جنون (الجناح المكسور). وقد انتظر الجار نزول جارته من شقتها، ففتح باب شقته، وشدها إلى الداخل، وأغلق الباب (العصر الرمادي، ٣٦). وحين أراد صاحب البيت أن يعتدي على الصبية الصغيرة، فإنه لم يجد مكانًا إلا بئر السلم، دفع الصبية فيه واغتصبها (وكالة عطية، ٧٦). وواجه محمد قاضي البهار اتهامًا من بائع الصحف سيد النن أنه مارس أفعالًا مَعيبة في حنيَّة سلم البيت (قاضي البهار، الرواية). [اللافت أن السلم في الأحلام، عند أصحاب التحليل النفسي، رمز للاتصال الجنسي. (محاضرات تمهيدية جديدة في التحليل النفسي، ٢٠)].
وكان السلم هو المكان الذي انتظر فيه سعيد مهران صديقته المومس نور، في عودتها إلى شقتها الصغيرة أعلى البيت المطل على المقابر: «وخُيل إليه أنه سمع أقدامًا صاعدة، ثم تأكد من ذلك، ونظر من فوق الدرابزين، فرأى نورًا خافتًا يتحرك في بطء على الجدران. نور عود ثقاب كما ظن، واقتربت الأقدام ثقيلة متمهلة، فقرر أن ينبهها إلى وجوده، تفاديًا من مفاجأة مزعجة، وتنحنح، فجاء صوتها يسأل في ارتياع: من؟
فأدلى برأسه إلى أقصى حد ممكن، وقال هامسًا: سعيد مهران …
وأسرعت الأقدام في خفة، حتى انتهت إلى مكانه وهي تلهث، والعود يلفِظ أنفاسه، وقبضت على عضُدِه في انفعال، وبنبرة تنازعها الابتهاج وتقطُّع الأنفاس، قالت: أنت! يا كسوفي! … انتظرت طويلًا؟» (اللص والكلاب، ٩٢).
وعندما حانت لحظة فراق حميدة وعباس الحلو، قبل أن يسافر للعمل في التل الكبير، فإنهما اختارا سلم بيت سنية عفيفي — حيث تسكن حميدة طابقه الأول — لأداء «مراسم» الوداع. سبقته حميدة، وارتقى السلم وراءها محاذرًا الظلام الحالك؛ يدٌ على الدرابزين، وأخرى تتحسس الظلام. وعند «البسطة» الثانية لمست أصابعه طرف ملاءتها. اقترب منها، وأحاطها بذراعيه، ثم هوى عليه بفمه، في قُبلة أخذته — لحظات — من دنيا الأحياء، نقلته إلى دنيا أخرى عجيبة سحرية مفعمة بالحب والهناءة والرغبة (زقاق المدق، ١٣٤-١٣٥).
وكان وقع الأقدام المهرولة على السلم إيذانًا لعبد الباقي خليل [النظر إلى أسفل] أن رجال الشرطة قدموا إليه. وكان الجيران يعلمون بعودته من سماع خطواته في صعودها على السلم وهبوطها (النظر إلى أسفل، ٩٠). والإحساس بالتعب في الصعود على السلم مؤشر لتقدم العمر أو لفقدان الصحة (وسام). وقد شهد سلم البيت القديم في طنطا دكَّ الحاج كريم لدرجاته بخطوه المكين، ثم لم يعد يستطيع صعود السلم — بتقضِّي الأعوام — إلا وهو مستند من تحت إبطه على أحد أبنائه (أيام الإنسان السبعة، ١٧٨). وكان السلم هو الصلة بين شقة الطابق الثاني، بما كانت تتمتع به من مزايا، وشقة الطابق الأرضي الخالية من كل ميزة، والتي اضطرت الأسرة — توفيرًا للنفقات — للانتقال إليها. ولا تخلو من دلالةٍ تلك النظرةُ الصامتة التي ألقاها الشقيقان حسين وحسنين على شقتهما القديمة في الطابق الثاني، وهما يرتقيان السلم إلى شقة فريد أفندي محمد في الطابق العلوي (بداية ونهاية، ٥٤).
وعندما يصعد الحانوتي سلم بيت، فإنه يقيسه بنظراته ليعرف: هل يسع النعش أو يضيق به؟ (الفراش الشاغر).
•••
أما عن علاقة السلم ﺑ «الأمكنة» الأخرى، فإن السلم واسطة سكان البيت للنزول إلى الشارع، والصعود منه (كلمات في المدن النائمة). وظل السلم — سلم بيت بين القصرين تحديدًا — يمثل لأمينة حصيلةً من الذكريات، حين يتناهى إلى سمعها — في الليل المتأخر — صوت عربة الحنطور وهي تقف أمام باب البيت، فتسرع بالمصباح من الحجرة إلى الصالة، ثم إلى الدهليز الخارجي، فتقف على رأس السلم، تمد يدها بالمصباح من فوق الدرابزين لتنير للرجل سبيله (بين القصرين، ١٢). وقد غادر حسنين [بداية ونهاية] شقة فريد أفندي محمد، وهو في كَدرٍ لغياب بهية، ثم سمع في السطح حفيف ثوب، فصعِد على أطراف مشطه صاعدًا إلى السطح، ليجد بهية وهي تطعم الدجاج، فيغازلها (بداية ونهاية، ٧٥). وأحيانًا يُكْمل السلم دور النافذة، والعكس صحيح، فقد التقت عينا أحمد عاكف بعينَي نوال للمرة الأولى عبر النافذتين، ثم التقى الجاران — بعد ذلك — بمشاعر فوارة على سلم البيت في نزول نوال إلى المدرسة (خان الخليلي، الرواية). وقد جعلت الخادم التركية العجوز من نافذة حجرتها المطلة على السلم، برجَ مراقبة لأحوال البيت، تحصي النازلين والصاعدين والخارجين والداخلين (على رأس السلم). وعندما تغطي واجهة حَنيَّة السلم بباب، تتحول إلى حجرة تصلح للسكن. أما جابر محجوب، فقد داخ حتى وجد حجرةً في حَنيَّة سلم بيت (الصهبة، ٥١). وربما يفصِل السلم بين شوارع علوية وشوارع تحتية، مثل شوارع القلعة (بنت السلطان). وثمة السلالم التي تصعد بك إلى الكوبري الموصل بين رصيفين، أو تهبط إلى النفق الذي يقود إلى الناحية الأخرى من الشارع، أو الميدان (رائحة البرتقال، ١٠٨). وكان نزيل سجن القلعة ينزل سلالم حجرية يزيد عدد درجاتها عن الأربعين، حتى يصل إلى الزنزانة المنفردة في أعماق بطن الجبل (ابنة رجل خائن).
سور
السور فاصل، يفصل بين مكان وآخر، ويفصل مكانًا عن آخر (رائحة البرتقال، ٧٥). وكانت مدينة العصور الوسطى والمملوكية، إلى أوائل القرن العشرين، تحافظ على كيانها بأسوار تحيط بها. وقد بُنيت الأسوار حول مدينة القاهرة، أولَ إنشائها، بهدف أن تكون مقرًّا للخليفة ورجاله وعبيده وموظفيه وقواته، ولم يكن العامة من أهل مصر يدخلون إليها (سيرة القاهرة، ١٢٢). ثم تبدل الحال بعد تولي الأيوبيين الحكم. وربما أحاط السور بأرض زراعية (مذكرات فنان). وقد يقتصر على أعواد الذرة الجافة لمجرد تحديد مساحة الأرض (الرجل والوهم). ولا بد أن يحيط السور بأماكن السفر: المطارات، محطات السكة الحديد (أيام الإنسان السبعة، ١٢٤)، مترو الأنفاق؛ إلخ، وأُطلق اسم باب الحديد على مبنى محطة السكة الحديد في القاهرة، للسور الحديدي الذي يحيط بها (شق التعبان، ١٠٨). وحتى لا تشوِّه الخرابة بنايات الشارع، تحد واجهتها بسور يُخفي ما بها (في حارة السيدة). وقد وضعت المؤسسة العقارية سورًا حول الأرض الفضاء، بعد أن ظلت لفترة طويلة ملعبًا للأولاد، فراح الأولاد يقفزون من السور. ثم ثبتت شركة إعلانات عليه حوامل معدنية قوية، أُلصقت عليها لافتات تجارية ملونة (ليلة الأحزان)، وربما استُغلت الأسوار لوضع الملصقات وكتابة الشعارات (صح). وقد يأتي السور في صورة ساتر من الطوب يقام أمام المنشآت والبيوت زمنَ الحرب؛ ليحميها من الطلقات والشظايا (البئر). ويغطي السور البيوت ذات الحدائق، بحيث لا تتطلع الأعين إلى ما بالداخل (قلب الليل، ٢٨). وكل قصر يحيط به سور (زمن الأيام الباردة)، يُرشق بالزجاج المكسور، أو شقافة القلل والزلع (حجارة بوبيللو، ٦٤). وسور الحدائق والبنايات بعامة يصلح للنباتات المتسلقة، مثل اللبلاب، وأفرع أشجار الياسمين (ضوء في البيت المقابل). وهو — السور — الفاصل بين القصر والشارع. ولكي يتسلل الأولاد إلى الحديقة — أية حديقة — لأخذ ثمار من داخلها، فإنهم يصنعون فتحة في السور (العنب). ولا بد أن يكون السطح مسوَّرًا؛ أي يكون له سور (شرك). ولكورنيش الإسكندرية سور يدرأ الأمواج فلا تصل إلى الشاطئ، وإن قفزت بها الأنواء فعبَرت السور إلى المحالِّ في الرصيف المقابل (ليلة العشق). أما سور مجرى العيون الحجري، العالي، الذي كان قديمًا مجرًى للماء، فقد تحول، فيما بعد، إلى سور للمقابر، يبيع أمامه باعةُ الورود بضاعتهم لزائري المقابر (مجرى العيون). وثمة من يلجأ إلى السور لعرض الكتب القديمة (متون الأهرام)، مثل سور الأزبكية الذي أسند باعة الكتب فاتريناتهم عليه، وإن أزيل السور، فيما بعد، واحتلت مكانه فاترينات وأكشاك لبيع شرائط الكاسيت، وأجهزة الترانزستور وغيرها. ويفضل الباعة الوقوف أمام سور المدرسة، ليسهل عليهم بيع ما يحملونه من طعام وحلوى لتلاميذ المدرسة (العمر كله). وأسوار المعتقل بقعة في جزيرة رملية، يحدُّها الأفق من كل جانب، لا خطوط تليفون ولا قضبان قطارات ولا طرق رملية أو مرصوفة (الأسوار، ٦١).
السور أهم ما يحيط بالسجن أو المعتقل، سواء كان شائكًا أو مكهربًا، حتى لا يقفز مِن فوقه النزلاء (أقتلها). والسور قد يحيط بمجموعة من المدافن (رائحة البرتقال، ١٢)، يفصل بين عالم الأحياء وعالم الأموات. إنه يحيط بالمقابر، يعزلها عن المناطق السكنية، أو حتى عن الصحراء المحيطة بها، بينما تخلو المقابر في القرى من السور الذي يفصلها عن الزراعات (عمالقة أكتوبر، ٦٣). وقد تحيط الأسوار العالية بالقصر، فتجعله أشبه بالحصون والقلاع (منتهى، ١٦٥). وقد يكون السور تعبيرًا عن «السجن» الذي توضع في داخله المرأة، سور مرتفع تُرشق على حوافِّه قِطعُ الزجاج المكسور (في ليل الشتاء الطويل). وغالبًا فإن الفتحات في الأسوار يصنعها أشخاص يريدون اختصار الطريق (صياد اليمام، ٢٩١). وقد يحيط السور بالسوق، فلا يدخله أحد إلا من الباب العمومي، ولتسهُل حراسته (ستر العورة)، أو ليعزله عن البيوت والحقول المجاورة، ويصنع الناس في السور منفذًا يعبُرون منه إلى داخل السوق وخارجه (الطابور). اشترت الشركة موضع السور، وسدَّت الفتحة التي كان ينفُذ منها الناس في ذهابهم إلى السوق، وعودتهم منه، وكرر الناس ما فعلوه في الفتحة حين سدها كل المُلاك السابقين؛ صنعوا فيها منفذًا يذهبون منه إلى السوق ويعودون. دخل طابور الفلاحين في سيره الغريب دون أن يعوقه شيء! (المصدر السابق). ويقول الراوي: «في كل الأحوال يجب أن يكون لهذا السور معنًى ما» (رائحة البرتقال، ٢٧) [راجع: مدينة].
سوق
كانت الأسواق — في الماضي — تتميز كلُّ واحدة عن الأخرى في اقتصارها على بضاعة خاصة بها. وكما يقول اليعقوبي، فقد كان «لكل تجارة شوارع وحوانيت معلومة، ولا يختلط قوم بقوم ولا تجارة بتجارة، ولا يباع صنف مع غير صنفه، ولا يختلط أصحاب المهن من سائر الصناعات بغيرهم، فكل أهل تجارة منفردون بتجارتهم، وكل أهل مهنة معتزلون عن غير طبقتهم» (كتاب البلدان، ٢٣٩). كان سوق الطباخين بالإسكندرية — على سبيل المثال «أهم مركز تجاري للبضائع الشرقية» (السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين، ٩). أما سوق وكالة البلح، فقد بدأت مع دخول الإنجليز مصر. كان التجار يشترون مخلفات الجيش الإنجليزي، وينقلونها إلى مخازنهم في وكالة البلح، ثم يعرضونها للبيع (صعلوكة في وكالة البلح). أما سوق الكانتو فهي تقتصر على بيع الأشياء المستعملة، كما تباع فيها الملابس المسروقة (مغامرات الشاطر فرحان). وكلمة كانتو بالإيطالية تعني الأشياء المستعملة. وسوق الكانتو بالقاهرة على يمين شارع الموسكي من ناحية ميدان العتبة. رجال يحملون ملابس مختلفة، ودكاكين مكدسة بالبدل والبلاطي والجلابيب والطرابيش والأحذية. وتصطف على الجانبين عشرات من عربات اليد مثقلة بالملابس والأوعية والأواني والأدوات القديمة، وهدير صاخب من أصوات النداءات والمساومة والسب (سوق الكانتو). وقد شهد السوق أيامَ رخاءٍ عندما كان يبيع مستلزمات الجيش البريطاني: بطاطين ومأكولات وملاءات وغيرها. وليس كل ما يباع في سوق الكانتو مسرفًا في الرثاثة؛ فربما باع البكوات والأفندية ثيابهم بعد لبسة واحدة (وكالة عطية، ٣٤٣). وأقيم سوق الكانتو بالإسكندرية في موضعه القديم؛ لأن أعدادًا كبيرة من الجاليات الأجنبية كانوا يسكنون حي العطارين، وكانوا يبيعون ملابسهم لمجرد وجود عيب بسيط فيها. ومن يبدأ حياته بعيدًا عن أسرته، فإن عليه — لمجاوزة باهظ التكاليف — أن يلجأ إلى سوق الكانتو. ذلك ما فعله جابر محجوب [الصهبة] عندما غادر مدينته الريفية إلى الإسكندرية؛ اشترى سريرًا وترابيزة صغيرة وشماعة حائط من دكان للأثاث القديم بسوق الكانتو (الصهبة، ٥١). وكان شاكر المغربي يذهب أحيانًا إلى سوق الكانتو، يبيع بعض ما خلفه أبواه من ثياب. وباع في سوق الجمعة تماثيلَ صغيرةً كانت تزين صالة البيت (النظر إلى أسفل، ٨). ويبيع اللصوص بالقطعة ما يسرقونه في سوق الكانتو بأكثر من مدينة؛ حتى لا يتشكك فيهم المخبرون (وكالة عطية، ٢٦١). ويصف الفنان سوق روض الفرج بأنها «أشبه بمعدة كبيرة تختلط فيها آلاف الأشياء» (أنيسة وأربعة رجال). كانت السوق تستيقظ في الصباح الباكر، عندما يبدأ وصول عربات اللوري محملة بالخضراوات من الأقاليم القريبة، يدق قادة السيارات أبواقهم، فيستيقظ رجال السوق، ويبدءون بفك حبال العربات، وإنزال الحمولات على الموازين، وتوزيعها على باعة السوق، بينما يجلس المتعهدون تحت الأنوار يسجلون الحسابات (الأفندي ضحك على الحصان). وسوق ليبيا تشغل المسافة بين القلعة والمساقي القديمة، وهي تقتصر على بيع البضائع المستوردة. تموج بالخلق والحركة والأصوات، ويغمرها «ضوء الكلوبات الأحمر المدلَّاة من رءوس أعمدة مغروسة في الأركان، أمواج تتلاطم من النساء والرجال، مصبوغة الوجوه بالأضواء المركزة»، فضلًا عن الأكشاك المكتظة بالصابون والقوارير والعلب والبرطمانات والأدوات الكهربائية والإلكترونية (أهل القمة). وتقتصر سوق الأغنام، فوق جبل الطوبجية غربي الإسكندرية، على بيع الماعز والخراف (بيت الياسمين، ٣٤). ولعل أهم ما تختلف به سوق السمك عن بقية الأسواق؛ هو الرائحة النفاذة للأسماك المتعفنة، يلقي بها الباعة في أرض السوق، فتدوسها أقدام المارة، وتظل متروكة حتى ترتفع رائحتها الكريهة التي يعتبرها الجميع مَعلمًا للحياة في السوق (وكالة الليمون، ٢٣٢). أما سوق الشحاتين، فإن الخبز يباع فيها، كل أربعة أرغفة بقرش واحد (الأيدي الخشنة). وتتميز سوق النحاسين في طنطا بالدكاكين الفسيحة الأبهاء على جانبيها، حيث تباع جهازات العرائس، والدواليب ذات المرايا الكبيرة، والصناديق المكسوة بالصفيح الملون، وصفوف الأواني النحاسية البراقة المجلوة، والحشايا والألحفة، في ألوان من الحرير تخطف الألباب (أيام الإنسان السبعة، ١١٧). وسوق الخوجات في المنصورة يباع فيها كلُّ شيء (استقالة ملك الموت، ٤٩)، وثمة سوق لتجارة الجمال في بلدة «دراو» بأسوان (اغتيال مدينة صامتة، ٢٧)، وسوق، هي أرض مهجورة محاطة بسور قديم من حجر، بناه الإنجليز. بجوار بوابته مبنًى من حجر أيضًا، يقيم فيه ضابط النقطة، ومن الداخل وبجانب السور يمتطي عسكريان من السواري جوادَيهما. والسوق واسعة، تُشغى بالغبار والأصوات ومساومات الأخذ والعطاء (ستر العورة). زحام من البشر والبهائم: من يشتري، ومن جاء ليحصل على لقمة من بيع أو شراء، ومن جاء يقضي طلبًا، ومن قدِم لتأمُّل الأشياء والناس (مشكلة عبد العال). الرجال يتصايحون، ويعقدون الصفقات، بين السباب الغليظ وكلمات المباركة (الفصل قبل الأخير من حياة طريد). ويشير الفنان إلى سوق تتميز بقيسارياتها، ودكاكينها المتقابلة، الصغيرة، المظلمة، يؤدي أصحابها صلاة الفجر، يفتحون دكاكينهم، ويتربع كل واحد منهم عند مدخل دكانه، يتلو القرآن والأوراد والابتهالات. فإذا قدِم مشترٍ يسأل عن بضاعة، قال له التاجر: طلبك عند جاري هذا، فاذهب إليه، ليطمئن أن جاره قد استفتح قبله! (خليها على الله، ٢٤٢).
ويبدأ النهار في السوق، عندما يُخرج أصحاب الدكاكين بضاعتهم، يرصُّونها على الصناديق وأقفاص الجريد، استعدادًا لعمليات البيع (بيوت وراء الأشجار، ٥). وثمة باعة يضعون خضراواتهم على قطع الخيش (السوق). وقد تتلاصق عربات الباعة، فتشكِّل شريطًا طويلًا على جانب الطريق، وعلى الجانب الآخر شريط مماثل (المصدر السابق). وبعد انفضاض السوق، لا يتخلف سوى الأقفاص الفارغة والخضراوات الفاسدة الملقاة على الأرض، وبعض الباعة الذين يسهرون إلى جانب «فرشهم» (دعوة على السحور). وبالطبع، فإن هذه الصورة تصح في الأسواق الشعبية وحدها، بعكس الحال في الأسواق الأخرى.
والأسواق الأسبوعية موجودة في المدن، وفي القرى، وهي تأخذ مسمياتها من أيام الأسبوع، أو من أسماء الحِرف والبضائع. ثمة قرًى تحدد السبت يومًا رئيسًا للبيع والشراء (من حكايات سنورس، ١٨)، وثمة سوق الثلاثاء في المنصورة، وسوق الأربعاء في طنطا، وسوق الخميس في السنبلاوين؛ إلخ (النشيد من الأفق الغربي). وسوق الثلاثاء في أية قرية ليست مقتصرة على أبناء القرية وحدهم، فهناك الكثير من «الأغراب» الذين يَفِدون إليها للبحث عن فرص البيع والشراء (القضبان، ٧٨). وأسواق الأرياف تتشابه إلى حد كبير، فكلٌّ منها يقع في أرض فضاء واسعة، يحدها سور، وله باب، وعلى أرضه دكاكين ومصاطب من تِبن يؤلِّف بينه طين (الطابور) تنتصب منذ الشروق (سورة البقرة). يفرش الباعة الحبوب والخضراوات أكوامًا على جانبَي الطريق، فضلًا عن ألوان الأقمشة والبضائع المختلفة المكدسة في الدكاكين، ورائحة العطور والبخور تصارع رائحة الأسماك واللحوم، والضوضاء الصاخبة المتلاغطة (السراية، ١٠٩)، وتجلس الفلاحات وأمامهن قدور من اللبن الرائب، وأطباق من القشدة والجبنة القريش، والناس والحمير والأبقار والجاموس والماشية، كلها تزحف نحو السوق (البلد، ٥٠)، لابسو العمائم والجلابيب والذين بلا عمائم أو جلابيب، وراكبو الحمير، وساحبو الأبقار، وحاملو المقاطف، وطالقو الجواميس، والمتوكلون على الله (الطابور). ويبين — من خلال الزحام — الأرانب البيضاء والسمراء والديوك الرومي المنفوشة والدجاج البلدي (السوق). ويهبنا الفنان لوحة للنساء المرتديات السواد في الأسواق الصغيرة المقامة بين القرى، الحاملات فوق الرءوس بضاعتهن، يقايضْن ويجادلن ويدَّخِرْن القوت للأولاد (الرفاعي). واللافت أن قرية «محب» كانت تمارس البيع والشراء بالمقايضة، «لا شيء بالمال إلا فيما ندر» (الخوف، ١٥). وسوق القرية لا تقتصر على البيع والشراء؛ فقد يستكتب البعض كاتبًا عموميًّا بلاغًا أو عريضة ضد أحد خصومه، أو ضد مأذون الناحية، أو العمدة، أو وكيل شيخ الخفر (يوميات نائب في الأرياف، ١٥٦). ولكل قرية، أو مجموعة قرًى، سوق رئيسة تقام كلَّ أسبوع (أبو الرجال). وبعد أن تنتهي سوق الثلاثاء، فإن الروائح تظل في المكان، روائح محملة برَوْث البهائم والجمال والحمير، وروائح البقايا المتعطنة في قاذورات السوق (حلقة ذكر). وثمة من يستولي على السوق لحسابه، يصبح السوق سوقه، ويتحول السوق القديم من سوق الثلاثاء — أو سوق الخميس، أو سوق الجمعة — إلى سوق فلان بك، أو فلان باشا (حكاية المدندش في كفر عسكر، ٢٣١). والعادة أن يكون العشاء الأسبوعي، عشاء يوم السوق، متميزًا عن بقية الوجبات؛ لأن الأسرة تكون قد حصلت على نقود تكفل تحقيق ذلك (تمزق الكفن). والسوق — في مخيلة طفل القرية — لحم وطبيخ وليلة حلوة، واللعب على الرشاح قبل العشاء (المصدر السابق). وسوق القرية — في رأي حامد عمار — منظمة من منظمات المجتمع الريفي ومعداته، تؤدي أكثر من وظيفة، فهي ليست مكانًا للبيع والشراء فحسب، بل هي مكان للاجتماع والترفيه أيضًا (القرية المتغيرة، ١١٧). إنها سبيل لإطْلاع الفلاح على أنواع أخرى من الإنتاج يمكن أن يستفيد منها اقتصاديًّا، وتعرِّفه — ربما للمرة الأولى — على أدوات جديدة يمكنه أن يستخدمها، وسماعه لروايات وقصص وأخبار جديدة توسع من آفاقه، وتَزيد إحساسه بالمدينة والحكومة، وتعرِّفه إلى تقلبات الأسعار؛ إلخ (المرجع السابق، ١١٨).
ويعبِّر زحام السوق أحيانًا عن التلاحم والحميمية، والذوبان في الجماهير. وهو ما فعله حمزة (قصة حب) والأستاذ (الأستاذ يعود إلى المدينة). وتختلف القيسارية عن السوق في أنها مسقوفة، فلا يُشترط في السوق أن تكون مسقوفة.
سيرك
السيرك — في الأغلب — عبارة عن خيمة، تشغى بالضوضاء وضحكات الأطفال (ابتسامة الأسد). المتفرجون يضحكون، ويصفقون، والعيال تهبُّ واقفة من الأرائك الدائرية، المحيطة بالحلبة، وتصيح — كلما خرج البلياتشو يعلن عن شيء جديد —: هيه … هيه يا بلياتشو … إيه؟ إيه؟ (البهلوان المدهش أحمد كشكش). وحيوانات السيرك تؤدي ألعابها خوفًا من الإيذاء، وهو خوف يبلغ حد إبطال الغريزة (خليها على الله، ١٢٢). والجمهور يقزقز اللب، ويجرع الكوكا كولا، ويصعد إلى السماء، أو يخسف، أحيانًا، بأعظم الأعمال قيمة، إلى أسفل سافلين (أنا سلطان قانون الوجود). فإذا دخل السيرك إحدى المدن الإقليمية، جاء الفلاحون من القرى، يتكدسون بعضهم لصقَ بعض، «غابت أجسادهم في تشابه ملبسهم، وبقيت أعناقهم مشرئبَّة، وعيونهم مثبتة على ساحة السيرك» (خليها على الله، ١٢٠). إن مهمة السيرك هي أن يخلب لبَّك، يبهرك، ينقُلك إلى عالم غريب حافل بالألوان والبطولات والجمال والمعجزات (أنا سلطان قانون الوجود). إنه «المكان الذي تدخله ليخلب لبَّك، لتعيشه تمامًا، تنسى نهائيًّا أن في الخارج حياةً وأحياء ومشاكل» (المصدر السابق). والسيرك الشعبي مكانه الموالد: يقف الرجل أمام السرادق، يدعو إلى مشاهدة «الست اللي بتنور الكهربة من بطنها … الراجل اللي قطعوا راسه في بلاد السِّند، وعاش لغاية دلوقت من غير راس … شلضم عوض أشهر منوم مغناطيسي، يعرف الماضي والحاضر والمستقبل، ويقول لك حا تخلف من العيال كام، وحا يطلعوا دكاترة ولَّا صايعين» (حكايات صبري موسى، ٢٠٢).
سينما
عرف العالم فن السينماتوغراف، أو الصور المتحركة، في أواخر القرن التاسع عشر [١٨٩٦-١٨٩٧]، ثم انتقل إلى مصر من خلال المقاهي التي يديرها الأجانب، في الإسكندرية أولًا، ثم في القاهرة.
كانت السينما في بداية القرن العشرين ظاهرة تثير الدهشة والعجب، على حد تعبير سامي (طلائع الفجر، ٨٧). لقد وقف مأخوذًا أمام البناء المستطيل، المعروش برقائق من الصاج، أُلصقت بجداره إعلانات، في أعلى كلٍّ منها صورة، يمد رقبته ليشاهد، ويحسم أخاه حيرته: هذه دار السينما … أترغب في المجيء إليها مساء؟ (المصدر السابق، ٨٧). وكان حي باكوس بالإسكندرية أول شارع بمصر كلها شُيدت فيه دار للسينما، وهي سينما الأهرام (وجوه سكندرية، ٥٥). واللافت أن أحمد عبد الجواد ورفاقه لم يترددوا على دار سينما سيتي — مثلًا — أو مسارح روض الفرج، رغم أنهم كانوا من المولعين بالطرب واللهو والغناء؛ لإحساسهم بأن ذلك انتقاص لهيبتهم (بين القصرين). وقد اقتصرت عروض دور السينما، منذ إنشائها — ولسنوات طويلة — على عرض السادسة والربع، والتاسعة والربع مساء. وكان البرنامج يتكون من ثلاث فقرات: الجريدة المصورة، فيلم قصير، فيلم طويل هو المادة الرئيسية في العرض. وتعبِّر نفيسة عن التخوف من التأثيرات السلبية للسينما: «قالت لي أمي مرةً إن الفتاة التي تتشبه بالعشاق كما يظهرون في السينما؛ فتاةٌ ساقطة خائبة الأمل» (بداية ونهاية، ١٠٨). وقد حلَّت السينما في الثلاثينيات محل سهرات المسرح في عماد الدين وروض الفرج، فلم يثبُت أمامها إلا صالة بديعة مصابني وبعض ملاهي اللهو الرخيص. ولأن عماد الدين كان مشهورًا بالمسارح ودور السينما، فقد أيقن رشدي، عندما غادرت نوال وشقيقها الأصغر ترام الجيزة في محطة عماد الدين، أنهما ذاهبان إلى دار سينما، وصح يقينه (خان الخليلي، ١٤٠). وحين أراد حسنين أن يخلو إلى بهية، فإنه استأذن أباها في أن يوافق على اصطحابه لها إلى السينما (بداية ونهاية، ٢٦٥). وحتى الثلاثينيات كانت دور العرض السينمائي تخصص أماكن للسيدات (أحزان نوح، ١٢١). وظلت سينما ركس بالإسكندرية — إلى إغلاقها — تخصص حفلة الثالثة يوم الأربعاء للنساء، ويُحظَر على الرجال دخولُ تلك الحفلة (سينما الدرادو، ١٧٢). وكانت «ركس» أكبر دار سينما في الإسكندرية، وتقع بالقرب من ميدان المنشية المهم (سينما الدرادو، ١٥٧). وثمة دار سينما ذات مقاعد وثيرة، مغطاة بالجوخ. المقعد له حركتان يتحرك فيهما، حتى يعطي الجالس أكبر قدرٍ من الراحة، والظهر عالٍ، وله ذراعان توضع اليدان حولهما، وتحت الأقدام سجادة وفيرة الصوف مثل نجيل الملعب (والعصر، ١١).
والعادة أن تبدأ العلاقة في مكان عام، مثل محطة ترام أو كازينو، ثم تنتقل إلى السينما باعتبارها مكانًا أشدَّ خصوصية (وجه في المرآة). لكن الكثير من العلاقات العاطفية كانت بدايته في دار للسينما، يراها بين الصفوف، فيخطف جمال عينيها عينيه، وينوي ملاحقتها، حتى تنشأ علاقة بالفعل (الحب). وكانت رؤية القاضي لفتاة جميلة في بنوار بسينما كوزموجراف؛ دافعًا لأن يتقدم إلى والدها ويتزوجها (زيارة). وربما تصبح دار السينما وسيلة لتأكيد التعارف قبل أن تبدأ العلاقة وتتوثق، فالشاب والفتاة يترددان على دار السينما، ويتبادلان النظرات، ترقُّبًا للحظة التي يتبادلان فيها الحديث (حلم ساعة). وهناك مرضى النفوس الذين يأتون إلى السينما للتمحك، أو طلبًا لخَلوة في الظلام، تتعرى فيها عاهتهم العاجزة وتتنفس، ويستمدون من الشاشة ومن حولهم سياطًا تلهب شهوتهم الدميمة (أين تسهر هذا المساء). «هذه التحفة البديعة بجواري في الظلام، كيف أستدرجها؟ هل أغازلها بطريقتي الأليفة اللَّعوب؟» (المقعد الخالي). وقبل أن يشتري الشاب تذكرة دخول السينما، تأكد أن الفيلم مبهج، وأنه للكبار فقط، وحدَّث نفسه بجارة حسناء يجدها وحيدة إلى جواره، يأخذها معه عند العودة إلى البيت (الضباب). وكان أول لقاء لسليم وناهد داخل سينما. التصقت به حتى شعر بالدفء، وبضربات قلبه تدق كالمطرقة، وبعد خروجهما من السينما، دعته إلى بيتها، فظل فيه إلى الصباح (الدوامة).
والحق أنه منذ دخلت السينما الحياة المصرية، عرَف الشباب طريقه إليها، الشاب يجالس الفتاة، يُسرُّ في أذنها «أنشودة الشباب الخالدة» (ثريا). وكانت فتحية هانم تدخل السينما، بعد أن يبدأ العرض بنصف الساعة كي تقابل عشيقها في الخفاء (الغفران). وتتم لقاءات المحبين في السينما؛ لأن الظلام أمين على الأسرار (كله تمام). للظلام مفعول السحر في إثارة الشهوات وتحريك الجرأة بالتالي. وحين أُطفئت أنوار السينما، وبدأ العرض في دار السينما، مدَّ صلاح قدمه برغبة لم يَقْوَ على كتمها، تحت مقعد جارته بديعة، يبحث عن قدمها يداعبها، ثم قبض على أطراف شعرها في كفه، وراح يتحسسها في نشوة، لكنه تركها في الحال؛ خشيةَ أن تُحسَّ به (همزات الشياطين). وكانت دار السينما هي أول مكان يتجه إليه سمير ونبيلة بعيدًا عن أعين الناس (المعدول والمقلوب). وغالبًا فإن الحبيبين يختاران مقعدين في أقصى الصالة، يقعان بين المدخل وبين عمود ضخم من البناء، وتُطفأ الأنوار لتبدأ قصة الشاشة، وقصة الحبيبين في الوقت نفسه (الأكشاك الخشبية). وعندما أراد الشاب أن يلتقي بفتاته، بعيدًا عن مراقبة الأهل، فإنه لجأ إلى شراء تذكرتين لكرسيَّين متجاورين في السينما (كله تمام). وبعد أن دخل الشاب والفتاة عتمة قاعة السينما «المواتية الرفيقة بالهاربين»، أحست الفتاة بالخطر لجلوسها على مقعد لصق الشاب، في حين حمِد الشاب للظلام سترَه ومؤامراته، فضم ذراعها إليه في تماسك متلهف (مغامرة غرامية). وبعد أن استقر الحبيبان في مقعديهما داخل السينما، كان أول ما فكر فيه الشاب أن يستغل ظلام السينما، فمد يده وأمسك بيدها، وقرَّب ساقه من ساقها (وأنا). وتعددت ملاحقة الشاب لفتاته، فلما رآها تدخل دارًا للسينما، تسلل وراءها، وجلس بجوارها، بداية لعلاقة تمنَّاها (بدرية وزوجها). وأحيانًا تكون بداية العلاقة في دار السينما (ذراعان): ترجو الفتاة الشاب أن يقطع لها تذكرة معه، فيوافق، ويختار كرسيَّين متجاورَين، وتبدأ العلاقة التي قد تطول أو تقصُر، أو تنتهي بالزواج (أنا والسماء). وكان أول لقاء للراوي مع فتاته في المقعد المجاور له بدار السينما (دواء). بل إن الشاب قد يتعرف إلى فتاته للمرة الأولى، من خلال تلامس الأيدي عفوًا في ظلام السينما (ذراعان). وربما اتفق الشاب والفتاة، بواسطة شخص ثالث، على أن يلتقيا في دار سينما، بما يبدو كأنه مصادفة؛ ليتعرف كلٌّ منهما إلى الآخر (إفلاس خاطبة). وعندما بدأت العلاقة بين الشاب والفتاة، خمَّنت أنه ربما دعاها إلى السينما التي كثيرًا ما تمنت أن تدخلها، يبثُّها — في الظلام — نجواه، ويحدثها عن مشاعره وأحلامه وتطلعاته، ويطلب منها أن تكون زوجته (العاملة). وفي معظم الأحيان، فإن أول تلاصق للجسدين يكون في ظلام السينما؛ تتعانق اليدان، وتتلاحم الأصابع (اللابيرنث المظلم). وكانت ظلمة السينما دافعًا لأن يأخذ صابر الرحيمي راحة يد إلهام في يده، ويرفع يدها إلى يده فيَلثَمها، وانشغل بمداعباته ليدها عن متابعة أحداث الفيلم (الطريق، ٨٨). ولما أفلح سليمان في اصطحاب نادية إلى دار للسينما، كان غاية ما سمحت له به هو أن يمسك يدها (نوبة رجوع، ٢٦). وربما صارت السينما موضعًا للعلاقات العابثة، تستُّرًا بالظلام أثناء العرض (صباح الورد). وحين يدخل العاشقان دار السينما، فإنهما يفضلان — وبالذات عندما تكون الدار غير مزدحمة — مقعدين يتيمين في أقصى الصالة يقعان بين المدخل وعمود ضخم من البناء؛ ليتاح لهما — بعد إطفاء الأنوار — أداءُ عرض آخر مصاحب للفيلم الذي تعرضه دار السينما (الأكشاك الخشبية)، لا يتوقف المحبان عن الانشغال بلحظات الدفء إلا حين تدركهما بطارية «البلاسير»، تصنع بقعة من الضوء في الظلمة المحيطة (الدم والعصافير، ٢٠). وعندما تصور الشيخ عبد الحميد نفسه في مكان منفرد مع فتاته، فقد كان ذلك المكان هو سينما الأهلي بالسيدة زينب، يبتاع تذكرتين، ويجلس إلى جانبها، ينظر إلى الشاشة، ويده تحيط خصرها، ونظراته تتسلل إلى فخذها العاري (أحلام الشيخ). وحين أراد الراوي أن يقترب من حبيبته، فإنه ذهب بها إلى السينما، صدرها خلف ذراعه، وينابيع الأنوثة تتفجر بين أصابعه (النزيف). وربما تتحول دار السينما — إن كانت معروفة بنوعية أفلامها، وقلة روادها بالتالي — إلى مكان للقاءات الخاصة جدًّا، وبالذات مقاعدها الخلفية. ويورد لنا الفنان مثلًا: سينما أوديون أيامَ كانت متخصصة في عرض الأفلام الروسية (ذات، ٩٦)، وليس غريبًا في دار السينما تناهي أصوات الضحكات المكتومة وحفيف الثياب والهمسات العصبية (مقاطع من أغنية قديمة). وقد يلوذ البعض بدار السينما لمجرد الفرار من صهد الطريق، يشغله فحسب نوعُ دار السينما: هل هي مكيفة الهواء أو لا؟ يختار حفلة الثالثة بعد الظهر، فينام على مقعده (دموع السينما). وقد يدخل المرء دار السينما لينام (صورة). والسينما من الأمكنة التي يلوذ بها طلبة المدارس عندما يُقْدمون على «التزويغ»، حفلة العاشرة صباحًا (على كل لون). قد يكتفون بالوقوف عند الباب، وفي المدخل (حياة أخرى). وكانت نادية تزوغ من معهدها لتدخل دارًا للسينما (نهاية رائد). وقبل أن تتعاظم أسعار دخول دور السينما، كانت السينما وسيلة أساسية للترفيه عند الفقراء. وحين حصل الشاب على مبلغ يكفيه دخول السينما ويعشِّيه، فإنه لم يتردد في دخول السينما! (أمه). وتبدو دور السينما الشعبية كأنها سوق؛ أصوات عالية، وهتاف، وصفير، ونداءات باعة اللب والفول والكازوزة، والكراسي من حديد، لها أرجل خشبية متحركة تطوى بقوة إذا قام الجالس عليها (في السينما). وإذا شعر المشاهدون في دور السينما بالأحياء الشعبية، أن عامل آلة العرض قد اختصر من الفيلم، فإنهم يكررون الصياح: سيما أونطة … هاتوا فلوسنا! (وقائع سنوات الصبا، ٤٣). والعادة في دور السينما بالأحياء الشعبية أن المشاهدين يتابعون أحداث النهاية وهم واقفون، ليتجنبوا الزحام عند فتح الأبواب (المصدر السابق، ٢٥). وثمة رواد في دور سينما الدرجة الثالثة، كانوا يجلسون على دكك طويلة تشغل نصف الصالة الأول، وينتشر باعة الكعك بين الدكك، بينما يقف الكثيرون — ممن لم يجدوا أماكن للجلوس — في الطرقات، وبجوار الحوائط (المصدر السابق، ١٧). أما النصف الثاني من دار السينما فتشغله مقاعد منفصلة كما في دور السينما الأخرى (سينما الدرادو، ٧١). وقد ظلت عواصم المديريات — المحافظات — لأعوام طويلة، خاليةً من دور السينما (الفرقة الأجنبية). ثم عرَفت مدن الأقاليم والقرى السينما، مؤثثة بمقاعد من خشب، والباعة يسرحون بين الصفوف: بيبسي … كوكا … شاي ولب وساندوتشات عجمية (الطين). وعرْض الفيلم الجديد — خاصة إذا حضر أبطاله حفلاته الأولى — حدث مهم في حياة المدينة الإقليمية. وعندما حضرت الممثلة العظيمة زبيدة، نجم ١٩٤٦م، حفل الافتتاح لفيلمها الجديد في سينما البلدية بطنطا، وفَد إلى السينما جمهور ضخم من الأعيان والحكام والطلبة؛ فضلًا عن الآلاف الذين ازدحموا في الميدان، والشرطة تنظم حصولهم على التذاكر (البحث عن زبيدة). وكانت سينما الهمبرا هي الوحيدة في الإسكندرية التي تخصص حفلة في الثامنة صباحًا، بينما دور السينما الأخرى تبدأ حفلاتها الصباحية في العاشرة (سينما الدرادو، ٣١). وكانت الهمبرا تتحول — في حفلات أم كلثوم — إلى مسرح تغني فيه المطربة الشهيرة (سينما الدرادو، ٢٦)، ونتيجة لتدهور أحوال السينما؛ لأسباب: في مقدمتها ظهور التليفزيون والفيديو والقنوات الفضائية، فقد قل تردُّدُ الناس عليها (الإسكندرية، ٦٧). ونتيجة لظهور التليفزيون، فقد قل تردد الجمهور على دور عرض الدرجة الثالثة؛ لأن التليفزيون كان يعرض الأفلام التي تعرضها تلك الدور؛ مما اضطَر أصحابَ دور عرض الدرجة الثالثة إلى إغلاقها، واستبدال أنشطتها (سينما الدرادو، ٤٠)، كذلك فقد تحول الكثير من دور السينما بالإسكندرية — في الأعوام الأخيرة — إلى صالات أفراح، مثل سينما ماجستيك بمحطة الرمل (المصدر السابق) وسينما الجمهورية المطلة على شارعَي راغب باشا وإيزيس (سينما الدرادو، ١٠١)، وسينما الشرق بالمنشية، وسينما بارك بمحطة الرمل (زمن عبد الحليم حافظ، ٢٣)، وسينما الدرادو بالقرب من محطة الإسكندرية (كوم الدكة، ١٤). كما أقيمت مساكن شعبية في موضع سينما كليوباترة بعد هدمها (زنقة الستات، ١٠٧). وقد شاهد والد الراوي في سينما أمير بباب سدرة بالإسكندرية، أفلام شارلي شابلن والإخوة ماركوس، وأفلام رعاة البقر (زبيدة عروس البحر الأزرق، ٨٩)، ثم احترقت السينما، فتحولت إلى مخزن للأخشاب (سينما الدرادو، ٣٩). وثمة دور سينما تحولت إلى مخازن تجارية، مثل سينما «الهلال» بالإسكندرية (باب الكراستة، ١١٢)، وسينما «كريستال» بمصر الجديدة، وظلت بقايا الأفيشات القديمة معلقة عليها (خرائط للموج، ١٥٦). وقد تحولت سينما «التتويج» بالإسكندرية إلى جراج كبير، ثم أُنشئ في موضع الجراج بنايةٌ سكنية (سينما الدرادو، ٢١).
شارع
الشوارع تتعانق في الميدان (المتاهة والحلم). وكانت شوارع القاهرة، في عهد الحملة الفرنسية، ضيقة، وغير مبلطة، وأغلبها مظلل بالحصير الذي يستند إلى أعمدة خشبية مثبتة في أعلى البيوت؛ لتحمي المارَّة من حرارة الشمس (وصف مدينة القاهرة وقلعة الجبل، ٦٣)، بينما ينيرها ضوء منعكس، وهو ما تبدَّى — بصفة خاصة — في الشوارع التي شغلتها الأسواق (المصدر السابق، ٧٦). وكانت القاهرة محاطة بالأسوار، وكان في الأسوار أبواب؛ من هنا جاءت تسميات: باب البحر، باب الحديد، باب الخرق [الخلق]، باب الشعرية، باب زويلة، بين السورين. وقد ظلت كل الشوارع في القاهرة والمدن ضيقةً إلى عهد محمد علي، فلم تكن ثمة وسائل مواصلات، فيما عدا الدواب. وعندما أراد محمد علي أن ينشئ طريق السكة الجديدة في قلب القاهرة، فكر في أن تكون الطريق جديدة، وعلى نمط الطرق الأوروبية، فاستفتى العلماء في سعة الطريق، فأفتوا بأن يجعله واسعًا إلى حد يسمح بمرور جملين محمَّلين، بدون مشقة، فقُدِّر لذلك ثمانية أمتار، وقد روعي ذلك الاتساع فيما بعد، ولأعوام طويلة تالية (العرب والغرب). وحتى عهد إسماعيل، لم يكن في القاهرة سوى شارع واحد طويل، هو شارع الحسينية. ثم أنشأ إسماعيل شارع الفجالة الجديد، وشارع كلوت بك، وشارع محمد علي، وشارع عبد العزيز، وشارع عابدين … فسهُل بذلك الانتقال من مكان إلى آخر في أحياء القاهرة المختلفة (القاهرة، ٢٤١). ثم تغيرت صورة الشارع؛ لم تعد حركته ممثَّلة في عربات اليد والكارو وسوارس التي تكاد تترنح من كبرها وثقلها (بين القصرين، ٤٤). أضيفت إليها، وحلت بدلًا منها، السيارات والدراجات البخارية والدراجات، وتقلص شيئًا فشيئًا دورُ الدواب في حركة السير. وقد جرت العادة في القديم، على أن يشغل أحد الشوارع مجموعةُ دكاكين تختص بنوع معين من التجارة، كالنحاسين والصاغة والفحامين والخيامية والعقادين؛ إلخ. وحتى الآن، فإن بعض هذه الشوارع ما تزال تحتفظ بأسمائها القديمة (بين الفولكلور والثقافة الشعبية، ٣٢٤)، فالصنادقية نسبة إلى باعة الصناديق، وهي خزانة الملابس التي تقوم مقابل الدولاب. كان يضم عمال التجارة في صنع الصناديق، قبل أن يغزو دولاب الملابس بيوت الناس في القاهرة. وكان شارع النحاسين يضم العديد من دكاكين باعة النحاس، وتركزت في الفحامين دكاكينُ ومتاجر بيع الفحم، كما تركزت في الخيامية دكاكين صنَّاع الخيام وباعتها. وأبرز ما يميز شارع الخيامية سقفُه الخشبي، والفتحات المربعة التي تنفُذ منها أشعة الشمس (مليم الأكبر، ١٩٩). أما المغربلون، فلوجود عدد كبير من تجار الحبوب، ودكاكينهم لا تقتصر على مجرد البيع، إنما هي تغربل الحبوب وتطحنها وتُعِدُّها للبيع، والكحكيون هم باعة الكعك، وكذلك سوق السلاح. وشارع جبل ناعسة مزدحم بالمقاهي (هي). وقد يُعرف شارع ما باسم إحدى القهاوي؛ شارع إسماعيل صبري، مثلًا، الذي عُرف باسم قهوة فاروق، لا يلتقي فيها أبناء سن محددة، ولا أبناء مهنة بعينها. روَّادها أخلاط من المهن والأعمار، يجمعهم السُّكنى في شارع إسماعيل صبري والشوارع القريبة (قاضي البهار ينزل البحر، ٦٧). وأُطلق اسم «المطار» على الشارع الذي يُفضي في نهايته إلى مطار إمبابة المدني الذي أُنشئ في نهاية الأربعينيات، ومعهد الطيران الشرعي، ومعهد التدريب على الطيران (نفق المنيرة). ويشير الفنان إلى أن شارع النبي دانيال بالإسكندرية، كان يمثل حيًّا قائمًا بذاته، يكاد يكون مقصورًا على الأجانب، لا كلمة عربية، ولا تحية صباح مما يتبادله المصريون. الأمر نفسه في شوارع فؤاد الأول وشريف ومحمد علي والسبع بنات (زنقة الستات، ٢٢). ويتميز شارع النبي دانيال — بالإضافة إلى المحالِّ التي تبيع معظم احتياجات الأسرة — بباعة الكتب في نهاية الشارع. أكداس الكتب فوق الرصيف، ومعلقة في دوبار على السور الحديدي لشركة التأمين، وجامع النبي دانيال، وسور كوم الدكة القديم (زنقة الستات، ١٢٣). أما شارع قصر العيني فيتسم باكتظاظه بالوزارات ودواوين الحكومة (امرأتان في نقطة الصفر، ١١). وإلى الثلاثينيات، كان الريف والحضر يتجاوران في العديد من شوارع القاهرة. شارع بين الجناين، مثلًا، كانت تقوم على جانبيه بيوت حديثة، وتمتد شرقيَّه وغربيَّه الحقولُ المزروعة بالخضراوات وأشجار الحنَّاء (حديث الصباح والمساء، ١١٩). وثمة شوارع تؤدي دورًا حيويًّا، يتجاوز مجرد استخدامها لسير المارة ووسائل النقل. شارع فؤاد، على سبيل المثال، يربط شرق القاهرة بغربها، ليعبر نهر النيل بعد ذلك، ويخترق الزمالك، ومنها إلى الجيزة (الأخبار ٢٩ / ١٢ / ٢٠٠٤م). وشارع راغب بالإسكندرية يفصل حي كرموز عن حي محرم بك (الوحش). وكانت عربات مصلحة التنظيم تتولى غسل الشوارع المهمة بالمياه (الوحل). وبعد أن انتقل سراة الجمالية إلى العباسية الشرقية، في حين انتقلت الطبقة الوسطى إلى العباسية الغربية، فإن شارع العباسية الذي يفصل بين الجانبين «أصبح سدًّا لا يُعبر إلا في المُلمَّات، وقد لا يُعبر أبدًا» (أم أحمد). وقد يُهدم الشارع القديم والبيوت المطلة عليه، لينشأ مكانه شارعٌ جديد أكثرُ اتساعًا (أيام الإنسان السبعة، ١٩٤). وربما أدى شق شارع جديد إلى إزالة مظاهر سلبية موروثة. وهو ما حدث عندما أزيحت الأنقاض التي تفصل بين حي الحسينية بأغلبيته الساحقة من المسلمين، وحي الظاهر الذي اختارته للسُّكنى عائلاتٌ يهودية كثيرة. ظهر شارع جديد هو شارع فاروق، وسكنه المسلمون واليهود جنبًا إلى جنب، فزال تنافر كان سمة للعلاقة بين أبناء الديانتين (أنا حرة، الرواية) قبل أن تقام دولة إسرائيل، وما رافق ذلك، وأعقبه، من نتائج سلبية خطيرة …
ولعل شارع سلامة بحي السيدة زينب، كما يقول فتحي رضوان، هو الشارع الوحيد الذي ظفِر من الأدب المصري الحديث برواية كاملة؛ هي عودة الروح (أنا وأهل المغنى، الهلال، نوفمبر ١٩٨٥م). وكان من المفروض أن يكون شارع عزيز حارة باسم إبراهيم باشا الكبير على اسم الدرب المجاور الذي يوصل بين المكان ودرب الجماميز، وشاع الاسم بين أبناء الشارع/الحارة فعلًا، وأبناء الشوارع المجاورة، لولا أن الزوجات اشتكين وبكَين أن ينتهي بهن الأمر إلى السكنى في حارة. وحسم شكري عبد العال المشكلة بأن أحضر لوحتين من الصفيح الأزرق، عليهما اسم شارع عزيز، وعلَّق واحدة في أول الشارع، والثانية في نهايته (الشوارع الخلفية، ١٠). وقد سُمي شارع التتويج بالإسكندرية بهذا الاسم لأن الملك فاروقًا — كما يقول الفنان — مر بالشارع في طريقه إلى قصر رأس التين، وتم تتويجه ملكًا هناك (سينما الدرادو، ١٣). وإلى بدايات القرن العشرين، كانت تختلط في شارع الموسكي «العناصر الثلاثة: الشرقيون والأجانب والمصريون. يزداد الأجانب في جانبه القريب من العتبة، والمصريون في جانبه المتصل بالسكة الجديدة المؤدية إلى أحياء سيدنا الحسين والأزهر وما وراءها إلى الجبل من أحياء وطنية صميمة» (هكذا خلقت، ١٣-١٤). وتعود تسمية شارع الألفي إلى اسم محمد بك الألفي أحد كبار المماليك. وكان شارع الألفي ضيق الانحدار، على جانبيه مكاتب وكلاء المحامين الشرعيين، أغلبهم، فيما مضى، في جلابيب وجاكتات، وعلى الأذن قلم، يجلسون داخل الدكاكين، وعلى أبوابها نسوة، أغلبهن متبرجات بالكحل والأحمر والأبيض، فمن الواجب — يوم الذهاب إلى المحكمة — عدمُ إهمال الشياكة والجمال، للتأثير على القاضي في حسابه للنفقة، ولأنهن سيقابلهن أزواجهن وجهًا لوجه، فيبين التشفي، أو ينشأ الأمل في الصلح (خليها على الله، ٦٨). ثم اشتهر شارع الألفي بحاناته الشهيرة التي يتردد عليها الميسورون ماديًّا (السراب، ١٠٧). أما شارع القلعة — محمد علي — فقد كان يتميز بوجود دار الكتب المصرية، والمكتبات، ودكاكين التجليد، والمطابع الصغيرة، ومحالِّ الدباغة، والصور الفوتوغرافية، ودكاكين بيع الآلات الموسيقية، ودكاكين البقالة، والحلوى، والمطاعم الصغيرة، والحانات؛ فضلًا عن أهمية اقترابه من مركز الثقل في العاصمة، حيث تتركز المحال التجارية في شارع الأزهر وشارع فاروق [الجيش] (تذكار). ويصف الراوي الضرير شارع محمد علي من الأصوات والروائح المتصاعدة فيه؛ فثمة أصوات الأطفال والنساء تختلط بأصوات الرجال من العمَّال وسائقي عربات النقل وعربات الكارو والحنطور. وثمة روائح تقلية، مُيِّز منها روائح البصل والثوم (أديب، ٢٠). كما يصف الفنان الشارع بأنه الحي اللاتيني للقاهرة، «ثلاثة دكاكين موسيقى حسب الله، على الجانبين عدة مكاتب ومطابع وقهاوٍ. هو حي العوالم، منتدى الملحنين والمطربين الشعبيين، بنت البلد لا تزال الطابع الغالب فيه، نداءات الباعة في ميدان باب الخلق هي مصدر الفنون الشعبية كلها» (مولد بلا حمص). وبالإضافة إلى الفن، فقد تميز شارع محمد علي — إلى أواسط الخمسينيات من القرن العشرين — بتعدد دور الصحف، مثل مجلة «الإسلام» وجريدة «الحال» وجريدة «مصر الفتاة» وجريدة «القطر المصري» ومجلة «الفنون»، ومن قبلها جريدة «المؤيد» وجريدة «المنبر» ومجلة «الرقيب المصري» ومجلة «الغرائب» ومجلة «التلغراف». وقد تغير اسم الشارع بعد ثورة يوليو، فسُمي شارع القلعة، لكن الاسم ظل كما هو — كالعادة — محمد علي. واسم شارع عماد الدين — في رواية — مأخوذ من الشيخ عماد الدين، صاحب الضريح الموجود بالقرب من تقاطع الشارع مع شارع الشيخ ريحان (شوارع لها تاريخ، ١٥٢)، وهو — في رواية ثانية — اسم الخادم الخاص لصلاح الدين الأيوبي (القاهرة قصص وحكايات، ٤٠). ويتحدث الفنان عن الشارع بأنه عريق، كان يومًا مرتعًا للفن والنزوات والأفق الطليق (مساء ليلة من إبريل). كان — كما يصفه ألفريد فرج — مضيئًا باستمرار، مزدحمًا باستمرار، وكانت به محطة النهاية لخط مترو مصر الجديدة، وتقاطع معظم خطوط القاهرة. وكان مركز شعاع للأقاليم، حيث تنتشر فِرَقه في عواصم المحافظات في رحلات منتظمة، في الشتاء بالصعيد، وفي الصيف بالوجه البحري (شارع عماد الدين، ٨). وفي مطالع القرن العشرين، كان الراوي يسير في شارع عماد الدين، يمتع نظره بغاداته الفاتنات، ويقلِّب بصره بين الصدور والنحور (درس مؤلم). وقد اعتاد عدد كبير من أبناء الطبقة الوسطى قضاءَ سهرة الخميس من كل أسبوع في الملاهي والمسارح ودور السينما بعماد الدين (ابن حارة عصفور). وكان المترو — إلى أواخر الثلاثينيات — يخترق شارع عماد الدين إلى نهايته، ثم يميل إلى شارع الملكة نازلي رمسيس (طريق الفناء). وكانت مصابيح الغاز تضيء ليل الشارع (الرجل المخمور). إلى جانب أضواء الممثلات والراقصات والهوى الزائف — والتعبير للفنان (مجنون سعاد ٤٢). وكانت الراقصة نعمت تشتاق إلى المرور في شارع عماد الدين، والتمتع بأنواره، والتسكع على قهاويه وحاناته (وأرقت نعمت). ونقرأ: «… شارع عماد الدين، حياة حافلة بذكريات الفنانين العظام والصعاليك، وخفقات أحلام ضائعة، وأمجاد صنعتها تيجان الورق والسيوف الخشبية؛ إلخ» (الشوارع الخلفية، ١٢٩). وبعد ظهور السينما الناطقة، بدأت المسارح تتحول إلى دور عرض سينمائي، وبالذات في شارع عماد الدين الذي أصبح شارع السينما، بعد أن كان شارع المسرح. «وبدلًا من جلال المسارح الذي يملأ القلوب بالوجَل ونبالة الحياة، تزحف الصالات والسينما والفرق الاستعراضية. مسرح برنتانيا كالمعبد الخرب، ومسرح رمسيس انتهى ولم يعُدْ له هناك وجود. حتى المسرح الصغير الذي عمل عليه جورج أبيض أصبح دارًا للسينما» (الشوارع الخلفية، ٢٦). وكان في عماد الدين — إلى نهاية الثلاثينيات — أندية للقمار (السراب، ١٣). وشارع كلوت بك طويل يتميز بالأعمدة الضخمة والأزقة الضيقة والسلالم الضيقة (نحن لا نزرع الشوك، ٣٧٤). وإبان الحرب العالمية الثانية، اتسم شارع كلوت بك، عن غيره من شوارع القاهرة، بالبواكي والمواخير والحشد المتدفق من الجمهور وعساكر الإنجليز وحلفائهم (الأصلع). اشتهر الشارع بمهنة الدعارة، ومثْله شارع جلال في القاهرة (البحث عن النسيان، ١٤). أما شارع الفجالة، فشهرته في بيع الكتب المدرسية، والثقافية عمومًا (ساعة، ع. م. ب)، وكما يصفه الفنان، فقد صار حصنًا قويًّا، وقلعة منيعة، للكتاب الدراسي الخارجي (الفنطاس، ٣٦)، ثم اقتحمت الشارع محالُّ الأدوات الصحية، وفرضت سيطرتها الكاملة على المكان (المصدر السابق، ٤٢). ويتسم شارع هدى شعراوي ببيوته ذات الطراز الواحد، ومسجده الفاطمي ذي الإيوان الواسع، والقبة الهائلة التي تواجه أبراج كنيسة الإخوة وأجراسها ذات الصليل الجليل (قصاص الأثر). أما شارع قصر النيل، فقد اشتهر — أعوام الحرب العالمية الثانية — بكثرة الحانات فيه (الفنان). والآن، فإن طابعه الضيق والعصبية والكبت، بحر متلاطم الأمواج من البشر والسيارات والأصوات المزعجة (الحب فوق هضبة الهرم). ويصف الفنان شارع شبرا بأنه «لا يشبهه جحيم في الدنيا» (قدر الغرف المقبضة، ٥٣). إنه يتسم بضوضائه وزحامه ومركبات الترام والسيارات الخاصة والعامة والنقل التي لا ينقطع سيرها (الثوب الضيق، ٢٥٩). أما شارع الأزهر فهو، كما وصفه الفنان، في ثلاثينيات القرن العشرين، طويل، كثير الحركة، يزخر بالناس والعربات والترام والدواب. وظل الشارع يتسع، ويضرب بجناحيه شارع الخليج، ويأخذ منه، حتى بدت المآذن والقِباب وبروج الحي القديم للجالس في ميدان العتبة (الرفيق). وإذا كان شارع الأزهر قد وصل المدينة القديمة بالمدينة الحديثة (العائد)، فإن الهدف من إنشاء شارع فاروق [الجيش] في ١٩٢٦م؛ أن يوصل بين ميدان العتبة وميدان الحسينية، فيسهل الاتصال بين القاهرة والعباسية، وضواحي القاهرة الشمالية، وشارع الأزهر. كما يسهل الاتصال بين ميدان العتبة وحي الأزهر (القاهرة، ٢٥٣)، ثم ضاق الشارع بمرور الأعوام وجُنَّ، وأُصيب بالجدري. استفحل الزحام فكاد الناس يأكلون بعضهم بعضًا (يوم قتل الزعيم، ١٥)، حتى شارع رضوان الفرعي، تحولت بيوته إلى عمائر، والحقول والحدائق من حوله إلى أراضٍ فضاء تباع فيها الخردة ومخلفات السيارات، وأصبح الشارع والبيوت والناس شارعًا إفرنجيًّا وبيوتًا إفرنجية وأناسًا متفرنجين، لا ينقص إلا القبَّعة واللغة الأجنبية، وإن ارتدى البعض القبعة فعلًا، أو تكلم بالفرنسية (صباح الورد). وقد ألِف شارع بين القصرين ألا ينام حتى مطلع الفجر، «والأصوات المتقطعة التي تترامى أولَ الليل من سمار المقاهي وأصحاب الحوانيت، هي هي التي تترامى عند منتصفه، وإلى ما قبيل الفجر» (بين القصرين، ١٨). أما طريق النحاسين، فقد كان أبعد ما يكون عن الهدوء، «صوته الجهير لا يخفت من الفجر إلى ما قبيل الفجر. حناجره عالية، هتافات بنداءات الباعة ومساومات الشارين ودعوات المجذوبين ودعابات السابلة، يتحدثون وكأنهم يخطبون، حتى أخص الشئون تترامى إلى جوانبه وتطير حتى مآذنه، إلى ضوضاء شاملة تصدر عن صليل سوارس حينًا، وطقطقة الكارو حينًا آخر (بين القصرين، ٥٥٣). وشارع قصر الشوق ضيق، متفرع من شارع الجمالية. وقد سُمي باسم حصن قديم كان يُعرف باسم قصر الشوك، ثم صار قصر الشوق من قصور الخلفاء الفاطميين. وكان في شوارع القاهرة وميادينها — إلى ثلاثينيات القرن — لافتاتٌ مثبَّتة على أعمدة مكتوب عليها: موقف لكذا حمار! حسب اشتداد حركة النقل في المكان (خليها على الله، ١١٤). والواقع أن تواليَ الأعوام لم يبدل صورة الحياة في الشارع، ظل كل شيء على حاله، عدا اختفاء عربات سوارس، وتزايُد أعداد السيارات، ومزاحمة الأصوات المنبعثة من أجهزة الراديو في الدكاكين لأصوات الباعة والشارين والمارِّين التي تصنع جلبة الشارع. وقد سُمي شارع السكرية بهذا الاسم لأنه كان يوجد به دكاكينُ لبيع السكر. وللغورية رائحته المميزة: مسك وعنبر وكافور وصندل وزعفران وقرنفل وحبَّهان وتوابل وسكر نبات، والناس داخل الدكاكين، أو أمامها، يشترون ويبيعون (رائحة البرتقال، ٣١). ولشارع السد معالمه الثابتة كالهرم: طوابير الذاكرين أمام جامع السيدة زينب، وراوي قصة سيدي إبراهيم الدسوقي الذي قيَّد الجان، والمواويل الحمراء يطلقها صعيدي، وعلى مدى الشارع حلقات لا تنتهي: الشاطر يكسب ولعبة الثلاث ورقات ونوم العازب وعجين الفلاحة وسلام لسيدك يا ميمون (قصة لا تنتهي). والخيامية شارع، رغم تسمية الفنان له بالحارة، وهو مسقوف، وعلى الجانبين يقعد الصنايعية أمام أبواب الدكاكين، يصنعون من قماش الخيام أعلامًا وراياتٍ وصورًا فرعونية وزخارف موشَّاة بالقصب الملون، تحت أضواء المصابيح المعلقة بجوار اللافتات الباهتة (رائحة البرتقال، ٢٩). ويصف الفنان شارع التربيعة بأنه كالتيه، لا يكاد يمتد بضعة أمتار طولًا، حتى ينعطف يَمنةً أو يَسرة. وفي أي موضع منه يطالع السائر منحنًى يطوي وراءه مجهولًا، وضيقُ ما بين جانبيه يُريق عليه تواضعًا وأُلفة، والجالس في دكان على يمينه يستطيع أن يصافح الجالس في دكان على يساره، سقوف بمظلات الخيش تمتد بين أعالي الدكاكين، فتحمي أشعة الشمس المحرقة، وتنفث في الجو الرطيب سمرة حالمة، وعلى الأرائك والرفوف أجولة مرصوصة مترعة بالحناء الخضراء والشطة الحمراء والفلفل الأسود وقوارير الورد في أحجام وألوان شتَّى كأنها التهاويل، في جو مفعم بشذا العطارة والعطر (قصر الشوق، ٢٩٤). أما شارع البغالة، فهو ضيق مزدحم، مليء بدكاكين البقالة والنجارة وبائعي القباقيب والصرماتية والعطارين وعربات الكارو والحمير وعربات اليد وباعة العرقسوس (بين أبو الريش وجنينة ناميش). ويتميز شارع الشواربي بالمَحالِّ التي تبيع الثياب المستوردة، والبضائع المستوردة عمومًا. إنه «قمة سوق المستورد» (قلبي ليس في جيبي). وكان الطابع الريفي يغلب على شارع الهرم والمنطقة المحيطة به. وكانت البنايات في الشارع قليلة، والزراعات هي السائدة، والغيطان أكثر من المباني، والأشجار الضخمة على الجانبين (رحلة السمان، ١٢، ١٤، ٥٠)، ثم تبدَّل الحال في الشارع، اختف الخضرة تمامًا، وارتفعت العمارات على الجانبين، وتحولت الزراعات إلى أبنية، وقُطعت الأشجار الضخمة من أجل تجميل الشارع (رحلة السمان، ١٦٣). أضاءت الشارعَ المصابيحُ الكبيرة، ولم يعُدْ يخلو من المارَّة في ساعات الليل أو النهار (المصدر السابق، ٢٨). ويختلف ليل شارع الهرم عن الليل في بقية شوارع القاهرة الكبرى [القاهرة والجيزة والقليوبية] في امتلائه بالسُّكارى والحوادث وأعمدة النور المنهارة والأضواء الملونة والعربات التي تحمل أرقام الجمارك وهياكل المباني الخرسانية ورائحة المزارع التي تتخلل البيوت (الرفاعي). وشارع الليثي بالإسكندرية من أشهر شوارع المدينة في بيع التحف والأثريات والنجف والساعات السويسرية والمقاعد الإيطالية و«الحاجات الغالية من كل الدنيا»، وتسري في جوه رائحةُ الجملكة والأستر والكحول والبويات (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٥٣). وزنقة الستات ليست شارعًا ولا حارة ولا زقاقًا واحدًا، لكنها مجموعة من الحارات الضيقة، الطويلة، المتقاطعة. على جانبيها دكاكين صغيرة، مليئة بالأقمشة والملابس الجاهزة وأدوات الماكياج وغيرها من احتياجات النساء. وتتوسط زنقة الستات أهم أحياء الإسكندرية، القديمة والحديثة (زنقة الستات، ٣٨–٣٩). أما شارع السكة الجديدة بطنطا فيتميز بدكاكين بيع الحلوى: الدكاكين والدكك أمامها مُحمَّلة بتلال الحُمص، والنوافذ الزجاجية مُحمَّلة بالحلوى بيضاء وحمراء، والعلاقات محملة بلُعب الأطفال، ومن وراء ألواح الزجاج تبرُق الأساور والخواتم والأقراط، وتتأرجح مع الهواء شيلان البنات وملافح الرجال من الحرير أو القطن، وضجة الميكروفونات تتعالى (أيام الإنسان السبعة، ١٣١).
من هنا، يمكن القول إنه ليس لكل الشوارع مكانة واحدة ولا ملامحُ متشابهة. ثمة شوارع مستقيمة ذات طول وعرض وأسفلت ورصيف وأسماء شهيرة، وبيوت لها أرقام وشُرفات وبوابات ذات زخارف ودكاكين أنيقة ولافتات مكتوبة بخط أنيق، وشوارع أخرى ضيقة ترابية، بلا رصيف ولا أرقام بيوت. دكاكينها مجرد حوانيت، صاحبها هو كل العاملين بها (قاع المدينة). وعربة بائع الفول جزء من حركة الشارع، وهو ما كان يقتصر على الأحياء الشعبية، لكنه الآن ظاهرة في الشارع المصري بعامة (المراهقون، ١٠).
ومعظم الشوارع في القرى مدقَّات ترابية (صديقتي). أما الشوارع الضيقة — تسمى هكذا والمفروض أنها حارات — فهي تزدحم بالحركة والصراخ والأصوات العالية. الشرفات ونوافذ البيوت قصيرة متجاورة، والنسوة يتصايحن، والأصوات تختلط، والصواني الممتلئة بالقلل تعلوها الأغطية النحاسية، اللامعة في الضوء (رائحة البرتقال، ٩). الشارع الشعبي الضيق تكاد تسدُّه عربة يد إذا اعترضت سبيله، وبيوته تكاد تتماسُّ مشربياتها — نوافذها فيما بعد — ودكاكينه صغيرة متلاصقة، والأرض متربة، والسابلة لا ينقطع لهم تيار، والزحام والطنين كخلايا النحل (بين القصرين، ١٢٦). وعند رءوس الطرقات، يقف باعة اللب والفول السوداني والدوم والحلوى (بين القصرين، ٥٤). ولأن فتى الأيام كان يعتمد على أذنيه في رؤية الطريق، فهو يصف الشارع في الحي الشعبي — أوائل القرن — بأصواته التي تختلف أشد الاختلاف: «أصوات النساء يختصمن، وأصوات الرجال يتنادَون في عنف، ويتحدثون في رفق، وأصوات الأثقال تحط وتعتل، وصوت السقَّاء يتغنى ببيع الماء، وصوت الحوذي يزجر حماره أو بغله أو فرسه، وصوت العربة تئزُّ عجلاتها أزًّا، وربما شق هذا السحاب من الأصوات نهيق حمار أو صهيل فرس» (الأيام، ٢ / ٤). والشوارع في منطقة شبرا الخيمة شبيهة بمثيلاتها في الأحياء الشعبية؛ فملامحها تتبلور في عشرات البيوت القصيرة والطويلة التي تنهض فجأةً وسط بحيرات من المجاري وجيوش من الذباب في النهار، والناموس في الليل، وناس يأتون من كل الأماكن ليختطفوا مسكنًا من وسط الورش والمصانع الصغيرة التي تملأ السماء بدخانها (رائحة البرتقال، ٤٦). أنت تشعر في الشارع بالحي الشعبي — للوهلة الأولى — وأن كل الناس الذين يعيشون فيه يعرف بعضهم بعضًا جيدًا، كأنهم عائلة واحدة (حادث زواج في شارع مؤنس أفندي). والوافد الغريب إلى شارع في حي شعبي؛ لا بد أن يواجه نظرات الفضول المتطلعة من الدكاكين (قاضي البهار ينزل البحر). ولأن شارع المتولي بمنشية البكري شارع سكني، نصف مساكنه عمارات حديثة، والنصف الآخر بيوت قديمة من دور ودورين، وليس به من مَحالُّ عامة سوى فرن وكواء، فقد كان الغريب الطارئ يشعر حالَ دخوله الشارع بغربته (تحقيق). وقد يختار الأولاد أحد الشوارع للعب الكرة، ويتركون أحذيتهم وحقائبهم مهملةً في وسط الشارع (جنون خفيف). ورصف شارعٍ ما في حي شعبي معناه أن السيارات لن تتوقف عن المرور فيه، ومعناه — في الوقت نفسه — أن حركة لعب الأولاد تصبح مقيدة (أحزان مدينة، ٤٧). وسكان الشارع الواحد يشعرون بالانتماء إليه. إنه وطن مصغر. وربما افتعل أطفال الشارع خناقة مع أطفال شارع آخر لتأكيد القوة والتفوق (أول ما نبدي القول). الشارع هو الناس الذين يَحيَون فيه، الذين يسكنون البيوت، ويفتحون الدكاكين، وينشغلون بالبيع والشراء، والمشي في قلبه، والجلوس على أرصفته (أحزان مدينة، ١٦٣). وعندما تُشيَّد بيوت جديدة، فإن الإحساس بالغربة يتولد ويعمُق بين السكان القدامى. ثمة سكان جدد قدِموا بأوضاعهم الاجتماعية المغايرة وعاداتهم، والكثير مما يختلف عن الحياة التي أرسَوا تقاليدها أو ورِثوها (أحزان مدينة، الرواية، حكاية الولد برهومة).
•••
تغيرت ملامح الشوارع عمومًا بالتدريج؛ دكان الثلج، مثلًا، تحول إلى سوبر ماركيت، والقهوة أصبحت كوافير، والمكوجي أصبح محلًّا لبيع اللحوم المجمدة، والمكتبة تحولت إلى مكتب سفريات؛ إلخ (المصدر السابق). ومع أن صانعي النحاس ما زالوا يؤدون دورهم في الشارع المسمى بهذا الاسم، فإن صناعة النحاس عمومًا شهدت ضمورًا تدريجيًّا، بعد أن حلت الأدوات المنزلية من الألومنيوم بدلًا من المصنوعة من النحاس. وتحولت الشوارع إلى جراج، يكتظ بكل أنواع المركبات. بل إنها أصبحت تقترن بالزحام المجنون (صهيل الماء). ويهتف الراوي، بعد أن غاب عشراتِ الأعوام عن شارع «بين الجناين»: ماذا حدث للشارع؟ «متى هجمت عليه جميع هذه المركبات؟ ومتى تلاطمت فوق أديمه هذه الجموعُ من البشر؟ وكيف غطَّت جوانبَه هذه التلالُ من القمامة؟ وأين الحقول على الجانبين؟ قامت مكانها مدن من العمائر العالية، واكتظت طرقاتها بالأطفال والصبيان، وارتجَّ جوُّها بالأصوات المزعجة» (نصف يوم). ويعبِّر أحدهم عن ضيقه بالزحام: سنضطر إلى الوقوف غدًا، من شدة الزحام (الحب تحت المطر، ٣٨). وظلت نوال تكره الشوارع المزدحمة بالناس والعربات المكتظة بالركاب (فتاة في المدينة). ويُبين الزحام عن تأثيره السلبي، عندما يمتلئ الشارع الهادئ الظليل، بالدكاكين وورش السيارات، وتغطيه مياه المجاري والقاذورات، وتتحول الأرض الفضاء، التي كان مخططًا لها أن تصبح حديقة، إلى مزبلة. حتى العمارات القائمة من قبل، يسودُّ لون جدرانها، وتتغير واجهاتها، ويتحطم زجاج مناورها، وتحتل القطط سلالمها، وتتكدس مخلفات الأعوام في أركان شرفاتها (ذات، ٥٢)، «فيما عدا الشقق المحظوظة التي فتح الله على أصحابها، فامتدت يد الدهان إلى نوافذها وبلكوناتها، والواجهات المحيطة بها، في حدود ضيقة، لا تمتد إلى جيرانها، وقُفلت بلكوناتها، أو ظُللت، بالتندات الإيطالية المخططة والمحبوكة، ودُمغت بصناديق التكييف وخراطيمه» (المصدر السابق، ٢٠٥). وقد يتحول الشارع إلى سوق؛ مثل شارع سيدي عماد الذي أصبح اسمه شارع السنوسي (عشاق وعاشقات باب الكراستة، ٥). وتحول شارع الميدان إلى سوق بالاسم نفسه (رباعية بحري). وغالبًا، فإن الطريق الزراعي المرصوف مشقوق، مليء بالحفر والمطبات، ظامئ إلى طبقة من الزفت ورشِّ المياه (عودة الغائب).
وللشوارع في نفوسنا ذكريات جميلة. تذكِّر الطالبة تحية أباها بالأيام التي كان يأخذها معه فيها، ويتمشيان معًا في شارع البحر (المنصورة)، ويشتري لها الفول السوداني وحب العزيز (خروج عن الموضوع). وكان شارع سعد زغلول أحب شوارع الإسكندرية إلى نفس عيسى الدباغ. اعتبره شارعه الخاص على وجهٍ ما. وكان يحب أن يقطعه، ولو مرةً كلَّ يوم جيئةً وذهابًا، ليناجي فيض الذكريات (السمان والخريف، ٩٥).
والشوارع الخالية، الهادئة، هي المكان الأنسب لتمشية المحبين (حادث النصف متر)، فيها يلتقون، يمارسون غزلهم، وقُبلاتهم أيضًا. ذلك ما فعله علي طه وإحسان شحاتة (القاهرة الجديدة، ١٦). وبعض نواصي الشوارع يقف فيها الشبان لمجرد اللقاء، أو لمعاكسة الفتيات (حكمة العائلة المجنونة، ٦). وكان شارع البارون بمصر الجديدة في الخمسينيات — على حد تعبير الفنان — هو الشارع الذي لا تملُّ القلوب جوانبه، ولا يعرف العشاق له نهايةً إلا إذا اصطدموا بعسكري البوليس (أين عمري، ٦).
والانتقال من شارع في حي شعبي إلى شارع في حي للطبقة الوسطى فما فوق؛ تعبير عن المكانة الجديدة، المتميزة، التي بلغتها الأسرة. وحين انتقلت أسرة كامل علي من عطفة نصر الله إلى شارع الزقازيق بمصر الجديدة، قالت نفيسة: لقد صرنا من الطبقة العالية حقًّا (بداية ونهاية، ٣١٦).
وربما تتغير تسمية الشارع بتوالي الأجيال؛ فثمة شارع بولاق، وفؤاد، و٢٦ يوليو. أسماء ثلاثة تُطلَق على شارع واحد، بتوالي الأجيال التي تعي إطلاق كل تسمية (نزوة نوبية، ١١٥). وثمة شارع يوسف الحكيم بقسم كرموز في الإسكندرية، يستبدل الناس بالتسمية اسم شارع ١٢ الذي ألِفوه (الإبحار فوق نهر جاف، ١٦)؛ الأمر نفسه بالنسبة لشارع الميدان بالإسكندرية. هذه هي تسمية الناس للشارع، وليست محمود فهمي النقراشي، وهي التسمية التي قررتها الدولة منذ مقتل النقراشي في سنة ١٩٤٨م.
شاليه
الشاليه كلمة فرنسية تعني البيت الخشبي الصغير في المناطق الجبلية، يسكنه الرعاة أو الفلاحون، يقابل الكلمة عند الأمريكان كلمة «كابين»، والتي تعبِّر عن نفس المعنى. الشاليه، كما يصفه الفنان، كوخ ناصع البياض، بُني على ربوة منعزلة وسط الحدائق والنخيل، ويطل على البحر. سلالمه الخشبية تؤدي إلى غرف النوم، ونوافذه العالية تُطل على الحديقة الواسعة (من أنا). والشاليه (النُّزل) بالقرب من شاطئ البحر، تسكن صاحبته في الطابق الأول، بينما تؤجِّر الغرف الأرضية مفروشة لطلبة الجامعة (جدل الوهن والعنف). وقد يستأجر البعض «شاليه» على الشاطئ لممارسة علاقاته العاطفية (الجهيني، ١٧٨). وكان للرجل «شاليه» في منطقة الهرم، يلتقي فيه بصديقاته (جذور في الهواء، الرواية). الأمر نفسه بالنسبة للرجل الذي سكن كوخًا في نهاية طريق الهرم أعوامَ الثلاثينيات، على حافة الصحراء، ويُطل على طريق الفيوم (أرواح بين السحب). كذلك كان لرامز «شاليه» في صحراء الهرم، إلى جانب عدد من الشاليهات المماثلة، يضم غرفتين ومطبخًا وشرفةً رحبة (الملاك، ١٦). [نحن نلحظ أن كل الشخصيات اختارت للسكن المستقل صحراءَ الهرم، قبل أن تتحول إلى حي الكثافة السكانية الحالي.]
شجرة
الشجرة ظاهرة موجودة في كل الأديان، فهي أحد مصادر الحياة للفرد، ومن النادر أن تجد موضعًا مقدسًا، أو مكانًا لأحد الأولياء، يخلو من شجرة (قصصنا الشعبي، ٢٠). جاء المخاض مريم تحت شجرة، وحين جاءت بالمسيح إلى مصر فقد نزلت به عند شجرة، وتلقَّى الرسول [ ﷺ] بيعة المسلمين تحت شجرة، وأكل آدم من الشجرة المحرمة. ونحن نزرع في المدافن نبات الصبار، ونضع — في زيارتنا للقبور — سعفَ النخيل رحمةً للراحلين. ومن نبات الأشجار نأكل، ومن أوراقها نشفي المرضى، وأحيانًا نعلق في منازلنا حزمةً من سنابل الحبوب والبقول الجديدة في بداية موسم الحصاد (قصصنا الشعبي، ١٠). وكان الإله «توت» رب الحكمة والمعرفة عند المصريين القدامى، سميت باسمه شجرة التوت. وربما تخليدًا لذكراه تُزرع أشجار التوت في المقابر (الغزوة الواحدة بعد الألف).
الشجرة الوحيدة التي تقْوى على البقاء هي شجرة السنط؛ لحاؤها يحميها من الجفاف، وجذورها تختزن ماءً لا تراه العيون؛ لذلك فهي تظل تفرز صمغًا، وتُنبت قرونًا (الجفاف). وإذا كانت الشجرة مثمرة، فإن سكان المنطقة التي توجد فيها يفيدون منها (متون الأهرام). لذلك ندعو للعروس ليلة زفافها: «ربنا يجعلك شجرة تطرح وتملا المطرح» (المقومات الجمالية للتعبير الشعبي، ١٨٢). والشجرة مأوًى للطيور، تأوي إليها، وتبني فيها أعشاشها (قدر الغرف المقبضة، ١٤؛ شجرة العواصف). ويصوب الأولاد نبالهم فوق الأشجار (في جنينة ناميش). ويرجمون النخلة بالطوب ليُسقطوا من عليها البلح (يوم الحصاد). والشجرة هي أنسب المواضع لشد وثاق الحبل الذي يجر الدابة: جاموسة، أو بقرة، أو حمار؛ إلخ (عنزة خالتي جندية، العيون). ويعلق الجزار في القرية ذبيحته على الشجرة (الأم الرءوم). يتحدث الراوي عن شجرة السنط بالقول: «حفرنا على الجذع أسماءنا بالمسامير، وجمعنا منه الصمغ للحاجات المدرسية، وعلق المجاذيب فيه المصابيح في مولد ولي الله ساكن القرية، وسمعنا تحتها الأذكار، وعلق الجزار فيها ذبيحة يوم العيد، وعلى الفرع المتطامن غير العالي كنا نصعد، ونحن آمنون، لنشدَّ فيه حبال المراجيح» (الضفيرة السوداء). وظِل النخلة مقياس للزمن، وحسابات القرويين بذلك الظل لا تخيب أبدًا، برغم اختلاف طول الظل واتجاهه مع خطوات الفصول التي لا تتوقف (محب، ٢٩). لذلك يقول عمدة قتة: «النخلة هي حياة أبناء النوبة» (الشمندورة، ٢٤٠). وشجرة الجميز — لأنها ذات غصون متطاولة — تغطي كل القرية. يأوي إليها الذاهبون إلى السوق أو العائدون منه، يتَّقون الحرَّ أو المطر، ويأكلون من ثمارها، ويشتركون في ندواتها وأسمارها، ويقيمون مجالس الذكر في باحتها، ويمارسون البيع والشراء، ويتخذون من جذورها الممتدة مرابطَ ريثما يستجمُّون آخذين طريقهم إلى السوق، أو عائدين منه (الإدانة). الناس يأكلون من ثمار شجرة الجميز وغيرها من الأشجار المثمرة (الغزوة الواحدة بعد الألف). وشجرة الجميز هي المكان الذي يلجأ إليه السائر إن أراد الراحة قليلًا في الطريق الزراعي (البلد، ١٢٥). ويلجأ الإنسان المتعَب إلى ظل شجرة فينام (وكالة عطية، ١٤). ظِل الشجرة موضع مناسب للاسترخاء وقتَ القيلولة (ظلال الطيف). كما يلجأ الناس إلى ظل الشجرة فرارًا من حرارة الشمس اللاهبة (الساعة تدق العاشرة، ١٤٠). ورغم المستوى الاقتصادي المرتفع لزوجة الباشا، فإنها كانت تجد راحةً في الجلوس تحت ظل الشجرة جوارَ الترعة (رأس الشيطان، ٣٤). وفي الصيف، يأكل الفلاحون في الظل المشبع بالرطوبة، ثم يستأنفون عملهم بعد الظهيرة (الثمرة الحلوة). وكان الراوي يتخذ من شجرة التوت الكبيرة مكانًا للنوم (السنيورة). والمخابئ والأخاديد والفجوات داخل شجرة السنط الضخمة؛ تصنع منها الطبيعة مقاعدَ صغيرةً تُعجب الأطفال (الأم الرءوم، روزا وآديل). وعلى الفرع المتطامن غير العالي يصعد الأطفال، وهم آمنون، ليشدُّوا فيه حبال المراجيح (المصدر السابق). ويحفر الأطفال أسماءهم بالمسامير على جذوع الأشجار (المصدر السابق). وتحت الشجرة تستريح القطعان المتعبة (محاولة للخروج، ١٤٠)، كما يستخدم البعض جسم الشجرة للتدرب على تصويب السكين؛ يقف بعيدًا، ويرمي السكين بكل قوته، فتدور حول نفسها منطلقةً في الهواء، ثم ترشق بطرفها في لحم الجذع الطري المتماسك للشجرة (رشق السكين). وربما يلجأ البعض إلى وراء الشجرة لاستبدال ملابسه قبل أن ينزل إلى النهر (العم زيدان)، ويختبئ خلفها لمراقبة الآخرين (الملح، ٩٩)، دون أن يفطنوا لذلك (الحلم والحقيقة)، أو يتربص المرء لخصمه من فوق شجرة (الليل والصمت والغضب). ونحن نكتب خطاباتنا تحت الشجرة، ونكتب أوراقنا الخاصة (حفنة تراب). وقد نعطي المواعيد للقاء تحت شجرة (الأيام، ١ / ٥٠). وتحت الشجرة — وبخاصة عندما تكون وارفة — مكانٌ مناسب للقاء المحبين (العاشق المتنقل)، يحتمون بها من نظرات الفضول (الشاعر والبنت الحلوة، فريدة جابر). وتحت الشجرة يتبادل المحبون عهود الحب (الراقص والشجرة). وربما حفر العاشقان اسمَيهما على جسم الشجرة؛ تخليدًا لذكرى حبهما (قلب مرسوم فوق غيمة مسافرة). وقد يحفِران اسميهما ملازمَين لقلب يخترق قلبًا (المواجهة الأخيرة)، ويتبادل المحبون الحكاياتِ لساعات طويلة (محاولة للخروج، ١٤٠). وربما استُغلت الشجرة — في المكان الهادئ أو المظلم — للقاءات المشبوهة؛ وهو ما رآه محجوب عبد الدايم: جامعة أعقاب السجائر وأحد بوابي شارع رشاد باشا يتعانقان وراء شجرة تين (القاهرة الجديدة، ٢٧). وثمة أشجار يعتقد فيها الناس، يؤمنون بما تحمله من سر باتع وكبير (الناس). وقد اعتقد الناس في شجرة الصفصاف على جانب الخليج؛ اعتبروها شجرةً مبروكة، واشتهرت أوراقها بين نساء المنطقة كدواء أكيد مجرَّب لعلاج عدم الحمل (الحرام، ١٤١). وقد يحاول البعض التداوي بقطرات شجرة الجميز من البثور التي تظهر على جلده (الغزوة الواحدة بعد الألف). إن أرواح الموتى تحيا في الأشجار؛ بمعنى أن هؤلاء الراحلين قد تحولوا إلى أشجار (بين الفولكلور والثقافة الشعبية، ١٨٧).
الشجرة في المدينة يحاصرها أسفلت الطريق، ويخنقها دخان المصانع، والنسوة يُلقين مياه الغسيل عند قَدمها، فتمتصه جذورها العطشى وتلتهب، وتحمله أغصانها إلى أوراقها فتذبل وتتساقط دموعًا، والحوذيون يربطون جيادهم إلى جذعها، والسُّكارى يستندون — في الليل — إليها، وربما فرَّج أحدهم ما بين ساقيه وبال عليها (نجوم كثيرة). وتعددت مذابح الأشجار في كل مكان؛ تُزال الأشجار ليُبنى مكانها أسوار من الأحجار، وغابات من الأسمنت الكئيب (شجرة العواصف). وكانت الشجرة هي الشخصية الرئيسة في عمل إبداعي؛ كانت ضمن مجموعة انتقاها الخديوي إسماعيل من مشتل سراي عابدين؛ ليزين بها الشارع الذي يربط الكوبري الأعمى — كوبري بديعة ثم كوبري الجلاء — بكوبري قصر النيل؛ استعدادًا لحفلات افتتاح قناة السويس، وتحولت الشجرة من يومها إلى شاهد على الأحداث التي عاشتها مصر. لم تكن مجرد شاهد صامت، فقد انفعلت وتأثرت وابتسمت وضحكت وعلا تأوُّهها ونَحيبُها، ثم أسلمت نفسها للموت عندما تسلل إليها العفن بتأثير التلوث الذي أصاب كل شيء (شجرة العواصف). وقد ظلت شجرة الجميز العتيقة في موضعها؛ تعبيرًا عن بقايا الريف الذي كان قديمًا، ثم تراجع أمام زحف المدينة بشوارعها وبناياتها (الإغراء الأخير، ١٩).
شقة
الشقة في حياة ساكنيها ليست مجرد ثوابت، إنها كائنات حية، ولها ملامح (أمهات في المنفى، ٩). ومن الأفضل أن تطل الشقة على مدخل العمارة (ذات، ١٤)، وأن تطل على الشارع، ويكون لها شرفة كبيرة (الأيام السعيدة). والدور الثالث هو الأنسب للسكنى غالبًا، فارتفاعه النسبي يَحول بين ضوضاء الطريق والتسلل إلى داخل الشقة، في حين أن الصعود والنزول لا يعتبر مشكلة إذا تعطل المصعد (المقابلة السامية). والشقق الحديثة تتسم بالسقوف الواطئة، والحوائط المتقاربة، والكوات الضيقة (لحظة لقاء). وهي تضيق — في الأغلب — عن ممارسة هوايات تربية صغار الحيوان والطير، بعكس ما كان عليه الحال في الماضي (مع الحمام).
والشقة تعبير عن الوضع الاجتماعي لساكنيها. وغالبًا ما يبدأ الزوجان حياتهما بالسكنى في شقة صغيرة، تتحول — بعد أن يصبح لهما أبناء، وتتأكد مكانتهما الاجتماعية — إلى مصيدة صغيرة مغلقة يتمنى المرء لو يهرب منها (داود الصغير). وبعض الأسر تحيا «كالسردين» في شقة صغيرة (نحن لا نزرع الشوك، ٤٠٦). ونتيجة لأزمة السكن، ظهرت الشقق الصغيرة، الشقة مكونة من غرفة وصالة وحمام ومطبخ (نفس حائرة)؛ فضلًا عن أن الكثير من الأسر انضغطت بأولادها في حجرة واحدة بلا مرافق تخصها (البحيرة الوردية، ٢٧). وكان في مقدمة أمنيات الزوج أن يدخر مبلغًا يحجز به شقة فاخرة في أرقى المناطق، بدلًا من شقته الحالية التي تقع في حي شعبي (العائد). وحين ورثت الزوجة من أبيها، قررت الانتقال إلى شقة واسعة (الكبار والصغار). وأصبح الابن موظفًا، فاستأجر شقةً واسعة بجوار جامع سيدي عمر، وطلب من أبيه أن يترك بيته القديم لينتقل للإقامة معه (الفوانيس). وهذا هو ما فعله عباس حين حصل على نقود، فهجر شقته، وأخذ شقة «على وش الدنيا» (نحن لا نزرع الشوك، ٥٧٦). وعندما تحسنت الأوضاع الاقتصادية — والاجتماعية بالتالي — لعفاف، فإنها صعِدت من شقة البدروم الرطبة إلى حجرة أخرى تدخلها الشمس، وتطل على البحري (ذات، ٥١). وعندما انتقلت الأسرة من حي شبرا إلى شارع المنيب، فإن أول ما سعدت به الزوجة جاراتُها الجديدات، كلهن زوجات لموظفين كبار، أقلهم في الدرجة الرابعة (الشيخ في بطن القطة). وحتى يوفر الراوي أفضل ظروف زواج لأختيه، فقد سحب كل نقوده المودعة بصندوق التوفير، وانتقل من شقته بدرب الحجر إلى جاردن سيتي (كنا ثلاثة أيام). وكان من بين ما جعل حميدة تتردد في الموافقة على خطبة عباس الحلو لها؛ أنه سوف يأخذها من الطابق الثاني في بيت الست سنية عفيفي، إلى الطابق الأرضي في بيت السيد رضوان الحسيني (زقاق المدق، ١٠٦). وتأزمت ظروف سيدة الاقتصادية، فاضطرت للانتقال من شقتها الواسعة إلى حجرتين صغيرتين فوق سطح أحد البيوت (نحن لا نزرع الشوك، ٧٩٧). وبعد أن تبدَّل الوضع المادي لأسرة كامل علي، عقب وفاة عائلها، اتفقت مع مالك البيت على الانتقال من الشقة في الطابق الثاني إلى شقة أرضية بمستوى الفناء الترب، وبلا شرفة، ونوافذها مُطلَّة على عطفة جانبية تكاد تبدو منها رءوس المارة؛ فضلًا عن أنها كانت محرومةً من الشمس والهواء (بداية ونهاية ٣٥-٣٦).
إن ميسوري الحال يسكنون الشقق العليا، أما الفقراء فإنهم يسكنون البدرومات (ذات الشبشب). ولعل أسوأ ما يعانيه سكان الطابق الأسفل؛ القمامة التي يُلقي بها سكان الطوابق العليا (جنون موظف). كما تدخل مياه الأمطار والمجاري من نوافذه التي تقع في مستوى الحارة المنحدرة، فتغرق الحجرات بالمياه القذرة (البدروم). البدروم مسكون بالبرد في الشتاء، ويكتوي بالقيظ في الصيف، وفي الحالين تحدث الرطوبة (أطلال النهار، ٥٥). وإذا كان ساكن الشقة العلوية يُطل على المارة من علٍ، فإن ساكن الشقة التحتية — البدروم — لا يرى من نافذة شقته إلا السيقان والأقدام والعجلات (٩ شارع النيل). وإذا كان الزبال يحرص على تقليب قمامة شقق العمارات المختلفة، فإنه يفرغ قمامة شقة البدروم دون أن ينظر فيها؛ لأنه لا يتوقع أن تحمل ما يغري بالاقتناء (الوباء).
والشقق المفروشة تزداد — غالبًا — في الأحياء القريبة من الجامعات (اعترافات ضيق الخلق والمثانة). ويستأجر طلبة الريف الذين قدِموا إلى المدينة للدراسة في معاهدها، شقة يقيمون فيها جماعة، كل ثلاثة ينامون في حجرة (حافة الجريمة). وبعد أن عرف المال طريقه إلى الملحن الأستاذ عبده، هجر الحياة في الشقة المتواضعة بحي عابدين، واستأجر شقة مفروشة في الزمالك (صانع النجوم). وقد تؤجر الشقة مفروشة للسائحين من البلاد العربية، أو للطلاب العرب الذين يدرُسون في الجامعات المصرية (المراهقون، ٩٠). أما الجرسونيرات فهي توجد في العمارات الكبيرة؛ حتى لا تتنبه الأعين المتطفلة، فالجرسونيرة تخصص فحسب للقاء رجل وامرأة فوق الفراش (قلبي ليس في جيبي، الرواية). وبعد أن توثقت علاقة سهام بالطبيب «دري» دعاها إلى زيارة شقته الصغيرة — الجرسونيرة — التي يحب أن يخلو فيها إلى نفسه (أوقات خادعة). وكان للزوج جرسونيرته في عمارة الإيموبيليا، يلتقي فيها بعشيقاته بعيدًا عن الأنظار (الصفعة). وحين أراد الصديقان اقتسام المتعة، استأجرا شقة في حي «إفرنجي» وأثَّثاها بأفخر الأثاث، ليمضيا فيها «أسعد أوقاتهما بين الحور العين والكئوس» (في الجرسونير). وتختلف الجرسونيرة عن الشقة العادية في نوعية أثاثها؛ الجرسونيرة — في الأغلب — حجرة وصالة، في الصالة أنتريه وثلاجة وبوفيه وبار، وفي الحجرة سرير ودولاب وكومودينو (حكايات صبري موسى، ٢٥٧). وقد دبَّر قاسم بك لإقامة عشيقته إحسان شحاتة وزوجِها محجوب عبد الدايم، شقةً مكونة من ثلاث حجرات وصالة، على اليمين حجرة الاستقبال، تفتح على دهليز، يفضي إلى صالة للجلوس، بها الراديو، وعلى الجانب الأيمن بابان، أحدهما لحجرة النوم، والآخر لحجرة السفرة، وتُطلَّان من شرفة واحدة على الشارع (القاهرة الجديدة، ١٣٠). والإيماءات الحسية والمثيرات هي أهم ما يحرص عليه صاحب الجرسونيرة، فالمدخل، على سبيل المثال، به شماعة ومقعدان، يفضي إلى صالة رحبة، في ركن منها بار أنيق عليه أرفف صُفَّت عليها زجاجات مختلفة الألوان والأحجام. وفي ركن آخر منضدة مستديرة، وفي جانب من الصالة كنبة كبيرة، حول بضعة مقاعد مريحة، وعلى الجدران عُلقت صور لنساء عاريات وشبه عاريات (نحن لا نزرع الشوك، ٦٤٦). ويهَبُنا الفنان وصفًا آخر لشقة جعل منها صاحبُها مكانًا للقاءات الخاصة، وتعبر عن ذوق فني متميز، فهو قد عُني بأن تتسم بالراحة الشاملة، والإحساس بالسيطرة على كل شيء. الدواوين والمقاعد تصلح للاضطجاع كما تصلح للجلوس، وأجهزة التسلية قائمة بالأركان وسط تهاويل الديكور، والتحف مصفوفة فوق الأرفف عارضة ألوانًا من فنون اليابان وخان الخليلي. وثمة بار قريب صُفت فيه ألوان الخمور (الحب تحت المطر، ٢٥). وكانت المرأة قد اختارت شقة في البيت المنعزل؛ من أجل المشاهد الجميلة التي يطل عليها، ثم اختفت كل المشاهد وراء البنايات العالية التي أحاطت بالبيت من كل الجهات (منظر بعيد لمئذنة).
شونة
مخزن كبير (الجزيرة الخضراء، ٣٧) لحفظ الغلال، أو لوطات الخشب، ينقلها العتَّالون من السيارات، يصُفُّونها في بلوطات بامتداد الشونة (الشونة).
صحراء
مع أن الصحراء تشكل نسبة هائلة من مساحة الأراضي المصرية، فإنها غائبة — إلى حد كبير — كمكان في الرواية والقصة القصيرة. في نهايات المدن والقرى، تبدأ الأرض السوداء تنحسر، ويختلط التراب برمال الصحراء الصفراء (الإغراء الأخير، ١٠٤). وقرى الصحراء تنتهي غيطانها — خاصة في المدن الجديدة — بالصحراء. الأخضر والأصفر يفصل بينهما لا شيء (تلك الأيام، ٢٤). الصحراء — في تسمية الكثيرين — هي الجبل (أحزان مدينة، ٢٤٥)، والعكس بالطبع صحيح. الصحراء — كما يصفها الفنان — لغز أبدي، تمر عليها الدهور والأمم، ويظل الزمن والناس فوقها منذ الخلق الأول. لا الشمس أحرقتها، ولا الرمال ضجت بالنار، والريح تصخب تحت الشمس وتحت القمر، لا الثعابين رحلت ولا الوحوش والهوام (المسافات، ١٤٥). الرياح ترسم تدفق الرمال الأبدي الذي بلا بداية ولا نهاية، فتستعيد لها البكارة في كل لحظة، وتمسح عنها آثار الكائنات (نخيل الخمر الصحراوي). ويقول الفنان: «في الصحراء تتشابه الأرض والكثبان» (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٢٨٠). صورة الصحراء — في نظر الكثيرين — عقارب وحيَّات (القفص). وينطلق الرصاص في الصحراء بتجارب السلاح، ولقتل العقارب والثعابين والفئران الصحراوية ومطاردة الثعالب، أو لصيد الطيور في السماء (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٣٤٤). والطريق وسط الصحراء قاحل، يزيد الإحساس بالوحشة، بالتفرد، كأن المرء هو الكامل وحده في هذه الدنيا، والدنيا طريق طويل ليس فيه سوى الأفق (حوار خاص). والصحراء ترتبط بالبدو، والعكس صحيح. الصحراء هي موطن البدو، وشيوخ البدو هم سادة الصحراء، وترتب على تلك العلاقة الوثيقة معتقداتٌ وعادات وتقاليد وسلوكيات حياة تختلف عما يحياه أبناء المدينة والريف. وفي الصحراء، أولاد يعرفون كلَّ نقاط الحدود السهلة والصعبة، وعلى علاقة طيبة مع رجال الحدود من الدولتين (المسافات، ١٦٥). والسراب هو أفق الصحراء، يبدو — من بُعد — كأنه ماء، ثم يبين عن لا شيء! (الوولف).
الصحراء هي المكان الأنسب — وربما الوحيد — لإنشاء المعسكرات. ففيها توجد معظم الوحدات العسكرية، لتكون بعيدة عن الحياة في المدن (شال الحمام). وفي المقابل، فإن الصحراء هي الموضع الأنسب لممارسة تجارة المخدرات وقطع الطريق، والجريمة عمومًا (قبل أن تفيض الكأس، ٨).
ومع أن الصحراء، في نظر البعض، مكان صيد ولَهْو، مثل عبد الرحيم باشا الذي اعتاد دعوة أصدقائه لقضاء أيام في الصحراء، بعيدًا عن تعقيدات المدينة ومتاعبها (الينبوع)، فإن الصحراء هي أنسب الأماكن لتقييد الحرية، لتحديد الإقامة والسجن. المستحيل هو الخروج من قمقم الصحراء، ذات القبضة الصخرية، المحمية بالشمس (قدر الغرف المقبضة، ٩٨). وقد تكون الصحراء مكانًا للاختفاء، وقد ترمز إلى التِّيه والضياع (تجارب في الأدب والنقد، ٢٤٥).
وإلى أواسط القرن العشرين، كان الكثير من البيوت يشرف على الصحراء. لم تكن غابات الأسمنت قد انتشرت بالكيفية التي أصبحت عليها فيما بعد (أهو الحب؟) وكانت صحراء العباسية تكتنف — من الجنوب والشرق — قصر آل شداد، يبدو بدَوْريه من الخارج بناءً ضخمًا عاليًا، يتصل مقدَّمُه بشارع السرايات، وينتهي مؤخَّرُه بحديقة رحيبة، تتراءى رءوس أشجارها العالية من وراء سور رمادي متوسط الارتفاع، يحيط بالقصر والحديقة معًا، ويرسم مستطيلًا هائلًا ممتدًّا في الصحراء (قصر الشوق، ١٥٨). وحي مصر الجديدة يلاصق الصحراء منذ أُنشئ وحتى الآن (رجل). وفي نهايات القرى، تبدأ الأرض السوداء في الانحسار، ويختلط التراب برمال الصحراء الصفراء. وربما انطلق الحبيبان في الصحراء، تخُبُّ أقدامهما في كثبان الرمال، يخوضان في أحاديثَ لا تنتهي (وتحركت السفينة في هدوء). والصحراء القريبة من المدينة هي المكان الذي يلتقي فيه طالبو اللذَّة ممن لا يجدون سقفًا يتغطَّون به. ذلك ما فعله صاحب الجراج، حين صحب نفيسة في سيارته إلى الطريق الصحراوي، لتغوص في ظلمته الشاملة، ولينال منها ما أراده، ثم يعودان (بداية ونهاية، ١٦٧-١٦٨). وبالطبع، فإنه من الصعب أن يسير المرء في الصحراء بدون ماء (كان يعرف أسماء البلاد). والصحراء بالنسبة لابن المدينة باعثٌ على السأم والملل. يقول دميان: هل كان مجنون ليلى يعيش في صحراء كهذه؛ الصحراء الغربية؟ إذا كان كذلك، فلقد كان على حق في جنونه» (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٣١٨). وفي المقابل، فإن الخوف من المدينة هاجس مقيم للفارِّ منها إلى الصحراء. الحياة في الصحراء أكثر فائدةً للصحة. الهواء النقي منعش، والبعد عن ضجيج العمران يريح الذهن ويهدئ الأعصاب (الحب يأتي مصادفة، ١٤). يعلو صوت في قهوة طرزان المحاذية للخلاء: «أنتم تثرثرون في هناء؛ لأنكم في حِمى الظلام والصحراء، ولكنكم لن تلبثوا أن تعودوا إلى المدينة، فما الفائدة؟» (اللص والكلاب، ٦١).
ولغلبة المساحة الصحراوية على أرض مصر، فثمة من يصف المناطق المأهولة بأنها واحات تكتنف الصحاريَ المصرية، أهمها الواحة الكبرى، وهي حوض وادي النيل، ثم مجموعة الواحات المتناثرة في الصحراء الغربية، ولا يكاد مجموع هذه الواحات جميعًا يزيد عن ٣٪ من مساحة الأرض المصرية (صحاري مصر، ٢٤). مع ذلك، فإنه نتيجةً للزيادة السكانية المطَّردة، فقد تحولت مساحاتٌ كبيرة من صحراء مصر إلى مناطق سكنية. يشير الأب إلى الميدان قائلًا: من يصدق أن هذا المكان كان منذ سنة واحدة فقط جزءًا مخيفًا من هذه الصحراء، التي تحاصرهم بظلالها وهواء ليلها البارد؟ (الكاميرا).
أما سيناء، فقد كانت مقطوعة بالكامل عن جسم مصر الأم، لا وسيلة للوصول إليها أو الخروج منها، إلا عن طريق البحر أو الصحراء الشاسعة. دخولها يحتاج إلى تصريح من السلطات البريطانية زمنَ الاحتلال، ثم من السلطات المصرية بعد خروج قوات الإنجليز (طريق النسر، ٣٥٤). وظلت سيناء لأعوام طويلة تعاني ما يسمى الخط الهمايوني الذي فرضه الحكم العثماني، واللوائح التي فرضتها سلطات الانتداب الإنجليزي على فلسطين (زهرة الخشخاش).
وعلى الرغم من تقسيم سيناء إلى محافظتين، فإن معظم مساحتها صحراء: الجبال الجرداء بصخورها البركانية الملونة من كل الجهات، الأحجار الزرقاء، الحمراء، على خلفية لا نهائيةٍ من كل الجهات، تنعكس الجبال النارية على صفحة المياه الفيروزية الصافية (المرسنمون، ١٧). ويصف الفنان «الطور» فترة الأربعينيات بأنه «منفًى مقطوع مرهوب الجانب» (طريق النسر، ٣٥٤)، فهو صحراء شاسعة قاحلة، ليس فيها أثر للحياة من أي نوع (المصدر السابق، ٣٧٧).
سيناء، كما يقول جمال حمدان، هي خط الدفاع الأخير عن مصر الدلتا والوادي، إذا كانت فلسطين هي الخط الثاني، وطوروس هي الخط الأول. على أرض مصر لا يتحدد مصير مصر وحدها، لكن العرب معها أجمعين. وقبل ١٩٦٧م قام العالم عبد الفتاح إسماعيل، على رأس مجموعة من الخبراء، بمسح شامل لشبه جزيرة سيناء؛ بهدف اكتشاف إمكانيات تعميرها، وجعْلها — من خلال الكثافة السكانية والعمرانية — درعًا للوادي. لكن المشروع ظل في الأدراج حتى اشتعلت المأساة! وكما يقول شكري عياد، فإنه لو كان قد بدأ تنفيذ المشروع في حينه، لكان من الجائز أن تتغير نتيجة حرب ١٩٦٧م (الهلال، مارس، ١٩٦٧م).
والعلاقة بين الصحراء والسجن — المعتقل — تبين في «الأوردي» الذي كان أرضًا رملية، سيق السجناء إليها لتسوية الأرض، وتغطيتها بطبقة من الطمي، بحيث تتحول إلى حدائق فاكهة، ضمن مزارع الخاصة الملكية (جناحان للريح، ٧٩).
[راجع: فرن].
عزبة
العزبة، عادة، مرتبطة بالملكية الكبرى؛ لأنها تأوي العمال اللازمين لاستغلالها. بدأ نظام العِزب في سنة ١٩١٣م، ويوجد الآن حوالي خمسة عشر ألف عزبة. وقد تحول الكثير من تلك العِزب إلى قرًى حقيقية (أخبار عزبة المنيسي، الرواية)، والعزبة تقع في زمام قرية وإن استقلت عنها في كل شيء (المصدر السابق). الأرض ملك صاحب العزبة، كل فرد يزرع قطعةً منها بالنصف، وتكاليف الزراعة مناصفة بين المالك والزارع [عزبة خورشيد، مثلًا، عبارة عن ٣٥٠ فدانًا، وهَبها عباس الأول لخورشيد باشا على تلك المنطقة القريبة من الإسكندرية] (شمس الخريف، الرواية). والعائد من المحصول يُحسَب مناصفة، حتى المواشي تُشترى بالنصف، وإن كانت البيوت والحارات وعيدان الحطب فوق الأسطح وأبراج الحمام ودكان البقالة الوحيد والمصلَّى والدوار، كلها ملك صاحب العزبة (أخبار عزبة المنيسي)، لكن صاحب العزبة هو وحده الذي يتعامل باسم العزبة؛ يحضر التقاوي والكيماوي والمبيدات، ويبيع المحصول، ويحاسب الفلاحين، يأخذون ما لهم، ويدفعون ما عليهم (أخبار عزبة المنيسي). في العزبة سائق لوابور الحرث، وناظر للزراعة، وخولي للأنفار، وكلَّاف يعلف المواشي في الدوار، وباشكاتب، ونحَّال يرعى النحل، وجنايني (المصدر السابق). والعزبة، كما يصفها الفنان، بضع عشرات من البيوت المبنية، بحيث تكون ظهورها إلى الخارج، بينما تفتح أبواب الدور كلُّها على حوش داخلي واسع، أشبه بساحة، أو وسعاية، يقيمون فيها الأفراح والمناسبات المختلفة التي تشهدها العزبة (تحويد العروسة)، وهي — في وصف آخر — كومة طينية جاثية على الأرض، كثيفة، مشوشة، بضعة مبانٍ طُليت بلون جيري أبيض، وثمة برج الحمام، وسراي صاحب العزبة، ومكتب الباشكاتب، والأشجار، والنخيل (أخبار عزبة المنيسي). والأحداث في العزبة قليلة ومعروفة. النهار يبدأ قبل مشرق الشمس، وينتهي بعد مَغيبها، والمكان المفضل هو عتبة البوابة الكبيرة، حيث الهواء البحري، وحيث يُستحب النوم ساعةَ القيالة، ولعب السيجة. الأحداث قليلة ومعروفة، بل تكاد تعرفها قبل أن تقع (حادثة شرف). وأهل العزب، والقول للفنان، «متهمون أنهم متساهلون في أخلاقهم عن أهل القرى» (المصدر السابق). وإخفاء الأسرار الخاصة أصعب في العزبة منه في القرية (المصدر السابق).
عشة
بعض البيوت يسمى عشَّة، مثل عشش رأس البر التي يقيم فيها المصيفون. ويلجأ المترددون على القرية إلى العشة، يجلسون في ظلها، يشربون الشاي، ويريحون أقدامهم المتعبة، قبل أن يدخلوا القرية، وبعد أن يغادروها، وربما انتظروا أمامها ركوبة أو رفيقًا يتسلَّون معه بالكلام خلال الطريق (على جانب الطريق). وثمة عشة في عزبة المنيسي أقامها الولد تعلب لشرب الشاي وتدخين الجوزة، والسهر حتى منتصف الليل (أخبار عزبة المنيسي، الرواية). وقد تُصنع العشة من الخشب والصاج وبقايا السيارات (الزنزانة، ١٧٢). وثمة أحياء تقتصر السُّكنى فيها على عشش الصفيح وألواح الكرتون (المتاهة والحلم). تنشأ على أطراف المدن من ألواح الصفيح أو الكرتون أو الجريد أو الخشب أو الصاج، أو حتى الطين، متساندة على بعضها البعض، متلاصقة، تركن أحيانًا إلى بيوت مبنية بالطوب الأحمر أو الأسمنت (يقين العطش، ٢٠٨). وسكان الجبال القريبة من المدن يكتفون ببناء أكواخ من الصفيح، متلاصقة (العربة والطريق). وهناك عشش الغجر، وهي أكواخ صفيحية، يغلب عليها طابع البداوة الذي يفصل بينها وبين المدينة (قلب الليل، ٥٧). ولا يوجد مكان لغريب في عشش الغجر (المصدر السابق، ٥٨). وكانت القاهرة — إلى ما بعد الستينيات — تمتلئ بمناطق العشش، ومنها عشش البقلي في حي الخليفة، وشلبي في الرفاعي، والأوقاف والمشايخ في الدوبارة، والحدادين في السيوف، وعشش أخرى على جانبَي الترعة البولاقية؛ فضلًا عن الأرض الخلاء في مناطق مختلفة من المدن (ترام القاهرة، ٩).
عطفة
طريق صغيرة متصلة بحارة أو درب، لا يغلق مدخلها باب، وتقتصر، عادة، على البيوت الخاصة (القاهرة قصص وحكايات). ويصف الفنان عطفة التربيعة بأنها طويلة مسقوفة بالخيش، دكاكينها صغيرة متلاصقة على الجانبين كخلايا النحل. إنها سوق النساء من جميع الطبقات، يتقاطَرْن عليها لشراء ألوان العطارة «ذوات البهجة والجمال والنفع» (بين القصرين، ٢٧٩). [يلاحظ أني أوردت التربيعة من قبلُ ضمن الأحياء]. وحين مال حسين كامل علي إلى عطفة جندف، وهو يبحث عن شقيقه الأكبر حسن في درب طياب، رأى العطفة ضيقة متعرجة، تقوم على جانبيها بيوت متداعية، وتسطع في هوائها الفاسد رائحةُ السمك المقلي، وتكتظ بالمارَّة وعربات اليد، وتتجاوب في جوها نداءات الباعة، تتخللها شتائمُ ونحنحات محشرجة وبصقات غليظة، ثم تأخذ أرضها المغطاة بالأتربة ونفايات الخضر وروْث الدواب في الصعود تدريجيًّا (بداية ونهاية، ١٨٦). وربما جعل بعض الشحاذين من عطفةٍ ما، كعطفة الباب الأخضر، مأوًى لهم يلوذون بأركانها حين يأتي الليل، فلا غريب يَطرُقها في الليل إلا القلة من رواد القهوة القريبة (قلب الليل، ١٣). والسكنى في عطفةٍ تعبيرٌ عن انتماء طبقي، يسعى البعض إلى التخلص منه. وكان أول ما فكرت فيه نفيسة، حين أعلن حسنين قراره بدخول الكلية الحربية، أن تترك الأسرة عطفة نصر الله إلى شقة محترمة بالشارع العام (بداية ونهاية، ٢٣٤). كانت العطفة ضيقة، يصطف على جانبيها البيوتُ القديمة والدكاكين الصغيرة، ويعترضها عربات الغاز والخضر والفاكهة (بداية ونهاية، ٦). وبعد أن اقترب حسنين من عطفة نصر الله لقضاء أول إجازة أسبوعية له من الكلية الحربية، جاش صدره بمشاعر متنازعة من العطف والنفور (بداية ونهاية، ٢٥٨). فلما تزايد طموحه، بدت له العطفة أشدَّ كآبة، وزكمت أنفَه رائحتُها التي يختلط فيها التراب بالدخان بموادَّ شحمية كثيرة (المصدر السابق، ٢٧٥). ثم قال في صراحة: «هذه العطفة الحقيرة تعرِّفنا على حقيقتنا، فلهذا لا أطيق البقاء فيها» (المصدر السابق، ٢٧٧). وحين انتقلت الأسرة من عطفة نصر الله إلى شارع الزقازيق بمصر الجديدة، قالت نفيسة: لقد صرنا من الطبقة العالية حقًّا (بداية ونهاية، ٢١٦).
عوامة
العوامة، من الداخل، أشبه بحجرة متوسطة الحجم. وكانت عوامة محمد عفت ذات جدران وسقف بلون زمردي، تطل على النيل بنافذتين، وعلى الطريق بنافذتين، يتدلى من سقفها مصباح كهربائي، وغطاء مخروطي من البلور، يركز نوره على سطح خوانٍ يتوسط الحجرة حاملًا الأقداح وقوارير الويسكي، بينما فُرشت الأرض ببساط متجانس اللون مع الجدران والسقف، وفي كل جانب من الحجرة كنبة كبيرة شُطرت بنمرقة، وغُشيت بغطاء مزركش، واحتلت الزوايا بشلت ووسائد (قصر الشوق، ٨٧). والعوامات والذهبيات ينتظمها الشاطئان، من جسر الزمالك فهابطًا (قصر الشوق، ٨٥). والعوامة، كما يتحدث الفنان، «تضيء بعض نوافذها ليلًا، للكأس والأنثى» (صرخة في واد). وقد سكن عبد السلام عوامة خشبية صغيرة بجانب كوبري الزمالك، كان يصحب إليها الراقصات من الملاهي العامة (الجارية). وحين أراد حمدي إغواء سميحة، وعدها بسهرة ممتعة في عوامة صديقه وجدي؛ «حيث النيل والقمر والأضواءُ الحالمة من بعيد» (العاملة).
والعوامة هي الشخصية الرئيسة في ثرثرة فوق النيل: استوت فوق مياه النيل الرصاصية مألوفة الهيئة كوجه، يصل بينها وأرض الطريق سقَّالة إلى ممشًى مُبلَّط، تكتنفه من الناحيتين أرض مُعْشَوشبة، يتوسط يمناها حوضٌ من الجرجير، وفي أقصى اليسار خميلة من اللبلاب، وأشعة الشمس تتسلل من خلال سقيفة من أغصان الكافور منطرحة فوق الحديقة الصغيرة من أشجارها المغروسة في الطريق (ثرثرة فوق النيل، ١٢). العوامة — كما يختصرها أنيس زكي — هي الحبال والفناطيس والزرع والطعام والمرأة والأذان (المصدر السابق، ١٦). يقول أنيس زكي: «الحب لعبة قديمة بالية، ولكنه رياضة في عوامتنا، الفسق رذيلة في المجالس والمعاهد، ولكنه حرية في عوامتنا، والقمر كوكب سيار خامد، ولكنه شعر في عوامتنا، والجنون مرض في أي مكان، ولكنه فلسفة في عوامتنا، والشيء شيء حيثما كان، ولكنه لا شيء في عوامتنا» (المصدر السابق، ١٢٦). ويقول: «الحق أننا لا مصريون ولا عربٌ ولا بشر، نحن لا ننتمي لشيء إلا لهذه العوامة» (المصدر السابق، ٦٧). وحين تهتز العوامة، فإن معنى ذلك أنها تستقبل زائرًا (المصدر السابق، ٩٥). واهتزاز العوامة — في الدلالة الرمزية — يعكس اهتزاز شخصيات الثرثرة. إنهم شخصيات محبطة، وعاجزة عن الفعل، بل لقد كانت العوامة انعكاسًا للحياة في مصر كلها.
عيادة
إذا كانت العيادة في حي شعبي، وُضعت الأسعار تحت اسم الطبيب على لوحة سوداء كبيرة بعرض واجهة البيت كله، والطابق الأول من البيت ذي الطابقين شبيه بخلية النحل لا ينقطع طنينها (٦ أشهر حب). في غرفة، أو قاعة، الانتظار ترابيزة عليها مجلات قليلة متناثرة، أغلبها بلا غلاف، وكلها قديمة، على الأقل مضى عليها سنة (عذاب الانتظار) ولوحات مُعلقة على الجدران (من أنا؟) وقائمة بأسعار العيادة، وستارة رقيقة هفهافة، تغطي نافذة مستطيلة في فجوة بالجدار، يعبث بها الهواء في مسقط النور للعمارة (الضباب)، ومع أن المرضى يحجزون لدى الطبيب بالساعة والدقيقة، فإنه لا مفرَّ من الانتظار (التعب). وغرفة الانتظار تبدو مزدحمة بسبب المرافقين للمرضى (المصدر السابق). ويصف الفنان حجرة الكشف بأنها مكتب صغير، ومائدة معدنية مستطيلة، وكرسي مستدير لفَّاف، ودولاب حديدي يشف زجاجُه النظيف عما صُفَّ على رفوفه البلورية من آلات وأدوات بنظام هندسي بديع، وحاجز خشبي يحجب وراءه مشجب الملابس (يمين أبو قراط). يقلب الطبيب في وعاء من الزنك عددًا من الأسلحة المعدنية البراقة، وثمة رائحة نفاذة تحمل معاني الصحة والمرض (عطر في الظلام). ويكتب الطبيب الاسم والسن والعمل، ثم يلقي نظرةً على نتائج التحليل المبدئية، ثم يسأل المريض: ما الذي تشكو منه؟ … يُنصت إلى شكوى المريض (التعب). يطلب الطبيب من المريض أن يتمدد على طاولة الكشف، ويسحب الستارة على المكان (آدم العربي)، ويطلب منه أن يُرخيَ عضلاته، ثم يبدأ في الكشف عليه (مقاطع من أغنية غير مسموعة) بقياس الضغط ودرجة الحرارة والنبض (المصدر السابق). يفحص المريض بأصابعَ مدرَّبة، وبالسماعة، ويطلب من المريض أن ينهج ويسعل لجهاز الضغط (التعب). وتقول الزوجة: الطبيب الباطني موكول بكل الأمراض التي لا نعرف لها مظهرًا واضحًا، وهو وحده الذي يمكنه أن يوجِّهك إلى أي طبيب آخر في ضوء فحوصه الأولية (المصدر السابق). أما عيادة طبيب العيون، فهي تختلف بالنظارات التي وضعها غالبية المرضى، أو بقِطَع القطن التي أمسك بها مرضى آخرون يجففون بها ما ينحدر من عيونهم، بينما يسكب الممرض في أعين الباقين بضع قطرات من القطَّارة، يلحقها بقطعة من القطن، بالإضافة — في الداخل طبعًا — إلى المرآة التي تعكس لوحة الدوائر السوداء (الضباب). وأما عيادة طبيب الأسنان، فثمة المترفون الدقيقو المزاج، فهم لا ينقطعون عن طبيب الأسنان، يتولى أمر أسنانهم على نحو شبه دائم (عودة الروح، ٢ / ١٤٢).
غابة
مع أن الغابة — بمعناها الدقيق — لا تعد جزءًا من الطبيعة المصرية، فإن قصة الغابة المسكونة تهبُنا وصفًا لغابة كانت تقوم في الطرف الجنوبي من صحراء مولد النبي بالعباسية، تبدو من بعيد جبلًا من الخضرة الداكنة متعدد الرءوس، طولها ثلاث محطات من محطات الترام، وعرضها يقرُب من ذلك. لا أحد يدري لماذا زُرعت، ولا من الذي زرعها، وإنْ حذر الآباء أبناءهم دائمًا بألا يقتربوا منها؛ لأنها مسكونة بالعفاريت. فلما تحرى الراوي أمر الغابة، عرَف أنها كانت أرضًا تابعة لمحطة ضخ المياه، وأنها زُرعت قديمًا؛ استغلالًا للمياه الفائضة. ثم تكاثفت أشجارها وأوراقها حتى أصبحت على هيئة الغابة (الغابة المسكونة).
غرزة
أدخل البدو الرُّحل غرزة الشاي على الحياة في الريف، فتعلمها الفلاح، وأصبحت من أهم مقومات حياته اليومية، حتى وصفها الفنان بأنها معبود آخر في حياة الفلاح (عودة الروح، ٢ / ٣٩). ويؤكد يوسف نحاس عدم انتشار المخدرات في الريف المصري أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، لكن الفنان يصف «تلك المُتَع مع جمرات الموقدة، تدور مع غابة الجوزة، وترتفع مع حلقات الدخان إلى دنيا الوهم والحلم والخدر (العودة إلى المنفى، ١ / ٥١). وتسمى الغرزة قهوة تجاوزًا، هي — في الأغلب — عشة من الصفيح، تقام على جانبَي الطريق، أصحابها رجال أو نساء، لهم عين تعرف الغريب ولا تنكره، تقدم الشاي الساخن وكراسي المعسل، وقد تدسُّ حبة أفيون، والكلمة الطيبة تفوق كل المخاوف (كل شيء حقيقة)، وثمة غرزة في الطريق الزراعي، مكونة من كُشكين من الخشب. أمام واحد منهما صُفت بعض صفائح البنزين والزيت، وفنطاس كبير قذر للماء الذي تزود به السيارات، والكشك الثاني قهوة للشاي والقهوة والمعسل والمياه الغازية، وأمام الكشكين امتدت تكعيبة عنب ظللت المكان كله، وكذلك صفصافة ضخمة، قامت في بطن شاطئ النيل، وتحت العنباية وحول الصفصافة امتدت عدة مناضد من الخشب القديم، وعدة مقاعد من خوص النخيل المجدول، وتجلس معلمة القهوة أمام «البنك» — منضدة من الخشب في أوسطها صندوق بخيط من الدوبارة، في منتصفه ثقب مستطيل تسقط فيه الماركات — وبجانبها الشيشة، تنفث دخانها من حين إلى آخر (روايح). وثمة غرزة تقع في حجرة مراقبة بالحصن العتيق القائم فوق قبو، هو الباب الشمالي للقاهرة، ليست بالواسعة ولا بالضيقة، وتتوافر لها التهوية من نافذة كان يطلِق منها الرماة نبالهم، على حين أصبح خفير الآثار خادمًا للجلسة، يُهيئ الجوز، ويدور بها، ويشارك في التدخين والعشاء (عصر الحب، ٧٩). وقد تكون الغرزة داخل عشة، في منطقة مهجورة أو بعيدة عن الأنظار (الزنزانة، ١٧٢). وغالبًا ما تكون الغرزة خالية في النهار، فإذا أتى الليل، أو بعد منتصفه، سُدت الطريق بعشرات اللوريات المحملة بالمازوت والقطن والخضر والكيروسين، جلس سائقوها داخل الغرزة، يتناولون الطعام والقهوة والشاي والخمر والحشيش (روايح). ولسائقي كل مجموعة من سيارات نقل الركاب غرزةٌ خاصة بهم، يجلسون فيها حتى يأتي الركاب (بلد المحبوب). والغرزة — في معظم الأحوال — تقتصر على بيع المخدرات وتعاطيها. والجوزة هي أهم ما تقدمه للمترددين عليها (الرئيسة، ٢٢). والغالب أن الرجال يجلسون على أرض الغرزة في شبه دائرة، ويتَّكئون بظهورهم على جدرانها الرطبة، وتدور الجوزة على الحاضرين، فيسحب كلٌّ منهم نفَسًا طويلًا، ثم يسلمها إلى جاره (في سيدي الحبيبي) [راجع: القهوة]. ويروي الفنان أنه بعد أن هجر أبو دومة أعمال الفتونة، أقام كشكًا لبيع السجاير والمرطبات، ثم طُور الكشك فصار غرزة يلتقي فيها أصحاب المزاج (أبو دومة). كذلك أقام صابر الغرزة التي يتكسب منها، من الخوص والخشب عند مدخل نفق المنيرة، وكان يتردد عليها عمال التراحيل والمزارعون والباعة الجائلون (نفق المنيرة). وثمة غرزة على الحد الفاصل بين المقابر والطريق العمومي، تكعيبة عنب مغطاة بصفيح وخشب (المسألة الهمجية، ٢٢٧).
فرن
يصف الفنان الفرن في زقاق المدق بأنه «بناء مربع على وجه التقريب، غير منتظم الأضلاع، يحتل الفرن جانبه الأيسر، وتشغل الرفوف جدرانه، وتقوم مصطبة فيما بين الفرن والمدخل، ينام عليها صاحبا الدار المعلمة حسنية وزوجها جعدة، وتكاد الظلمة تُطبِق على المكان ليلَ نهار، لولا الضوء المنبعث من فوهة الفرن» (زقاق المدق، ٥٠).
كانت الأفران قديمًا تستخدم الحطب، وهي تستخدمه حتى الآن في أفران البيوت بالقرى، فضلًا عن الحلبة (البيت). وفتحة الفرن حمراء، تتراقص داخلها ألسنة النار، والفرَّان يتصبب عرقًا حتى لو كان الوقت شتاء، وذراعاه تروحان وتجيئان في فتحة الفرن بالكوريك وما يحمله من أشياء، والأطفال والخدم حول مصطبة الفرن يتعجلون مشوياتهم (حكايات صبري موسى)، والفرن ليس موضعًا لصنع الخبز فحسب، لكنه يستقبل في العيد صواني الكعك والغريبة، وفي المواسم الفطير؛ رحمة القرافة المعروفة (صباح الورد). وثمة فرن يتبع الشرطة، يتم فيه حرق المخدرات المضبوطة على الحدود، وفي السواحل، وفي الأوكار (بيت الياسمين، ٨٣). [راجع: حجرة الفرن].
فندق
ولقرب فندق «القاهرة» من محطة مصر، فإن أحدًا لم يكن ينزل فيه للإقامة، وإنما لمهمة تستغرق ليلة أو أسبوعًا أو شهرًا، ثم يمضي إلى حال سبيله؛ لذلك فإنهم يتجاورون في الغرف والموائد والاستراحة، دون أن يعرف أحد منهم الآخر، إلا نادرًا (الطريق، ٣٥).
والصورة شبه الثابتة لفنادق الخمس نجوم: المبنى الفخم، والأبواب الدائرية، والنزلاء يدخلون ويخرجون في حركة الباب الواحدة نفسها، وموظف الاستعلامات، وعاملة التليفون، ورجل البار، وحاملو المشروبات (حرصًا على سلامة النزلاء).
وفي أشهر الصيف، تمتلئ فنادق الإسكندرية فلا يكاد يوجد فيها مكان لنزيل (الدرس)، بينما تخلو بصورة ملحوظة في فصل الشتاء (النافذة). وقد تأسس فندق سان ستيفانو في أوائل العقد الأخير من القرن التاسع عشر. ويصفه الفنان بأنه ذو بناء مفتخر كأنه يناطح السحاب؛ لعلوِّه وارتفاعه. في أعلاه فندق لمبيت السياح والمسافرين، وفي أسفل قهوة ومسرح ونادٍ للقمار وقاعات مخصصة «لأرباب الغايات والحاجات»، بالإضافة إلى حمامَين؛ أحدهما للنساء والآخر للرجال، يفصل بينهما جدار (السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين، ٢٣). والحجرة بالفندق الصغير تتكون عادةً من سرير لشخص واحد، ودولاب، ومقعد خشبي، وشماعة (بداية ونهاية، ٢٠١). ويصف الفنان فندقًا في مدينة إقليمية: غرفة مشتركة؛ أي يقيم في كل غرفةٍ أكثرُ من شخص، وممراته قذرة، وآثار أقدام النزلاء بادية على البلاط، والإضاءة ضعيفة للغاية، وثمة مصباح كهربائي صغير يلقي ضوءًا خافتًا على الطرقة الطويلة، بينما الممرات الجانبية غير مضاءة. أما الطرقة فهي ملتوية مقبضة، والسائر فيها يتملَّكه الخوف من شيء مجهول (ليلة رهيبة). وعادةً، فإن المناسبات المهمة — كحفلات الزفاف — تقام في الفنادق الكبرى (رائحة الورد وأنوف لا تشم، ٨٨). إنها الآن المكانُ الأنسب لإقامة حفلات الزفاف، بالنسبة للأسر فوق المتوسطة والثرية (قلبي ليس في جيبي، الرواية). ويشير الفنان إلى أن فندق شبرد كان يتولى الخدمةَ فيه سويسريون، يتبع كلَّ واحد منهم اثنان أو أكثر من النوبيين. أما نزلاء الفندق فكان غالبيتهم من الأمريكان والإنجليز (في الواحة). وكان بهو فندق وندسور بالإسكندرية «ملتقى الباشوات والساسة الأجانب في الزمن القديم، وخير مجال لالتقاط الأخبار ومتابعة الأحداث» (ميرامار، ٢٣). وقد أعلن الراوي كراهيته للهيلتون والشيراتون والفنادق الخاصة بالأغنياء؛ لأنهم عواجيز، أو بالعواجيز؛ لأنهم أغنياء، وحبه للفنادق ذات الطابع: فنادق في الهواء الطلق، أو فيلات غُرفها خيام، وفناؤها الصحراء، وطعامها يُشوى في العراء على النار؛ إلخ (السيجار). والكثير من الأُسر يلجأ إلى الفنادق لإقامة حفلات زفاف أبنائها في قاعاتها (ولنظل إلى الأبد أصدقاء، ١٠٣). وبعض الفنادق يلجأ إليها النزلاء للعلاقات الجنسية، بعيدًا عن أعين الرُّقباء (امرأة بالسليقة)، وفنادق أخرى، رخيصة، تُغري زبائنها بالنساء اللائي يقرعن عليهم الأبواب في هدأة الليل (الوشم). وثمة فنادق [لوكاندات] لا يتردد عليها سوى الشواذ والمحتالين والشواذ جنسيًّا؛ فضلًا عن القمل والبراغيث والبق. من يبيت فيها لا يحترمه أحد، والشرطة تهاجمها باستمرار، فتأخذ نزلاءها بالجملة (وكالة عطية، ٥٠). أما دار الطلبة فهي فندق لسُكنى الطلاب. قلعة هائلة ذات فناء مستدير واسع، بناؤها في شكل دائرة مؤلفة من ثلاثة طوابق، كل واحد منها سلسلة دائرية من الغرف المتلاصقة، تفتح أبوابها على ردهة ضيقة تُطل على الفناء (القاهرة الجديدة، ١١). وثمة كذلك فنادق رخيصة تعاني الرطوبة العالية، تحيط بالجامعة، وتعيش على إيواء الطلاب.
ولأن الكثير من زائري القاهرة يقصدون أولياء الله، فإن الفنادق [اللوكاندات] التي ينزلون فيها ذاتُ أسماء؛ مثل دار السلام، مكة المكرمة، المدينة المنورة، الكوكب الزينبي، المشهد الحسيني (يا ليل يا عين، ٢٢).
فيلا
غالبًا، فإن الفيلات تقام في الضواحي؛ نشدانًا للهدوء، والبعد عن الزحام ومصادر التلوث (اللوحة). وتقع فيلا أنطونيادس في حدائق النزهة. وكانت قصرًا لأحد سماسرة القطن اليونانيين الأثرياء، وقد أوصى بفيلته إلى مدينة الإسكندرية (فاروق الملك الذي غدر به الجميع، ١٥٠). والفيلا تضم وحداتٍ قد تقل عما تضمه الشقة الواسعة. الفارق هو أن الشقة وحدة في بناية متعددة الطوابق والشقق. أما الفيلا فهي مستقلة عما حولها، ويحيط بها — في الأغلب — سور لا يأذن للأعين بالتطلع إلى الداخل (العطر). ويستطيع ساكن الفيلا أن يستقبل من يشاء، دون خشية من سؤال أو نظرات فضول (الليلة عيد). وربما شيد البعض فيلته على النظام القوطي، الذي يسمح للهواء بالمرور في كل أرجاء الغرف، دون حاجة إلى مروحة، أو جهاز تكييف (يوميات ضابط في الأرياف، ٧). وثمة فيلا يتغطى سورها بمشربيات خشبية، ينفُذ الياسمين الأبيض والفروع الخضراء من فتحاتها المدورة والمزخرفة على شكل أزهار متوازية منمنمة (شتاء الخوف). وقد تتميز الفيلا بالباب الحديدي الأسود، المشغول بحراب لها رءوس مدببة، يتوسط سورًا من حجر منحوت، موشَّح بأزهار الياسمين، والباب مُبرقَش بألوانٍ تتضوع روائحها عبر الليل، وعلى الممشى المبلط عليه دوائر ونجمات بنية وسوداء من الفسيفساء اللامعة، أشجار محملة ببرتقال لم ينضج بعد، وثمة تمثال من رخام وردي لغادةٍ هيفاءَ تعزف على قيثارة (قصاص الأثر). وهناك السجاجيد التي تغطي أرضية الغرف، واللوحات الكبيرة المعلقة على الجدران، والنجف الكريستال المدلى من الأسقف (الناس مقامات). وكان أهم ما مسحته عينا سعيد مهران [اللص والكلاب] لما اصطحبه رءوف علوان داخل الفيلا؛ النجفة «بمصابيحها الصاعدة، ونجومها وأهلَّتها، على ضوئها المنتشر تجلَّت مرايا الأركان، عاكسة الأضواء، والتحف الثاوية على الحوامل المُذهبة كأنما بُعثت من ظلمات التاريخ، وتهاويل السقف، وزخارف الأبسطة، والمقاعد الوثيرة، والوسائد المستقرة عند ملتقى الأقدام» (اللص والكلاب، ٣٨). والسكنى في فيلا مطمَحُ الكثيرين ممن يحيَون في شقق متواضعة (الحب الصامت). ولأن الفيلا تعبير عن المستوى الاجتماعي، فقد حرَصت الأم أن ينتهي الأب من بناء الفيلا، قبل أن يعود الابن من بعثته الدراسية في ألمانيا، فمن غير المتصور — في تقديرها — أن يأتي الابن ليحيا في حارة وفي بيت بالإيجار (على هامش الطريق). وقد تمنى حسنين كامل علي أن يتزوج ابنة رجل ثري؛ ليمتلك فيلا أبيها، بدلًا من شقة البدروم التي كانت تقيم فيها أسرته بعطفة نصر الله (بداية ونهاية، الرواية). ويطالعنا الفنان بفيلا في الصحراء مكونة من طابقين؛ أحدهما تحت الأرض، في نهاية كل أسبوع تأتي إليها السيارات الفخمة يهبط منها أجمل النساء، ورجال يبدو من هيئتهم أنهم عظام، يتبادلون النقود على المناضد الصغيرة أمام كروشهم، بلا عدد أو حساب، يتم بعد ذلك احتفالٌ تنتشر فيه سحب الحشيش ورائحة الخمر (المسافات، ١٦٩).
قاعة
لها قبة تُستخدم في الشتاء، بداخلها فرن مسقوف، وتغطى بطبقة سميكة من الطين. والقاعة بها فرن، فوقه حصير وأغطية، ففوقه ينام أصحاب البيت، وبالقرب منه تنام البهائم (عودة الروح، ٢ / ٣٤). وكما يقول الفنان، فليس غير الفلاح يستطيع هذه الحياة؛ أن ينام هو وامرأته وعياله وعِجلُه وجحشه في قاعة واحدة (عودة الروح، ١ / ١٦).
قبو
القبو من العناصر المعمارية القديمة، فهو يعود إلى عصور الفراعنة، ثم تواصل في العصور التالية. وفي أيام الحرب، يلجأ الناس إلى القبو باعتباره مخبأ، تتزاحم في داخله الكُتل البشرية الخائفة (السكرية، ٢٥٩). وربما يتحول القبو إلى مكان للتربص بالآخرين؛ ذلك ما كان يفعله أعوان نعمة الله الفنجري تاجر الخردة ببعض عابري القبو؛ يهجمون عليهم، فيضربونهم، ويجرِّدونهم من كل شيء (أهل الهوى). وكان القتلة يلجئون إلى الأقبية لتنفيذ عملياتهم (الديوك والكباش). وثمة معتقَد أن العفاريت تختار الأقبية للسُّكنى فيها، وإن كانت لا تظهر للمارِّين إلا ليلًا (عصر الحب، ٣٢).
قرية
الريف في اللغة: الأرض القريبة من الماء. وكلمة ريف في مصر تطلق على الأراضي الواقعة على ضفتَي النيل. والمجتمع في الريف يمكن تصنيفه إلى منطقتين كبيرتين؛ هما: الوجه البحري، أو الدلتا، والوجه القبلي أو الصعيد. ومفردات القرية هي: الترعة، الجسر، النخلة، الحقل، الدوار، المصطبة، الساقية، النبات، الجاموسة، البقرة، أبو قردان، وابور الطحين. ويعرِّف عاطف غيث القرية بأنها «أنموذج له طريقة معينة في الحياة، تعتمد أساسًا على الزراعة» (القرية المتغيرة، ٢٤-٢٥). أما الصناعات التي تعمل بها، فهي — بالضرورة — صناعات زراعية. والملاحظ أن معظم التغيرات الاجتماعية الثقافية، والتغيرات الاقتصادية، تبدأ بين الفئات العليا، ثم تنتشر التغيرات إلى أسفل، حتى تصل إلى الفئات الدنيا التقليدية التي لا تجيد القراءة والكتابة، ثم إلى خارج المدينة، حتى تصل إلى القرية» (حديث عن الثقافة، ٣٩). والقرية — أية قرية — تُطالع القادم إليها بأكواخها الطينية الصغيرة، وأسطحها من حطب القطن وقش الأرز، وشوارعها الضيقة، والترعة الصغيرة تمر بجوارها، والحمام يحلِّق فوقها، ثم يتجه إلى البرج السامق بجدرانه البيضاء العالية (السراية، ٥)، والإوز الأبيض يتقدم من الترعة في طابور منتظم (المصدر السابق، ٢٥). وإذا تغيرت مِشية الجاموسة، وأبطأت من سرعتها، مع اتساع بين فخذيها، أسرع السائر وراءها، فوضع المقطف تحت مؤخرتها، ليستقبل قِطَع الجلَّة الساخنة (قراءة في عيون العائلة). ويهبُنا الفنان تكوينًا مختلفًا في البيوت الطينية المنخفضة في خط رمادي باهت طويل على شاطئ الترعة، تكومت عليها أقراصُ الجلة، وأعواد الذرة الصفراء، والبرسيم الجاف، وتوارت وراء أبوابها الخشبية كوماتُ السباخ العالية، وقبَعت في ظلها ثلاثةُ أو أربعة كلاب (الأنفار). وثمة السواد الذي يكسو الوجوه، ويلوِّن ملابس النسوة (أصوات). ومن المعالم الأساسية في أية قرية تُطل على طريق القطار: محطة السكة الحديد، ومكتب البريد (فاته القطار). ومن ملامح القرية: البوص على ضفاف المصارف، والشوك على جانب الطريق، والبِرَك الراقدة في الطين الذي صنعه المطر أمام البيوت (السراية، ٢٦٩) ومياه الغسيل والاستحمام تُسكب في الأزقة والحارات، محمَّلة بذوب الصابون والعرق، جالبة في أثرها الذباب، ومناقير البط والإوز والدجاج. الحمير تَنهِق، والكلاب تَنبَح، والبهائم تَزعَق طلبًا للطعام، والأطفال يخوضون في بِرَك المياه الضحلة، والأمهات يفلين شعور البنات فوق الأسطح، وأمام الدور، ومؤذن المسجد ينادي المصلين إلى مسجده (أصوات)، والرجال يسيرون في أفواج صامتة، معظمهم بالملابس الداخلية، المتربة، التي يعملون بها، والفئوس على أكتافهم، والبنات بثيابهن الطويلة تتراقص مع أجسامهن، وثرثرتهن المستمرة تترامى في كل اتجاه (السراية، ٢٥). ويصف الحاج سعد أهل الريف بقوله: «ربنا سبحانه وتعالى خلق الناس اللي بتفهم من تراب الجنة الناعم، وبعدين فضلت شوية نخالة خشنة، احتار يعمل فيها إيه، فراح راميها وقال: كوني عبادي الفلاحين، فكانت» (أبو الهول). وحين تقول سنية عن الدادة شيرين إنها من بلاد الفلاحين، تعترض الدادة في حدة: ماذا تقولين؟ … أفلاحة أنا؟ … فتهدئها سنية: لا تغضبي … لا تغضبي … أو قلت إنك فلاحة؟! (سلوى في مهب الريح، ١٦٣). ويوزع الباشا الطعام على الفلاحين، فتُبدي الدادة سخطها: إنكم تعوِّدونهم الترف والترفُّه … لماذا لا تطهون لهم الديوك الرومية أيضًا، وترسلونها إليهم ليطهوها؟! (المصدر السابق، ١٧٥). ويقول الفنان في كلمات محددة: «إن الصور التي أحملها لحياة الريف مؤلمةٌ أشدَّ الألم. ولئن كنت قد أحببت كثيرًا روح الريف البريئة، ونفس الفلاح السمحة الكريمة، فإني كرهت — وأكره — مظاهر الريف القبيحة وحياة الفلاحين القذرة» (حمار الحكيم، ٤٦).
•••
المستوى المادي في القرية يحدد العلاقات الإنسانية أحيانًا، حتى في الزواج؛ فالمرأة والرجل يتزوجان للإنجاب من جهة، وللخدمات المتبادلة المادية من جهة أخرى. المرأة تُشترى بالمهر في البداية، ثم بعد الزواج تكنِس وتُطعم، وهي في كل وقت لا تنسى أنها خادمة لزوجها، اشتراها بعرق جبينه، عليها أن تكدَح له كما يكدَح هو لغيره. تسلِّم جسمها له، وتتفنن في إرضائه، كما يسلم هو جسمَه وعضلاتِه للمالك، ويتفنن في إرضائه. الحب رفاهية لا تلائم ظروف القرية (السراية، ١٦١). والأرض هي التي تحدد المكانة الاجتماعية للفلاح؛ تقول وصيفة لعلواني: «أنا لا أسعرك لا أنت ولا شيخ البلد بتاعك! أمال يا أخي لو كنت تمتلك على قيرطين أرض» (الأرض، ٢٠). أما علاقة ملَّاك الأراضي في القرى والأُجَراء من الفلاحين، فتَبين في نظرة الباشا مالك الأرض إلى عم حسب الله. لقد أمضى عم حسب الله معظم عمره في خدمة عزبة الباشا، وله بنتان تعملان في أرض الباشا. وليس ثمة أملٌ في المستقبل إلا الابن — عطية — الذي وافق الباشا في لحظة من تلك اللحظات «التي يوزع فيها النِّعم على عباد الله» أن يرحل إلى القاهرة؛ ليستكمل دراسته في مدرسة المعلمين. لكن نظرة الباشا إلى عم حسب الله ظلت في مستوى نظرة الرجل إلى ثَورِه الهادئ، فهو يحبه ويعطف عليه، لكنه لا يزيد عن ثور، ولا يرتفع إلى درجة الإنسان (عائد إلى القرية). واسم التليفون يطلق على دوار العمدة، وحجرة النوبتجية، والسلاحليك، ومكتب الباشكاتب … ذلك كله يسميه أهل القرية التليفون (رائحة الليل).
•••
يُسمى الصعيد مصر العليا. وتسمية الصعيد لأن الأرض كلما اتجهت نحو الجنوب أخذت في الصعود والارتفاع (خطط المقريزي، ١ / ١٨٩). وتزداد صورة الحياة في قرى الصعيد قَتامةً عما كانت عليه في قرى الوجه البحري. يسأل أبو الحسن: أيُّ المناطق تُعتبر صعيدًا؟ … ويضيف: إذا ذهبت إلى أسيوط وقلت لهم: أنا من بني يوسف، قالوا لك: إنت من بحري. نفس الأمر إذا ذهب الأسيوطي إلى سوهاج، والسوهاجي إلى قنا … ويجيب أبو الفضل مبتسمًا: الصعيد الحقيقي يبدأ من سوهاج (الرفاعي). وثمة قول إن أهل الصعيد هم أبناء عمومة لأهل الشرقية (يوميات نائب في الأرياف، ٢٠٢). لقد رأى البوسطجي عباس بيوت قرية كوم النحل «كأنها أقزام متراصة متلاصقة، كأنها قبيلة متوحشة، على رءوسها شعر الهمج» (البوسطجي). ويكتب معاون النيابة في يومياته: «هذا الوجه القبلي من مصر شيء مخيف لساكني الوجه البحري … إنها بلاد قريبة من الفطرة والوحشية» (يوميات نائب في الأرياف، ١٥٢). ويعبِّر الرجل عن الحياة في الصعيد بأنها «يا قاتل يا مقتول» (وصايا اللوح المكسور، ٥٥). ويقول الرجل: «دائمًا الرصاص في القرى، دائمًا الرصاص في الليل» (صوت الدم). الليل في قرى الصعيد يهبط على الفضاء حِملًا ثقيلًا، «أحاط بالأرض كالقيد، غطى الحقول كالكفن، ولفَّ القرى كالضِّماد، وانحدر — ولا حد لاتساعه — إلى الشقوق فاحتواها، ثم تلفَّت يبحث عن مداخل النفوس التي يعلم أنها تستقبله وتتشرَّبه، فاحتلها يتمطى فيها» (البوسطجي). الليل سجَّان، له يد سوداء، تغلق الأبواب عند غروب الشمس على الإنسان والحيوان (خليها على الله، ١٢٩). ويعترف عباس بأنه — منذ أن وضع قدمه في قرية كوم النحل — أحس أنه محبوس (البوسطجي). ولا يخلو من دلالة قوله بأنه «أسير الصعيد» (المصدر السابق). ويعبِّر الفنان عن قيود الحياة في الصعيد بأنه «لا فكاك منها» (سيرة الشيخ نور الدين، ١١٦). ويقول الراوي: «حتى الهوا اللي الواحد يتنفسه، يكتم الصدر ويخنق الواحد» (البوسطجي). هواء الصعيد لافح، يختلط فيه عطَنُ الماء الآسن وزخمةُ الجحور ووقدةُ الطين وذوب القش والغبار والهاموش (خليها على الله، ١٤٥). والعادة أن يرتدي الضباط والجنود من الشرطة في الصعيد ملابسَ ذات لون كاكي، حتى تتحمل الغبار والتراب الناعم الذي يتسم به جو الصعيد (يوميات نائب في الأرياف، ٨٥). والأمطار غير مألوفة في الصعيد، وحين تنهمر فإنها توحِل الشوارع والأزقة (قصة يوسف). وأبناء قرى الصعيد الجواني يفضِّلون صُنع السرير من الحديد، وليس من الخشب، حتى لا تقرضه القرضة (الوشم). حتى النيل هنا له طبيعته الخاصة، «لا تُرى قوة النيل في الدلتا، وهو — النيل — لا يجد حريته إلا مع الفيضان» (أبو فودة). والبضاعة الرائجة في الصعيد هي الشاي الأسود وتعميرة الأفيون (المصدر السابق). ويوصف الصعايدة بأن «راسهم ناشفة» (نصف الحقيقة الآخر، ٧٧)، وإن اعتبر الصعايدة أنفسهم «ناس من حديد» (فاطمة عبد النور). والشومة — في تعريف الفنان — هي رمز الحياة في الصعيد، فهي تَهوي على الرءوس والعظام، تطحنها وتعجنها (خليها على الله، ١٢٨). ويصف الفنان الصعيد الجواني بأنه «ذلك الذي لا يجرؤ فيه أحد على النظر إلى امرأة ليست من أهله» (فاطمة عبد النور). كان قانون المرأة في الصعيد، وفي القرية خاصة، يُصرُّ على أن تلفَّ المرأة جسمها برداء السواد الشامل (في داخل السور). إنها شبح «لا يُرى ولا ينبغي أن يُرى، مخلوق جافٌّ، لا فرق بينها هناك وبين الرجل، كلاهما شيء لا أثر للرقة فيه» (يوميات نائب في الأرياف، ١٥٢). وصورة الصعيد في أذهان أبناء النوبة — وهي صورة رسمها الصعيدي حسن المصري — نساء لا يخرُجن من بيوتهن إلا محمولاتٍ في نعوش، وقتلى في الظهر الأحمر، ورصاص لا ينقطع (الشمندورة، ٤٣٤). ويزيد الفنان، فيصف قيود الحياة في الصعيد بأنها «لا فكاك منها» (سيرة الشيخ نور الدين، ١١٦). وبيئة الصعيد تعكس تأثيراتها على الوافدين إليها، فهم يأتونها أصحَّاء النفوس، على وجوههم جمال الرضا والاتزان، وفي حركاتهم وملابسهم تأنُّق، ثم يصبحون — بعد زمن، في رأي الفنان — «غلاظ الوجوه، سمان البطون، ثقيلة حركاتهم، نظراتهم حيوانية، وكلامهم بذاءة متكررة، ونكاتهم منحطة، وأفكارهم سخيفة محصورة، ضيقة، وحين يعودون لمدنهم ينكرهم أصدقاؤهم» (البوسطجي). وإلى الخمسينيات، كان الصعيد يُعتبر منفًى؛ حتى إن بعض الزوجات كنَّ يرفضن السفر مع أزواجهن المنقولين إلى الصعيد (في الظلام، ٤٣). مع ذلك، فإن الصعايدة هم الذين يبنون العماراتِ ويعمُرون أمَّ المدن (حكاية الصعيدي). وكان رأي الرجل أن الصعيد هو الذي يسترد مصر كلما تعرضت لاحتلال أجنبي، أو غزو ثقافي، واستشهد بالهكسوس الذين أغرق طوفانهم البلاد، فهبَّ الصعيد لطردهم (الغبار).
•••
الحياة في القرى المصرية متشابهة إلى حد كبير، كأنها حياة واحدة كبيرة: أسماء الناس، ملابسهم، سحنهم، الكلمات التي يتبادلونها، النخيل يطوِّق البيوت المبنية من الطوب الأسود، عيدان الذرة والحطب على الأسطح، والجريد والدريس والسواقي الخرِبة في خارج القرية، والكلاب تنبح في كل مكان (الشيخ عمران)، والشوارع المتعرجة تكتنفها كومات السباخ التي تنقر فيها الطيور، ويلعب بترابها الأولاد، الدكاكين القليلة المتناثرة، يجلس أمامها عددٌ من أبناء القرية، يشرِّقون في أحاديثهم ويغرِّبون، فهي جلسة للسمر (مملكة نبيل). ويقول الراوي: «لأول وهلة تُحس أن كل شيء في قريتنا يشبه بعضه بعضًا. فالملابس التي يرتديها الناس تتشابه، والدور كلها من طابق واحد، واللهجة التي تتردد على الألسنة واحدة، والحقول والبهائم، وحتى سحنات الوجوه لا تختلف كثيرًا» (قرية أم محمد). وثمة مئذنة المسجد التي ترتفع فوق النخيل الذي لم يُعبَّد بعد، والمقهى الذي ينتظر فيه المسافرون، والعيون التي تفحص كل قادم، ولو كانت تراه كل يوم، والرجال الذين لا يكتفون بالتحية من بعيد (زيارة).
والظلام في القرية مشكلة تتردد في الكثير من الأعمال الإبداعية. إنها تبدو كأنها عين فرن واسع منطفئ، يحوي في جوفه الغموض والمخاوف والأسرار (الفانوس). ويقول الرجل: «أصل بلدنا في الليل زي التربة» (أحزان نوح، الرواية). في الليل، يرتفع الحد الفاصل بين القرية والغيطان، يبدو المكان كله قطعةً بلا نهاية من السواد (الليل الرحم)، وكلاب القرى لا تميز بعيونها في الليل، بين شخص وآخر، لكنها تملك الأنوف التي تميز بها رائحة كل شخص (الفخاخ منصوبة للمحبين). وحين ألقى الفنان السؤال — في ثلاثينيات القرن العشرين: أتوجد مدن في القطر المصري يقضي ساكنوها ليلهم في الظلام ونهارهم بلا ماء؟ … قال له رئيس الإدارة في مديرية طنطا:
– أين وُلدت يا بني؟
– في القاهرة.
– القاهرة ليست من القطر المصري، إن ثلاثة أرباع مدن هذا القطر لم تعرف النور الكهربائي بعد (يوميات محامٍ مصري، ٢٦-٢٧). ويؤكد الراوي [محاولة للخروج] المعنى في قوله: «مصر ليست القاهرة، إنها الريف» (محاولة للخروج، ١١). ويقول الشاب الريفي: إنكم يا أبناء المدن لم تأْلَفوا النظر في الظلام. يقول ابن المدينة: كلا! لم يرزقنا الله مثلكم عيون القطط! … (إبراهيم الكاتب، ٧). ويقول عباس أفندي: «توْ ما يدَّن المغرب، كل واحد ينام في بيته. والعتمة؟ … يا باي من العتمة! يا باي! طول الليل حمير تنهق وكلاب تعوي» (البوسطجي). إن أصوات الليل هي البوم والضفادع وجنادب المزارع والكلاب والقطط الجائعة والشبقة وهسهسات جريد النخيل وأغصان الأشجار وحفيف الأوراق وأجنحة الخفافيش (الغزوة الواحدة بعد الألف). لذلك فإن ليل الريف يشتهر بالطول (زفاف إلى الجنة)، والقول: ما أطولَ الليلَ في الريف (الضفيرة السوداء، ١٨٥) يعكس معنى قصة أرخص ليالي، لا كهرباء، ولا سهر بالتالي، ينامون عقب العشاء، فينجبون الأبناء (أرخص ليالي). وعندما ينزل الليل بظلمته الكثيفة الحالكة السواد، يثير في القلوب — حتى قلوب الصغار — ميلًا للحزن والوجوم (الفانوس). ويقول الفنان: «الليل رهيب في الريف» (القرية الآمنة)، وإنه يمكن أن يكون مفزعًا بحق (السحر الأسود، ١٠٨). لذلك، فإن أبناء القرية ينتهزون أية فرصة للخروج من الخيمة السوداء، حتى ليالي المأتم يفيدون منها، يحاولون استلاب لحظات هناءة، في تواصل الظلام الذي يلف ليل القرية. فالأطفال ينتشرون في الساحة الواسعة التي يُعد فيها الصيوان (السرادق)، وقد امتلأت نفوسهم بالبهجة؛ «لأن مساء ذلك اليوم لن يكون كئيبًا مثل الليالي السالفة، فستشع أنوار الكلوبات، وسيمتد نورها في الساحة، وسيلعبون حتى الفجر دون أن يزجُرهم أحد، فسيكون الجميع في المأتم حتى الصباح (المرحوم). بل إن «إيجابية الحدث» لا تقتصر على أبناء القرية وحدهم. ثمة أبناء القرى المجاورة، والكُفور المجاورة، يَفِدون جماعات للَّعب، وشراء الحلوى الغزل، والاحتشاد حول الصيوان لسماع تلاوة القارئ (المصدر السابق)، ولعب «الطرطقة» والكرة الليف (صوت الدم). وأشرق الأمل ثانيةً في نفوس أبناء القرية، عندما سرت شائعة أن الشيخ عبد الرحيم مريض، ويعوده الأطباء، فلن يمضي على القرية أيام حتى يهبط عليها يومٌ آخر فيه حركة وترفيه.
ولعلنا نتبين الانفراجة التي تحدث في ليل القرية، حين تزورها إحدى الفرق المسرحية. فالليلة عيد، وبين الذين سعوا للفرجة مَن طحَنه الهمُّ، ومن يعاني المرض، ومعظمهم حفاة … لكن النشوة بالحدث الجديد الطارئ لفتتهم جميعًا. نسوا لساعات أنهم في القرية، ومال فلاح على جاره: لو دام هذا، فماذا يكون اسمه؟ … قال الجار: يكون اسمه جنة رضوان يا أهل الجنان! (للزمن بقية، ٤٠). وليالي الريف الجميلة هي الليالي التي يكتمل فيها القمر بدرًا (أبوح يا أبوح). [حدث في الصورة، بالطبع، تغيُّرٌ مؤكد، بعد أن دخلت الكهرباءُ الكثير من القرى. وفي تقدير الفنان: إن كل القرى التي دخلها النور لم تعُد تعرف اللصوص ولا الذئاب (أطفال الذئاب)].
والزمن في القرية لا حساب له، أوقات النهار الشمسية هي التي يحسُب بها الناس مرور الزمن، وأوقات الليل يحسُبونها بساعات الصلاة، وما عداها ضائع لا وجود له (الغزوة الواحدة بعد الألف). وتتشابه القرى في أنها صغيرة، ويعرف الناس بعضهم بعضًا. وفي القرية الصغيرة، يصبح لكل شيء كيان؛ حتى أبسط الأشياء والكائنات وأكثرها تفاهة، تجد لها شيئًا من الاعتبار (نهاية الكلب مسعود)، ولأن القرية صغيرة، فإن أي شيء يفعله المرء يكون حديث كل البيوت، بعد أقل من ساعة (حكاية ريم الجميلة، ٤٢)، فإذا وُلد طفل تعرف كل القرية، وإذا مات شيخ مشى في جنازته جميعُ الرجال، وإذا سقطت بهيمة في الساقية جرى الرجال لإنقاذها (أيام الأمل، ١١٢). والأحاديث تدور في خشونة دائمًا، والكلمات دائمًا قاسية؛ لأنهم لم يمارسوا بعدُ لينَ الحياة الذي ينسكب لينًا في الطبع والمعاملة (الأرض، ٧٧). والشكوى ظاهرة في القرية المصرية، فالفلاح يخرج إلى سوق الخميس من كل أسبوع، فيشتري لوازم بيته، ثم يجلس إلى أحد الكتبة العموميين يستكتبه بلاغًا أو عريضة، ضد العمدة، أو شيخ الخفراء، أو مأذون الناحية، أو بعض خصومه من أبناء القرية. ويتساءل الراوي: «لست أدري لذلك مِن سبب، أهو الظلم حقًّا أم هو داء الشكوى استوطن دم الفلاح على مدى أحقاب من الجور؟» (يوميات نائب في الأرياف، ١٥٧). وقد تنشَب المعارك من أجل شربة ماء، يروي بها كلُّ مزارع أرضه (في ضوء القمر، الأرض، الرواية). وكما يقول الفنان، فقد تعلم الفلاحون شرب الشاي من البدو، ثم أنزلوا الشاي من أنفسهم منزلةَ الاهتمام، فهم لا يُطيقون الامتناع عنه، ويشربونه جماعةً كالصلاة الجماعة (عودة الروح، ٢ / ٤١). وأيام الحصاد هي عيد الفلاحين كل سنة، يتخلف التلاميذ بسببها عن المدارس، حتى وإن اقترب الامتحان (الطلقة الأخيرة).
ومعظم قرانا المصرية تكاد لا تخلو من ولي — وربما أكثر — يتجه إليه الناس طلبًا للشفاعة والبركة والمَدد. ويحدد الفنان متعلمي القرية بأنهم: مدرسو القرية، وعامل التليفون، وكاتب الشكاوى، وحفَظة القرآن (حتى مطلع الفجر، ٧٣-٧٤). ولكل قرية مبيِّض نحاس، وناظر مدرسة، وشيخ خفراء، ولص، ومطبل زار، وفاتح مندل، وتاجر شيخ، وإمام، وقسيس، وسمسار بهائم، ومأذون، وغازية، وبيت مشبوه، ومجبر كسور، ونجار سَواقٍ، وداية، وعمدة، وسقاء، وحلاق، وقاتل مأجور يهتم بها وتهتم به (ديروط الشريف، ١٣١). أما الوافدون إلى القرية، الطارئون على حياتها، فهم تُجار الحنَّاء والشيح وزبل الحمام والتوابل، والغجر، والقرداتية، وقصاصو شعر الحمير، وكوانو الجمال، وتجار الجلود، وبائعو السكاكين والمقصات والشراشر (المصدر السابق). ولكل قرية — في الأغلب — غانية لا أهل لها، تقيم علاقات مع شباب — وربما عجائز — القرية (الماء العكر). وقد يلجأ الشاب والفتاة إلى داخل الغيط، يفرغان رغباتهما في غيبة عن النظرات الراصدة (واشهدوا يا خلق). والحياة في القرية المصرية تكره أن يكون هناك شيء غير مألوف، إنها تكره الغرابة، وتمتص كل جديد، وتُحيله إلى شيء عادي (مملكة نبيل). وكان تقدير الشاب أن الذي يظل مقيمًا في قريته، لا يستطيع أن يحوِّل الحياة فيها عن مجراها، «وقد عمُق وأسنَ وتراكمت فيه نفايات العهود والأزمان» (خرفان).
لكن الصورة البانورامية للحياة في القرية تغيرت — فيما بعد — إلى حد كبير، وهو ما يعبِّر عنه شحوب دور العديد من الأماكن والحرف والشخصيات في الأعمال الإبداعية منذ الستينيات. كما تضاءلت الغيطان وأعداد أشجار الجميز، واختفت أسراب أبو قردان وقبة الشيخ، حتى السماء الواسعة الممتدة لم تعد كذلك. اختفت بيوت الطين، وحلَّت أخرى من الطوب الأحمر (سفر)، وحاصرت البيوت الأسمنتية كل شيء (الأفق المجهول).
وبالإضافة إلى تغير نمطية الحياة، وإيقاعها، في القرية المصرية، بعد أن دخلت إليها الكهرباء، فقد أقدم الكثير من العائلات التي تعاني ظروفًا اقتصادية سيئة، بل وبعض العائلات التي لا تملك شيئًا على الإطلاق، على إرسال أبنائها إلى المدن — أو القرى — القريبة، للتعلم. كما تغيرت نظرة الاحتقار للعمل غير الزراعي، وتمتع الحرفيون وأصحاب المهن، بمكانة طيبة بين العاملين في الزراعة، ولم يعُد من الصعب أن يدخل الحِرفي أو صاحب المهنة في علاقات متكافئة مع القرويين. ولأن المتعلم يندمج بفعل ظروفه الاجتماعية والاقتصادية الأفضل — نسبيًّا — في البيئة الحضرية، أكثر من اندماج العامل الذي لا يغادر — في المدينة — نفس الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي كان يحياها في القرية، فإن المتعلم يبتعد عن جو القرية شيئًا فشيئًا حتى يصبح جزءًا من المدينة، بينما يظل الثاني مرتبطًا بالقرية، وبعاداتها وتقاليدها، حتى في سلوكيات حياته اليومية في المدينة.
وعمومًا، فقد شهدت القرية تطوراتٍ يصعُب إغفالُها: انتشر التصنيع، والتعليم، وشُيد الكثير من البيوت من ثلاثة أدوار وأكثر، أعلى من السراية القديمة في طرف القرية، وثمة سور مزرعة الدواجن، وسقفها المنخفض (الزمن الآخر، ٣٠١). دخلت الكهرباء والمياه النقية إلى معظم القرى، وامتدت أسلاك الكهرباء على أسطح البيوت التي ظهر عليها إيريال التليفزيون [ثم أطباق القنوات الفضائية]، واختفت ظاهرة الفتيات اللائي يسافرن إلى المدينة ليعملن فيها كخادمات. ثمة مهن ووظائف أغرت الفتيات بالبقاء في قُراهن. وشهدت مهنة الخادمة تراجعًا واضحًا؛ بحيث لجأ الكثير من الأسر فوق المتوسطة إلى استجلاب خادمات من دول الشرق الأقصى؛ كالفلبين وسيريلانكا والهند وغيرها. وفي المقابل من هذه الصورة، فإن الفنان [أيام وردية] يصف أحوال القرية الآن بأن البيوت تغوص في الأرض شيئًا فشيئًا، نوافذها الكبيرة التي كانت تُفْتح على أرض الشارع، لم تعُدْ تفتح، غاصت في الأرض … خليط اجتماعي اقتصادي وبيئي غريب وفريد. عندما تسأل: أين القرية؟ يقول أحدهم: النسوان بطَّلت تخبز، والرجالة واقفة في طابور العيش. أما الشبان فيجلسون في قهوة وثلاث غرز، بشكل دائم وتبادلي» (أيام وردية، ٢٥٤). لقد اقتطعت الكثافة السكانية مساحات من الأرض الزراعية، اتصلت بالمدينة، أو القرية الملاصقة لها، شُيدت فوقها البنايات، وشُقَّت الشوارع، وعلا صخب الأسواق والزحام (البحر الصغير، ١٥١).
•••
ويهبنا الفنان الكثير من مفردات المكان في القرية، في قول المأمور: «تصور إننا من الصبح لغاية تاريخه ما تركنا في دايرة المركز غيط درة ولا زراعة قصب ولا ساقية ولا طاحونة ولا كَفر ولا دوار ولا ترعة ولا أرض ولا سما ولا طريق زراعي ولا … إلا قلبناها وفتشناها شبر شبر» (يوميات نائب في الأرياف ٧٢). والصلة بين العديد من الأماكن في القرية تُطالعنا في وصف الراوي للحياة في قريته، فأمام الدار عشة من البوص، تظللها صفصافة وجزورينا وذكر توت من زمان. والبيت آخر بيوت البلد، يحزمه من الشرقِ النهر، وماكينةُ الطحين من الغرب، وأمامه تنفسح الغيطان إلى مدى الشوف، حتى تصل أول الصحراء، حيث الرمال التي تنتهي بالبحر الكبير (ابن آوى). ورغم تشابه الحياة في القرى، فإن اعتبارها متشابهةَ الخصائص أمرٌ يجافي الصواب؛ لاختلافات نماذج القرى تبعًا للقرب أو البعد عن المدينة والمواصلات، وتبعًا للحجم والسكان، ومساحة الأرض، وتوزيع الملكية (القرية المتغيرة، ٢٣). إنها ليست قرية واحدة، ليست نموذجًا ولا طبيعة ولا حياة اجتماعيةً واحدة، أو متشابهة. ثمة القرية التي تقع في أعماق الريف، تحيط بها مجموعةٌ من القرى، والقرية القريبة من الصحراء، والقرية المتاخمة للمدينة. والأبعادية هي التفتيش، وهي الدائرة (الحرام، ٣٢). وهي تتكون من عدة عِزَب (الحرام،١٣). ولعلنا نجد ملامح الاختلاف بين قرية وأخرى في شهرة أبو رواش بأنها «بلدة الثعابين» (حضرة المحترم ٨)، وأنها موطن الترجمانات، «هذا الترجمان ذو الوجه المستطيل، الصارم كالسيف، وفي يده مِقود جمل شَرود، وعلى كتفيه أعباء الدنيا كلُّها، وهو دائمًا ينتظر سائحة أمريكية، استسلمت له ذات يوم، ووعدته بأن تعود إليه كل عام، لكنها خانت ودَّه، وما نسي رحيقها أو مذاقها أبدًا» (دولت ٨). وكانت نزلة السمان قرية صغيرة، يطوف سكانها بالأهرام سعيًا إلى الرزق من خلال تردد السائحين عليه، كانت مجرد درب أو جسر أو طريق، مهَّدته الأقدام والقوافل، على جانبيه أراضٍ مزروعة، يتخللها بيوت صغيرة وأعداد قليلة من البشر (متون الأهرام، الرواية). ثم تغيرت صورة قرية السمان — فيما بعد — تمامًا، بعد أن اجتذبت أهلَها الأنشطةُ السياحية المختلفة. وسباك الضحاك — تأمل اسمها — التي كانت — ولعلها لا تزال — مركز الفن في المنوفية (قراريط رضوان التسعة)، وسنباط بلد الغوازي (رأس الشيطان). وثمة قرًى اتسعت مساحتها، وزاد سكانها، فهي في منزلة بين النجوع والدساكر وبين المدن (شجرة البؤس، الرواية). وعمومًا، فقد اختفت معظم المساحات الخضراء، حلَّت مكانها عشرات البنايات والدكاكين والمطاعم وورش إصلاح السيارات والبوتيكات التي تعرِض أحدث أنواع الأجهزة الكهربائية، بالإضافة إلى الحُفر والمطبات وكومات النفايات وموجات الغبار (الغبار). وإذا كانت ملاحظة الفنان أن الحضارة الغربية طغت بقيَمها الدخيلة على القاهرة والوجه البحري، فإن الأمل الوحيد في مقاومتها — في تقديره — ينعقد على الصعيد الذي ما يزال يحافظ على الأصالة المصرية (الغبار).
قسم الشرطة
وكان يسمى في أيام العثمانيين «قره قول»، وتحول إلى «كركون» (اخرجي). وسُمي «التُّمن» (نحن لا نزرع الشوك، ٧٤)؛ لأن القاهرة كانت مقسمة إلى ثمانية أقسام، كل قسم منها هو «تمن» هذه الأقسام (حرافيش القاهرة، ١٥٦). ويتحدث الفنان عن عسكري البوليس [الشرطة] — أول القرن — بأنه كان أخوف ما يخافه الصغار، بعد العفاريت والأمساخ وغيرها من المرعبات، وأنه — العسكري — عدو لدود لخلق الله، وأنه مجعول للقبض عليهم، والزجِّ بهم في المحابس. ولم يكن «الكركون» [قسم الشرطة] سوى سجن فظيع، العاقل من لا يمر أمامه (قصة حياة، ٤٩). وكان قسم عابدين في أواخر العشرينيات أهم أقسام العاصمة على الإطلاق (أزهار، ٢٩)؛ لقربه من سراي عابدين. وفي داخل قسم الشرطة رجال ونساء وقضبان ورجال شرطة (سرقة بالطابق السادس) يتكوم الناس من المدَّعين والمدَّعى عليهم، والشاكين والمشكوِّ في حقهم؛ فضلًا عن صناديق الفاكهة وعربات اليد وكراسي القهاوي التي صادرها رجال الشرطة (جمهورية فرحات) ومتسولين عجائز، وأطفال رُبط جلباب كلُّ واحد في جلباب الآخر (المصدر السابق).
وخلف مكتب الجندي المناوب طاولة من الخشب الأسود القديم، وفي ركن بنادق معلقة على الحائط، وفي ركن آخر باب مغلق يفضي إلى حجرة المأمور (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٦٦). وعلى الحائط لوحة سوداء عليها سلاسل وقيود حديدية (هروب الطائر الأبيض، ٣٨)، ودروع وبلط وخوذات، وعلى الجانب خزانة حديدية قديمة (جمهورية فرحات).
الردهة صغيرة، عرضها متران، وطولها أربعة، بها ثلاثة أبواب مصفحة اسمها الشبكة، ويظل بها — لا يدخل إلى واحدة من الزنازين الثلاث — من يدفع مقابلًا للحارس (الزنزانة، ٢٧). والشبكة من الأسمنت المسلح، تفضي إلى ثلاثة أبواب، لثلاث زنازين، واحدة للنساء والأطفال، واثنتان للرجال، ورابعة بدون باب هي دورة المياه. ربما سميت شبكةً لوجود نافذة ذات سلك شبكي، سطحها في مستوى أقدام الواقفين في فناء القسم (المصدر السابق، ٢٩). ولا بد للوافد الجديد إلى القسم من أن يأخذ الطريحة، والطريحة هي علقة الاستقبال، «كل مسجون جديد لازم يشرَّف في المباحث، يمدوه على رجليه أو يصلبوه ويعلقوه في الشباك ويضربوه بالكرباج» (المصدر السابق، ٣٠). وفي داخل الزنزانة، تتراص أجسام المساجين في تلاصق؛ وهم يفترشون الأرض كأنهم كتلة واحدة من اللحم (المصدر السابق، ٣٤). أما حجرة الحجز، فإنها في بدروم، في نهايته باب بقضبان حديدية، يتسلم الصول النوبتجي المتهم، يسوقه أمامه في ممر طويل، يفضي إلى سلَّم، وينزلان البدروم إلى الباب الحديدي، فيفتحه الصول، ويدفع المتهم داخله (المصدر السابق، ٢٧). وحجرة الحجز ذات سقف وجدران وأرض من الأسمنت، تحوط بها من ثلاثة أضلاع مصطبة أسمنتية، بها نافذة عريضة ممتدة بطول الضلع، مسلحة بقضبان حديدية، ومكسوة بسلك شبكي، مثل نافذة الشبكة، لكنها تطل على مناور خلفية للقسم (المصدر السابق، ٣٥). وقبل أن يرحل النُّزلاء إلى السجن، يُعد لهم «فيش وتشبيه» (المصدر السابق، ٥١). ولأن يوم الجمعة إجازة، فإن النزلاء يظلون داخل الزنازين؛ لأنه لا يوجد عرض على أية جهة (المصدر السابق، ٤٦). وعند ترحيل النزلاء إلى النيابة، أو إلى السجن، ينادي أحد الجنود على الأسماء، كل من يسمع اسمه يجلس القرفصاء في الطابور، ويعاد الباقون إلى الزنازين، وتُغلَق عليهم (المصدر السابق، ٣٦). أما السُّجناء الذين قضَوا فترة العقوبة في السجن، وأُفرج عنهم، ويقضون فترة المراقبة، فهم يأتون كل مساء، ليقضوا الليل في القسم (المصدر السابق، ٣٢). والمحكوم عليهم بغرامة، وعجزوا عن دفعها، ينظفون القسم بدلًا من الغرامة (أطلال النهار).
كانت سهير منذ طفولتها تكره العساكر والضباط، وتكره قسم الشرطة القريب من بيتها، كانت إذا مرت من أمامه تبعُد عنه ما استطاعت، فقد جاء ضباطه وجنوده إلى بيتهم ليلًا، فتشوا البيت، وبعثروا الأوراق والكتب، وأخذوا أباها بين صفعاتهم وركلاتهم إلى القسم (جراح قديمة). أما صاحب العمارة، فقد أفلح في أن يمنع شكاوى السكان من إلحاق الضرر به، فالشكاوى ضده تُطبخ، بنفوذه، داخل قسم الشرطة، فيطلع منها كالشعرة من العجين (كومبارس من زماننا). وحين دخل الشاب قسم الشرطة للمرة الأولى، فوجئ بأن أحد النزلاء حاول الاعتداء عليه، فاستمات الشاب في المقاومة حتى فقأ عين الرجل غصبًا عنه (الخروج).
قصر
القصر دار كبيرة. وقد اشتهرت القاهرة بقصورها: القصر الأبلق في قلعة الجبل (قلعة الجبل، الرواية؛ زهرة الصباح، الرواية) وقصر جزيرة الروضة، وقصر القبة، وقصر عابدين، وقصور الإسكندرية المطلة على البحر (هاتف المغيب). وكما يقول الراوي، فإنه لم يكن في مقدوره حين قدِم إلى القاهرة أن يمشي قريبًا من قصر عابدين، أو يحلم بدخوله ليرى ما بداخله من حدائق وقاعات، وتُحف مزخرفة بماء الذهب، ومقاعد مُطعمة بقطع من الزمرد والفضة والياقوت، ومخادع عليها مراتب من ريش النعام، وتهفهف على شرفاتها ونوافذها ستائرُ من قماش يُغزل من خيوط أو أسلاك رفيعة من الذهب والفضة، وأشياء أخرى عديدة توجد في هذا القصر، وتختفي خلف أسواره الحجرية العالية (رسالة العام الجديد). وقد بنى الخديوي إسماعيل قصر المنتزه، على مساحة خمسمائة فدان، فيها كل شيء من أشجار الدنيا الجميلة (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٢١٠). كما شيد الخديوي إسماعيل سراي الجزيرة لإقامة الإمبراطورة أوجيني، في أثناء إقامتها بالقاهرة لحضور حفلات افتتاح قناة السويس. بيعَ — فيما بعد — إلى شركة أجنبية، حولته إلى فندق، ثم اشترته أسرة لطف الله، وأصبح — بعد عمليات التأميم — فندقًا باسم «عمر الخيام»، وتحول — أخيرًا — إلى فندق «ماريوت الجزيرة» (الخديوي وجميلة الجميلات، ١٢٨). وقد تقترب الدار الريفية من القصر، بتشييدها على الطراز الحديث، وتوافر أسباب الراحة والشروط الصحية والعصرية، بالإضافة إلى السلاملك ذي الطراز التركي، والحديقة الواسعة (النفس الحائرة، ٧٤–٧٨). والقصر الذي يُشيد في الريف؛ يتميز بالأشجار العالية المزروعة أمامه على ضفة النيل، تحجب جماله عن القادمين من الغرب، ويمتد على رقعة فسيحة من الأرض، يحيط بها سور مرتفع، والبوابة تفتح على حديقة واسعة تشقُّها ممشاة مفروشة بالحصى الملون، ثم تصعد منها درجات رخامية (رجل يشتري الحب، ٢٩٢) وممرات مفروشة بالبساط الأحمر (ست الحسن والجمال، ٢٠). أما شرفاته فتطل على الجبل من الشرق، أو تطل على مزارع القصب المترامية شمالًا، أو حقول الفلاحين المقسمة إلى قطع صغيرة في الجنوب (رجل يشتري الحب، ٢٩٢). والعادة أن القصر في الريف لقضاء عطلات الأعياد ونصف السنة (المصدر السابق، ٢٩٤). وقد يختار الشخص لبناء قصره موقعًا وسطَ الحقول، ليستمتع بالخضرة والنسائم اللطيفة (مآذن دير مواس، ٣٨). وكان قصر البرنس — في وصف الفنان — يعطي ظهره للبلد، وينفتح بشرفاته الواسعة — في طوابقه الثلاثة — على أرض واسعة مزروعة بالفول (البلد، ٨). وكانت النافذة هي وسيلة كمال عبد الجواد الوحيدة — أو تكاد — للتطلع إلى محبوبته عايدة. ففيما عدا لقائه لها في الحديقة، فإن وقفته كانت تطول حتى تظهر المحبوبة في النافذة. على أن الشتاء إذا كان يحرمه من لقائها في الحديقة، فإنه لم يحُلْ دون رؤيتها في النافذة المشرفة المطلة على مدخل القصر، في هذه أو تلك، وعند مَقدَمه، أو حالَ مُنصرَفه، ربما لمحها وهي معتمدة الحافة بمرفقيها، أو مفترشة راحتها بذقنها، فيرفع عينيه، حانيًا رأسه في ولاء العابد، فترد تحيته بابتسامة رقيقة ذات وميض يضيء له أحلام اليقظة وأحلام المنام (قصر الشوق، ٢١٩). وكان بشير أغا عبدًا، ثم نال حريته، وأبى نيلها، وظل مع أسرة همام بك حتى بعد أن ألجأتها الظروف المادية القاسية لترك قصرها إلى شقة صغيرة (ثروت أباظة، ثم تشرق الشمس، ١٠٤). وكانت قصور العباسية — في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين — تفتح أبوابها في رمضان للفقراء من أبناء الحي، يجلسون في الحديقة، ويستمعون لتلاوة القرآن الكريم من كبار القراء، ويأخذون حظوظهم من اللحم والكعك (أم أحمد). وبعد ثورة ١٩٥٢م، أُغلق العديد من القصور، وظلت بعض القصور مهجورة، بينما تحول أحد القصور إلى مدرسة، أو إلى مستشفًى، أو إلى مقر للحزب الوطني (أم أحمد، صباح الورد).
والصلة بين القصر والحقل تتحقق عندما يحرص صاحب القصر/الفيلا على أن يحاط في طوابقه العليا بالمشربيات بالنسبة للأسر المحافظة، أو بالشرفات ليُمتع المرء نظره بمساحات الخضرة من حوله (مآذن دير مواس، ٣٨).
قعدة الحشيش
قد تكون قعدة الحشيش في حجرة واسعة، مزدحمة بالجالسين، مضاءة بنور أزرق هادئ، يصدر عن مصباح ملفوف بغِلالة زرقاء، يتربع الحاضرون على شِلت تراصتَّ على هيئة دائرة، وفي الوسط «العدد» كالمجمرة والجوزة والطباق (خان الخليلي، ١٩٣)، يتوسط أحدهم الدائرة، وتنتقل الجوزة من يد إلى يد، يضع كل واحد الغاب في فمه، ويأخذ نفَسًا طويلًا، يزفره من خيشوميه قِطعًا من سحاب داكن (المصدر السابق، ١٩٥). يتحول الدخان في جو القعدة، ويتحول إلى ضباب (لماذا أعيش). ولا تختلف قعدة الحشيش في البيئة الريفية عن مثيلتها في المدينة، فالغابة تدور بين الأفواه، كل واحد يُمسك بطرفها قبل أن يدسَّها في شفتيه. تتوهج الجمرات في حجر الجوز، ويخرج الدخان الأزرق من الأنوف والأفواه كثيفًا، يتلون في الجو (البيات الشتوي، ٣٥٤). وكانت قعدة الحشيش في البيت الصغير بعزبة النخل؛ عبارةً عن حجرة مرتفعة، معزولة عن الأرض، بلا موصل يفضي إليها. يصعد إليها المترددون على سلَّم خشبي، سرعان ما يُطرح تحت أكوام التبن (الظلام). وربما جعل أحد باعة الحشيش من جدران مسجد قديم، أو خانقاه متهدمة، أو بقايا قلعة، موضعًا يُحرق فيه الحشيش للزبائن (موال البيات والنوم، ٤٠) [راجع: الغرزة].
قلعة
كان السلطان يقيم في قلعة الجبل التي تُشرف على القاهرة، فتَدمَغ كلَّ مشهد فيها بطابَعها (ضباب ورماد). أما أعوانه من الوزراء والأمراء، فهم يقطُنون في أنحاء القاهرة، وأشدُّهم بأسًا هو الذي يملك قلعة الكبش، ثم توالت الأعوام، وتحولت قلعة الكبش إلى مجرد سلالم وسور وبقايا أطلال وبيوت، بعضها عليه مظاهر النعمة، وبعضها عليه مظاهر البؤس. وليس ثمة قلعة ولا سلطان صغير ولا مماليك (عتريس الأكبر). وقد تصبح قلعة الجبل في الرواية عالمًا يسيطر على المدينة التي تخرج منها المرأة التي تتحدى رجل القلعة، السلطان خليل بن الحاج أحمد، وتصبح المدينة هي الوطن، والمرأة — عائشة — هي الأم والشعب، والهدف المقدس الذي يتحرك الجميع من أجله في النهاية (قلعة الجبل، التقديم). وكان الأصدقاء يسمون أحدهم «قايتباي» لأنه «مثل القلعة الرابضة عند الطرف الشرقي من المدينة، لا يعرف أحد لها عملًا» (صياد اليمام، ٣٣٩). وهذه القلعة أُنشئت مكان فنار الإسكندرية القديم، وكانت أضواؤه تصل إلى البواخر على بعد ٣٠ ميلًا داخل البحر، وكان مبنيًّا من الرخام الأبيض. وثمة قلعة في سيناء، يرجع عمرها إلى أيام رمسيس الثاني، وإن ترك الغزاة بصماتهم عليها. ذات حوائط مزدوجة، سميكة، شبيهة بما كان يقيمه القدامى من قلاع بين أسوان وفيلة (تل القلزم، ١٢٦). وهناك قلعة نيلسون التي تعد مَعلمًا سياحيًّا مهمًّا في أبو قير (أهم شيء في العالم).
قهوة
القهوة اسم المشروب المعروف، ويطلق على اسم المكان الذي يباع فيه. وكان العرب يطلقون على الخمر اسم القهوة؛ ذلك لأن الخمر تنهى عن الطعام؛ بمعنى أنها تُشعر شاربها بالشبع. وأشهر أنواع القهوة في مصر هي القهوة التركية (قهاوي الأدب والفن، ٩). وإن اشتهر أيضًا نوع آخر يتحدث عن المهتار، بعد أن شرب حرَّاس قصر الغوري ما قدمه لهم من شراب استعادوا به نشاطهم، وتفتحت أعينهم: «تلك يا أبنائي قهوة البن، لا يعرفها أحد من أهل مصر، قد حملها بعض اليمانيين من أهل الأزهر من بلاد اليمن، وطبخوها سرًّا في رواقهم؛ ليستعينوا بها على السهر في حِلَق الذكر» (الأمير حيدر، ٥٩).
كانت القهوة — كمكان وليس كتسمية — موجودةً قبل دخول القهوة مصر في القرن السادس عشر الميلادي. وقيل إن الصوفية كانوا أول من أدخل القهوة مصر في القرن العاشر الهجري. ويقول صاحب «عمدة الصفوة»: «إن أول ظهور القهوة بمصر في حارة الجامع الأزهر، في العَشر الأوائل من القرن العاشر الهجري، وكانت تُشرب في نفس الجامع كلَّ ليلةِ اثنين وجمعة، ويضعونها في ماجور كبير من الفخَّار الأحمر، ويأخذ منها النقيب بسكرجة صغيرة، ويسقيهم الأيمن فالأيمن.» وثمة رواية أن أبا بكر بن عبد الله المعروف بالعيدروس الذي وصل إلى مصر عام ٩٠٥ﻫ قادمًا من اليمن؛ هو الذي قدَّم بالقهوة ونصح أتباعه باحتسائها، بعد أن ثبت له — أثناء إقامته في اليمن — جدواها كشراب يجلب السهر، وينشِّط للعبادة. وقد دخلت القهوة — في البداية — دوامةَ الإباحة والتجريم، إلى أن حُسم الأمر في مطلع القرن الحادي عشر الهجري، وانتشرت الأماكن التي تقدم القهوة في أنحاء القاهرة. كانت القهوة — المكان — تقدِّم، قبل دخول القهوة مصر، مشروباتٍ مثل الحلبة والكركديه والقرفة والزنجبيل وغيرها، ثم احتلت القهوة موضعها المتميز، إلى حد إطلاق اسم المكان عليها. أما الشاي، فلم يدخل مصر إلا في القرن التاسع عشر. وثمة اجتهاد أن الشاي في أصله مشروب روسي، وكلمة شاي من الكلمات الروسية (قهاوي الأدب والفن في مصر). وتسمية «مقهى البورصة» في قصة محمود البدوي «السلسلة» خطأ. لا بد أن تكون غير صحيحة؛ لأن البورصة هي تسمية المقهى في الإسكندرية حيث تدور أحداث القصة (السلسلة). ويرى الفنان أن معظم أصحاب قهاوي حي الجمرك بالإسكندرية من أبناء جزيرة كريت (الوسائط يا أفندم). وكتب إدوار لين يصف الحياة المصرية في أوائل القرن التاسع عشر: «القاهرة بها أكثر من ألف قهوة، وهي المجتمع الأدبي للعامة، وهي، بصفة عامة، حجرة صغيرة ذات واجهة خشبية، أمام واجهتها — عدا المدخل — مصطبة من الحجر أو الآجر مفروشة بالحصير، وارتفاعها ما بين قدمين إلى ثلاثة. ورواد القهاوي من الطبقات الأدنى وذوي الحرف وصغار التجار، الذين يفضلون الجلوس على المصطبة الخارجية، ويحمل كل منهم شبكه الخاصَّ وتَبْغه. ويقدم القهوجي بخمس فضة للفنجان الواحد، أو عشر فضة للبكرج الصغير الذي يسع ثلاثة فناجين أو أربعة. ويحتفظ القهوجي أيضًا بعدد من آلات التدخين من نرجيلة وشيشة وجوزة. وتُستعمل هذه الأخيرة في تدخين التمباك والحشيش الذي يُبلع في بعض القهاوي، ويتردد الموسيقيون والمحدثون على بعض القهاوي، في الأعياد الدينية خاصة. وإلى أوائل القرن التاسع عشر، كانت قهوة العاصمة التي يملكها اليوناني طناشي بابا دوبولو، بالقرب من المحكمة المختلطة، ملتقى مستخدمي المحامين وسماسرة القضايا وأرباب الدعاوى، يتلاقَون فيها لقضاء الأشغال وعقد الاتفاقات، والتحدث بشأن القضايا، ودفع وقبض الأجور والمكافآت» (النفس الحائرة، ١٥). وكان الجلوس في القهاوي على مصاطب، ثم على دكك خشبية، ثم بدأ — في العشرينيات من القرن العشرين — استخدام المقاعد والطاولات.
•••
يصف الفنان المقهى بأنه جزء لا يتجزأ من حياة أي مصري (خط العتبة). وقد تحولت بعض الطوائف إلى أماكن تجمع لطوائفَ بذاتها. أطلق اسمها على القهوة، لكل حِرفة قهوتها، مثل قهوة المنجدين، وقهوة عمال البناء، وقهوة السروجية، وقهوة المبلطين، وقهوة السباكين، وقهوة العقادين، وقهوة الصنادقية، وقهوة سماسرة السيارات التي يستطيع المرء بواسطتهم أن يشتري السيارة أو يبيعها في الفترة التي يشرب فيها فنجان القهوة (الطوق). وثمة قهوة كان يقتصر ترددُ العاملون في محلج دمنهور عليها (أنا الشعب، ٤٦). أما قهوة النيل، أمام بورصة الإسكندرية، فقد كان أغلب روادها من السماسرة (لا أحد ينام في الإسكندرية، ١١٢). ولأن قهوة ديانا كانت قريبة من حي البنوك والمال في القاهرة، فقد كانت تزدحم دائمًا بروادها. وكانت موائدها وكراسيُّها مشغولة في معظم ساعات النهار والليل (زكي بك). ويقول الراوي السائق إنه كان يتردد على قهوة للسائقين، يجتمعون فيها، ويناقشون مشكلاتهم (الساعة تدق العاشرة، ١٢). وكان السائق شلبي يحرص على الجلوس كلَّ مساء في قهوة السواقين في البر الشرقي (في صحة شلبي). وصار للفنانين أكثرُ من قهوة، تركزت جميعها في شارع محمد علي، ومن بينها — حتى الآن — قهوة التجارة الشهيرة، يجلس فيها أفراد الكورس وصغار الموسيقيين (الظل)، ينتظرون الدعوة إلى حفل زفاف أو ميلاد (صانع النجوم). ورواد قهوة الفنانين يأتون إليها بعد العصر؛ لأنهم في العادة يصحون متأخرين (ليالي الإسكندرية، ٨). يقول الراوي: «كان كل مقهًى من مقاهي شارع محمد على معروفًا بنوع من أنواع الموسيقيين، وكان أقدم هذه الأنواع فريق الموسيقات النحاسية التي كان يتزيَّا رجالها بزي خاص أقربَ ما يكون إلى الأزياء العسكرية. كان هذا في الزمن الماضي الذي كان من تقاليد أفراحه — أي حفلات ليالي الزفاف — أن تجلس فرقة من فِرق الموسيقى النحاسية بباب دار الفرح، كي تحيِّي القادمين المدعوِّين والمدعوات، وتظل تعزف طوال النصف الأول من الليل، حيث ينتهي عزفها عندما يبدأ «صيِّيت» — أي مطرب — الاحتفالَ في ترديد أغانيه. وفي سنة ١٩٢٣م، عندما أُنشئ مسرح رمسيس بشارع عماد الدين، تحول المقهى المقابل لمبناه إلى مقهًى خاص بالفنانين، واتخذ له اسم قهوة الفن، وهو أول مقهًى في تاريخ مقاهي القاهرة ترتاده النساء، لكنهن جميعًا كنَّ من أعضاء فرقة مسرح رمسيس والمسارح المجاورة» (مذكرات منسية، ١٢٨-١٢٩). ومقهى المجاذيب بالقرب من جامع السيدة زينب؛ يجتمع فيه الدراويش والمظاهرتية الذين يتولَّون ختان الأطفال (أم الدنيا، ١٧٢). حتى الزبالون جعلوا من إحدى القهاوي مقرًّا لهم (الجهيني، ٦٧). وقد أصبحت تلك القهاوي، ولا تزال، وإن قلَّت بصورة ملحوظة، مراكز للتعاقد والاستخدام، ومناقشة أمور المهنة ومشكلاتها، واختيار الأسطوات لمساعديهم، بما يسمى «البيات»؛ حيث يتسلم المساعد عربون عملية اليوم التالي، يرتادها الحرفيون والزبائن، وكل من تعنيه المهنة التي أُطلق اسمها على القهوة. وبعد انتشار طوائف الحرفيين، بدأت تطل على الحياة المصرية قَهاوٍ جديدة لعمال الصناعات والمنشآت الكبيرة، مثل عمال الترام والكهرباء والمياه والسكك الحديدية وغيرها. أما قهوة الفن في شارع عماد الدين، فقد كانت — إلى الأربعينيات — ملتقى الفنانين والممثلات والراقصات، يجلسون فيه في انتظار موعد البروفات، أو بعد الانتهاء منها (البحث عن النسيان، ٢٩).
•••
ولم تكن قهوة زقاق المدق بدعًا ولا متفردة، في وجود الراوي، أو المنشد الذي يروي السير والحكايات الشعبية والدينية (زقاق المدق). أشار إلى ذلك من قبلُ عبدُ الله النديم في لوحاته. وكان الرواة والمنشدون ينتشرون بالفعل في قهاوي القاهرة المختلفة، عدا القهاوي الفاخرة التي كان الأدباء والفنانون يلتقون في بعضها، بينما كان بعضها الآخر يُذيع الألحان الذائعة لمشاهير مطربي العصر. كانت دكة عازف الربابة جزءًا ثابتًا من معظم القهاوي، يجلس عليها الشاعر، وينشد سير الهلالية والزناتية وعنترة وسيف بن ذي يزن وغيرها. وأحيانًا تقوم فتاة بأداء الرقصات على عزف جوقة صغيرة في القهوة (العالم الآخر).
وقد لاحظ أحمد عاكف أن قهاوي حي الحسين كثيرة، حتى قدَّر معدلًا: قهوة لكل عشرة من السكان (خان الخليلي، ٥١). يدخنون البوري، ويشربون الشاي والمشروبات الساخنة والباردة، على حين يجري الحديث في موضوعات شتى (قلب الليل، ١٢).
والقهاوي فترةَ الصباح يقلُّ روادها، ثم يبدأ تزايدهم منذ العصر إلى نهاية السهرة. يغادر الموظف الديوان في الثانية بعد الظهر. يتناول طعام الغداء، ويستريح في قيلولة، ثم يتجه إلى القهوة. أما العمال والحرفيون، فإن ترددهم على القهاوي يبدأ بانتهاء عملهم مباشرةً أولَ الليل، يشربون الشاي والقهوة، ويلعبون الكوتشينة والدومينو، فلا يغادرون القهوة قبل انتصاف الليل. وعندما يحل الغروب، يرش ما حول القهوة بالماء، حتى لا تثير الرياح الأتربة، وتُصفُّ الكراسي في مربعات أو صفوف منتظمة ومنسقة، ويُدار جهاز الراديو — ذلك الذي تربع على عرش شاعر الربابة القديم، كما حدث في قهوة المعلم كرشة بزقاق المدق — بما يكفي لإسماع الحواري المجاورة. ولعله من هنا جاء القول لمن يدير الراديو بصوت مرتفع: إحنا في قهوة؟ ويقدم جرسون القهوة جريدتين للزبون وهو يقول: هاك اللواء والمؤيد يا سيدي … وسآتيك بالأهرام والمقطم بعد أن أُعدَّ لك القهوة (الشباب الضائع). كانت بعض القهاوي تجتذب زبائنها بإتاحة صحف الصباح، يقرءونها في أثناء جلوسهم على القهوة (الوسائط يا أفندم). إذن، فقد كان بوسع المرء أن يجلس على القهوة، فيقرأ صحف اليوم، ويشرب فنجان القهوة، ويدفع لقاءَ ذلك قرشًا يتقاضاه الجرسون بامتنان. وآخر الليل، يراجع صاحب القهوة حساب اليوم، يكوِّم الماركات في طبق صاج كبير. وظلت معظم القهاوي — قبل ارتفاع أسعار الصحف — توفر صحف اليوم للمترددين عليها، يتبادلون قراءتها (الوسائط يا أفندم).
وفي الشتاء، يظل جو القهوة — على خلاف الجو في الخارج — دافئًا، يحفظ حرارتَه دخانُ الجِوز وأنفاس الرواد ووهج النصبة (زقاق المدق، ٦٦)، وإن ظلت الرطوبة، بالنسبة للقهوة الواقعة تحت الأرض؛ مثل أحمد عبده، منتشرةً في جنباتها بدرجة محسوسة (السكرية، ٥٦)، ثم تحولت القهوة، بقدوم الراديو، [ونتذكر ثانية غروب شمس شاعر الربابة في قهوة زقاق المدق] إلى جهاز إعلامي متكامل، يتابع زبائنها — من خلاله — تطوراتِ الأحداث المحلية والعالمية.
•••
والقهوة، إلى حد ما، تعبير عن العصر والبيئة ونوعية المترددين عليها — يقول عبد المنعم شميس: «القهاوي ليس لها قيمة في ذاتها، ولكن قيمتها في روادها» (قهاوي الأدب والفن في القاهرة ٥٧) — فبالإضافة إلى دورها التقليدي، أدت القهوة وظائفَ اجتماعيةً تتصل بالتعاقد والنشاط النقابي والفني والثقافة والحركات السياسية؛ إلخ … فمنذ بداية الوجود الاحتلالي، على سبيل المثال، كانت القهاوي أماكن للقاء الثوار، وللتعليق على تطورات الأحداث. وفي اليوم الذي أُعلنت فيه الأحكام العرفية، ألقت الشرطة القبض على عدد كبير من الجالسين في القهاوي؛ لأنهم — كما قيل — كانوا يروِّجون للسياسة الألمانية (السلطان حسين كامل، ٤٢). حتى حديقة جروبي كانت — كما أشرنا — مجالًا للجلسات التي تتناول أحاديث السياسة وأنباء الثورة. وكانت القوات البريطانية تفاجئ رواد الحديقة للبحث عن زعماء المظاهرات، وتُلقي القبض على من تعثُر عليه منهم (الميجر سامح). وقد انتظر إبراهيم ناصف الورداني على قهوة المالية بلاظوغلي سنة ١٩١٠م خروجَ رئيس الوزراء بطرس غالي من الديوان، ليصرعه — مقابل خيانته — برصاص مسدسه. ومع أن فهمي [بين القصرين] كان يكره الجلوس على القهاوي، فإنه اختار، وعددٌ من زملائه، قهوةَ أحمد عبده، بموقعها المستتر عن الأنظار، للاجتماع كل ليلة لمناقشة تطورات الأحداث عقب استقبال المعتمد البريطاني للوفد المصري بقيادة سعد زغلول (بين القصرين، ٣٨٤). وأفاد ثوار ١٩١٩م — روائيًّا — من انعزال تلك القهوة في تنظيم المظاهرات ضد الاحتلال (المصدر السابق، ٢٣٧). وكان للقهاوي بعامة دورها المؤكد في أحداث الثورة، من حيث التقاء المشتغلين بالعمل الوطني، وتوزيع المنشورات، وجمع التوكيلات، ومناقشة تطورات الأحداث، وسماع الخطب التي تحض على الثورة، وبدء المظاهرات، أحيانًا، ضد الوجود الاحتلالي (المصدر السابق، الرواية). ويخاطب كمال عبد الجواد قهوة أحمد عبده بقوله: يا قهوتي العزيزة، أنتِ قطعة من نفسي، فيكِ حلَمتُ كثيرًا وفكرت كثيرًا، وفيكِ سكن ياسين أعوامًا، واجتمع فهمي بالثوار ليفكروا ويعملوا من أجل عالم أفضل (السكرية، ٦٠). والانتخابات السياسية موسم مزدهر للقهاوي، حيث يتردد عليها المرشحون والناخبون، وتتم فيها الصفقات لصالح هذا المرشح أو ذاك (زقاق المدق، الرواية). وقد تحولت قهوة أحمد عبده — في بعض أعوامها — إلى مكان يُلقي فيه الشيخ علي المنوفي عِظاتِه الدينيةَ على مُريديه وتلاميذه من معتنقي فكر الإخوان المسلمين (السكرية، ٩٧ وما بعدها). وكانت بداية تعرُّف عبد المنعم شوكت إلى الشيخ علي المنوفي، معلمه الروحي، في قهوة أحمد عبده. وقد ظل وفيًّا لتعاليمه حتى اعتُقل — عبد المنعم — في أواخر الحرب العالمية الثانية. وإبان المعارضة الشعبية والحزبية للرئيس السادات، استقبلت قهوة النيل أعدادًا من الحِرفيين والعمال والطلبة، تمتد مناقشاتهم صاخبةً وهامسة (النظر إلى أسفل، ١٢١). وثمة من يسميهم الراوي أصحاب القهاوي: «في المقهى نتصافح بحرارة ونتجالس ونتسامر، ثم يذهب كلٌّ إلى سبيله، ومنهم من يختص بصفة تستحق التأمل، فيترك أثرًا، قبل أن يذوب في النسيان» (المرايا، ١١٨). وأحيانًا، تبدأ الصداقة الطويلة بلقاء عابر في إحدى القهاوي؛ تلاقت أعين الرجلين، فدنا أحدهما بكرسيه من الآخر: لا مؤاخذة … كلانا وحيد … تلعب عشرة؟ …
أضاف معرِّفًا بنفسه: محسوبك جبريل الصغير … من رجال الأعمال.
قال الآخر: تشرفنا … فؤاد الصاوي … مزارع.
وتبدأ الصداقة الطويلة، الممتدة (اللقاء).
والقهاوي كذلك هي أنسب الأماكن لعقد الصفقات الخيِّرة والشريرة، وبذل التهديد والإغواء.
•••
كانت القهاوي هي البديل للبيوت. لم تكن البيوت تستقبل إلا الأقارب، وخاصةً الأصدقاء، وفي مناسبات بعينها، كالمرض والعودة من الحج والإنجاب والعزاء في الوفاة؛ إلخ. ولأن التقاليد التي ورِثها إبراهيم مصطفى العطار كانت ترفض استقبال الغرباء في البيت، فقد كان يدعو أصدقاءه ومعارفه إلى لقائه في قهوة فاروق (قاضي البهار ينزل البحر، ٦٧). وكان حنفي يفيد من وجود القهوة إلى جانب البيت؛ للجلوس إلى أصدقائه ومعارفه عليها، بدلًا من استضافتهم في البيت (سينما الدرادو، ٦٣). ثم تبدلت الصورة فيما بعد؛ فالكثير من الزوجات يحرِّضن أزواجهن على الذهاب إلى القهوة، وبالذات بعد أن يبدأ الزوج رحلة المعاش (شباب القلب). القهاوي بديل مباشر للنزهة في الشوارع، ووسيلة مماثلة لتزجية فراغ الوقت (المسرح الكبير). ولا تخلو من دلالةٍ دعوةُ شوقي خليفة لسعد، للجلوس في إحدى القهاوي: تعالَ يا شيخ على القهوة نكمل كلام … هو احنا كل ما نطلع من المدرسة نتصعلك في الشوارع … ياللا بينا على القهوة ياللا (الشوارع الخلفية، ١٦١). وكما أشرنا، فقد كانت غالبية رواد القهاوي — وبالذات في فترة المساء — من الموظفين الذين ربما تَحول الظروف الطارئة بينهم وبين قضاء أوقات فراغهم في أماكن أخرى. ويقول الراوي: «كان الجلوس على المقهى هو خير وسيلة لأكل يومي وأمسي وغدي، وفي المقهى تعرفت على أوباش» (بنت مدارس، ٥).
كان هناك — على حد تعبير نجيب محفوظ — فاصل بين الرجال والنساء؛ لقاء النساء في البيوت، والرجال في القهاوي (المساء، ٢٣ / ٣ / ١٩٨٨م). وإذا كانت العلاقات العاطفية قد حاولت أن تنفُذ من أسوار الحجاب، من خلال العلاقة بين القهوة والمشربية — ونجحت في ذلك أحيانًا، وأخفقت أحيانًا أخرى — فإن القهاوي عمومًا صارت بديلًا مباشرًا للنزهة في الشوارع، ووسيلة مماثلة لقتل الوقت. وكان قضاء الأزواج غالبيةَ أوقاتهم في القهاوي مشكلةً تدارستها الأفكار والأقلام، وأرجعت بواعث عزوف الرجل عن البقاء في البيت، وتفضيله القهوةَ مكانًا لوقت فراغه، إلى الجهل الذي يَرينُ على معظم الزوجات، فلا يجد الرجل من يسامره أو يحادثه أو يشاركه شئونَه الوظيفية، وتوصلت إلى أن تعليم المرأة سيقلل من تلك الظاهرة، إن لم يَقضِ عليها تمامًا. يقول خاطر: «لو كان في المنزل أيُّ تسلية لَمَا فرَّ منه ربُّه. ولو استطاعت المرأة أن تجعل من منزلها شيئًا جديدًا، لَمَا غادره الرجل إلا على مضض، ولَفضَّل أن يجلس إلى زوجه وأولاده، على أن يقطع لحظاتِ راحته في وسط مملوء بأنفاس الدخان وضجيج المقامرين» (رسائل). وإذا كان الفنان قد عاب على أولئك الشباب الجالسين على القهاوي، مطالعَ القرن، كالخُشُب المُسندة، لا حديث لهم إلا الكلام التافه أو النكات الفاحشة، ولا سرور إلا أن ينتصر أحدهم على الآخر في لعبة النرد. وأبدى أسفه لتلك القوة المعطلة في زمن يتطلب فيه الوطنُ أكبرَ كمٍّ من القوى (حواء بلا آدم، ٥٣)، فإن الفنان — في أواسط الأربعينيات — يلحظ توزُّعَ رواد القهاوي بين زهر الطاولة وأرداف العابرات (نحن لا نزرع الشوك، ٧١١). وربما أطلق أحدهم آهة إعجاب أو صفارة استحسان (سور الأزبكية، ١٨٥). والقهوة وسيلة البعض للفرار من الكآبة التي تفرضها عليه حياة العزلة، فهو يلوذ بذلك المكان الصاخب المزدحم، وينتحي فيه جانبًا، مكتفيًا بمشاهدة الآخرين وهو يحتسي قهوته (سرقة بالطابق السادس). ويصف الفنان القهوة بأنها لا أكثر من مكان لممارسة السأم اليومي، والخوض في أحاديث الشائعات وضحكات النميمة (أوراق الخريف). وكان الراوي يجد في قعدة القهوة فرصة لاجترار خيالاته الخاصة، ومراقبة الدنيا من زجاج القهوة (مباراة شطرنج).
لقد ظل الكثيرون يفضلون السهر في القهوة (نخوة). وحين يتقدم شاب لخطبة ابنة جلال، يحدد له الرجل موعدًا في القهوة، وتسأله الزوجة: ولماذا لا تقابله هنا — البيت؟ … يجيب: لا أحب أن أخدع الناس … يجب أن يعرف من الآن أني مدمن … مدمن قهاوي (المستنقع، ٢٢). ومع أن سن الصبا يُستهجن فيها غِشيانُ القهاوي (الرجل الثاني)، فإن هناك العديد من القهاوي تزدحم بمجموعات من الشبان، يتبادلون المزاح بأصوات مزعجة، لا يرحمون كبيرًا ولا صغيرًا من مزاحمهم، ويتهجمون على الأعراض بلا حياء، ولا يتركون فتاةً دون غمز، حتى السيدات المَصونات (حارة العشاق). وتقول الجدة: «كان يوم الرجل يُقضى ما بين عمله وبيته، لم تكن هناك مَقاهٍ يضيِع فيها الشباب أحسن أوقاتهم وأكثرها ملاءمةً للعمل. لم يكن المارُّ في الشوارع يرى هؤلاء الجالسين على قارعة الطريق، لا عمل لهم إلا شرب القهوة والدخان أو ما هو أكثر منها ضررًا، وإلا فالكلام الذي لا يدور حول الخير، بل أكثر ما يدور حول الشر» (أحاديث جدتي، ٥٧). وكان عمار أفندي أمين أحد هؤلاء الذين يغادرون فراش القيلولة إلى القهوة، يلعبون الساعاتِ الطويلةَ دون ملل (الصعايدة). ومعظم الرجال في الأحياء الشعبية يفضلون السهر خارج البيوت (لعبة كل يوم). ويقول الراوي: «لم أكن يومًا من هواة الجلوس على حافة المقهى، أو التفرج على المارَّة، ولكن بعد أن سافرت زوجتي وابنتي الصغيرة، وبعد أن أصبح البقاء في البيت الخالي يومًا كاملًا شيئًا لا يُحتمل، وجدتُني ذات يوم أُطل على الحياة من حافة المقهى الذي كنت قليلًا ما أقصده لرؤية أصدقائي، والذي يُطل على أحد الميادين الصغيرة» (سحابة الغبار). والجلوس في القهاوي مناسبة لاكتساب صداقات جديدة (أبو فودة). وربما أذِن بعض أصحاب القهاوي لمن لا يجدون مأوًى، بالمبيت داخل القهوة لقاءَ مبلغ بسيط، أو ابتغاءَ مرضاة الله (الزوجات العشر، ١٠٥).
وقد أدى انتشار السينما في البداية، ثم ظهور الفونوغراف، فالراديو — فضلًا عن التحرر النسبي الذي بدأ يفرض نفسه في علاقات الأسر بعضها ببعض، وفي مقدمتها سفور المرأة ومجالستُها الرجال — إلى تقلص نسبة المترددين على القهاوي، وتغيرت أيضًا نوعياتُ هؤلاء المترددين. أدت القهاوي دورًا مطلوبًا عندما فرضت طبيعة مجتمعنا الشرقي على رجال الأسرة أن يلتقوا بأصدقائهم خارج البيت. فلما انتشرت الأندية ومقارُّ النقابات والجمعيات الاجتماعية وغيرها، تضاءل دور القهوة إلى حد كبير، وتركَّز دور أغلبها على استقبال أبناء الحِرف الواحدة، أو الزبائن «الطياري»، بالإضافة طبعًا إلى أبناء الأحياء الشعبية الذين بعدت بهم الوسائل عن التعرف إلى الأندية وغيرها من أماكن اللقاءات المستحدثة. ومن المؤكد أن القهاوي ليست الآن في عصرها الذهبي، أضعاف إيراداتها تحققه مَحالُّ السوبر ماركت، ومحالُّ تقديم المشروبات، ووجبات الطعام السريعة، ومحال الحِرفيين.
•••
والقهاوي تنقسم إلى نوعين — إفرنجي وبلدي — إلى جانب القهاوي النوبية التي يلتقي فيها أبناء النوبة لمتابعة الأحوال في إقليمهم. أما الإفرنجي، فتختلط فيها أصوات الجرسونات وقرقعة الأكواب والأطباق، والجرسونات يحملون الصواني، تزاحمت فوقها الفناجين والأطباق واللبن والسكر (عندما يسقط المطر)، ويتعالى صوت النرد وطرقعات الطاولة وكركرة الشيشة وصيحات: كش وزير، ونداءات باعة الفانلات وأمواس الحلاقة والمناديل، وصرخات أكَلة النار، والبيانولا المعطلة التي تصدر منها النغمات المألوفة عرجاء شاكية تآكل التروس وقلة التزييت، وباعة الفستق والأكواب الكريستال والصيني والأمشاط، وتوسلات الشحاذين (لحظة لقاء). وأغلب رواد هذه القهاوي من موظفي الحكومة، يَفِدون إليها في ساعات الأصيل الأولي؛ أي بعد أن يقضوا القيلولة في بيوتهم. وكانت القهوة هي المشروب الرئيس، فلم يكن الشاي مشروبًا شائعًا في بدايات القرن، بالإضافة إلى تدخين النرجيلة. بل إننا نقرأ عن «الشيشة الضخمة المتعرجة بلفائف التنباك التي تحترق على مهل، وتتفرع عنها أذرع كثيرة، تمتد إلى الجالسين حولها» (العودة إلى المنفى، الرواية). وربما انشغلوا أيضًا بلعب الطاولة أو الدومينو، وفي أحيان قليلة يلعبون الورق.
يصف الفنان قهوة أحمد عبده بأنها «كجوف حيوان من الحيوانات المنقرضة طُمِر تحت ركام التاريخ إلا رأسه الكبير، فقد تشبث بسطح الأرض فاغرًا فاه عن أنياب بارزة على هيئة مدخل ذي سلَّم طويل. وثمة في الداخل صحن واسع مربع الشكل مبلط بالبلاط المعصراني، تتوسطه فسقية رُصَّت على حافتها أُصَص القرنفل، وأحدقت بها من الجهات الأربع أرائكُ فُرشت بالحصير المزركش والوسائد. أما جدرانه فقد انتظمتها مقاصيرُ صغيرة الحجم متجاورة، كأن الواحدة منها كهف منحوت في الحائط، لا نافذة بها ولا باب لها، واقتصر أثاثها على مائدة خشبية، أربعة مقاعد ومصباح صغير يشتعل ليلَ نهار في كُوَّة بأعلى الجدار المواجه للمدخل» (قصر الشوق، ٧٦). ويخاطب كمال عبد الجواد قهوة أحمد عبده: «يا قهوتي العزيزة، أنتِ قطعة من نفسي، فيكِ حلَمت كثيرًا، وفكرت كثيرًا، وفيكِ سكن ياسين أعوامًا، واجتمع فهمي بالثوار ليفكروا ويعملوا من أجل عالم أفضل، ثم إني أحبك لأنك مصنوعة من مادة الحلم» (السكرية، ٦٠). وفيما بعد، شُيدت مكان قهوة أحمد عبده — فوق سطح الأرض — قهوةٌ باسم «خان الخليلي»، صغيرة، بابها يفتح على حي الحسين، ثم تمتد طولًا في شبه ممر تُصفَّ على جانبيه الموائد، وينتهي بشرفة خشبية تطل على خان الخليلي الجديد. أما قهوة سي علي، على ناصية الصنادقية، فقد كانت «شبه دكان متوسطة الحجم، يفتح بابها على الصنادقية، وتُطل بكُوَّة ذات قضبان على الغورية، وقد اصطُفت بأركانها الأرائك» (بين القصرين، ٨٢). وقد أُنشئت قهوة الفيشاوي في ١٨٦٣م، في عهد الخديوي إسماعيل. تَواءم مظهرها مع حي الحسين الذي تقع في إحدى حاراته. وثمة قهوة البراويز بميدان المنشية بالإسكندرية، يجتمع فيها السراة عصرَ كل يوم؛ للتمتع بمنظر البحر، والاستماع إلى بعض الألحان الموسيقية، ومشاهدة الرقص الأوروبي (الحسناء الوفية، الرواية). وكانت قهوة المالية بمدينة دمنهور مزدانةً بالمرايا في جميع الحوائط، والترابيزات ذات المفارش النظيفة، والجرسونات الذين يرتدون ثيابًا بيضًا، ورائحة المياه المكررة، والمشروبات التي يحسن إعدادها (وكالة عطية، ٤٢). وكانت قهوة الأديب عبد المعطي المسيري بدمنهور ملتقى الكثيرين من أدباء المدينة: أمين يوسف غراب ومحمد عبد الحليم عبد الله وأحمد محرم وعلي الجارم ومحمد صدقي وعبد القادر حميدة وعشرات غيرهم (المصدر السابق، ٣٩). وثمة قهاوٍ يرتادها الموظفون لقضاء ساعة العصرية، وغالبًا ما يقضون تلك الفترةَ في جلسة مسترخية لتأمُّل الغادين والرائحين، وربما دخلوا في منافسات لألعاب الطاولة والشطرنج والدومينو، وقهاوٍ يجلس فيها صغار التجار ومقاولو الأنفار، وتتم فيها غالبية صفقاتهم. ولعلنا نلحظ أن معظم جلساء قهوة «الزهرة» بخان الخليلي كانوا من الموظفين — ما عدا المعلم نونو وعباس شفة: أحمد عاكف وسليمان عتة وكمال خليل وسيد عارف وغيرهم (خان الخليلي، ٥١). ويلخص محمد عمر في كتابه المهم «حاضر المصريين» حياة الموظف في مطالع القرن، بأنه يذهب إلى عمله صباحًا، وهو عمل نادرًا ما يتغير، ثم يرجع إلى بيته في الظهر، فيأكل، وينام، ثم ينزل ساعة العصر إلى القهوة، يمضي الوقت بلا فائدة حقيقية، «وكل يوم هُم على هذا المنوال، والمستخدم واحد، أمسِ واليومَ وغدًا» (حاضر المصريين، ١٣٤). وكان من بين القهاوي التي يرتادها الموظفون الممتازون، آخرَ النهار وأول الليل، قهوةُ الرومي التي كانت تقوم على شاطئ القناة، قريبًا من المحطة (صفاء). ويقول الراوي: إن بعض قهاوي القاهرة كانت محلًّا مختارًا لفئات معينة من رجال الفكر يعقِدون فيها ندواتِهم. «وكان أشهر تلك القهاوي قهوة الحلمية التي تقع على ناصية حيِّنا القديم، وقهوة بار اللواء في مواجهة الدار القديمة لجريدة الأهرام. كانت قهوة الحلمية ناديًا أدبيًّا، وكانت قهوة بار اللواء ناديًا سياسيًّا» (مذكرات منسية، ١٢٠). أما قهوة الأفندية في حي الأزهر، فكان أغلب روَّادها من الأفندية، أي من أصحاب الطرابيش، وإنْ تردَّد عليها المشايخ في أحيان كثيرة. واتسمت قهوة «عكاظ» بأنها قهوة وخمَّارة ومطعم، وإن اختصت برجال الأعمال وعقد الصفقات، بالإضافة إلى القوَّادين والنصابين وبنات الهوى ممن لا تتم صورة الوجود إلا بهم (شارع ألف صنف). وفي قهوة «السعادة» انتبذ الكبرياء بطلبة المدارس ركنًا منعزلًا؛ حتى لا يصبحوا كبقية الشعب الفقير. سَمَت المدرسة بهم إلى طبقة معنوية عالية، لكنهم — بحكم أوضاعهم الاجتماعية الفعلية — يرْتدون الجلابيب، بل وينتعل بعضهم القباقيب (فلفل). وثمة قهوة «العترة» التي تطل على الساحة الجانبية للمرسي أبو العباس، يلتقي فيها الصيادون وعمال البلانسات وصنَّاع المراكب وغازلو الشِّباك وباعة السمك (قاضي، البهار ٤٣-٤٤). وعُرفت قهوة الصعايدة بالإسكندرية بهذه التسمية منذ إنشائها؛ لأن أكثر الذين يترددون عليها من الصعايدة؛ فضلًا عن أن صاحبها من إحدى قرى الصعيد (وكالة الليمون، ٤٩). أما قهوة شندي بعابدين، فهي المكان الذي يفضِّل الجلوس فيه أبناءُ النوبة، سواءٌ كانوا موظفين أو عمالًا، أو ينتظرون الفرج (الطرد). وثمة قهوةٌ معظم روادها من الحمالين والباعة الصغار، يُمسك أكثرهم غاب الجوزة بيده، ويشفط المعسل بلذَّة ونهَم، ورائحة الحشيش تملأ المكان (أيام الأمل، ١٨). وكان للمجاذيب قهاوٍ معروفة في السيدة زينب والحسين، يجلسون عليها وفوق صدورهم النياشين، وعلى أكتافهم النجوم الصفيح (اختفاء)، كذلك توجد قهاوٍ للصعاليك والمتسولين ورجال الطريق وبائعي الأحجبة والتمائم والحُواة والمشعوذين وبنات الهوى والراقصات والنشالات وكل من تجمعهم ليالي المولد (قهوة المجاذيب). حتى النشالون لهم قهوتهم المسماة قهوة حنش، في خلاء الحدائق فيما يتصل بالحقول. وقد أُطلق على القهوة اسم «مقهى الأمراء» بعد قيام الثورة (أهل القمة).
ويصف الفنان قهوة «الكرنك» بأنها تبدو كأنها حجرة صغيرة ليس إلا، لكنها رشيقة أنيقة، مورقة الجدران، جديدة الكراسي والموائد، متعددة المرايا، ملونة المصابيح، نظيفة الأواني. الرواد المعدودون كأنهم — لصِغر المكان — أسرة واحدة، ترعاهم بمودة وأُلفةٍ صاحبةُ القهوة، وتحرك بنظرة شاملةٍ الساقيَ والجرسون وعامل النظافة. أما القهوة ففاخرة، والماء نقي عذب، والفنجان والكوب آيتان في النظافة (الكرنك، ٤). وثمة قهوة اختارها أصحاب المعاشات ممن لفَظتْهم الحكومة، هذه القهوة هي الخيط الذي يربطهم بالحياة «بقايا مناصب وهيلمان، وقواعد وإجراءات، ولوائح، وقوانين، ثم جمعهم المعاش هنا» (الشك يخرس الكلمات). وعندما خرج الراوي إلى المعاش، أصبح من رواد قهوة أصحاب المعاشات، يلعب النرد والدومينو، ويتحدث في السياسة، ويعلق على الأحداث (نور القمر). وغالبًا، فإن الموظف إذا أُحيل إلى المعاش يستغني عن الذهاب إلى المكتب بالجلوس على القهاوي. مجرد تزجية لوقت فراغه، بدلًا من الملل القاتل داخل جدران البيت (كلمة في الليل). إن هؤلاء الذين أُحيلوا إلى المعاش يعتبرون القهوة امتدادًا لأيام الوظيفة، حتى المناقشات التي تدور بينهم تذكِّرهم بما كانوا يتبادلونه من حوارات في الدواوين الحكومية قبل أن تبدأ رحلة المعاش (الشتاء الأخير).
أما القهوة البلدي، فإنها تتسم بالبساطة الشديدة، أرضيَتُها من الطين، وكراسيُّها من الخشب، وقواعدها من قش القصب أو الغاب، وموائدها ذات أقراص نحاسية وقوائمَ حديدية، والشاي هو المشروب الرئيسي، إلى جانب الزنجبيل والقرفة. واللعبة المفضلة هي الورق، فالدومينو. أما الطاولة فهي نادرة، والجوزة تقابل النرجيلة، وإن اختلفت النرجيلة بإنائها الزجاجي ومَبسِمها العاجي الفاخر وخرطومها المصنوع من المطاط، بينما الجوزة لا تعدو كرةً من الصفيح، تعلوها غابة قصيرة نسبيًّا (خط العتبة، ٦٠-٦١). ويصف الفنان قهوة كرشة بزقاق المدق بأنها «حجرة مربعة في حكم البالية، ولكنها في عفائها تزدان جدرانها بالأرابيسك، فليس لها من مطارح المجد إلا تاريخها، وعدة أرائكَ تحيط بها، وعند مدخلها كان يكبُّ عامل على تركيب مذياع نصف عمر بجدارها، وتفرَّق نفر قليل بين مقاعدها، يدخنون الجوز، ويشربون الشاي (زقاق المدق، ٦-٧).
وإذا جلس الغريب في القهوة البلدي، أو الشعبية، فإنه يواجَه، غالبًا، بنظرات الفضول والشك والعَداء؛ ربما كان مخبرًا يحاول التوصل إلى مصدر الرائحة المتميزة داخل القهوة (وسادة فوق القمر). وثمة النصبة الخشبية المستطيلة، الجزء الأسفل منها بضلفتين، داخله الشاي والسكر والكاكاو والقرفة وغيرها، والجزء الأعلى مبطَّن بالصفيح والقصدير، ليُبعِد لهب الموقد عن الجسم الخشبي، يتسع لثلاثة مواقد، اثنان من الحجم الكبير، والثالث صغير يعمل بالكحول لإعداد فناجين القهوة. في أعلى ثلاثة رفوف عليها أكواب زجاجية وفناجين قهوة، ويقف صاحب النصبة أمامها، أو يتحرك بين الدكاكين والورش، وبيده صينية كبيرة عليها الأكواب والفناجين. فلما راجت بضاعته صنع دكة خشبية تتسع لجلوس خمسة أشخاص — هم من زبائنه — سائقي عربات النقل والتاكسي والعابرين (مجهود حربي).
وقد يُطلق على عربة يد — تجاوزًا — اسم قهوة، فهي قهوة متنقلة يدفعها رجل يحمل على ظهره لوحًا خشبيًّا بدائيًّا، له أربعة أرجل، يُنزله عن ظهره، وينصب النصبة، ويترك للزبائن الجلوس في المواضع التي يختارونها، ثم يقدم لهم أكواب الشاي (يومٌ ما).
•••
وأحيانًا تصبح القهوة هي الشخصية الأهم في العمل الروائي. كانت قهوة المعلم كرشة وسيلة فنية لتقديم شخصيات زقاق المدق، حين يجتمعون في جلسة المساء، يتبادلون الحوار في القضايا العامة والخاصة، أو يطلُّون عليه من النوافذ، كما كانت تفعل حميدة، وهي كذلك المكان الذي يتردد عليه القادمون إلى الزقاق من خارجه؛ مثل فرج إبراهيم. من جلسته في القهوة، ووقوف حميدة وراء نافذة شقتها، جرى الحوار الصامت الذي انتهى بها إلى الخروج من الزقاق بتحريض منه، والتحول إلى مومس (زقاق المدق الرواية). وشملت أحاديث قهوة الزهرة مناقشات شملت كل أبعاد الحياة في المجتمع بين أحمد عاكف وأحمد راشد المحامي، مناقشات اتسمت بالحدية أحيانًا، وغلبت عليها السذاجة أحيانًا أخرى، لكنها قدَّمت صورة للحياة المصرية، وتطورات الأحداث، وما يشغل الناس، أعوامَ الحرب العالمية الثانية. وكانت جلسة القهوة عمومًا فرصة لتقديم شخصيات الرواية وتوضيح ملامحها الجسمية والنفسية، وآرائها في القضايا العامة. نحن نغادر نهايةَ كل جلسة وقد تعرَّفنا إلى المزيد من ملامح الشخصيات وقسماتها: طرائق تفكيرها، ومفرداتها اللغوية، وانتمائها الطبقي، وحصيلتها الثقافية؛ إلخ … وقد جعل الفنان من «الكرنك» — تلك القهوة الصغيرة في شارع جانبيٍّ بالعاصمة — تعبيرًا عن المجتمع المصري بتناقضاته وتحولاته وتطلعاته ومآسيه (الكرنك، الرواية). والقهوة هي البطل في رواية مالك الحزين، هي الشخصية المحورية التي تدور من حولها الأحداث (مالك الحزين، الرواية). أما قهوة [بورصة] النيل بالعطارين فقد جعل منها الأصدقاء ملتقًى ثابتًا، يناقشون فيه مشكلاتهم الشخصية، والقضايا العامة (النظر إلى أسفل، ٣٠). ولعل رواية قشتمر هي أُولى الروايات التي تُعَد القهوة بطلها الأساس، فهي في مكانها تستقبل الأشخاص والأحداث، وتَرينُ على روادها — وعليها كذلك — تبدُّلات مبعثها التطورات التي تلحق بالمجتمع نفسه. الفنان يصف قشتمر بأنها تقع عند التقاء الظاهر بشارع فاروق، صغيرة وجميلة وذات حديقة صيفية صغيرة، موصولة بباب صغير مفتوح، وبأركانها نخلات أربع، وفي الوسط عدد من الموائد في صورة مربع متساوي الأضلاع، وعلى رفٍّ وراء المنصة، اصطُفت النراجيل وقوارير المشروبات. كانت تلك هي صورة قشتمر في أواخر ١٩٢٣م أو أوائل ١٩٢٤م (قشتمر، ٢٨)، ثم شهدت قشتمر أصدقاء الصبا وهم يودِّعون الشباب، ويخطون أولَ خطوة في الرجولة، ويمارسون الحياة بين العمل والثقافة والسمر، ويعانون تقلبات الحياة السياسية (المصدر السابق، ٧٤)، ويتوالى ورود الأحداث على القهوة: مصرع أحمد ماهر، حرب فلسطين، اغتيال النقراشي، الصراع بين الإخوان المسلمين وإبراهيم عبد الهادي، عودة الوفد، حريق القاهرة؛ إلخ … بينما كان الأصدقاء قد بلغوا الأربعين أو جاوزوها (المصدر السابق، ٩٧). فلما جاء الثالث والعشرون من يوليو ١٩٥٢م، شملت الأصدقاءَ صحوةٌ طاغية، وتتابعت الأحداث كالأحلام، فرحل الملك والإقطاع والأقارب، و«برز الفقراء والضائعون من القاع، فتربَّعوا على العرش» (المصدر السابق، ١٠٤). ومع تقدم الأصدقاء في العمر، فإن قشتمر أيضًا — كما قال حمودة عندما لمح أول شعرة بيضاء في رأس صادق صفوان — «طعن في السن وشاخ، يحتاج إلى طلاء وتجديد في المقاعد والموائد، وترميم في دورة المياه، وحديقته المتواضعة يمكن أن تضاهي حديقة كازينو العائلات في نضارتها (المصدر السابق، ٩٥). ولم ينقطع الأصدقاء عن التردد على قشتمر إلا لفترة قصيرة، جدده فيها صاحبه؛ غيَّر أرضيَّته، وطلى الجدران بلون أبيض، ووضع أثاثًا جديدًا، وعُني بالحديقة؛ فزرع الياسمين في سورها، وزيَّن الأركان بأُصُص الورد والقرنفل، ورمَّم دورة المياه، واشترى طاقمًا جديدًا من النراجيل، وأضاف إلى القهوة وحدة لتقديم الدندُرمة، وأخرى لتقديم الكفتة (المصدر السابق، ١١١)، ثم استأنف الأصدقاء ترددهم على القهوة، ساعد على ذلك أن غالبيتهم لم يغادروا الحي، عدا أحدهم — حمادة — الذي كانت تحمله سيارته إليهم كلَّ مساء (المصدر السابق، ١١١)، وبتقضِّي الأعوام ازداد شعور الأصدقاء بالمودة، «ووجدوا في صداقتهم سلوى الوجود وحلاوته، وغلب عليهم الاستسلام للواقع، وتخلصوا من كثير من رواسب الماضي. واجتاحهم ما يشبه النعاس الهنيء والحلم العذب، حتى حلَّت في النفوس جرثومة الكآبة، بقدوم الخامس من يونيو ١٩٦٧م» (المصدر السابق، ١١٢). ثم يدنو الأصدقاء من نهايات العمر، في عصر المنابر والنصر والسلام والانفتاح وتفشي الفساد، يطلعون — لمناسبة — على صورة قديمة، فيقارنون ذاهلين بين ما كانوا وما يكونون، ويزدادون التصاقًا ومودة، وأمسى قشتمر عضوًا فيهم كما أمسوا ركنًا فيه، ويتبادلون النظرات، ويتذكرون الراحلين، ويعرفون أن يومهم سيجيء (المصدر السابق، ١٢٣).
والخط الرئيس في قصة دقن الباشا يشابه إلى حد التطابق روايةَ قشتمر … فالبطل الرئيس هو قهوة دقن الباشا التي تستقبل الشخصيات منذ كانوا صبيةً صغارًا، حتى أدركتهم الشيخوخة، وتم الاتفاق — في الوقت نفسه — على بيع القهوة، مرورًا بعشرات الأحداث والتطورات التي لحقت بالمجتمع المصري إبان تلك الفترة. الفنان يبدأ بوصف القهوة، فهي صغيرة إذا قيست إلى قهاوي وسط البلد، أو حتى قهاوي السكاكيني، مستطيلة الشكل، أنيقة المنظر، تقوم في عمقها المنصة الرخامية والموقد، ويعلوها رفٌّ أول تصطفُّ فوقه النراجيل البيضاء الشفافة والحلي الزاهية، أرضها مدكوكة بالبلاط المعصراني، وجدرانها وسقفها زرقاء صافية، وفي منتصف الجدارين المتقابلين تلتصق بالغراء والمسامير الذهبية مرآتان مستديرتان مصقولتان مؤطَّرتان بالأبنوس، وثمة طابوران من الكراسي الخيرزان. أما الرصيف أمام القهوة فمزروع ببلاط صغير ملون، ويمتد فوقه صفان متوازيان من الموائد في مركز الوسط، منها تنطلق شجرة لبخ فارغة، تتهدل فوقها أغصانه حانية، وبها اشتهرت القهوة باسم دقن الباشا، على حين أن لافتتها تحمل اسم صاحبها سيد كنج (دقن الباشا). وقد بدأ تردُّد راوي القصة ورفاقه على القهوة، منذ اكتسبوا — مع تقدم العمر والتوظف — الحقَّ في اقتحام القهوة، والجلوس مكان الآباء، وشرب الشاي والقهوة وتدخين النرجيلة والخوض في أحاديث السياسة والحب والجنس، وحلَّت مشكلات جديدة … فبعد أن كان سعد والسلطان والإنجليز هم محور الأحاديث، حلت بدلًا منهم أحاديث عن الدستور والغلاء واليمين واليسار والملك والوفد والإنجليز والجلاء وفلسطين واليهود. فلما قامت ثورة يوليو، بدأت صفحة جديدة في حياة الراوي ورفاقه، وحياة القهوة كذلك، وامتدت اعتقالات الشرطة إلى بعض أفراد الجماعة، فبدأ التفاهم بالهمس والإشارة والرمز، حتى دُهِم الجميع يوم الخامس من يونيو، فتطايرت الآمال أشلاء وشظايا، وتحول سكان القهوة إلى أشباح، وفرض الحزن نفسه لأعوام، تراجع بعدها الراوي وأصدقاؤه إلى ركن الشيوخ، وتركزت الأحاديث حول الانفتاح وما حمله من نتائج إيجابية وسلبية. ثم جاء اليوم الذي تلقَّى فيه الجميع — كطعنة خنجر — نبأَ تحوُّل قهوة العمر والذكريات والآباء إلى سوبر ماركت (المصدر السابق).
•••
وصبي القهوة (جرسون القهوة) قاموس معرفي، فهو قد عرف العاطل والباطل، وصِبية الورش، والمُخبِر، وشارب الكحول، وباعة الصحف، والصاحب الذي يشتم صاحبه من وراء ظهره، وهذا الذي لو غضب حطَّم الكراسي وقلب الطاولات (حكاية برأس وذيل). وصبي القهوة البلدي يرتدي — عادة — جلبابًا فوق فوطة. ومناداته على الطلبات تتسم بظَرفٍ ملحوظ، فهو يحرص على التنغيم، وتأكيد الصوت والتشبيه والكناية، حتى كوب الماء يتحول على لسانه إلى طلب «فرع نيل وصلَّحه.»
وللقهاوي أبطال ثانويون ثابتون، يشكلون أجزاءً من حركتها اليومية، مثل شاعر الربابة الذي شهدت أيامه نهايتها بظهور الراديو (زقاق المدق، ٧)، ومثل ماسحي الأحذية والباعة السرِّيحة وقارئي البخت والمتسولين وباعة الكتب وباعة أوراق اليانصيب. وماسح الأحذية في القهوة يتجاوز مهنته غالبًا، فهو يعرف كل كبيرة وصغيرة عن رواد القهوة والمنطقة المحيطة بها، ويروي ذلك كله لإرضاء فضول المتعاملين معه، وربما أضاف إلى نفسه مِهنًا أخرى، فيجلب الخادمات القرويات لزوجات الموظفين، ويُعِد قهوة المزاج للأعيان، ويلبي المطالب الخاصة للعزاب منهم على نحو خاص (الصعايدة).
•••
فماذا عن علاقة القهوة بسواها من «الأماكن»؟
ربما أُقيمت القهوة في مرتفع؛ بحيث تُطل على الحدائق الممتدة أمامه (منتظرات). والقهوة المحاذية للجبل تختلف عن غيرها من القهاوي، إنها بسيطة، وفي الأعم فقيرة، فهي أشبه بالغرزة. الحجرة مستديرة، والنصبة النحاسية، والكراسي الخشبية ذات المقاعد من القش المفتول، والزبائن القلائل، المعروفون — هذا ما تفرضه طبيعة المكان — الموزَّعون في الأركان، يحتسون الشاي، ويعقدون الصفقات، ولهذا اختاروا القهوة النائية. ويمتد الخلاء من خلال النافذة الكبيرة والباب، شاملًا متراميًا إلى غير نهاية (اللص والكلاب، ٥٨).
والشارع هو المكان الذي يقضي فيه الأطفال أوقات فراغهم؛ يلعبون الكرة أو غيرها من ألعاب الأطفال، فإذا تقدمت بهم السن شيئًا، عرَفوا الطريق إلى القهوة. وقد يتردد الطلبة «المزوِّغون» من مدارسهم على القهاوي ساعات الصباح (أيام الشارلستون، ٢٥). والصلة بين القهوة والشارع لا تتحقق بمجرد أن القهوة تُطل على الشارع، لكنها تتحقق بالعشرات من الذين يفضلون الجلوس فيه كي يطلوا على الحياة من حافته — وهو ما يقوله الراوي. الشارع يجتذبه: أصوات السيارات، نداءات المتسولين، الوجوه والأزياء؛ إلخ (سحابة الغبار). الصلة يحققها هواة الجلوس على حافة القهوة يتطلعون إلى المارة، وإلى صخب الشارع أمامهم (المصدر السابق) ومراقبة النساء العابرات للطريق (الطوق الزوجات العشر). وقد جعل ياسين من القهوة موضعًا يتابع منه حركة الشارع — النساء بصفة محددة — ربما تطول جلسته حتى العاشرة مساء، أو لا يطيل الجلوس، فهو ينهض في أثر امرأة وجد في نظراتها استجابة (السكرية، ٦٦).
وكل قهوة لها رصيف، تجد امتدادها فيه، إنه جزء مكمل لها، تُصفُّ عليه الكراسي والطاولات، ويجلس الزبائن (قنديل أم هاشم). وربما ظلت القهوة خالية في الداخل، بينما امتلأت الكراسي المتناثرة على الرصيف (تقرير من الميدان). وعلى رصيف القهوة كانت تنكشف للراوي أحوال الناس المتناقضة (التركة).
والعادة أن تكون لكل محطةِ قطارٍ قهوةٌ، ينتظر فيها الركاب موعد القطار، أو يلتقون قبل التوجه إلى القطار (غرباء في المولد). [راجع محطة السكة الحديد].
وحين عرَف رفعت فهمي أن حبيبته القديمة، الدكتورة ناهد، فتحت عيادة في عمارة تطل على ميدان التحرير، تردد على قهوة مواجهة للعيادة يقضي فيها كل أوقات فراغه؛ علَّه يراها وهي تخرج أو تعود، حتى أقنع نفسه — في النهاية — أن يصعد إلى عيادتها باعتباره مريضًا (ناهد). وكانت المهمة التي وافق عليها الرجل، مقابلَ مكافأة، هي الجلوس على قهوة ومراقبة سيدة يقال إنها تتردد على العمارة المواجهة (موقف حرج).
وكانت القهوة موقعًا للمحبين من الرجال، يتطلعون خلسة — من مجالسهم فيه — إلى المحب الذي يقف في شرفة، أو نافذة، أو تبرق عيناه من وراء خصاص مشربية، والجالس في القهوة يحاول لفت نظر تلك التي قد تظهر في النافذة، يعلو صوته بما يشد انتباهها، أو يبعث بإشارات تخاطب ودَّها (الشتاء الأخير). وذلك ما فعله «رجال» عودة الروح؛ حاول اليوزباشي سليم أن يستميل سنية من خلال نظرات لا تفتُر، راح يبعثها إلى طيفها وراء المشربية، وهو جالس في مكانه المختار على قهوة المعلم شحاتة. ومن المكان نفسه تقريبًا، استطاع الشاب مصطفى أن يلتقط طرف الخيط في علاقته بسنية، ثم انتقلت العلاقة إلى ما بين النافذتين: نافذتها العلوية، ونافذته في الطابق الأسفل. وقد أثمرت العلاقة زواجًا قضى على أحلام أسرة «الشعب» العاطفية جميعًا. حتى زنوبة حاولت أن تجتذب مصطفى — أثناء جلسته اليومية في قهوة المعلم شحاتة — بمحاولاتها الدائبة من خلف المشربية، وبتعمُّدها السيرَ أمام القهوة؛ لعله ينتبه! (عودة الروح، الرواية). وكانت جلسة القهوة بداية العلاقة بين ياسين وزنوبة العوادة. عرف طريقه إلى قهوة سي عبده على ناصية الصنادقية، يجلس على أريكة تحت كوَّة ذات قضبان تُطل على الغورية، يصعِّد منها بصره إلى نافذة صغيرة في بيت زبيدة العالمة، تقف وراءها زنوبة، ويرسل إشارات، فلما وجد استجابةً مضى وراء زنوبة بعد نزولها من البيت إلى الطريق (بين القصرين، الرواية). وطالت الأيام بالجالس في القهوة يحاول لفت نظر تلك التي قد تظهر أحيانًا في النافذة، يعلو صوته بما يشد انتباهها، أو يبعث بإشارات تخاطب ودها (الشتاء الأخير)، وذكَّرت الخطيبة خطيبها بمخالسته النظرَ لها، قبل الخطوبة، من مجلسه في القهوة (حارة العشاق). وكان الهمُّ الرئيس لرواد قهوة المعلم بطاطا هو التطلع نحو شرفة البيت المقابل للقهوة؛ حيث مدام راحيل بنظراتها الزائغة وأنفاسها الساخنة التي تنفخ بها النار في الحطب المرصوص على الرصيف — رواد القهوة (الشتاء الأخير). وكانت مشربية بيت أحمد عبد الجواد تقع أمام سبيل بين القصرين، يلتقي تحتها شارع النحَّاسين منحدرًا إلى الجنوب، وبين القصرين صاعدًا إلى الشمال، وثمة الدكاكين والقهاوي وعربات اليد وتيارات المارة التي لا تنقطع في ليل أو نهار (بين القصرين، ٦). أصبحت المشربية هي الصلة المباشرة، الوحيدة، بين أمينة والعالم الخارجي، فهي تنتظر زوجها كلَّ ليلة في عودته من سهرته اليومية. أصدقاء عينيها من يملئون المساحة التي تراها في الطريق والدكاكين والسبيل المواجه للبيت. لم تغادر البيت منذ زواجها في الرابعة عشرة من عمرها حتى بلغت الأربعين، تكتفي بالتطلع من وراء المشربية، أو بتخيُّل صورة الحياة فيما بعد المشاهد اليومية التي يقع عليها بصرها. وعندما راح بطل الجحيم يتطلع من ثقب الباب إلى الحجرة الملاصقة، فإن الجحيم كان اختياره (الجحيم، الرواية). أما جحيم أمينة، فقد كان من اختيار الآخرين، عندما أصبحت المشربية هي وسيلة اتصالها بالعالم الخارجي. كانت المشربية، والتعبير للفنان، قفصًا مغلقًا، تردِّد فيه المرأة وجهها يَمنةً ويَسرة، وتُلقي نظراتها من الثقوب المستديرة الدقيقة التي تملأ أضلافها المغلقة إلى الطريق (بين القصرين، ٦). الرجل يخرج إلى عمله، يلتقي بأصدقائه في القهاوي، أو في البيوت، أو العوامات. يسهر، يقيم العلاقات السوية والمشبوهة، يعود إلى بيته في الوقت الذي يختاره. أما المرأة فإن المشربية هي صلتها الوحيدة بالعالم الخارجي، عمرها تقضيه داخل البيت، فإذا غادرته فإلى القبر. وكانت قهوة بين القصرين تحديدًا هي التي تبدِّد وحشة أمينة، وتؤنِسُها من العفاريت، فهي تُطل من المشربية على سُمَّار الليالي كأنها ركن من القهوة. إنها «الصديق الغافل عن القلب الذي يحبه من وراء خصاص، معالمه ملء نفسه، سمَّارُه أصوات حية تعيش في مسامعها؛ إلخ» (قصر الشوق، ٧). وقد عرف ياسين طريقه إلى قهوة سي عبده على ناصية الصنادقية، يجلس على أريكة تحت كوة ذات قضبان تطل على الغورية، يصعِّد منها بصره إلى نافذة صغيرة في بيت زبيدة العالمة، تقف وراءها معشوقته زنوبة في البداية، ثم زوجته فيما بعد (بين القصرين، ٨٢). وكانت النافذة، أو العلاقة بين النافذة والقهوة، هي أول علاقة لكامل رؤبة لاظ مع امرأة بعد زواجه، عندما رأى في جلسته على قهوة النوبيين الصغيرة بالشارع الجانبي، امرأةً تُطل من نافذة في الطابق الثاني من عمارة كبيرة. وتطورت العلاقة الصامتة بين كامل والمرأة، لتصبح — خارج البيت وبعيدًا عن القهوة — علاقة جنسية كاملة. نجح مع المرأة الدميمة فيما أخفق فيه مع امرأته التي رأى فيها صورةً للطُّهر والنقاء (السراب، ٢٨٤). وكانت العلاقة بين النافذة والقهوة هي بداية اجتذاب فرج إبراهيم لحميدة. جعل قهوة كرشة — عند العصر — مجلسه المختار، يدخن النرجيلة، ويحتسي الشاي، ويسترقُ النظر إلى خصاص النافذة، وربما وضع مَبسِم النرجيلة على فمه، زامًّا شفتيه كأنه يقبِّله، ثم يرسل القبلة في الهواء إلى شبح حميدة الجاثم وراء النافذة (زقاق المدق، ١٩٩). ومن مجلسه في قهوة قشتمر، كان حمادة يسري الحلواني يتطلع بنظراته إلى فتاة في الدور الرابع بالعمارة المقابلة، تلوح في النافذة حينًا، وفي الشرفة حينًا آخر، وظل حمادة يواظب على الحضور إلى القهوة مبكرًا؛ لينعم برؤية الفتاة في ضوء النهار، لكن قصة الحب وجدت نهايتها الفاشلة حين قرر الطرفان النزول بها إلى الطريق (قشتمر، الرواية). وطالما ذكَّرت الخطيبة خطيبها بمخالسته النظرَ لها، قبل الخطبة، من مجلسه في القهوة (حارة العشاق). وكانت قهوة كرشة بزقاق المدق هي «المكان» الذي اختاره فرج إبراهيم ليُغويَ حميدة بالتلميحات والإشارات، وهي في وقفتها المتطلعة وراء النافذة. وحين غادرا الزقاق — كلٌّ بمفرده — ليلتقيا للمرة الأولى بعيدًا عن الزقاق، فقد حققت جلسة القهوة قبالةَ النافذة كلَّ ما أراده فرج إبراهيم، بحرصه اليومي الدائم عليها. وعندما أراد الراوي أن يتعرف إلى أخبار تهمُّه في بيت خاله، جلس على قهوة مقابلة، وأعطى لشقة خاله عينيه وأذنيه (العصر الرمادي، ٤١). ولأن شحاتة أفندي كان يجلس في القهوة التي مرت أمامها الحاجة زمزم، فقد وجد نفسه مدفوعًا لملاحقتها في المسمط الذي تملكه (السقا مات، ٥١). وقد أفاد كامل رؤبة لاظ من قهوة النوبيين الصغيرة، في الشارع الجانبي، لمراقبة زوجه — عندما شك في سلوكها — في دخولها المدرسة وخروجها منها، وجد كامل في موائد القهوة القديمة، وكراسيها الباهتة الرثة، والرواد النوبيين، مَدعاةً للطمأنينة … فالاحتمال بعيد أن يتعرف إليه في هذا المكان أحد من أقاربه أو أصدقائه أو زملائه (السراب، ٢٨٢). وقد تتحول القهوة البلدي الصغيرة إلى كازينو حديث، يقدم أنواع المشروبات الساخنة والباردة، ويحرص على مستوى المترددين عليه (البحر الصغير، ١١٥).
كُتاب
كان التعليم الديني، إلى بداية القرن التاسع عشر، هو الحافز الأول لانتشار الكتاتيب، حيث كان نشاطها يقتصر على تعليم القراءة والكتابة كوسيلة لحفظ القرآن الكريم. ثم صار هو المدرسة التي يغادرها التلميذ — الذي يريد استكمال تعليمه العادي — إلى الأزهر. والحق أن الكتاتيب كانت مهملة تمامًا في عهد محمد علي. لم تهتم بها الحكومة سوى في أخريات القرن التاسع عشر، حيث انتشرت وتكاثرت، وإن تحولت — عقب الاحتلال البريطاني لمصر؛ على حد تعبير الزعيم محمد فريد — إلى «مرابط للبهائم، أو مخازن للعلف، أو أماكن للوافدين من الضيوف» (هدى الصدة: من رائدات القرن العشرين). أصبح التعليم الحديث وقفًا على طبقة معينة من أبناء القادرين على تحمل نفقات الدراسة (المرجع السابق، ٢٠٩). كان الدين هو الحافز الأول للكتاتيب، حيث كانت تقتصر على تعليم القراءة والكتابة كوسيلة لحفظ القرآن. ولم يكن ثمة فصولٌ دراسية، ولا عدد من السنوات يُنهي فيها التلميذ دراسته. ويصف الإمام محمد عبده حال الكتاتيب في تلك الفترة بقوله: «فالمعلمون في تلك الكتاتيب يُسمَّون الفقهاء، وهم لا يعرفون شيئًا سوى حفظ القرآن لفظًا بغير معنًى. وإذا كان في أذهانهم شيء باسم الدين، فما هو إلا الزائد الضار دون الأصل النافع. وقد عُرفوا بأنهم أفسد حالًا من العامة. على أن الكتاتيب يرِدُ عليها أبناء الأهالي جميعًا إلا القليل، ثم يرجع الغالب إلى ما كان عليه آباؤهم، فهي منابت للعامة، ولكنها لا تنبت الآن إلا جهلًا» (الطليعة نوفمبر، ١٩٦٥م). أما قاسم أمين فهو يتحدث عن سِني تعلُّمه في المدارس والكتاتيب. يشير إلى ما اعتبره تذكارًا ثابتًا لا يزول أبدًا، وهو الخوف من الضرب. في الكُتاب ضرب بالعصي على الأرجل أو الكتف أو الرأس أو أي مكان آخر من الجسم، وفي المدارس بالنيلة المزفتة والفلقة، ضرب يبقى أثره مدة أيام. وكان يذهب إلى الكُتاب، ثم إلى المدرسة «مصحوبًا باضطراب في العقل، وخفقان في القلب، وارتعاش في الجسم» (قاسم أمين، ٣٣). وفي عام ١٩٠٣م، أُنشئت أول مدرسة لمعلمات الكتاتيب، وتوالى إنشاء تلك المدارس، تلحق بها من أتممن دراستهن في الكتاتيب. وكان التعليم في مدرسات معلمات الكتاتيب بالمجان (هدى الصدة: من رائدات القرن العشرين، ملتقى المرأة والذاكرة، ٢١٢). وعلى الرغم من رأي الفنان بأنه كان للكُتاب في القرية أثر بعيد، «فمن بين جدرانه المتهالكة، ومن تحت فلقة الشيخ العنيفة، يخرج إلى الحياة صبيان تعلَّموا الجهل فأحسنوا تعلُّمه، فكل ما يعرفون من الثقافة قراءة عاجزة، وكتابة أكثر عجزًا، وهم وإن كانوا قد أخذوا على الشيخ القرآن، فحفظوه، إلا أنهم أبدًا لم يفهموه، وما كان لهم أن يفقهوا منه شيئًا، والشيخ نفسه أكثر جهلًا به منهم» (هارب من الأيام، ٣١) … على الرغم من هذا الرأي، فقد ظل الكتاب لمئات الأعوام هو المكان الوحيد للتعليم في المدينة المصرية والقرية المصرية، قبل أن يبدأ انتشار المدارس، وإن حرَصت بعض الأسر الفقيرة على إرسال أحد أبنائها إلى الكُتاب لحفظ القرآن الكريم، للتكسب من ترتيله في المنازل كلَّ صباح، وفي الشعائر الجنائزية، بينما كانت بعض الأسر الميسورة ترسل إلى الكُتاب واحدًا من أبنائها، ليعرف شيئًا من أمور الدين؛ كنوع من التبرك (القرية المتغيرة، ٨٣). وإذا وُلد لإحدى الأسر طفل أعمى، أو معوَّق، بحيث لا يقوى على العمل في الزراعة، فإنها تبعث به إلى الكتاب، ليصبح — في شبابه — قارئًا، أو تلحقه بالأزهر — إذا كانت أسرة مستورة أو ميسورة — ليحصل منه على العالمية. لذلك ظلت الأم تلعن المدارس والتمدن الذي علَّم مصر فتح المدارس، بعد أن أخرج الأب ابنه — في المدينة الجنوبية — من الكُتاب (أديب، ٥٠). وفي تقرير قومسيون المدارس عام ١٨٦٨م، اشترط موافقة ديوان المدارس على صلاحية الفقي أو العرِّيف، بحيث يكون — في المدن الكبرى — على دراية بأمور الدين، وعلى قدر من حُسن الحظ وعلوم الحساب. أما في القرى، فقد اشترط القومسيون على الفقي أن يُحسن تجويد القرآن والخط والقراءة والكتابة، وأن يقرر ذلك أعيان الناحية وأهل العلم بها.
•••
حين يبلغ الصبي سن السادسة، أو نحوها، فإن أول ما تحرص عليه أسرته إلحاقُه بالكُتاب، لحفظ القرآن الكريم، وتعلُّم مبادئ القراءة والكتابة في الوقت نفسه. ويتولى مسئوليةَ الإشراف على الكتاب معلمٌ يسمى «الفقي»، وهي محرَّفة عن كلمة فقيه، وقد يسمى سيدنا، يعاونه شخص آخر هو «العرِّيف». ويتقاضى الفقي، أو سيدنا، أجْره الأسبوعي قرشًا صباحَ كلِّ اثنين، ويسمى ذلك الأجر «الصرافة» (العجوز وشجرة التوت). ويدخل سيدنا الكُتاب، فيخلع عباءته، ويلفها في شكل المخدة، ويضعها عن يمينه، ثم يخلع نعليه، ويتربع على دكة صغيرة من الخشب تعلو عن الأرض شيئًا، ثم يشعل الشيخ سيجارة، ويبدأ في نداء أسماء الأطفال الجالسين أمامه (الأيام، ١ / ٢٨). الصغار منهم في أول صف، والباقون وراءهم (السراية، ٢٧). ويكتب سيدنا آيات القرآن للأولاد بريشته، يغمسها في المداد الأزرق ويكتب، ويتلو الأولاد والبنات الآيات بصوت واحد، ومِقْرعة — أو زُخْمة — سيدنا لا تفرِّق بين قَدم ولد وقدم بنت (حكايات حارتنا، ١٥)، ويحفظ الأولاد والبنات القرآنَ فُرادى، ويصمُّون ويسمِّعون، ويخطئون أحيانًا، وتنهال عليهم زُخْمة سيدنا (أنشودة الأيام الآتية، ٦٦). وعند حلول موعد الغداء يتربع الجميع، يستقبل كل واحد بوجهه، فيفك الصرة، ويفرش المنديل بما يحويه من خبز وجبن وحلاوة طحينية (حكايات حارتنا، ١٥). وسيدنا لا يقتصر دوره على كُتاب القرية، فهو إلى جانب تحفيظ القرآن للصغار، يتردد على الأفراح، يرتجل الزَّجل الذي يهنِّئ به العروسين وآلَهُما، ويتردد على المآتم، يرتجل الزجل الحزين المؤثر (الطوق والإسورة). أما العرِّيف فإن مهمته هي أن يفتح الكُتاب قبل أن تطلع الشمس، ويتولى تنظيفه قبل أن يأتي الأولاد والبنات، ويغلقه عقب صلاة العصر، بالإضافة — طبعًا — إلى تعليم الأطفال القراءة والكتابة، وملاحظتهم، ومنعهم من العبث، ويتقاضى مقابلًا لذلك ربع ما يدرُّه الكُتاب (الأيام، ١ / ٤٩). وحتى لا ينزل الأولاد في الترعة، ويهملون موعد الكُتاب، فإن سيدنا يرسم بالحبر نجمةً على ظهورهم، فإذا نزلوا الترعة محَتْها المياه، ليواجهوا العقاب (أغنية للنهر). وقد يختم سيدنا أفخاذ الأولاد والبنات بقطعة من الخشب مغموسة في مادة حمراء، فإذا مُحيَ الختم عرف سيدنا أن الولد — أو البنت — قد نزل الترعة فيعاقبه؛ تحقيقًا لرغبة الأسر التي تخشى على أبنائها من ماء الترعة (صالح). وكان للأولاد والبنات الأقباط كتَّابهم الذي يتعلمون فيه مبادئ الدين المسيحي؛ فضلًا عن القراءة والكتابة (صفاء). وربما كان الكتَّاب مجرد جلسة تحت شجرة جميز، أو شجرة توت عتيقة. يسند سيدنا ظهره إلى جذع الشجرة، ويمد رجليه على فروة خروف نظيفة، وأمامه دوامات الحبر وأقلام البوص المبرية (أغنية للنهر).
والكتَّاب في النوبة يختلف في طبيعته تمامًا، فهو لا يعدو «مندرة» طويلة، وطاقات أربع تتسرب منها أشعة الشمس، مسقوفة بجذوع النخيل والجريد، فُرشت أرضها بالرمل الأصفر الناعم، في مقدمتها مصطبة عالية، عليها حصير من الخوص الملوَّن، فوقها وسادة يتكئ عليها الشيخ، والأولاد والبنات يُعيدون على مسامعه ما حفِظوا؛ وهم جلوس على الأرض (الشمندورة، ١٩). تنتهي حياة الطفل الدراسية — غالبًا — بختم القرآن، ليعمل الطفل بعد ذلك مع أبيه في الغيط (الشمندورة، ١٧). أما الأطفال الذين ينتمون إلى أسر ميسورة الحال، فإنهم يختمون القرآن لتقلع الباخرة بهم إلى الأزهر الشريف (المصدر السابق، ٢٠). ومن حفِظ القرآن، فهو شيخ مهما تكن سِنُّه (الأيام، ١ / ٣٧). والعادة أن افتتاح المدرسة الحكومية في القرية يستتبعه إغلاق الكتَّاب (نظرية الجلدة الفاسدة).
كان الكتَّاب في الشارع الجديد إسطبلًا للخيل، يحول — في بعض ساعات النهار — إلى كتَّاب يحفِّظ فيه الشيخ للأولاد آيات القرآن الكريم، ويبيع لهم الحلوى مقابلًا للفرار من غضْبة عصاه! (الشارع الجديد، الرواية).
وقد ساعد على نشاط الكتَّاب — في أيامه الأخيرة — عاملان:
-
أنه لم يعُدْ قاصرًا على تحفيظ القرآن، بل زاد على ذلك تعليم القراءة والكتابة والحساب والمعلومات العامة.
-
قلة عدد الأطفال الذين يشاركون في الأعمال الزراعية؛ إما لضآلة مساحة الأرض الزراعية بالنسبة للعائلة الواحدة، أو لكفاية الأفراد البالغين لهذه الأعمال دون حاجة إلى مساعدة الأطفال. واستغلت الأُسر هذا الفراغ في إرسال أبنائها إلى الكتَّاب (القرية المتغيرة، ٨٣-٨٤).
وثمة لائحة للضرب في دفتر لوائح الكتاتيب السلطانية؛ منها: «على الفقيه ألا يضرب صبيًّا بعصًا غليظة تكسر العظم، ولا رقيقةٍ تؤلم الجسد، بل تكون وسطًا، ويعتمد في ضربه على اللوايا والأفخاذ وأسفل الرِّجلين؛ لأن هذه المواضع لا يُخشى منها مرضٌ ولا غائلة» (السائرون نيامًا، ٢٢).
وكان فوزي عبد المجيد يذهب في طفولته إلى الكتَّاب المجاور للبيت، ويحمل لسيدنا الفقي قرشًا كلَّ خميس، والويل له إذا تأخر عن تسديد هذا القرش! ثم حلت روضة الأطفال بدلًا من الكُتاب الذي لم يكن أكثر من فناء كبير يوشك أن يكون خرابة، لولا هذا الباب الذي يغلق عليه في الليل. (واحترقت القاهرة، ١٠-١١).
وبعد إنشاء المدارس الإلزامية قُضي على الكتَّاب نهائيًّا، وبالذات بعد أن أصبح التعليم الإلزامي نهائيًّا.
كرار
يصف الفنان الكرار بأنه حجرة صغيرة، تُدَّخر فيها ألوان الطعام، ويُربى الحمام (الأيام، ١ / ٥٩)؛ فضلًا عن أنها مخصصة للأشياء القديمة. وقد يسمى مؤنثًا باسم «السندرة»، وعندما تكون السندرة بين طابقين فإنها تسمى «المسروقة» (تباريح الوقائع والجنون، ١١٨). لها نافذة مغلقة دائمًا، تطل على مسقط خلفي للبيت (حرصًا على راحة النزلاء)، فهي مظلمة في الليل والنهار، ولا أحد من الرجال يدخلها، فدخولها مقتصر على نساء الدار (أيام الإنسان السبعة، ٥٤)، والنسوة لا يدخلْنها إلا ليأخذن شيئًا أو يتركْنه (حرصًا على راحة النزلاء). هذه الحجرة الصغيرة تنعزل غالبًا عن بقية حجرات البيت، ويُحفظ فيها التموين (قلب الليل، ٢٢) وخزين المعاش وسقْط المتاع (قدر الغرف المقبضة، ٣٠) مثل السمن والسكر والزيت والعسل؛ إلخ (قلب الليل، ٢٢)، وقد توضع أحبال تعلَّق عليها حِزَم الثوم والبصل، وتُدق في الحائط أوتاد تعلق فيها الزنابيل، وتمتلئ الأرضية بالأجولة والجِرار والآنية (أيام الإنسان السبعة، ٥٤). والكرار هو أول ما يبشر باقتراب شهر رمضان، حين تُرص بجنباته أجولةُ الياميش (المهد)، ويمتلئ بالنقل، وبالكعك في عيد الفطر، ويوضع فيه خروف عيد الأضحى (أسعد الله مساءك). وقد تكون الغرفة «المسروقة» — تقع بين طوابق البيت — هي البديل للكرار، توضع فيها الأشياء القديمة، والصعود إليها بسلَّم خشبي (البيت الصامت، ٢٨). وفي القرى، تُبنى غرفة الكرار تحت السلم، توضع فيها «كراكيب» البيوت، وإن استُغلت أحيانًا في لقاءات العشق، بعيدًا عن أعين الرقباء (قصاصات رومانتيكية أيضًا). وثمة اعتقاد أن العفاريت تختار حجرة الكرار للإقامة فيها (قلب الليل، ٢٢)، ربما لأن تردد أهل البيت عليها يقل كثيرًا عن ترددهم على بقية الحجرات. وحتى لا يدخل الأولاد حجرة الكرار لسرقة أقراص «الفايش»، فقد حذرتهم الأم بأن ظلمة الحجرة تُخفي عفريتًا له قدم مسلوخة، ويبخُّ النار من فمه في وجوه العيال (هجرة الضحاك). وتعد «الخزنة» في القرية — على نحو ما — مرادفة للكرار (أوراق العمر، ٧٥). موقعها فوق السطح، ويخزَّن فيها الطعام (الغد الباسم). وفي بعض البيوت الريفية توجد حجرة «التبن» التي يخزن فيها عليق الخيل وفرشها (يوميات نائب في الأرياف، ٧٣).
كشك
تعد أكشاك بيع الصحف لازمة في معظم المدن المصرية (رزق أبو العلا، جريدة الصباح). أما أكشاك السجاير فهي ملمح في نواصي الميادين والشوارع (آخر الليل). وقد خصص بكر الكشك الذي يملكه لشراء مخلفات الجيش وبيعها (أشياء قديمة). أما الولد سيد صبي الميكانيكي، فقد أصبح صاحب كشك للسجاير المستوردة والحلويات ولعب الأطفال والحبوب المخدرة والأعراض (الممر الضيق). ويلجأ الكثيرون إلى كشك السجاير لاستخدام التليفون (سوق الجواري، ١٨٦). وأكشاك المرور جزء من حركة الطريق بين المدن المختلفة، يجلس — أو يقف — أمامها شرطي لمراقبة السيارات (النهر).
وقد يصبح الكشك جزءًا من بيت أو حديقة عامة، فحارس المبنى الضخم، مثلًا، يجلس داخل كشك في داخل المبنى (المتحف). كما تقام الأكواخ بالقرب من الأماكن الأثرية لحراستها (متون الأهرام). وكان كشك الموسيقى يتوسط حديقة الأزبكية، وتعزف فيه موسيقات الشرطة ألحانها صباحَ كلِّ أحد (كشك الموسيقى) وأيام العطلات (خرائط للموج، ١٩). وقد أصبح ذلك الكشك ملتقى الاجتماعات التي كانت تنظمها الهيئات والفئات، لتأخذ الثورة بُعدها الاجتماعي، إلى جانب البعد السياسي: عمال شركة الترام، عمال شركة المياه، عمال شركة التليفونات، عمال الكنس والرش، عمال شركة الغاز والكهرباء، جرسونات قهاوي عماد الدين، عاملات ورش الخياطة، عمال الوفورات العاطلون، عمال شركات السجائر، مستخدمو الحكومة، أرباب المعاشات، سكان العطوف والحواري والأزقة … عشرات الاجتماعات المنظمة التي ناقشت مشكلات ومطالب عامة؛ بدءًا بتحسين أوضاع العاملين، وانتهاءً بالشكوى من رائحة البهائم في الإسطبلات الملكية (سندباد في رحلة الحياة، ٢٧). ويقول حمدي: «كل ما أذكره عن كشك الموسيقى أنني قرأت في الصحف يومًا دعوةً لاجتماع الراسبين في البكالوريا عند الكشك — وكنت من الراسبين — فذهبت إليه لأجتمع برفقائي الخائبين» (كشك الموسيقى). ويقول: «كشك الموسيقى في حديقة الأزبكية: هل مررت به بعد أن شق الطريق الجديد للحديقة؟ هل رأيته وقد أُلقي ذليلًا؟ ألا تربطك به ذكريات حبيبة؟» (المصدر السابق). وكان من معالم مدينة المنصورة كشك للموسيقى في منتزه الكناني، حيث تعزف فرقة موسيقى المطافي ألحانًا جميلة، عصرَ كل جمعة، وكل أحد (مجرد ذكريات، ١ / ١٧). ويُستخدم الكشك لإقامة أحد العاملين في الفيلا (الساعة تدق العاشرة، ٣٢). وبعد أن أُنشئ كورنيش الإسكندرية، حلَّت أكشاك الاستحمام النظيفة ذات النظام الدقيق، بدلًا من الأكشاك التي كان يقيمها الأهالي، كلٌّ حسب هواه وثرائه (الأكشاك الخشبية).
كنيسة
لها بوابة عالية مُقفلة، وقبة ضخمة مضاءة بمصابيح مختفية في مكانٍ ما، وثمة درجات رخامية عريضة تصعد نحو بوابة الكنيسة (رائحة البرتقال، ٢١). عندما يحين وقت الصلاة — المثل كنيسة مارجرجس — تقف النساء، أو يجلسن، في صحن الكنيسة، يغطين رءوسهن، يحاولن إسكات الأطفال، والرجال يقفون أو يجلسون على الدكك الخشبية اللامعة، يشاركون في الصلاة بالقبطية والعربية. وثمة صور للمسيح وتلاميذه القديسين، تحتها نور الشموع، وأمام حجاب الهيكل صورة هائلة لمارجرجس يطعن الحية العظيمة (أشواق المرايا). بالإضافة إلى الأيقونات المكسوة بالفضة، والقناديل المذهبة المدلَّاة من السقف، والشمعدانات النحاسية، والنجف البلوري، والأعمدة المرمرية الضخمة، والستر المخملي المُسدل على باب الهيكل، والمزامير والصلوات وأناشيد المرتلين (الأب سمعان). ويرتدي القس الملابس الكهنوتية: عباءة فضفاضة موشَّاة بخيوط الحرير، ومطرزة بالذهب، ومزركشة بالرموز والرسوم، وضع على كتفه شريطًا عريضًا من الأطلس المُحلَّى بالقصب، يتدلى على ظهره، كما يتدلى على عنقه شرائطُ أخرى كبيرة مطرزة، ترمز إلى معانٍ كهنوتية قديمة، يعود بعضها إلى هارون أخي موسى الكليم، وبعضها إلى طقوس البيزنطيين وكهنة قدماء المصريين (الأب سمعان). ونظرة الأوروبي إلى الكنيسة تختلف عن نظرة الرجل الشرقي إلى المسجد. وكان أندريه يسخر من نظرة محسن الملتفة بالروحانيات إلى المسجد، فالكنيسة في رأيه محل عام، وكان يؤكد أنه وسواه يدخلونها كما يدخلون القهوة (عصفور من الشرق، ٢١). ورنين جرس الكنيسة يعلو كلَّ يوم عند الشروق، ووقت الغروب، وفي مواسم الأعياد، وأسبوع الآلام، وفي وقت الموت (تمزق الكفن). ويصف الفنان مولد مارجرجس: حوش الكنيسة المزدحم بأكوام القائمين والجالسين على الأرض، يفترشون الحصير والأحرمة الصوف القديمة والأبسطة القماش المتربة، والنساء بقمصان النوم، والرجال بالجلابيب، أو بالفانلة والبنطلون (أشواق المرايا). ومن مظاهر الاحتفالات بالكنيسة حفلات التعميد: صريخ الأطفال، وترانيم الشمامسة، وموسيقى الصنوج، وضرب النواقيس، والتراتيل القبطية والعربية، وتهليل الناس، وتبريك القسيس وهو يغطِّس المعمَّدين في الماء المقدس، واحدًا بعد واحد بالترتيب (الثعبان والنهد الخئون). وفي حالات الوفاة، يُقرع جرس الكنيسة، لكنه يكون بطيئًا متباعدًا. ثلاث دقات ببطء. فترة صمت، تعقبها ثلاث دقات، وهكذا (المصدر السابق). يوضع التابوت أمام الهيكل. يوقد شمعدانان، ويوضعان فوق التابوت، وتتصاعد رائحة عطر نفاذ (المصدر السابق).
كوخ
ثمة كوخ من الطين يقيمه الفلاحون على رءوس الغيطان (بئر الأحباش)؛ لحراستها من سطو اللصوص (سفينة النجاة). وثمة أكواخ من القش والصاج يقيمها الصيادون على شاطئ البحر (البحر). وثمة عِزَب معظم بناياتها أكواخ من الصفيح والخشب المحروق (اختراق ودموع). وقد يبني أحدهم كوخًا صغيرًا، يُعرِّشه بسعف النخيل، ويتخذه دكانًا لبيع السلع المختلفة مما يحتاجه أهل القرى. وكان كوخ طاهر رشوان من البوص والطين، جعله ملاصقًا لترعة الإبراهيمية. وكان العابرون يستريحون عنده، فيجدون قُلة الماء وكوب الشاي (ليلة في العربة). والأمثلة تتحدث كثيرًا عن الفارق بين قصر الأمير وكوخ الفقير (الدنيا). ويعبِّر المرء عن قناعته بإعلان القَبول بالحياة في كوخ (خطيئة في الماضي).
وقد تحققت الصلة بين الكوخ والصحراء، حين سكن الرجل كوخًا في نهاية طريق الهرم، أعوامَ الثلاثينيات، على حافة الصحراء، ويطل على طريق الفيوم (أرواح بين السحب).
ماكينة الطحين
ثمة الماكينة والقادوس والعجلة الكبيرة بسيرها العريض والمقاطف، والدقيق الأبيض الهابط من الفتحة مطحونًا برائحته الحلوة، والأكفُّ تضغطه داخل المقاطف (دوائر عدم الإمكان، ٤٥). يوضع الأرز الشعير في القادوس، ينزل أرزًا أبيض في الجوال الفارغ من أسفل فتحة القادوس (الذي لن يعود). ومعظم زبائن الطاحونة من النساء؛ لأنه من الصعب على الرجل أن يحمل المقطف ويذهب إلى وابور الطحين (الطاحونة). الطحان يأخذ أَجْره من النسوة اللائي جئن بالطحين، ورُحْن يضربن فوق الفوَّهة التي ينزل منها الدقيق، ليظل على تدفقه، وحتى لا يبقى منه شيء في القادوس، أو بين حجرَي الطاحونة (حلقة ذكر). وبين ضجيج الآلات وزعيق النساء، يجلس الكاتب على مكتب قديم وراء حاجز خشبي، يقيد الإيراد في دفتر صغير يعلوه التراب والدقيق، والدقيق يعلو جلبابَه ووجهه (الطاحونة). فإذا انتفت الشروط الصحية، فإن طبيب الصحة يأمر بإغلاق وابور الطحين، وإعادة بنائه من جديد على أسس صحية (قرية أم محمد). وكان أبناء القرى يطحنون الأذرة في الطاحونة معظم الأيام، فلا يظهر القمح في القادوس إلا في الأعياد (الطاحونة). وأحيانًا تصبح ماكينة الطحين مكانًا لتبادل كلمات الغزل بين شبان القرية وفتياتها (أكبر الكبائر). وقد ترتبط ماكينة الطحين بالخرافة، فالأم تحذر ابنها من الذهاب إلى ماكينة الطحين بالقرية. يسأل الطفل: لماذا؟ تجيب الأم: اشتروا قادوسًا جديدًا للماكينة، لا يشتغل إلا إذا مسحوه بدمِ ولد، يذبحونه ويشرب القادوس دمه (عزف منفرد). وطالما روى تعلب حكايات صراعه مع مارد الطاحونة عندما كان يقْدم على المشي وحده، تحت ليل بلا نجوم (شيء كان ممنوعًا، ٥).
مجيرة
حوش مسوَّر، مليء بكومات من الجير والرمل وأكياس كبيرة من الأسمنت. ويجلس صاحب المجيرة، أو المسئول عنها، في حجرة ضيقة داخلها (شتاء جريح، ١٥٥). وقد يلوذ بعض عابري السبيل بالمجيرة لقضاء الليل (علي تمراز، ٢٤٨)، وأحيانًا يلوذ طلاب اللقاءات الحسية بظلمة المجيرة، وخلوِّها من الناس (المصدر السابق، ٢٥٠).
محطة الترام، المترو، الأوتوبيس
في أول أغسطس سنة ١٨٩٦م أُجري حفل تجريبي لتسيير أول ترام. ركب حسين باشا فخري ناظر الأشغال، ومعه عدد من كبار موظفي النِّظارة، قطارًا اخترق بولاق إلى العتبة، ثم إلى القلعة. ووقف الناس على جانبَي الطريق، يهتفون لرؤية أول عربة ترام: العفريت … العفريت! (ترام القاهرة، ١٤).
والموقع الذي تحتله محطة ترام الرمل، أُقيم في الموضع نفسه الذي كان فيه معبد قيصر (العصر الذهبي للإسكندرية، ٣٣٩).
وقد تجاوز محطة الترام صفتها الظاهرة … وعلى سبيل المثال، فإن أول محطة ترام في شبرا البلد [عام ١٩٥٢م] لم تكن مجرد بداية خط فقط، لكنها كانت مركز تفاعل مستمرًّا بين القاهرة وضواحيها، وبين المدينة والمصانع الكثيرة المتناثرة حولها، بالإضافة إلى العمَّال القادمين من القاهرة والذاهبين إليها (قصة حب).
وأحيانًا، تعبِّر «المحطة» عن البيئة التي ينتمي إليها سكان المنطقة التي تتجه إليها وسيلة المواصلات. يصف الراوي ركاب محطة المترو الرئيسة في شارع الجلاء بأنهم «كانوا شيئًا غريبًا بالنسبة لي، فوقفت أتفرج عليهم، كأنهم سكان أرض جديدة نظيفة، كلهم أصحاء، كلهم مبتسمون، كلهم نظيفو الملابس، حتى نساؤهم كأنهم نوع خاص وفريد ومختلف عن كل النساء» (حكايات صبري موسى، ٢٣٢). وربما وقف المرء على المحطة لمراقبة الذي سيخرج من باب البيت (الطريق، ٣٩). والعلاقة بين النافذة ومحطة الترام مِثلُها بين النافذة وكل الأماكن التي تطل عليها، قد يتطلع الواقف «تحت» إلى الواقف «فوق»، والعكس — بالطبع — صحيح. وقد اشترى الأستاذ حليم [ثلاثة رجال وامرأة] مجهرًا قوي العدسات، ينظر به من الفرجة بين ضلفتَي النافذة إلى محطتَي الترام والأوتوبيس أمام البيت: فتيات ونسوة ينتظرن ليركبن ويتلفتن ويمشين خطوات من القلق أو الملل. تبدو الصدور والظهور والجنوب والسيقان، فإذا جاء الليل خلا إلى نفسه، وتمثل كل ما رآه في نهاره (ثلاثة رجال وامرأة، ١٩-٢٠). وكان أولُ رؤيةِ كامل رؤبة لاظ لرباب؛ عندما كان واقفًا على محطة الترام؛ وهي تُطل من النافذة، ثم تكررت رؤيته لها، ليحاول، مِن بعد، أن يخطب ودَّها، ثم أن يخطبها (السراب، ٨٣).
ومحطة الأوتوبيس النهائية، بها الكشك الخشبي لناظر المحطة، تحيطه رائحة عادم السيارات وبول السائقين والمحصلين (العاشقون). ويصف الفنان الذين ينتظرون الأوتوبيس بأنهم يقفون على الرصيف في تهالك، يتساندون على الهواء، ويطل من عيونهم مَواتٌ وسأم، وانتظار ميت الأعصاب (قرافة السيارات)، «يرقُّ لهم قلبُك حين تراهم في وهج الشمس» (إلا القراءة)، يترصدون الترام أو الأوتوبيس بقفزات قصيرة سريعة، يمينًا ويسارًا، أمامًا وخلفًا (المصدر السابق).
وفي الصباح، تزدحم محطة الأوتوبيس، أو الترام، بالمئات: عمال وطلبة وموظفين، بنات ورجال وأطفال، تقف عربات الأوتوبيس، فيحاولون بالقوة أن يصعدوا إليها، «لا يفلح منهم إلا من كان قويًّا» (الإله)، «الكل يعرف أن وصول الأوتوبيس هو بدْء معركة بلا رحمة، ويرتضي هذه المعرفة» (الموجة الجديدة).
وتغصُّ محطات أوتوبيسات الأقاليم في وقفتَي العيد، بالموظفين والعمال والطلبة الغرباء عن مدينة القاهرة، في طريقهم لقضاء أيام العيد مع ذويهم في مدن الأقاليم وقراها، مع كلٍّ منهم حقيبة أو سلال، تحتوي — غالبًا — على هدية العيد لأهله، وربما أيضًا على ثيابه المتسخة إذا كان طالبًا (حق). وأرض محطة أوتوبيس الأقاليم قذرة، وصناديق زجاجات المشروبات مرصوصة، عالية، ورائحة الأطعمة نافذة، رديئة، والبقايا تحت الأقدام، وصبية صغار يغسلون الأطباق البلاستيك والصاج في جرادل من الماء القذر (زهر الليمون، ٣٢).
وبالإضافة إلى أن المحطة هي المكان الذي ننتظر فيه قدوم الأوتوبيس، الترام، المترو، فإنها مكان مناسب لتحديد المواعيد عليها (وحي رخيص)، وهي كذلك المكان الذي ننتظر فيه أحباءنا، حتى من نشعر نحوهم بالحب، وإن لم يبادلونا الشعور نفسه (تقابلا في روما). وقد تبدأ العلاقة العاطفية برؤية الشاب لفتاته — للمرة الأولى — في محطة الترام (وجه في المترو). وكان عبد العزيز يختار موقعًا في محطات الترام، أو الأوتوبيس، يستطيع من خلاله رصد الفتيات والنساء الواقفات على المحطة، والتعرف إلى ما تتمتع به كلُّ واحدة من ميزات جمالية (العاشق المتنقل). والمحطة مكان مناسب للِّقاء الأول، أو لتعدد اللقاءات، ذلك ما حدث بين صلاح وبديعة (همزات الشياطين). وكان أول لقاءات الشاب الشاعر وفتاته في محطة الأوتوبيس، يستقلَّان أوتوبيسًا واحدًا من المكان الذي يعمل فيه كلٌّ منهما إلى حيث يسكن (الشاعر والبنت الحلوة). ومنذ استلْفتَ الشابَّ جمالُ فتاته، في محطة الأوتوبيس، شغَله التفكير في طريقة يتعرف بها إليها (البحث عن النسيان، ٩١). وقد عاب بعضُ الأقلام على محطات الترام تحولَها إلى أماكن للِقاءات المحبين، ومغازلة النساء، والتحرش بهن، ومطاردتهن (المؤيد، ٣ / ١٠ / ١٩٠٠م). وكانت محطة الترام هي بداية العلاقة بين فؤاد وإحسان. قهره خجله، فلم يحاول محادثتها، حتى أُتيح له التعرف إليها في مناسبة أخرى (ليلة النهر، الرواية). أما عبد الستار أفندي، فقد كانت محطة الترام المتجهة إلى العتبة هي بداية انطلاقه وراء محبوبته بدرية، ركبت العربة الأولى، فقفز إلى العربة الأخيرة، وظل يتعقبها بعد نزولها في ميدان العتبة، حتى أُتيح له محادثتها (أبو إصبع). ذلك ما حدث — بالتحديد — بين رباب وكامل رؤبة لاظ، فقد كانت محطة الترام هي البداية التي انطلقت منها العلاقة العاطفية بين الشاب والفتاة (السراب، الرواية). ويصور الفنان نشوء العلاقة وتطورها بين شاب وفتاة، من خلال تراكم العبارات: صباح الخير … نحن جيران، هه؟ … أهلًا وسهلًا … نمشي للمحطة التالية سيكون الأوتوبيس أهدأ … ممكن نتقابل بعد الظهر؟ … سينما ريفولي فيها فيلم رائع … أحبك … وأنا أيضًا أفكر فيك طول الوقت … متى ستتزوجني؟ … ليس الآن، عندي ظروف … لماذا لم تجئ بالأمس؟ … مشاغل … تهرب مني؟ … أبدًا والله … لو تركتني أموت … متى ستتزوجني؟ … (الأب). وكان مجدي عندما يريد أن يلتقي بكريستينا، يقف تحت شرفتها، ويشير لها، فيلتقيان عند محطة الأوتوبيس القريبة (شبرا، ٢١). وقد تصبح المحطة شخصية رئيسة: الراوي يتحدث عن الوجوه التي ألِفها في محطة الأوتوبيس، يتبادل معها التحية أو السؤال عن الوقت، أو السخط على المواصلات، ثم تبدأ هذه الوجوه في التراجع، ليحل بدلًا منها وجهان لشاب وفتاة لا يعرف لهما اسمًا. كانا طالبين، يركبان من ميدان المحطة، وينزلان في محطة الجامعة. كيف نمت قصة الحب بينهما وتداخلت أحداثها، حتى انتهى كل شيء إلى قطيعة، وأصبحت الفتاة تركب الأوتوبيس بمفردها؟! (الناس والحب).
محطة السكة الحديد
محطة السكة الحديد مكان للِّقاء والاستقبال والوداع والذكريات المبهجة والحزينة، تجمُّع للبشر من المدن والقرى (المحطة). هناك دائمًا من يدخل ومن يخرج، ملتقًى دائم للغادين والرائحين (مسافر بحقيبة يد). وثمة الصخب، وقلق الانتظار، وشغل السفر، واستعداداته، وتمهيداته (عودة الروح ٢ / ١١)، والأصوات تختلط، تتحول إلى أصداء (الظل). واسم كل بلدة على لافتة تعلو رصيف المحطة (صفصافة والجنرال). ويقف المنتظرون على رصيف القطار، يوزعون نظراتهم بين نوافذ القطار القادم، ينشدون الوجوه المألوفة، ثم يتدفق الركَّاب، ويتعالى صخب السلامات والتحيات والعناق والقبلات (منتظرات). والعربات الحديدية يدفعها الشيالون أمامهم، محمَّلة بالحقائب (قبض الجمر، ١٠١). وهناك من يُفضل الجلوس على كنبة المحطة، فلا أحد يطرد الجالس أو يطلب منه الثمن (اليد الكبيرة). وثمة محطة ليس بها رصيف، لا يقف عليها في النهار أو الليل إلا قطار واحد في الذهاب، وآخرُ في العودة، يسمى «المتطلع»، ويسميه الناس — من باب التندر — «المستعجل» (صح النوم، ١١).
وربما سمى الناس البندر بالمحطة، حيث توجد محطة السكة الحديد (الغريب). يأتي القطار متمهلًا، يذيع ضجيجه فيهتز له المكان، وتطل الرءوس المتطلعة من نوافذ عرباته، ويبدأ تدافُع الركاب في النزول (خان الخليلي، ١١٨). يتزاحمون في انفعال الوصول (محطة السكة الحديد). كما يتدافع المنتظرون إلى النوافذ، يتلقَّون أهلهم وأصدقاءهم (منتظرات). وفي وداع المسافرين، فإن كلمة «مع السلامة» تأتي من كل اتجاه (الجزاء الصالح). وبمجرد خروج المسافر من نطاق المحطة، يستقبله أكثر من شيَّال ليحمل عنه حقيبته، أو حقائبه (النافذة). والفارق — بالطبع — هائل بين عربات الدرجة الثالثة والعربات المكيفة في القطار، بين الحقائب الجلدية الفاخرة، والسلال والأقفاص، الكراسي الوثيرة والمقاعد الخشبية التي طال اتساخها، بائع المأكولات بجلبابه الذي رفعه فوق كتفه، والجرسون الأنيق الذي يرتدي الجاكت الأبيض والبنطلون الأسود (الجبل، ١٤). في عربات الدرجة الثالثة، ذات الأبواب المنزوعة والنوافذ المهشمة (يناير، ٦٢) يزدحم الممشى بنداءات الباعة وصراخ الركاب الصاعدين والباحثين عن أماكن لجلوسهم دون جدوى (صورة من الذاكرة)، فقد احتل الركاب المقاعد والأرفف والأرضية والممرات والمداخل، حتى دورات المياه امتلأت بالقاذورات، وخلَت من الماء (محطة مصر، ١١). والزحام التقليدي الذي يعانيه ركاب الدرجة الثالثة؛ يحقق — في المقابل — حميميةً ودفئًا يفتقدهما ركاب الدرجتين الأولى والثانية (المليونير). وثمة القطار الحربي ذو المقاعد الخشبية المحطمة والمصابيح المطفأة، يمتلئ بالجنود في أفرولاتهم الكاكية، ويحملون المِخلات والحقائب والسلال (ظل الحجرة، ٨٧).
وفي الأيام التي تسبق الأعياد، والتي تتلوها، وفي صبيحة أيام العيد، تكون القطارات الذاهبة إلى المدينة والراجعة منها؛ مزدحمة بالناس أكثرَ من المألوف (الأم الثانية).
•••
في صباح ١٤ مايو ١٨٩٢م احتُفل بوضع حجر الأساس في بناء محطة القاهرة. وكان إنشاء المحطة عاملًا حاسمًا في ازدهار الحياة التجارية والاجتماعية في المنطقة المحيطة بها؛ فقد سكن غالبية عمال السكة الحديد بالقرب من المحطة، في الفجالة وشبرا والسبتية والقللي، وأُنشئ العديد من الفنادق والمطاعم والقهاوي والحانات. ولعل أشهر تلك المعالم كازينو البوسفور الذي كان يطل على ميدان المحطة، ورثاه بعد إزالته أستاذُنا يحيى حقي في لوحة أدبية رائعة (تشييع جنازة كازينو).
محطة السكة الحديد في القاهرة لها سور من الحديد، وأبواب من الحديد؛ لذلك سميت باب الحديد (الأفق البعيد، ٤٦). ورصيف المحطة يشغي بضجيج ماكينات القطارات، ونداءات الشيالين، ونظرات المخبرين المتوجسة، وعمال السكة الحديد بملابسهم الزرقاء ينتظرون موعد انطلاق القطار، وحركة الركاب النازلين من القطارات والمندفعين إليها، ومجموعات الرحلات والمجندين (اغتيال مدينة صامتة، ١١٠)، وتقافز الباعة بصناديق بضاعتهم بين مقاعد الركاب (الأخت لأب، ٣)، زحام وباعة صحف وجنسيات عديدة من الناس، وهرولة في كل اتجاه، ومكبر صوت يدوِّي معلنًا وصول قطارات ورحيل قطارات (حكاية ريم الجميلة، ١٢). الناس يتدافعون ويتزاحمون في انفعال الوصول، وبناء المحطة العالي يتجاوب بطنين الكلام والضحكات وصفير القطار وقلقلة العجلات وصيحات الشيالين (محطة السكة الحديد). والمألوف أن ينزل القادم من القطار يصافح مستقبليه، ثم يدعو شيالًا ليحمل حقائبه، وعند باب المحطة يدعو عربة نقل، أو عربة ركوب إذا كانت الحقائب قليلة، فيجلس فيها، ويعطي السائق العنوان (الأيام، ٢ / ١٢٨). وثمة رصيف الشرق، يبعد عن المحطة ذات المظلة المسقوفة بالزجاج، مظلات من المسلح، وتنتشر بين أعمدته كراسيُّ من الرخام الرخيص، خُصص للقطارات المتجهة إلى مدن الأقاليم، مثل بنها وطنطا ودمنهور (عاشق الحي، ٥٣).
وقد سمى أبناء الإسكندرية محطة السكة الحديد بالمدينة محطة مصر؛ لأنها المحطة الذاهبة إلى مصر، أو لأنهم — على حد تعبير الفنان — لا يتصورون أنه توجد بلاد أخرى خارج الإسكندرية غير القاهرة، التي هي مصر (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٢٦٥). وهي ذات نوافذ حديدية، وأبواب حديدية، وجدران جامدة إنجليزية الطراز (بيت الياسمين، ٤٨). ثمة المهرولون بسبب وبلا سبب، والزاعقون، والصارخون بسبب الزحام، وأصوات الأطفال، وباعة السميط والجبن والفول السوداني والبرتقال، وبقايا الأطعمة في الأركان، وبين البلاط وفوقه (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٢٠٨، الغائب). وبعد أن تغادر مبنى محطة الإسكندرية في أشهر الصيف، يستقبلك على الباب الخارجي جماعاتٌ من الحمالين وسماسرة الشقق المفروشة والفنادق (نساء في الطريق). وتتميز محطة طنطا بباعة الحمص والحلوى، يقفون على الرصيف، ويتجولون ببضاعتهم في عربات القطار (الياسمين). ومحطة السكة الحديد في المدينة الإقليمية لا تعدو — في الأغلب — رصيفًا حجريًّا، عريض الأحجار، واللافتة التي تعلن اسم البلدة بيضاء، حائلة، عليها خطوط سوداء شاحبة، ومرفوعة على حاملين من الحديد الصدئ، والقضبان الأربعة بين الرصيفين سوداءُ لامعة الأسطح، والمازوت تخثَّر وتجلَّط، فوق العوارض الخشبية والزلط (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٢٣). أما المحطة التي تقع في قرية، فهي صغيرة، تنام بعيدًا عن القرية وسط الغيطان. أرصفتها قصيرة، غير مسوَّرة، تلاصقها عيدان الذرة، تسير بجانبها قطعان الجاموس والبقر. يدق الناظر الجرس — حين يهم القطار بالقيام — فيبدو خافت الصوت، كصوت صغار الديكة (الدرس الأول). وقد تتألف المحطة من كشك خشبي كبير أصفر، بداخله مكتب وحيد للبريد وللبرق ولتذاكر السفر، في النهار يكون الضوء بداخله معتِمًا، لا يحد من ظلمته سوى الضوء الوالج من الباب المفتوح دائمًا، ومن نافذة التذاكر حين تُفتح، وفي الليل يصبح الضوء أكثر كآبةً وظُلمةً حول المصباح الغازي الضعيف، على نافذة التذاكر لافتة من حديد، مَطليَّة بزيت أبيض تشقق لتقادُمه، كُتب فوقها بخط فارسي تآكلت حروفه: تذاكر، وإلى جوار الكشك الخشبي سقيفة مظلة، تمتد من سقف الكشك الخشبي، تحملها أعمدة خشبية مربعة اللون، فيما مضى كانت تقع تحتها مقاعد خضراء، مزدوجة شرقًا وغربًا، لكن المطر والرياح أتلفاها، وأبلى الزمن شرائحها الخشبية، فاستباحها الأولاد، وامتدت إليها الأيدي العابثة القلقة، فاختفت المقاعد بقوائمها الحديدية وما بقي من عوارضها (الغزوة الواحدة بعد الألف). ويصف الفنان محطة سكة حديد «كفور حسانين» بأنها مظلة من خشب، تحترق بالشمس وطول القِدم، كالحة، مشغولة بأهرامات من خشب بناها الإنجليز، على أرضها مقاعدُ متآكلة ظهرت ضلوعها الحديد، ولافتة عليها اسم البلد بخط اليد (مأوًى للطين). وثمة محطات أكثر تواضعًا: شباك التذاكر، ومظلة للانتظار، ودكة خشبية خضراء، وبلاط ملون قديم (أطفال بلا دموع، ٧). وهناك محطة لا تعدو رصيفًا مرشوقًا فيه عمود يحمل لافتة عليها اسم القرية، يقف الرجال المسافرون، والنساء يَنزوينَ بجوار السلال والصُّرر (أيام الإنسان السبعة، ١٠٦). وقد لا يزيد رصيف المحطة عن متر ونصف، أمام كشك من الخشب، صغير، قذر، معلق على بابه: «اشربوا شاي ليبتُن» (محمد بك يزور عزبته). وربما بدت المحطة بلا رصيف، ليس حولها أبنية سوى كشك خشبي مَطليٍّ باللون الأخضر، هو مكتب ناظر المحطة (الأسطورة). وثمة محطة نكرة بين بقية المحطات، حتى قطارات البضاعة تتعالى عليها، ولا تقف بها إلا في موسم الأرز (بلغني أيها الملك). وكان ناظر المحطة يصحو من نفسه في مواعيد قدوم القطارات ليلًا، يشعل الفانوس، ويقف بالنافذة منتظرًا القطار، ويرتفع ضجيج القطار قادمًا، ويحيِّيه الكمساري والسائق، ويتبادلون الكلام والرسائل، ويظل واقفًا بالنافذة حتى يغادر القطار المحطة، ثم يطفئ الفانوس ويعود إلى نومه (المقهى الزجاجي).
ولعل تحول منطقة كلوت بك إلى حي للبِغاء مَبعثه اقترابها من محطة السكة الحديد، حين يفِدُ الباحثون عن الرزق، والباحثون عن المتعة أيضًا.
وكل محطة للسكة الحديد بها قهوة أو بوفيه، يجلس فيه المسافرون في انتظار القطار (يوميات نائب في الأرياف، ٨٦). وكان بوفيه المحطة في القرى، إلى العشرينيات، عبارةً عن كشك خشبي صغير بجوار كشك الناظر، به عدة أرفف عليها زجاجات النبيذ الأحمر والعرقي والكونياك الرخيص، وأمامه وحوله عدة كراسيَّ خشبية صغيرة وثلاث ترابيزات، يبيع القهوة والشاي للمسافرين بقرش واحد للفنجان، أما النبيذ والعرقي فبقرشين، والكونياك بثلاثة قروش (حانة كرياكو). وقد اختار مخالي صاحب الحانة اليوناني أن يقيم حانته قبالة محطة القطار مباشرة؛ لتكون تحت أنظار الركاب في محطة بني نافع، وللإفادة من ركاب القطار، أضاف الرجل طابقًا ثانيًا لإقامة الموظفين الذين يتخلَّون عن قطار الليل، ولا يجدون سيارة أو ركوبة تنقلهم إلى بيوتهم (حانة المحطة) [راجع: القهوة].
محكمة
يحتشد أمام المحكمة، وداخلها، الأهالي والمحامون والكتَبة العموميون والباعة وشاهدو الزور (المصدر السابق، ٣٩) وعشاق المحاكم وهواة حضور جلسات محكمة الجنايات وسماسرة القضايا (لما كان ذلك كذلك). إنهم، والتعبير للفنان، مكدَّسون كالذباب (يوميات نائب في الأرياف، ٢٧)، أما غرفة المحامين، فيحتشد فيها صباحَ كلِّ يوم عشراتُ المحامين، يرتدون نفس الروب، ويجلسون متلاصقين، ويتناولون الشاي والقهوة من يد نفس الرجل الذي يخدم الجميع (يوميات محامٍ، ٢٠). وتتسم محكمة الاستئناف بالبهو الكبير الذي تتناثر في جنباته قاعات الدوائر القضائية، والأعمدة الضخمة، والجدران العالية (جراح عميقة، ٦٦). وأهم ما يميز مبنى دار القضاء العالي ذي الأعمدة الرخامية الضخمة، كفَّتا الميزان المتقابلتان أعلى واجهة المبنى (المزيفون). والمحكمة الشرعية في سراي رياض باشا بشارع نور الظلام، كان يجلس فيها قاضي الإسلام، وعلى باب المحكمة خلْق كثير ينتظرون ثبوت رؤية هلال رمضان. وتثبت الرؤية، ويوقِّع القاضي على محضر بذلك، وتُدار أكواب الشربات على الحضور وهم يتبادلون التهنئة. ويردد الصبية خارج مبنى المحكمة: صيام، صيام … كما أمر قاضي الإسلام (من وحي ليلة الرؤية). وكانت المحكمة الشرعية — عند البسطاء من الناس — غولًا مخيفًا (عدالات). قاضي الشرع يجلس على دكة مرتفعة، وُضعت عليها الطنافس والوسائد، وعلى بابه رجلان يقومان مقام الحاجب، ويسميهما الناس: الرسل (الأيام ١ / ٧٣). ويقول الرواي: «لم يدخلها — المحكمة الشرعية — رجل ولا امرأة من أهل قريتنا وخرج منها سالمًا أبدًا» (عدالات). لم تكن تعرف التسويف ولا الأجل، ولا حتى الصبر إلى ميسرة، فالمبالغ التي تقررها المحكمة نفقةً للزوجة، أو حضانةً للابنة، أو مؤخر صداق، إلخ، تعرف الدفع أو السجن، ولا ثالث لهما (المصدر السابق). أما حجرة الحجز في المحكمة، فهي أشبه بصالة بها أرائك خشبية مصفوفة، يجلس عليها المحجوزون رجالًا ونساءً، وعلى يمينها حجرة صغيرة بها مكتب مسئول الحجز (الزنزانة، ٣٩). قاعة المحكمة في صدرها منصة عالية، فوقها إطار مذهب يحتضن الشعار: العدل أساس الملك (الميزان). الصورة التقليدية للقاعة هي المنصة والقفص الحديدي والسقف المرتفع والمراوح المدلاة منه، والحاجب والعساكر الذين ينظمون دخول المتهمين القفص، وينظمون القاعة، والمحامون كالغربان في الأرواب السوداء (العصافير لا تعير اهتمامًا للحزن). يدخل المتهم، أو المتهمون، في قفص الاتهام، والحاضرون يجلسون على مقاعد أقرب إلى الدكك. يدخل القاضي إلى المنصة، فيهتف الحاجب: محكمة، ويقف الحاضرون احترامًا (شاهد إثبات). ثم يلتصقون بالمقاعد بعد ذلك (وتبقى الشجرة). يجلس القاض على المنصة، فوق رأسه ميزان لا يميل ناحية اليمين ولا اليسار، وبين الكفتين امرأة معصوبة العينين (مرافعة البلبل في القفص). يلتفت القاضي إلى كاتب الجلسة، ليبدأ في تقليب الملفات (وتبقي الشجرة). يردد الحاجب أسماء المطلوبين للوقوف أمام القاضي بمدٍّ وغنٍّ، ونغمةٍ كنغمة الباعة الجائلين (يوميات نائب في الأرياف، ٢٩). ويصف الفنان لحظاتِ انعقاد الجلسة بأنها ثلاثة من المستشارين العابسين، ومحامين متربصين، وجمهور يشاهد ويحكم، لا على لب الموضوع، وإنما على مدى إتقان الحركات والإشارات، ورنين الصوت في القاعة، ومهارة الإلقاء والضرب باليد فوق المنصة (المصدر السابق، ٨٩). أما المحامي فهو يحرص أيضًا أن يجلجل صوته في الجلسة، وأن يتصبب عرقه، فيمسحه بمنديله وهو ينظر إلى موكله؛ كأنما يُريه الجهد الذي يبذله (المصدر السابق، ٣٩). ويُقْسم الشاهد قبل أن يدلي بشهادته: والله العظيم أقول الحق (المصدر السابق، ٣٥). وحين ينطق القاضي بالحكم فإنه يحدد مصائر خلق الله بصورة شِبه نهائية. كلمته لا تُرد إلا من خلال محكمة أخرى (مرافعة البلبل في القفص، ٢٩). وأغلبية المشاهدين للقضايا يجمعهم شراهةُ الفضول (المحاكمة). والذين على المعاش جاءوا إلى المحكمة مكانًا، بدلًا من المقهى (مرافعة البلبل في القفص، ٥٣). رجال ونساء يجلسون على الدكك أو المقاعد المصفوفة بعرض القاعة، يثرثرون في القضايا المرتقبة، وفي شئون أخرى، طنين خلية نحل، ورجل يحمل صينية فوقها أكواب الشاي والحلبة والبسكويت (الميزان). ويتداخل الصخب والضجيج والدخان وأصوات الباعة والحاجب ومناقشات المحامين وصفقات شهود الزور (مرافعة البلبل في القفص، ١٣). وقاعة المحكمة في الأرياف تعاني — في الأغلب — ضيق المساحة، بحيث تمتلئ المقاعد القليلة بالمحامين، ويضطر كتبة المحامين إلى الوقوف بدوسيهاتهم في الوراء، بينما يجلس أصحاب القضايا على الأرض (مذكرات عابر سبيل). أما قاعة جلسات المحكمة الجزئية، فهي ضيقة، محدودة الجنباتP لضيق مبنى محكمة المركز، لا تتسع لأكثر من عدة مقاعد خشبية متآكلة، أقيمت في خطوط مستطيلة أمام منصة القضاء الضخمة العالية (حظوظ الكلاب). وثمة محاكم في المراكز — الدلنجات مثلًا — تنعقد في حجرة صغيرة، تكفي بالكاد لجلوس ستة أشخاص، في حين يجلس أصحاب القضايا والشهود على الأرض أكوامًا وصفوفًا (خليها على الله، ٧٧). وبعد أن تُنظر القضايا، تُرفع الجلسة، وتنتقل هيئة المحكمة إلى غرفة المداولة لشرب القهوة، وينتظر الحضور، ثم يرتدي المحامون الأرواب السوداء تأهبًا لاستئناف الجلسة (الزنزانة، ١٤٠).
فإذا كانت المحاكمة سياسية، جرت الإجراءات وسط ومضات آلات التصوير وميكروفونات الإذاعة وعدسات التليفزيون والسينما وأقلام الصحفيين والمراسلين (فرسان المائدة المستديرة). وكانت المحاكم المختلطة — منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر — جزءًا من النظام القضائي المصري. وقد افتُتحت المحكمة المختلطة بالإسكندرية في ١٨٧٦م في سراي الحقانية.
والعرضحالجي جزء من صورة المحكمة، إنه يجلس أمام مبنى المحكمة، يكتب الشكاوى للمتقاضين، وينصح الواقعين في مخالفات أو مشكلات قانونية بأفضل الطرق للخروج من الورطة (حكمة العائلة المجنونة، ٢٠).
محلج
مفردات المحلج هي بالات القطن والأرقام والوزن والدفاتر والأوراق والدواة وعلبة النيشان والفرشاة (أنا الشعب، ٤٢)، والمخازن وعنبر الدواليب والسكاكين التي تفصل النسيج الأبيض النقي عن البذرة السوداء والمكابس ورصاصات القطن والعتَّالون والقبانية وأنفار الغربال وخاتمو رصاص البذرة (اتجاه واحد للشمس). وثمة من يقلِّب القطن الوارد إلى المحلج، ويفحص تيلته (أنا الشعب، ١٠٥). والأحاديث في المحلج تتناول أسعار الفتح في البورصة وأحوال العمل والعصارة والطاحون (هذه هي الحياة). وكانت المشكلة الصحية التي يعانيها المحلج هي الدرن الذي ينتشر من غبار المحالج في صدور العمال، وانعدام تنقية المصنع مع الآلات الحديثة (طريق النسر، ١٩١). وقد يموت عامل المحلج أشنع ميتة، والتعبير للفنان، حين ينكبس داخل بالة قطن، أو حين تأكل العدَّة ذراعه (الأصبعان المبتوران).
مخبأ
المخبأ هو المكان الذي يلوذ سكان المنطقة المحيطة به، إذا تعالت صفارات الإنذار، في أوقات الحرب (والبحر ليس بملآن). وهو عبارة عن قبو طويل واطئ، داخله رَطْب معتِم قليلًا، لكنه متجدد الهواء، مبلط الأرضية، وبه شبابيك صغيرة تطل على الطريق (قدر الغرف المقبضة، ٢٢). سقفه وجدرانه تبدو صلبة. التصقت بجوانبه مقاعد خشبية مستطيلة، وبُعثرت في وسطه كثبان من الرمل، يتفرق القادمون إلى الأركان والمقاعد، ويقف في الوسط من تضيق بهم المقاعد (خان الخليلي، ٧٢). وتُشيد المخابئ العامة، غالبًا، في الميادين والخلاء (الغارة الجوية). وبعض العمارات جعلت من البدروم موضعًا للمخبأ، يضاء بمصباح خافت، وتُغطى نوافذه بستائر كثيفة سوداء، ويعتمد سقفه على عمد أفقية، تقوم على عمد حديدية رأسية، وتوضع حول جدرانه أكياس من الرمل (خان الخليلي، ٣١؛ في الظلام) فيلجأ إليه السكان إذا انطلقت صفارة الإنذار (النهر). وقد يتحول الدهليز إلى مخبأ، يندفع إليه الناس بمجرد تعالي صفارة الإنذار (الدهليز). وعندما تنطلق صفارات الإنذار، يسرع الجميع إلى المخبأ، يتابعون من داخله أصواتَ طلقات المدافع واقتراب الطائرات (فتاة في المدينة). وبالطبع، فإن الناس إذا اجتمعوا داخل المخبأ، فإن الخوف يتسلط عليهم من فكرة الموت، وتتركز أحاديثهم حول حوادث الغارات (الإشارة). وقد أسهم المخبأ، بالضرورة، في التخفيف من التقاليد السائدة أعوامَ الحرب العالمية الثانية؛ لجأ الجميع — من الجنسين ومن كل الأعمار — إلى المخبأ، واقتربوا إلى حد التلاصق، وحدقت النظرات، ودارت المناقشات والأحاديث الهامسة، حتى عائلة الجمحي، اضطُرت إلى النزول عن تقاليدها المحافِظة، واللجوء إلى المخبأ مثل الآخرين (صباح الورد، ٤٥). وكان آخر عهد أحمد عبد الجواد بالحياة حين اضطر إلى هجر فراش المرض، واللجوء إلى المخبأ، فرارًا من الغارات الجوية، وعاد إلى البيت — من الرحلة المجهدة — ليسلم الروح (السكرية، ٢٦٠). ويمتلئ المخبأ بالأفندية والخواجات والسيدات والأطفال، ويدور الكلام بشتى اللغات واللهجات (المصدر السابق، ٢٣٠)، يتناقشون في القضايا العامة وما يشغل الناس (صباح الورد)، وأصوات رجال المقاومة المدنية في الخارج تهتف: اطفي النور (السكرية، ٢٣٠). وحين تنتهي الغارة، فإن الكتلة المتراصة داخله تنحلُّ إلى أفراد يغادرون المخبأ (فتاة في المدينة). ولا يخلو المخبأ من لحظات نكات وسخرية من الخائفين (المصدر السابق). والعلاقات في المخبأ تصبح أكثرَ حميميةً وتوثقًا، حتى إن كمال عبد الجواد اكتشف أنه قد وضع يده في يد أبيه للمرة الأولى منذ مولده، عندما استند إليه متعبًا، ثم اضطر إلى حمله للمرة الأولى أيضًا، وليموت أحمد عبد الجواد — ذلك العملاق الحنون الباطش — في الليلة نفسها (السكرية، ٢٦٠). وقد كوَّن إبراهيم مصطفى العطار العديد من الصداقات التي التقى بأطرافها داخل المخبأ القريب من قهوة فاروق، وظلت الصداقة بينه وبينهم مستمرة (قاضي البهار ينزل البحر، الرواية). وربما تنشأ في المخبأ، في لحظات الخطر، علاقة حب بين شاب وفتاة (الجنة العذراء، ١٣)، وهو ما نلمحه عندما حاولت نوال أن تجعل من المخبأ مكانًا للقائها بأحمد عاكف (خان الخليلي، ٩٩). وقد شهدت المخابئ العامة الكثيرَ من قصص الحب (لا أحد ينام في الإسكندرية، ١٦١)، ورُوي عن امرأة متزوجة كانت تتحين فرصة الغارات لتمارس الحب مع مدرس شاب في المخبأ المظلم (المصدر السابق). وتتحول المخابئ — بعد انتهاء الحرب — إلى ملجأ للضفادع والكلاب والقطط ومياه الصرف الصحي (التوهمات، ٨٥). وكما يقول الراوي [تل القلزم] فقد طُليت المخابئ في مدينة السويس — في أعقاب عدوان ١٩٦٧م — باللون الأبيض، وزُرعت من الخارج باللون الأخضر (تل القلزم، ١٣٤).
مدرسة
لم يعرف العالم الإسلامي مصطلح المدرسة إلا في القرن الخامس الهجري [١١م]، فقد كان المسجد هو معهد العلم في العصر الإسلامي الأول، تُعقد فيه حلقات العلم والدراسة. ثم عُرف مصطلح المدرسة في عهد نظام الملك، في القرن الخامس الهجري (أعلام الإسكندرية في العصر الإسلامي، ١١٠). ولم تكن الدولة تُعنى — حتى عهد إسماعيل — إلا بالمدارس الحربية. وكانت الكتاتيب هي الوسيلة الوحيدة للتعليم العام. وتولى علي مبارك إصلاح التعليم، وأعدَّ لائحة رجب — نسبة إلى الشهر الذي صدرت فيه؛ وهو رجب ١٢٨٤ﻫ/١٨٦٨م — التي تستهدف «تنظيم الصلة بين التعليم الحكومة والأهلي؛ على نحو يحقق تعاونهما في النهوض بالمهمة السامية التي يعكفان على أدائها في تعليم ناشئة البلاد.» و«كانت المحاولة الأولى لإنشاء نظام قومي للتعليم في مصر» (تاريخ التعليم في مصر، ١٥-١٦). وارتكازًا إلى تلك اللائحة، فقد تحولت الكتاتيب الكبيرة بالمدن إلى مدارس ابتدائية. أما المدن الصغيرة، فقد أضيفت إلى الكتاتيب موادُّ أخرى — إلى جانب القرآن والكتابة والقراءة — مثل الحساب. واشترطت اللائحة أن يكون تعيين المؤدِّبين والوُفاء لهذه الكتاتيب من اختصاص ديوان المدارس. وأما كتاتيب القرى والبنادر فقد نصت اللائحة على أن تكون «حسنة الموقع، لطيفة المبنى، تأنس بها نفوس الأطفال المقيمين بها أكثرَ ساعات النهار» (المرجع السابق، ٢٩٨–٣٠٠). ثم حرص كرومر على زيادة عدد الكتاتيب لأهداف معلنة؛ هي إعداد صغار الموظفين للعمل في إدارات الحكومة. وكان التلاميذ يكتبون بالحبر على ألواح من الخشب، ثم يمحونها بالإسفنجة بعد حِفظها، ويكتبون غيرها (قصة حياة، ٦٠). وعندما طُرحت فكرة الجامعة الأهلية، قاومتها سلطات الاحتلال بخُبث وضراوة. ويقول تقرير الحزب الوطني عن سنة ١٩٠٧م: «فلما عرف رجال الاحتلال أن الأمة فكرت في إنشاء تلك الجامعة، قاموا يحاربونها بكل الوسائل، وضِمْنها تكليف الأهالي بالاكتتاب للمدارس الصناعية والكتاتيب معًا؛ حتى إن القاهرة — مع كثرة كتاتيبها — عقد محافِظُها اجتماعًا طلب فيه إلى الأعيان أن يكتتبوا لإنشاء كتاتيبَ أخرى، والغرض من ذلك كله تعطيلُ إنشاء الجامعة.»
أما بالنسبة للتعليم العام، فقد كانت الظاهرة الملحوظة عدم إقبال المصريين على الدراسة العلمية أو العملية في أواخر القرن التاسع عشر، حتى لقد كانت كلية الهندسة تقبل الراسبين في شهادة البكالوريا (عصر ورجال، ٤٠٨). وكتب محمد تيمور [١٩١٣م]: «في أوروبا مدارسُ لم يدخلها مصري بعد، أو دخلها القليلون، لا نجد أحدًا منا يدرس الكمياء العملية أو الكهرباء أو علوم الهندسة والزراعة أو العلوم الفلسفية، وكلنا لا نريد أن نتعلم هذه العلوم النفيسة؛ لأننا نخشى ألا نعيش بها في مصر، وذاك لأنه ليست لنا ثقة بنفوسنا، ولأننا لا نُقْدم على عمل لا تدفعنا إليه الحكومة» (مؤلفات محمد تيمور، ١٧٦).
•••
كانت عادة الأغنياء أن يعلِّموا أولادهم في ثلاث مدارس: المدرسة المخصوصة، وهي التي يأتي فيها المُدرس إلى البيت، ثم المدرسة الأميرية والأجنبية (حاضر المصريين، ٢٦). أما سواد الشعب، فقد كان الكتَّاب هو مرحلة التعلم الأولى، قبل أن يبدأ دراسته الابتدائية، ليحصل على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية التي تخوِّل لصاحبها الحقَّ في لقب «أفندي» (سندباد في رحلة الحياة، ٧٥)، والمدرسة الإلزامية في المدينة يعاني فِناؤها تناثُرَ علب السجاير الفارغة، والأوراق الممزقة، وقشور البرتقال (ذات، ٢٠٢). أما المدرسة الإلزامية في القرية فهي، والوصف للفنان، ذات جدران متساقطة الطلاء، كاشفة عن الطين الذي بُنيت به الحيطان، وفصل ذي سبورة كالحة بالغة الصغر، مزدحم بعشرات الطواقي الصوف والبيضاء وأحذية الإخوة الكبار — وربما الآباء — والقباقيب والحقائب القماشية التي صنعتها كل أم لابنها، أو خيطت على المكنة فوق البيعة مع الجلباب (لغة الآي آي). ولأن المدارس في النوبة متباعدة، فقد كانت رقاب الأطفال يتدلى منها حبال، رُبطت بأطرافها مخالٍ يدسُّون فيها الألواح وزجاجات الحبر والريشات والأرغفة وأقراص الطعمية والحلاوة الطحينية، يتبادلونها في الفسحة الكبيرة (الصراع الحزين). ويصف المنفلوطي المدرسة في قصة اليتيم بأنها «حانوت قاسٍ لا تباع فيه السلعة نسيئةً، والعلم في هذه الأمة مُرتزَق يرتزق منه المرتزِقون، لا منحةٌ يمنحها المحسنون.»
•••
في اليوم الأول تُغلق البوابة، مرسلة صريرًا مؤثرًا، فيجهش بعض الأطفال بالبكاء، لكن الصفوف ما تلبث أن تنتظم في الفناء الواسع المحاط بين ثلاث جهات بأبنية مرتفعة، مكونة من طوابق، بكل طابق شرفة طويلة مسقوفة بالخشب (نصف يوم). وتقول المُدرسة للتلاميذ الجدد: «هذا بيتكم الجديد، هنا أيضًا آباء وأمهات، هنا كل شيء يسُر أو يفيد، من اللعب إلى العلم، إلى الدين، جفِّفوا الدموع واستقبِلوا الحياة بالأفراح» (المصدر السابق). الفصل يضم أكثر من مائة طفل محشورين في مساحة صغيرة، ضمت أربعة صفوف من المكاتب الخشبية التي خُصص الواحد منها في الأصل لتلميذين متجاورين، فأصبح يشغله أربعة، وأحيانًا خمسة، بينما جلس الباقون على الأرض بين الصفوف فوق كتبهم وثيابهم (ذات، ٢٠٢). وعندما يدخل المدرس، أو الناظر، أحد فصول المدرسة، فإن أول ما يفعله التلاميذ هو القيام، بعد تنبيه من المدرس، أو من أُلْفة الفصل: قيام! وبعد التأكد من تمام الوقوف الصامت، يتعالى النداء: جلوس. ويجلس التلاميذ ثم يبدأ الدرس (يوم المرأة).
•••
يقول فتحي رضوان: إن المدارس الأهلية كانت سيئة السمعة؛ لأن أصحابها كانوا، في الأغلب، لمن سُدَّت في وجوههم أبواب الرزق. وكانوا يعانون فقدان الثقافة التربوية. وكان الانتقال من فصل إلى فصل أعلى يخضع للمساومة أكثر من خضوعه لتفوق التلميذ. وربما انتقل التلميذ الذي يرسب في السنة الثانية، مثلًا، إلى السنة الرابعة لا الثالثة، مقابل بعض المصاريف (خط العتبة، ١٣٩). ويشير لطفي السيد إلى أنه بمجرد انتظام الدراسة، كان الأولاد يرتَّبون بالطول؛ قصار القامة في السنة الأولى، والأطول منهم في السنة الثانية، وهكذا (قصة حياتي، ٢٢-٢٣).
•••
يقول المدرس عبده: «المدرس في التعليم الحر مزروع على صخرة، لا يستطيع أن يمد جذوره إلى تحت» (غصن الزيتون، ١٣٠).
كان المدرسون يجدون في كل شيء في المدرسة الأهلية باعثًا للشكوى، وللمقارنة مع المدارس الأميرية؛ حتى الصخب الذي يُحدِثه التلاميذ في أثناء الفسحة، يعلق المدرس حمودة عليه بالقول: «ليس في حوش المدارس الأميرية مثل هذا الضجيج» (غصن الزيتون، ١١). وعندما تطرأ مشكلة، فلا بد أنها ستجد من يعلق عليها من المدرسين بقوله: «إن تلاميذ المدارس الأميرية لا توجد فيهم مثلُ هذه المشاكل … أهلي يا أفندم!» (المصدر السابق، ١٢).
كانت القاعدة في توزيع المدرسين على الفصول؛ أن يختاروا لمدارس البنات أتعس الوجوه من الشبان، أو من المسنين الذين يُصلون الظهر في فسحة الغداء (غصن الزيتون، ٩). وحتى المسرحيات التي تقدمها تلك المدارس في حفلاتها السنوية؛ تحرص أن تكون تعبيرًا عما تعانيه من عنَتٍ وضيق وموارد وصعوبات اجتماعية، تقف في سبيلها نحو التقدم، رغم ما تؤديه للمجتمع من خدمات (غصن الزيتون، ٢٨).
تحدث سلامة موسى عن تلك الأعوام من بداية القرن بأن التلمَذة فيها «كانت عذابًا لا يطاق» (الكاتب المصري، يوليو، ١٩٤٦م). مع ذلك، ففي عام ١٩٠٥م كان عدد المتقدمين لنيل الشهادة الابتدائية ٣٢٣٣ طالبًا، وعدد طلاب البكالوريا ٧٤٧ طالبًا، في حين بلغ عدد الطلاب في كل المدارس العليا ألف طالب. وفي ١٩٢٠م — أي بعد خمسة عشر عامًا — بلغ عدد تلاميذ الابتدائية ٦٩٣٠ تلميذًا، وطلبة البكالوريا ١١٥٦ طالبًا. ثم زاد العدد — بعد خمسة عشر عامًا أخرى — فبلغ ٥١٢٩ لطلبة البكالوريا، وأكثر من ثمانية آلاف لطلبة الجامعة (صفحات من التاريخ ٧٠-٧١).
من الذكريات الثابتة التي لا تزول أبدًا — والتعبير لقاسم أمين — ما كان يتلقاه تلاميذ المدارس والكتاتيب، في أواخر القرن التاسع عشر، مِن ضربٍ بالعصى على الأرجل، أو الكتف، أو الرأس، أو أي مكان آخر في الجسم، فضلًا عن النيلة المزفتة والفلقة (الهلال، يناير، ١٩٧٧م). يقول سلامة موسى: «لا يستطيع مصري التحق بالمدارس المصرية الابتدائية والثانوية الأميرية — فيما بين ١٩٠٠م و١٩٢٠م — أن يقول إنه كان هنيئًا بالحياة المدرسية؛ فقد كانت هذه المدارس ثكنات» (تربية سلامة موسى، ١٢). ولا يخلو من دلالةٍ وصفُ الراوي للمدرسة بأنها مبنًى قائم في نهاية الطريق «مثل حصن هائل شديد الجدية والصرامة، عالي الأسوار» (نصف يوم). وكان الناظر في المدرسة الأهلية بالمدينة الإقليمية، يبيع الطلبة ويشتريهم، كما يباع ويُشترى البطيخ وقِطَع الصابون، وكان له سماسرة يجلبون التلاميذ من الأرياف لقاءَ عمولة. وكان المدرسون يرفضون دخول الفصل قبل تسلُّم مرتباتهم المتأخرة، ويلعنون الناظر والحكومة ووزير المعارف، ويتبادلون الشتائم مع الناظر، ويتشابكون بالأيدي أحيانًا (أيام الطفولة، ٧١). وكان الراوي يحرص على الاستجابة لكل ما تطلبه المدرسة منه، ولم يكن ذلك تعبيرًا عن حبه للدراسة بقدر ما كان خوفًا من الفلكة، تلك الشومة الغليظة، يتصل بطرفيها حبلٌ من الليف، يلتف حول القدمين العاريتين، والجسد ملقًى على الأرض، وثمة ولدان يُمسكان بجانبَي الفلكة، بينما خيرزانة الشيخ تنهال على القدمين (أحزان مدينة، ٣٦). وفي قصة التمرين الأول ليوسف إدريس، يهبنا الفنان بواعث كراهية الصغار للمدرسة من خلال تفصيلات أيامهم. كراهية تبدأ قبل أن يبدأ اليوم المدرسي، فالطالب لا يستيقظ من نومه إلا مقروصًا، أو معضوضًا، أو مطروحًا أرضًا. ثم يُدفع إلى المدرسة دفعًا، وتسرع خطواته حتى لا يصل متأخرًا، فيجد باب المدرسة مغلقًا، ويعتبر غائبًا. وقبل أن يتمطي الصخب الصبياني اللذيذ، يدق الجرس، ويُغلق الباب «باب لا بد ضخم متين كأبواب السجون». حتى الجرس الذي يبدأ به اليوم كالح، قديم، فيه من الأنين أضعافُ ما فيه من الرنين. حتى الفرَّاش الذي يدق الجرس لا بد أن يكون عجوزًا جَهمَ الملامح. وتتناثر التعليمات: اخرس بطَّل كلام. والكلمات التي تعكس ضيق المدرسين بقسوة أيامهم، وبالمهنة الصعبة التي يحيَون أسرى لها. ثم يطل الناظر على الطابور الصامت، «ولا بد أن تكون لدى الناظر مفاجأة». ثم يدور الطابور إلى اليمين واليسار، ويُدلق التلاميذ إلى الفصول من خلال ممرات كئيبة طويلة متشابهة. ويُقبل المدرس: قيام، جلوس. وتتوالى الحصص، ويتوالى المدرسون، «وكلٌّ منهم كالجهاز المعبأ الذي يفرغ شحنته بمقدار». ومع توالي الحصص تتوالى الشتائم والعبارات التي لا تقل قسوة. مع ذلك، فقد كان من المستغرب فشل العشرات والمئات من طلبة تلك المدرسة، وكان من المستغرب كراهية الطلبة للمدرسة، ورفضهم للقول بأن أحلى أيام العمر هي أيام الدراسة، بل وكانت الأفواه تَفغَر في بلاهة للخطابات المملوءة بالشتائم، وتكوين العصابات، وشرب السجائر، وسبِّ المدرسين، وممارسة العادات السيئة (التمرين الأول).
•••
كان تعرُّف الشاب لفتاته — للمرة الأولى — من نافذة شقته التي تطل على مدرستها، ثم عرف التمشي في الشوارع الهادئة (صاحب الكرامات). وتَبين العلاقة بين المدرسة والسينما في هروب الطلبة من المدارس، ووقوفهم على أبواب دور السينما أو دخولها لمعاكسة البنات (المسرنمون، ١٧٤). وقد تكون النافذة هي الوسيلة التي نكتشف من خلالها جريمةً ما: أطل عميد الكلية من نافذة حجرته، فرأى طالبة في سن ابنته في الفناء تدخن سيجارة (حالة تلبس).
مدينة
تبدأ في المدينة، عادة، معظمُ التغيرات؛ سواء كانت ثقافية أو اقتصادية أو اجتماعية، بين الفئات العليا أولًا، ثم تنتشر هذه التغيرات إلى أسفل، حتى الفئات الدنيا التقليدية، ثم إلى خارج المدينة حتى تصل إلى القرية (حديث عن الثقافة، ٣٩). وربما لذلك يأتي الرأي بأن المدينة تولد مدينة مهما صغُر حجمها. وقد تولد المدينة قرية، لكنها تكون منذ البداية قرية مدينة، وتتطور سريعًا (العربي، أغسطس، ١٩٧٢م).
•••
كانت المدن المصرية — إلى أواخر القرن التاسع عشر — أشبه بالقرى الكبيرة؛ فلا كهرباء ولا مواسير مياه ولا طرق مواصلات حديثة ولا صرف صحي. وكانت الحقول تشكل القسم الأكبر من أراضي القاهرة، مثل الفجالة وحلوان وشبرا وحدائق الزيتون وحدائق القبة وغيرها … ومع ذلك، فإن المدينة ظلت هي المكان «الذي يموت فيه العجائز في سنٍّ متأخرة» (العودة إلى البيت)؛ بمعنى أن المدينة بها رعاية صحية، تساعد كبار السن على العيش عمرًا أطول. وحين اعتدى خفير العمارة، التي لم يكتمل بناؤها، على الصغيرة درية، فإنها لم تكن في نظره صبيةً حلوة اشتهاها وأصر أن ينالها، بقدر ما كانت تجسيدًا لما في المدينة من «خبز لم يأكله بعد» (البيت الصامت، ٥٧). ذكَّرته الصبية بأغنيات المدينة، ونسائها، والستائر المغلقة، والشفاه المطلية، والنعومة الحريرية، والنوافذ المعتمة والمضيئة (المصدر السابق ٥٧). كانت المساحة المبنية في مدينة القاهرة — أواخر القرن التاسع عشر أو أوائل القرن العشرين — ٣٨٨٠ فدانًا، وطول شوارعها حوالي ٣٥٣ كيلو مترًا، وعدد سكانها ٣٧٤٣٨٣ نسمة، منهم ٣١٫٦٥١ بيتًا، ٣٧٩ جامعًا. لم يكن يتزود من المياه سوى ٤٫٣٩٧ بيتًا وعشرة جوامع، بينما كانت بقية البيوت والآبار تستمد مياهها من الآبار، أو من الصهاريج، التي تُملأ في أوقات الفيضان، أو من السقائين الذين يأتون بها من النيل (ترام القاهرة، ٦). وظلت القاهرة، إلى ثلاثينيات القرن العشرين، مدينة ملمومة (مدرسة المسرح، ١٩٠). من هنا تداول القاهريون تعبيرات مثل: اخطف رجلك، رُحْ كعَّابي، يا دوبك خطوتين (المصدر السابق، ١٩٠). وتشبيه حركة الحياة والزحام في المدينة الكبيرة بيوم القيامة؛ وصف يتكرر في الكثير من الأعمال الإبداعية؛ يقول الراوي: «بهرتني المدينة الكبيرة باتساعها وزحامها، لكأنما اجتمع فيها ألف مولد مرةً واحدة» (الزحام). كانت المدن واسعة، قليلة السكان، والمباني قليلة الارتفاع. وكان الناس يستطيعون رؤية القمر والغروب والشروق والشجر وغيرها من ظواهر الطبيعة، ثم علَت العمارات وتلاصقت، فلم يعُد أحد يدري بدورات الطبيعة؛ لأنها اختفت وراء الجدران العالية (المنطقة النظيفة). لقد التهمت العمارات العالية الأراضي الواسعة، وحجبت الفضاء (خرائط للموج، ١١). والناظر إلى القاهرة من الطائرة يرى النيل خطًّا فضيًّا يفصل بين مبانيها الشاهقة التي تحاصر بقايا المساحات الخضراء، التي سرعان ما تتراجع أمام رمال الصحاري المحيطة بالأهرامات وأبي الهول (أزمة وزارية).
وإذا كان هنري الرابع قد وصف باريس بأنها ليست مدينة، بل مدائن، فلعل الوصف نفسَه يصح على القاهرة. كانت في وصف القدماء «عاصمة الدنيا وبستان الكرز» (هاتف المغيب). المنصورية هو الاسم الأول الذي أطلقه جوهر الصقلي على عاصمة الدولة الفاطمية. وقد بدأ إنشاء المدينة في ١٧ شعبان ٣٥٨ﻫ، الموافق ٥ يوليو ٩٦٩م. وعندما وصل الخليفة المعز لدين الله إلى مصر، ودخل المدينة في ٣٦٢ﻫ، سميت «القاهرة»، وإن تواتر في الكتابات بأن سبب التسمية ظهور نجم المريخ، قاهر الفلك، في الأفق، حين ألقى العمال أساس المدينة الجديدة. وثمة أسباب أخرى حول تسمية القاهرة معظمها أقرب إلى الخيال، لكن أقربها إلى الصواب أن الخليفة المعز اختار اسم القاهرة لما فيه من إشارة بأن العاصمة الجديدة ستقهر العواصم السابقة، وأن دولته ستكون هي الغالبة (الموسوعة الإسلامية، ١٠٨٣). ومع أن القاهرة كانت في بدايات إنشائها مدينة محصَّنة، يسكنها الخليفة وجنوده فقط، فلا يُسمح بدخولها لأفراد الشعب، الذين كانوا يقيمون بالفسطاط، إلا بإذن خاص، وبهدف خدمة المقيمين في الحصن من رجال الخليفة وفِرق الجيش (الدولة الفاطمية في مصر، ٢٨١–٣٠٥). مع ذلك، فإن أيمن فؤاد سيد يذهب إلى أن الفاطميين أرادوا بإنشاء القاهرة أن تكون عاصمة لإمبراطورية واسعة، ينشرون من خلالها مذهبَهم الديني في كل الأراضي الإسلامية، مسخِّرين لذلك كافةَ إمكانيات مصر ومواردها لإضفاء العظمة والأبهة عليها، لتكون جديرة بالإحلال محلَّ بغداد في حكم العالم الإسلامي (الدولة الفاطمية في مصر، ٨٧). وثمة رأي أنه «لم يكن الغرض من بناء تلك الأسوار الحصينة التي بُنيت حول المدينة أن يُبنى في داخلها عاصمةٌ للقطر المصري، إنما كان الغرض منها أن تكون مقرًّا للخليفة ورجاله وعبيده وموظفيه وقواته من المغاربة. ولم يكن العامة من أهل مصر يدخلون إليها، فلم يكن يُسمح لأحد بالدخول من الأبواب بدون إذن، بل أكثر من ذلك أن سفراء الدول الأجنبية كانوا يترجلون حينما يصِلون إلى الأسوار، ثم يصلون إلى القصر في حراسة بعض الجند، كما كان الحال في النظام البيزنطي. والواقع أن القاهرة كانت مكانًا ملكيًّا وليست مدينة عامة» (سيرة القاهرة، ١٢٢). وشيئًا فشيئًا، اتصلت مدينتا الفسطاط والقاهرة، وكما يقول المقريزي، فقد «صار المتعيشون بالقاهرة والمستخدمون يصلُّون العشاء الآخرة بالقاهرة، ويتوجهون إلى سكنهم في مصر، ولا يزالون في ضوء وسرج وسوق موفور من الباب الجديد خارج باب زويلة إلى باب الصفا … والمعاش مستمر في الليل والنهار» (خطط المقريزي، ٢/ ١٠٠). وتخوفًا من اقتحام الفرنجة لمدينة الفسطاط، أمر شاور بإحراقها، وأُحرقت المدينة بالفعل، وظلت الحرائق مشتعلة بها ٥٤ يومًا متصلة؛ مما أدى إلى هجرة الكثير من أبنائها إلى القاهرة. وتعتبِر بعض الاجتهادات صلاح الدين الأيوبي هو المؤسس الفعلي لمدينة القاهرة الحالية. أمر بإلغاء العاصمتين اللتين سبقتاها — الفسطاط والقطائع — وأزال ما بينهما من أبواب وعوائق، وعمرَ الجامع العتيق، وبنى قلعة الجبل، وأمر ببناء سور جديد يحيط بالقاهرة. ثم أضاف العادل، فالكامل، ما اكتسبت به القاهرة الحالية ملامحها الطفلية الأولى. كان صلاح الدين الأيوبي أول من بدَّل صورة القاهرة كدار خلافة، ومنزل ملك، ومعقل قتال، لا ينزلها إلا الخليفة وعساكره وخواصه. نقل مقر الحكم إلى القلعة، فغابت عن القاهرة صفتها الأولى كمركز للسلطة السياسية، واتسعت لأنشطة التجار والحرفيين، شغلوا الأماكن التي كانت تشغلها — في الماضي — قصورُ الفاطميين. وصارت القاهرة، والقول للمقريزي، مبتذلة لسكن العامة والجمهور، وحط من مقدار قصور الخلافة، وأسكن في بعضها، وتهدَّم البعض، وأزيلت معالمه وتغيرت، فصارت خططًا وحارات وشوارع ومسالك وأزقة. ثم «اتصلت عمائر مصر والقاهرة، فصار بلدًا واحدًا، يشتمل على البساتين والمناظر والقصور والدُّور والرباع والقياسر والأسواق؛ إلخ». ثم تحولت القاهرة إلى مدينة للعامة. أُنشئت أسواق وشوارع وبيوت ودكاكين، تحيط وتتفرع عن الشارع الأعظم، شارع المعز لدين الله. بُنيت القاهرة في مساحة محدودة ومحددة؛ لتكون مقرًّا للحكم والدين لا ليسكنها الناس، لكنها تجاوزت الهدف الذي أُنشئت من أجله، فصارت هذه المدينة الواسعة بأخلاطها من أبناء الفلاحين والأفندية والعشرات من الجنسيات التي ذابت في بوتقة الاحتواء التي يتميز بها الشعب المصري.
•••
وصف ابن خلدون القاهرة بأنها «حاضرة الأمم، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذرِّ من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك. تلوح القصور والأواوين في جوِّه، وتزدهر الخوانك والمدرس بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من عليائه، وقد مثَّل بشاطئ بحر النيل نهرَ الجنة، وموقع مياه السماء يسقيهم النهل والعلل سيحة، ويجبى إليهم الثمرات والخيرات ثجة، ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم. ومن لم يرها لم يعرف عز الإسلام» (مقدمة ابن خلدون، ٣٦٤). كانت القاهرة — إلى القرن التاسع عشر — مقسمة إداريًّا إلى حارات، ينتمي سكان كل حارة إلى جماعة اقتصادية أو تجارية، كالصاغة والمغربلين والنجارين، أو إلى جماعة دينية، كالنصارى واليهود، أو إلى جنسية، كالمغاربة والتوانسة والأتراك؛ إلخ … ثم قسمت القاهرة إلى أثمان وخطط [أذكرك بتسمية شيخ الثمن، وهو الأعلى مكانةً وظيفية من شيخ الحارة]، كل خط يحتوي على شوارع، والشوارع تنقسم إلى دروب وحارات وعطفات، عليها بوابات، تُغلَق كلُّ بوابة بعد العشاء، وينام خلفها بوَّاب يستأجره أهل الحارة. فإذا تأخر أحد السكان لضرورة، فإن عليه أن يوقظ البواب ليفتح له (تاريخ الحركة القومية العربية، ١ / ٥٩). وقد خُططت شوارع المدينة في زمن ما قبل المواصلات الحديثة وما قبل التصنيع.
ثمة مقولة فرنسية بأنه لا يوجد في الحق سوى باريس من بين مدن فرنسا كلها. ولعل القول نفسه يصدق على القاهرة من بين المدن المصرية. وكما يقول جمال حمدان، فإن «القاهرة العاصمة كانت تسود الحياة المصرية بصورة طاغية غير عادية. فتاريخ مصر ليس إلا تاريخ العاصمة أو يكاد». وموقع القاهرة — كما يصفه جمال حمدان — هو «حاضرة مصر، مجمع الوادي والفرعين، وملتقى الصحراوَين، كأنما القطر كله على ميعاد فيه» (القاهرة، ١٧). يصفها الفنان بأنها «واحدة من حواضر الفنان» (قدر الغرف المقبضة، ٥١).
تسمى القاهرة، وقد تمتد التسمية فتصبح «مصر»، وهو الاسم الذي يطلق على البلاد كلها. يقول الرجل: «ليس في مصر كلها إلا القاهرة» (كوم الدكة، ٤٣). وحين يذكر أبناء المدن والقرى عمومًا اسم مصر، أو يذكره الآخرون، فإن المقصود هو القاهرة. وبعد أن ينطلق القطار بحسين من محطة القاهرة في طريقه إلى طنطا، فإن صوتًا في أعماق الشاب يهمس: وداعًا يا مصر! (بداية ونهاية، ١٩٧). ويقول الشيخ يوسف لمحمد أفندي: «يعني مصر تخلِّيك تنسى وصيفة» (الأرض، ٤). ويسأل: إزَّي مصر؟ (المصدر السابق، ١٦). وندعو: شي الله يا مصر (المصدر السابق، ٢٧٠). القاهرة في رسائل الفلاحين والصعايدة هي مصر بالمعنى الجغرافي العام الذي يشمل مدينة القاهرة، فهي مصر المحروسة» (البوسطجي)، وحين نقول «المحروسة» فإننا نعني القاهرة (النفس الحائرة، ١٠٥). ولفظة المحروسة تستند إلى معتقد شعبي أن المدينة مشمولة برعاية آل البيت والصحابة والأولياء، الذين تناثرت أضرحتهم ومقاماتهم في أحيائها الوطنية، مثل الإمام الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة والسيدة عائشة والسيدة فاطمة النبوية والإمام الشافعي والإمام الليث بن سعد، وغيرهم. والقاهرة في تسمية الكثيرين «مصر أم الدنيا» (حلاوة الروح). وعندما يعلن الراوي اعتزامه السفر، تسأله زوجته: إلى أين؟ … يجيب: ليس سفرًا … إنه مشوار قصير إلى مصر. تقول: أم الدنيا؟ (قراءة في عيون العائلة). والقاهرة عند الكثير من البسطاء من أبناء الريف لا تعدو الأزهر والحسين والسيدة زينب وغيرها من الجوامع (الأيام، ١ / ٦٤). وإن ذُكر اسم القاهرة، قال أحدهم: نظرة يا أم العواجز (العاشق المتنقل)؛ لأن لها مقامًا في الجامع الذي أُطلِق عليه اسمها. وظلت القاهرة عروس أحلام الشاب، وكان يُلمُّ بها بين فترة وأخرى، «يختلس فيها ألوان المُتع، وما أسرع أن يعجل بالعودة إلى قريته الموحشة، ليشارك أباه فيما يزاول من أعمال الريف» (خرفان). ومع أن سفر حسن إلى القاهرة كان يستهدف إحضار الدواء لأمه من مستشفى الإنكلستوما، فقد راح يحلم طول الليل وهو مستيقظ مغمض العينين بأم الدنيا (رحلة). ووصف القاهرة بأنها أم الدنيا لا يأتي من فراغ، ولا هو تحصيل حاصل، إنها مجمع حضارات ومدنيات، متوالية، ومتصلة: الفرعونية والقبطية والإسلامية، والمدنية الأوروبية الحديثة. وبتعبير أدق: مدنية البحر المتوسط.
•••
القاهرة محصورة بين النهر والجبل (شوارع لها تاريخ، ١٣٧)، وهي تقع في رأس الدلتا، وفي نقطة التقائها بجنوب البلاد، وهو موقع فرضته طبيعة الأرض المصرية، واستمرار حركة التاريخ. القاهرة — مصر — دائمًا «ماهش بعيد»، ودائمًا «على مدى الشوف»، بما يذكِّرنا بالمثل «كل الطرق تؤدي إلى روما». إنها «عاصمة البلاد، وموطن الموظفين الكبار، وغيرهم من المحظوظين المحدودين الذين حالفتهم الأقدار» (الدرجة الرابعة). الرواية — في رواية هكذا خلقت — تصف القاهرة، في أواخر القرن التاسع عشر، بأن النيل كان يفصل بين المدينة، وما على شاطئه المقابل لها من مزارع ممتدة إلى مدى النظر. وفي عهد الخديوي إسماعيل لم تكن مياه النيل قد جُلبت بعدُ إلى القاهرة (تاريخ مصر في عهد إسماعيل، ٢١٣). ولم تكن السيارات آنذاك وسيلة المواصلات، بل كانت — وظلت — بعض مظاهر الترف إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، بينما ظلت الشوارع خاضعةً لعربات الحنطور والكارو. أما الترام، فقد بدأ تسييره في السنوات الخمس الأخيرة من القرن الماضي. أما ضاحية مصر الجديدة، فلم تكن تضم — حتى أوائل القرن — غير عدد قليل من المنازل، على مقربة من فندق هليوبوليس بالاس. وكان أبناء القاهرة لا يخفون دهشتهم: كيف تُقامر الشركة البلجيكية القائمة باختيار تلك البقعة من الصحراء لبناء ضاحية فيها؟ أما العباسية، فقد كانت نهاية القاهرة من هذا الجانب، وكانت أشبه بضاحية يقطنها العسكريون. أما قلب المدينة، فكان ميدان العتبة الخضراء، ومنه كانت خطوط الترام تبدأ سيرها. وكان الميدان يفصل بين الأجانب والمصريين، في العاصمة وما حولها. فما امتدَّ غربًا إلى النيل، كان أحياء الأجانب، وما امتدَّ شرقًا إلى جبل المقطم، كان أحياء الوطنيين والشرقيين. ومن هنا فقد تمثَّل في شارع الموسكي اختلاط العناصر الثلاثة: المصريون والشرقيون والأجانب. وكان معظم البيوت لا يزيد في ارتفاعه عن طابقين أو ثلاثة طوابق. وكانت منازل السراة أشبه بالحصون، ترتفع جدرانها الخارجية لتستر مَن بداخلها؛ والسيدات المحجبات بنوع خاص. وكان المنزل يتألف من سلاملك متصل بالباب الخارجي، خاص بالرجال، ثم حرملك منفصل تقيم فيه السيدات (هكذا خلقت، ١٤–١٦).
في تعبيرات تنبض بالعفوية والعذوبة، يهَبُ لنا الفنان لوحة بانورامية للمشهد القاهري: «القاهرة الأليفة، أم المآذن والقباب ومساجد آية في الجمال، مزار أهل البيت، لا ينقطع الطواف حولها والتمسحُ بأعتابها. هنا أعياد مولد النبي، ورؤية رمضان، وجبر الخليج، وطلعة المحمل، وعودته، وفنجرة شم النسيم. مواكب الطرق الصوفية ببناديرها ودفوفها وصاجاتها، ووراءهم أبو الغيط ومواكب الطوائف في جو من المرح، إحياء المهن اليدوية، لكلٍّ منها عطرها، هنا الكركوز، وخيال الظل، والسفيرة عزيزة. يهرع إليها الحواة ومعهم الماعز والحمير والقرود والثعابين، في أثرهم البهلوانات، المشي على الحبل أو السلك. هنا كل بائع جوال مطرب عبقري، والنداء موروث من جدود الجدود، ما هو بتاجر، بل شاعر يغازل بضاعته، فكيف به إذا غازل حبيبته؟ ربما كان أخيب! كل حي بلدي له كودية وفتوة، هنا كأنما كل بطن تود أن ترقص، رجالًا ونساء وأطفالًا، هنا البرقع الأسود، والقصبة على الأنف، والملاية اللف تضم الصبا والدلال والتعرض والصد، هنا موطن ابن البلد، رتق مثاقبَ الحضارات ظَرفُه ولطفه، وتعاقب الزعقة والكرشة تحت أسوار القلعة، سنَّ نكتته سنَّ السكين والمقص. هذه القاهرة تستطيع أن تمدنا بمائة لوحة جميلة … إلخ» (يا ليل يا عين، ٥٦). وتقول السيدة: «القاهرة ممتازة؛ زحام ومحلات وناس شيك» (التحرر من العطش). ويقول رشدي عاكف: «القاهرة نعمة من نعم الله، هي الدنيا والدين، الليل والنهار، الجحيم والجنة، الغرب والشرق» (خان الخليلي، ١٢٠). وتدافع مبروكة عن نفسها بالقول: «ليس ذنبي أني رأيت الحياة في المدينة، ولقد عاشرت ناسًا كثيرين يتمتعون فيها بالحياة، فأردت أن أشاركهم وأعيش مثلهم … أهذا هو ذنبي؟» (الرجل الذي فقد ظله، ١ / ١٥٤). ويصفها الفنان بأنها «مدينة المدن، متوحشة وجميلة، في هوائها حرية، وفي ضوئها قدرة واقتدار. من يسكنها عظيم، ومن يغادرها منفي مسكين، لا يقدر أن يغيرها أحد» (زهر الليمون، ٣٦). وهي — في تعبير آخر — «القاهرة الواسعة الرحيبة التي تكاد تبتلع الناس جميعًا بما لهم من عظمة وجاهٍ وسلطان» (الترابيزة). والوافد إلى القاهرة من الأقاليم يكون ذهنه مشغولًا — في الأغلب — بأحاديث الأصدقاء عن الحرية المطلقة التي سيجدها أثناء إقامته في العاصمة (جسد من طين). وأبناء القرى يغادرونها، ويقيمون عند معاهدهم (طرقات على أبواب الصمت).
وقد ظلت القاهرة — لعشرات الأعوام — هادئة، خالية، ولافتات «شقة للإيجار» تعلو الشرفات والنوافذ (رحلة إلى بحر الزمرد). وفي العشرينيات من القرن العشرين، أصبح سكان المدن أكثر من ١٨٪ من المجموع الكلي للسكان. ثم تطورت النسبة، فأصبح سكان المدن يشكلون حوالي ٥٠٪ من مجموع السكان، في حين بلغت نسبة سكان القاهرة وحدها أكثر من ٢٠٪ من مجموع سكان مصر. تقول الراوية: «ما أكبرَ الفرق بين القاهرة اليومَ في هذه العشرة السادسة من القرن العشرين، وبين أيام طفولتي وصباي في العشرة الأولى من القرن نفسه» (هكذا خلقت، ١٣). ثم أصبحت القاهرة «كبيرة جدًّا إلى الحد الذي لا تسمح فيه بتكرُّر المصادفات» (فتاة في المدينة). والزحام هو الصورة المتبقية من المدينة، بعد أن يغادرها الزائر (إنه يشبهك تمامًا). تسميها الشاعرة ريم بأنها مدينة الأسمنت (الرواية، ٣١). ويصفها صابر الرحيمي بأنها سوق تتلاصق فيها الأجساد والسيارات (الطريق، ٨٥)، وهي — في رؤية عم عزيز — النهر العريض، والشوارع الفسيحة، والعمائر العالية، والمتاجر الكبيرة، وأجسام الناس الكرشاء، المترهلة، وعيونهم التي تتدلى من تحتها الجيوب» (الغزوة الواحدة بعد الألف)، وهي «رمز لمصر كلها» … «بها التاكسي والعربة الملاكي والعربة الكارو والتروماي والترولِّي والأوتوبيس والبسكليت» (الرقصة المباحة). أما الشيء الذي أسَر لُبَّ الراوي «في هذه القاهرة الضخمة الغامضة»، فهو «ليلها وأنواره وأسراره العصيبة. الليل الذي أعرف كيف أحدثه بطموحي وآمالي، ويعرف كيف يستمع في صبر إلى أحلام شاعر» (شهيرة). وحين يغادر الفتوة زيدان السجن، بعد أن أمضى داخله «تأبيدة»، فإن صورة التغير في المدينة التي عاش فيها حياته، قبل أن تغيبه الأسوار، صدمته، كأن القيامة قامت، فالعمائر الضخمة حلَّت محل البيوت العتيقة المتهاوية، والسيارات المنتظرة على الجانبين، والأوتوبيسات المنطلقة كالقلاع والزحام الشديد … ذلك كله راعه، فكأنما القيامة قامت بالفعل (العودة). أما العائد إلى القاهرة، بعد غيبة خمسين عامًا، فإنه يجد التغير قد فاق الخيال: الطريق إلى داخل المدينة، يُبين عن قاهرة أخرى مجنونة بالزحام والسيارات والصراخ والدمامة (يرغب في النوم). ويصف الفنان القاهرة بأنها لا نهائية، «إنها تربِضُ في أي مجال من مجالات البصر، كائنًا عملاقًا بلا حدود ولا تناسق، ملوِّحة بآلاف الأذرع والسواعد والأصابع، تستوي فوقها آلاف مؤلفة من الأبنية الشاهقة المجللة بطابع العصر المتعجرف التياه، وأخرى متهرئة حالَ لونُها في قبضة الزمن الجارف، وثالثة آيلة للسقوط، يلتصق بها سكانها في استسلام وإصرار، وفي فجاجها يتلاطم الناس في صخب، ويتلاقون في غفلة وضوضاء. وتتابع الباصات والسيارات والكارو والجِمال وعربات اليد، عازفة أصواتها المتضاربة، والحوادث كثيرة، والأفراح صارخة، والجنازات زاعقة، والمشاجرات دامية، والعناق حار، وحناجر تنادي على سلع من الشرق والغرب والجنوب والشمال، ويختلط الأنين بشهقة الحمد والرضا (النسيان). ويقول صادق: «الحق أنها أصبحت مدينة مزعجة جدًّا لا أعرف كيف يتحمل سكانها الحياة فيها» (بحيرة التمساح، ١٣٠).
وإذا كان الزحام هو الانطباع الأول الذي تواجه به القاهرة شخصيات بعض الأعمال الإبداعية، فإن السرعة كانت هي الصورة التي طالت راوي شجرة اللبلاب، فكل شيء سريع؛ الناس يتكلمون بسرعة، ويتحركون بسرعة، ويأكلون بسرعة، مقابلًا للهدوء والرضا والرتابة والهمود الذي يَرينُ على الحياة في الريف (شجرة اللبلاب، ٥١).
لم يعُدْ سكان القاهرة يُحسُّون من الطبيعة إلا ببردها وحرها، حجبتهم عن التمتع بها زحمةُ العمارات والسيارات والناس (مع فائق الاحترام)، يشير إبراهيم بك — في مطالع القرن العشرين — إلى بناء البيوت في الأراضي الزراعية في الجيزة والدمرداش والعتبة والزيتون والمطرية وروض الفرج (فتاة الفيوم، ٥٦). ثم حجبت العمارات العالية والأضواء الصناعية ضوء القمر (باختصار). وربما ظهر سريعًا في فجوة سماوية بين عمارتين (لحظة قمر). أصبحت القاهرة تعاني دخان المصانع، وأبواق السيارات، ونداءات الباعة الجائلين، وضجيج الورش والمقاهي، والمطاعم، والزحام، والطرق المتربة، والغبار (العائلة)، وخلت من الحدائق، وقُطعت الأشجار من معظم شوارعها (البحر ليس بملآن)، وتميزت بسمائها ذات الغبرة الرمادية (قصة حب، ١٠٥). هي الآن «مخنوقة بغيوم الغبار والدخان، كئيبة في ترهلها السرطاني من كل الجهات، سادرة في قسوتها وفوضاها ولا مبالاتها، ومحكومة بروح شيطان عجوز» (اسم آخر للظل، ٢٨). بل إن القاهرة الآن مؤلفة من ثلاثة طوابق، وربما أربعة: مترو الأنفاق، والشوارع، والكباري العلوية. يقول زيد بن عبيد في مرثيته للقاهرة: «من ذا الذي أخرج أمعاءك ونثر أشلاءك؟ هل حفرت شوارعك أظافر مجنون؟ هل قطع مواصلاتك، ولوَّث مياهك، ورفع أسعارك، غريبٌ مخمور أو عدوٌّ مأجور؟ هل شِخْت أم شاخ سكانك؟» (شكوى الموظف الفصيح). لذلك فقد حرَص نهاد أن يشتري مزرعة في أطراف القاهرة؛ فرارًا من الدخان والتراب والضجة والصخب والقمامة، وغيرها من عوامل التلوث (أمين العيوطي ونجمة الفجر الدافئ، ٤١).
لقد أطلق فيكتور هوجو اسم «التنين» على مدينة باريس، وسمى إليوت لندن «الوحش الكفيف»، وشاعر إنجليزي آخر سماها «عقوبة الإعدام». وسمى الراوي مدينة القاهرة باسمها الحقيقي: القاهرة. تلك أصدق تسمية لها (عزف منفرد). ويقول تحسين: آه منك يا مصر، قادرة ومقتدرة (القضبان، ١٢٨). ويتساءل أبو السعد البهلول: وما الذي يجعل هذه المدينة التي لم يحبها على هذا القدر من الوحشية؟ (خط الزوال).
•••
في رواية ديكنز «التوقعات العظيمة» اكتشف بيب أن لندن — التي طالما تاق إلى زيارتها — ما هي إلا مدينة للقسوة والوحشية والأنانية المطلقة. ويصف الأب القاهرة بأنها «غابة! نعم غابة» (الكل باطل من جديد)، ويصفها الفنان بأنها «كتل من الحجر صمَّاء، كقلوب أهلها. تراصت عرضًا وطولًا، حُفرت فيها بلا ذوق، وبتفكير تجاري خالص، فجوات ودهاليز، ظاهرها الغليظ خير من باطنها، باطنها خير من قلوب أصحابها» (صرخة في واد). وتصف الراوية أهل القاهرة بأنهم أشبه بحيوانات «تعيش داخل أقفاص أسمنتية ضخمة، كلٌّ بقفصه منفرد يتجاهل وجود الآخر، ويتصرف وكأن لا أحد في هذه المدينة سواه» (درب التبانة). إنهم «بلا روح ولا ذاكرة، في مدينة بلا روح ولا ذاكرة» (قدر الغرف المقبضة، ١١٧). ويقول الشيخ جاد الله: أهل مصر دول والعياذ بالله، ربنا يرحمنا منهم (القضبان، ٧٦). ويعبِّر قطب عن نظرته إلى أهل القاهرة في قوله لصديقه سعداوي: «تعرف يا سعداوي، الدنيا هنا عاوزة الغشاش اللي ما عندوش ذمة، وعلي الطلاق أنا لو ما كانش عندي ذمة، كنت بقيت صاحب عمارة، ولَّا صاحب بنك» (بنت مدارس). وتعلو الأصوات الساخطة، أو الرافضة: الله يلعن التمدن، ويوم ما سمعنا على اسمه (يحكى أن). وحين تأسر المحققَ طبيعةُ أبناء الصعيد الواضحة الطيبة، فإنه يتذكر القاهرة، تتحول في عينيه «إلى كتلة ضخمة من التفاهة، ليس فيها رجال، وليس فيها مشاكل، فيها ضجة حمقاء وصخب أبله» (الجبل، ١٣٤). والقاهرة — كما يراها شبان القرية — مدينة النساء والسينمات والبهجة، تولد فيها علاقات الحب ببساطة غريبة، في الشوارع والأوتوبيسات والنوافذ (وجه الملاكم). يقول الفنان: «القاهرة مدينة شديدة التسامح مع عبث الهوى» (كفارة الحب). وأهل القاهرة متهمون بالطراوة والأنوثة: «حاكم العيال البيض بتوع مصر دول كلهم مايعين، ظباء، والنبي أنا ما يملا عيني حد من أهل مصر دي كلها، لا حريم، ولا رجالة. مصر كلها حلاوة، حلاوة بيضة» (الشوارع الخلفية، ١٦٨)، بل إن نظافة أبناء المدينة تصبح — أحيانًا — مجالًا للتندر؛ باعتبار أن العناية بالنفس تجعل الرجل أقرب إلى النساء (الحمامة البيضاء). وصورة القاهرة — بعامة — عند أبناء الريف مهتزة، أو رديئة. يقول أحدهم: مصر نسيت ديننا. ويقول آخر: إنهم يصلون بغير وضوء. ويقول ثالث: يكفي أن مصر بها السيدة والحسين ليغفر الله جميع ذنوب أهلها (الغبي، ٨٧).
•••
وعلى الرغم من كل الانتقادات التي توجه إلى القاهرة، فقد تزايد سكان المدينة بالهجرة، وليس بالإنجاب. وهو ما لاحظه الراوي في صف البيوت والقصور المتناثرة بالقرب من خزان أسيوط. هجرها أهلها إلى القاهرة والإسكندرية (هذه هي الحياة). إن أعداد الذين يسافرون إلى القاهرة من الأقاليم للإقامة فيها، تفوق — بالقطع — أعداد المواليد بين سكان القاهرة «حيث الطعام الكثير والكباب والروائح الحلوة واللوكاندات وبحر النيل الأعظم، حيث يبدأ النيل وينبع» (النداهة، ٢٤٩). ويقول الأب: «على كثرة مشاكلها وأزماتها — القاهرة — أحبها، مدينة كل شيء؛ الجميل والقبيح، الضار والمفيد، من يزُرْها مرةً لا يَسْلَها أبدًا (حكاية ريم الجميلة، ٣٢٧). وظل حلم الخفير شبراوي بزيارة القاهرة يشغله، حتى أتاح له اصطحاب زبيدة المجنونة من قريتها إلى مستشفى الأمراض العقلية، فرصةَ السفر إلى حلم عمره. وقد تحقق الحلم بصورة مخيفة. اختفت ذكريات أيام الخدمة العسكرية بالتردد على المطعم الشعبي بالترجمان، وسينما الأهلي بالسيدة زينب. حل بدلًا منها مشوار مكوكي متعب، بين قسم الشرطة والمستشفى، حتى لم يجد في النهاية وقتًا لتحقيق تفصيلات حلمه (مشوار).
القاهرة هي النداهة التي تطارد البعيدين عنها، تدعوهم إليها لتَلتهمَهم (النداهة). ظلت تطارد فتحية بندائها الغامض الملِح، واندفعت فتحية وراء النداء. رفضت قَرويًّا ميسور الحال، وفضَّلت عليه «حامد»؛ لأنه يعمل بوابًا بعمارة في القاهرة، فهي إذن ستقيم في المدينة الكبيرة، وتمارس حياتها على النحو نفسه الذي تمارسه نساء العاصمة … لكن الصدمة التي واجهتها فتحية — بعد أن تحقق حلم حياتها — لم تعُدْ بها إلى القرية، إنما ساقتها — كالمخدَّرة [أذكِّرك بالعنوان] إلى طريق الضياع في المدينة الصاخبة. لقد استسلمت فتحية — القرية — للساكن الشاب — القاهرة — تمامًا، وفرَّت من زوجها لما أراد إعادتها إلى قريتها، ليبتلعها زحام العاصمة، وتوقعاتها المغرية، والقاسية [راجع «سور»].
•••
إذا كانت المدينة «يتوه فيها الناس، وتنستر الخطايا» (وكالة عطية، ٣٦٦)، فإن بعض مدن الأقاليم لا تعدو أن تكون قرًى كبيرة» (شباك حبيبي). ثمة بيوت في المدينة تشابه بيوت القرى، بعضها بُني بالطين، وبعضها لا تنفُذ منه الشمس، ولا يدخله النور، وبعضها مثل حظائر الماشية، تمتلئ ساحاتها بالبط والخراف والحمير (أيام الطفولة، ١٠٠). وعلامات الصحو في المدينة بعامة، تتمثل في صيحات باعة الفول، وباعة الصحف، وعجلات باعة الخبز التي تمرق مسرعة (عنزة خالتي جندية).
تسمية «الثغر» تطلق على المدن التي على الحدود. وقد سميت الإسكندرية باسم «الثغر» في عهد الدولة العباسية. من الخطأ القول: الإسكندرية مدينة على البحر. الأدق: الإسكندرية مدينة يحاط معظمها بالبحر، فالبحر يحيط بها من ثلاث جهات. إنها لسان طويل من الأرض داخل البحر، شبه جزيرة. وكل شوارع المدينة منزلقة دائمًا نحو البحر. أنت في أي مكان تجد نفسك — فجأةً — في شارع يتدلى بك نحو البحر (شلالات الكهف الداعر).
في العصر البطلمي، وحتى سنة ٣١ق.م. بلغت الإسكندرية ذروة مكانتها الحضارية والمعمارية والاقتصادية، واستحقت وصف «درة مدن العالم». كانت هي المدينة الوحيدة التي يطلق عليها هذا الاسم. أما بقية مصر فقد كانت تسمى الريف (الإسكندرية عبر العصور، ١٠٦). وقد تخلَّت الإسكندرية عن صفتها كعاصمة لمصر، منذ نقل العرب مركزَ الحكم إلى مدينة الفسطاط. وهي — بالمقاييس الجغرافية — أنسب المواضع للعاصمة المصرية، حيث يربط بين أسفل الأرض وأعلاها، بين الدلتا والصعيد. ثم تبدلت أحوال الإسكندرية بعد شق ترعة المحمودية. أصبحت المواصلات النهرية — والبرية كذلك — ميسورة بين القاهرة والإسكندرية. وكان الرجل يسير على شط المحمودية، يرقُب المراكب الشراعية والمراكبية والمجداف الكبير الذي انغرز في طين الشط والأغاني المصاحبة وقوالب الطوب وتلال الغلال وأقفاص الكرنك وتكتكة البواخر والصنادل (باب سدرة، ٧٦). وإذا كانت قد زالت عن الإسكندرية صفة العاصمة الثقافية، فقد ظلت الإسكندرية هي العاصمة التجارية لمصر طيلة القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين.
ويقول قسطنطين كفافيس: «الإسكندرية ليست مدينة، لكنها حضارة.» كانت — منذ إنشائها — ملاذ الفلاسفة والأدباء والفنانين والشعراء والعلماء ورهبان الصحراء والمتصوفة والسحرة والطقوس الدينية التي لا نهاية لها. واللافت أنه بعد أن صارت المسيحية هي الديانة الرسمية لمصر، تحول الكثير من المعابد الوثنية إلى كنائس. وتُبين الإسكندرية عن بعض ملامحها في العديد من أعمال نجيب محفوظ، لكنها ملامح تلحظها عين الزائر، عين العابر غير المقيم، ذلك الذي قد يقضي في الإسكندرية زمنًا، يقصُر أو يطول، ثم يغادرها إلى مدينته التي قِدم منها. الإسكندرية في أعمال محفوظ هي الكورنيش والبحر والفندق والتريانون والشوارع الرئيسة. أما الإسكندرية الصيادون والبحارة والعاملون في الميناء والتجار والحِرفيون، فلا تشغلهم كلُّ تلك الملامح التي تناولها نجيب محفوظ في أعماله؛ لأنها — في الحقيقة — لا تعدو هوامش في حياتهم العادية.
كانت الإسكندرية — ذات يوم — كما تقول اليونانية العجوز ماريانا [ميرامار]: أرستقراطية، ذات وجه أجنبي. كان الأوروبيون يفضلون سُكنى الإسكندرية؛ لأنها الميناء الذي يطل على البحر المتوسط، ويمثل همزة الوصل بين مصر والعالم. وكانت مركزًا لتجارة القمح والقطن، المحصوليْن الرئيسيْن لدلتا النيل. تقول ماريانا بحدة: ولكننا نحن الذين خلقناها، ثم أصبحت الزبالة تملأ شوارعها. يقول لها عامر وجدي: كان لابد أن تعود إلى أهلها.
وصفت قوت القلوب الدمرداشية الإسكندرية بأنها بوابة العالم. ويصفها مروان أمين بأنها مدينة عالمية، فتؤمِّن الراقصة سمارة الأمير على قوله بأن نصف زبائن ملهاها من الخواجات (سمارة الأمير). وجو الإسكندرية متقلب «بإشراقه وعذوبته ونواته الضارية» (المصدر السابق)، وإن مال إلى الرطوبة في الكثير من أوقات السنة (شتاء جريح، ٢٨٠). وسبتمبر من الشهور المحبوبة في الإسكندرية، «يطيب فيه الجو ويدفأ البحر ويصفو (الشريدة). أما الخريف، فهو روح من أرواح الجنة، وهو مغسل لجميع الأحزان» (السمان والخريف، ١٨٨). وأما في الشتاء، فإن الإسكندرية تخلِّي ميادينها وشوارعها مع المغيب، فيمرح فيها الهواء والمطر والوحدة، وتعمر بيوتها بالمناجاة والسمر (ميرامار، ١٤). ويراها صابر الرحيمي «مدينة هائلة من السحب، وهواءً باردًا معبَّقًا بمطلع نوفمبر، يجوب شوارعها الأنيقة شبه الخالية» (الطريق). ويقول منصور باهي: «يعجبني جو الإسكندرية، لا في صفائه وإشعاعاته الذهبية الدافئة، ولكن في غضباته الموسمية، عندما تتراكم السحب، وتنعقد جبال الغيوم، ويكتسي لون الصباح المشرق بدكنة المغيب، ويمتلئ رواق السماء بلحظة صمت مريب، ثم تتهادى دفقة هواء، فتجوب الفراغ كنذير، أو كنحنحة الخطيب. عند ذاك يتمايل غصن، أو ينحسر ذيل، وتتابع الدفقات، ثم تنقض الرياح ثملة بالجنون، ويدوِّي عزيفها في الآفاق، ويجلجل الهدير، ويعلو الزبد حتى حافة الطريق، ويجعجع الرعد حاملًا نشواتٍ فاترةً عن عالم مجهول، وتندلع شرارات البرق، فتخطف الأبصار وتكهرب القلوب، وينهل المطر في هوس، فيضم الأرض والسماء في عناق ندي. عند ذاك تختلط عناصر الكون وتموج وتتلاطم أخلاطها، كأنما يعاد الخلق من جديد … وعند ذاك فقط، يحلو الصفاء والطيب. إذا انقشعت الظلمات، وأسفرت الإسكندرية عن وجه مغسول، وخضرة يانعة، وطرقات متألقة، ونسائم نقية، وشعاع دافئ، وصحوة ناعمة» (ميرامار، ١٨٢). الإسكندرية تُبين عن نفسها في ميرامار كخلفية هامشية. فإذا كانت الأحداث تصح في الإسكندرية، فإنها، تصح — بالنسبة لميرامار تحديدًا — في مدن أخرى.
وثمة كتابات إبداعية أخرى، تجد شخوصها أن «الإسكندرية تعني البحر» (حافة الليل، ٦١) والنزهة على الشاطئ كلَّ مساء، والذرة المشوية، والمرح على شاطئ البحر (باب الخلق). وتتحدث عن شوارعها المبتلة، النظيفة، ونهارها الهادئ، وليلها المستكين (ولنظل إلى الأبد أصدقاء، ٤٦).
ومجتمع الإسكندرية يأذن للمرء بأن يرتدي المايوه على الشاطئ (الحب والمجتمع). والاصطياف في المدينة حِرْص أبناء الطبقتين الموسرة والمتوسطة، وأمل يتوق لتحقيقه أبناء الطبقة الفقيرة. وربما لجأ البعض إلى بيع شيء يمتلكه لتدبير مصاريف السفر والإقامة. وهو ما أرادت أن تفعله تحية، لولا أن أقنعها زوجها وأخوها بالعدول عن عزمها، حتى لا يكتشف الناس من عقد البيع أن جدها كان حلاقًا في باب الخلق (باب الخلق) وقد يلجأ البعض إلى السرقة لتدبير تكاليف الرحلة إلى الإسكندرية مثلما فعل عم إبراهيم الفراش (دنيا الله). وبعد الحرب العالمية الأولى تطور الاصطياف في الإسكندرية، فلم يصبح من الكماليات، وإنما جعله الناس من الضروريات، وأقيمت الكبائن لأول مرة على البلاج. ثم وُضعت فيما بعد لائحة للشواطئ، جعلت فصل الاصطياف يبدأ في إبريل [عدل بعد ذلك إلى مايو] وينتهي في أكتوبر، وبدأ انتظام الغواصين الذين يُنقذون الغرقى، أو الذين يشرفون على الغرق.
يقول الراوي: «إنها مدينة تختلف بالتأكيد» (صياد اليمام، ٢٥٧). وهذا الاختلاف يَبين في طبيعة الحياة المتأثرة — بدرجة وبأخرى — بطبيعة الحياة الساحلية، التي تمارس الصيد وأعمال الميناء والاستيراد والتصدير والتخزين والنقل، وتختلط في كل أيامها بالوافدين إليها من البحارة الأجانب والركاب «الترانزيت» … فضلًا عن تأثرها المؤكد بالجاليات الأجنبية التي ظلت تستوطن المدينة، لعشرات السنين، قبل أن تخلو منها المدينة — أو تكاد — في أعقاب عدوان ١٩٥٦م.
ومن الأشياء التي تتسم بها البيوت في الإسكندرية، خاصة تلك التي تُطل على البحر أو القريبة منه، التأثيرات التي تُحدِثها ملوحة البحر في كل شيء. وهي تأثيرات تشمل حتى الأحجار الجيرية، أو الطوب الذي شُيدت به، فتداخله ثقوب ورطوبة (بوابة مورو). الرطوبة عامل أساسي في تعريض معظم البيوت القديمة، المواجهة للبحر، للانهيار (حكايات البراءة). ويلاحظ الفنان أن بيوت الإسكندرية تبلى وتَهرَم، لكنها لا تتسخ أو تسودُّ من التراب (قدر الغرف المقبضة، ٥٩).
أما النوات فتعد جزءًا من الحياة السكندرية، يترقبونها باليوم، ويستعدون لتأثيراتها التي تشمل موارد رزقهم، وعمليات الصيد بخاصة. وتتفاوت التأثيرات الظاهرة للنوات، ضعفًا وقوة، فتصل إلى حد تحطيم سفن الصيد والكبائن المصطفة على الكورنيش وأعمدة النور والأشجار والنخيل.
وتدخل الإسكندرية ذروة الاختناق بالزحام في يوليو، وتظل على تلك الحال حتى مطلع سبتمبر (وسام). ومن ملامح الحياة في المدينة، أن الشتاء أجمل من الصيف. وكما يقول سامي: من يعرف مدينتنا لا يأتي إليها في الصيف. أحب الشهور أبريل ومايو وسبتمبر، والشتاء كله (شكاوى الجندي الفصيح). ويقول أحمد داود: «إسكندرية دي أعظم مكان في الكون؛ خصوصًا في الشتا» (وداد تمتلك قلب قديسة). وتقول الراوية: «الإسكندرية جميلة جدًّا في الشتاء» (ديسمبر عشقًا وتساؤلًا). والكثير من أبناء الإسكندرية يضيقون بها في الصيف، حيث تعاني الزحام والصخب والتلوث (سماء زرقاء وبحر من اللازورد).
ويصف الفنان أهل الإسكندرية بأن فيهم قوةً وعنفًا، وصراحةً وظَرفًا (الأيام، ٢ / ٤٤). والشخر عند أهل الإسكندرية، في تقدير الفنان، كالتنفس (حديث الصباح والمساء، ١٧٦). أما عادة الثأر، فقد حملها الصعايدة الوافدون (الغجر، ١٢). وعادة، فإن أبناء الصعيد يسافرون في إجازة الصيف إلى الجنوب (سوق عقداية، ٣٦).
واللافت أن المدينة اكتظت في الأعوام الأخيرة بالبشر والسيارات. أصبحت مثل مخزن روبابيكيا، أو سوقًا مزدحمًا. والحركة عشوائية كحركة الميكروبات والحشرات، والبحر اختفى جماله، وتحولت المدينة عمومًا إلى غابة بدائية تطل على مستنقع تطنُّ في أجوائه طيورٌ متوحشة وحشرات بليدة (كوميديا العودة).
•••
وعواصم المحافظات تدخل في حدود المدينة، ويطلق عليها البندر أو القِسم (عالم الفكر، المجلد السابع، العدد الرابع). والبندر كلمة فارسية بمعنى مركز تجاري، أو رئيس القرى، وتطلق على المدن ذات الأسواق التجارية والموظفين، والتي يحيط بها عدد من القرى.
مطروح هي عاصمة الصحراء الغربية (لا أحد ينام في الإسكندرية، ٢٨١). وهي المدينة التاريخية لكليوباترة وأنطونيو (المصدر السابق، ٢٨١)، وتضم سبعة أقسام: مرسى مطروح، سيدي براني، السلوم، الضبعة، الحمام، برج العرب، سيوة. وبين مطروح والسلوم — آخر حدود المحافظة غربًا — ٢٥٠ كيلومترًا، وكانت الجِمال والحمير تتولى — إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية — مهمة الربط بين أجزاء المحافظة. وغالبية أبناء مطروح ينتمون إلى قبائل أولاد علي، ويتفرع منها أولاد علي الأبيض، وأولاد علي الأحمر. ويُروى أن الجد الأكبر لقبائل المنطقة، عقار بن سعدي، استوطن المنطقة في القرن الخامس عشر الميلادي، وأنجب ولدين هما عليٌّ وحرب. وبعد وفاة الأب قامت المشاحنات بين الابنين، وانتصر علي، ونودي به زعيمًا للقبيلة، وانضمت إليه بضع قبائل من الغرب، وتزوج اثنتين: سعدى الحمراء وعائشة البيضاء، وأنجبت كلاهما ولدًا بعد وفاته بخمسة أشهر، سُمي عليًّا على اسم أبيه، فأطلق الأهالي على ابن سعدى لقب الأحمر، وعلى ابن عائشة لقب الأبيض، ومِن نسلهما — كما قيل — تفرعت معظم قبائل المنطقة (الجمهورية، ٢٥ / ٩ / ١٩٧٥م). والعرف في مطروح له قوة القانون، وشيخ القبيلة هو الذي يحكم العلاقات. ولباس الرجال في مطروح هو اللباس البدوي الليبي الأبيض: الصديري الصغير المرتفع عند الخصر، السروال الأبيض الخفيف والطاقية (يقين العطش، ٢٥٨).
وإلى زمن محمد علي، كانت دمياط أكبر من الإسكندرية، وأشدَّ أهمية. وصفها ابن بطوطة [١٣٢٦م] بأنها «مدينة فسيحة الأقطار، منوعة الثمار، عجيبة الترتيب، آخذة من كل حسن بنصيب» (تحفة الأنظار في غرائب الأمصار)، ودمياط كثيرة الأمطار شتاء؛ حتى إن سماءها توصف بأنها «مخرومة» (الحب في أرض الشوك، ٧٨). ومن السمات الرئيسة في دمياط: موسم الجفاف الذي يؤدي إلى تغير ماء الشرب نتيجةً لتسرب المياه المالحة من سد فارسكور [تغيرت الصورة بعد إنشاء السد العالي] ومولد سيدي أبو المعاطي الذي يُعدُّ موسمًا للرواج التجاري في دمياط، والكوبري الموصل إلى بر المدينة (النهر والمصب). يصفها الفنان بأنها مدينة صغيرة لها قلب عجوز، لا تعرف الراحة لأنها مدمنة للمال، وعرق الصبية، ورائحة الخشب الزان والسويدي والبياض وأوامر الأسطوات (ظل الحجرة، ٢٠). وتكثُر في دمياط وخارجها سياراتُ نقل الأثاث الذي تشتهر المدينة بصنعه، وثمة مواكب الموتى التي تفِدُ إلى دمياط من القرى المجاورة؛ لأنها جميعًا تخلو من المقابر (الإصبع والزناد). ومعارض الأثاث تمتد على طول طريق الكورنيش (ظل الحجرة، ١٨). الصالونات الأبهة وأطقم النوم والسفرة والأنتيكات، والرخام ألواح تمتص دفء الشمس من غروبها، لا تمنحه إلا للمشترين والسماسرة وتجار الجملة والقطَّاعي (ظل الحجرة، ٥٩). ويصف الفنان انتشار تلك المعارض بأنها تُلقي بظلالها العمودية في مياه النهر المعتم على امتداد الشاطئ، كأنها أبواب عالية مصفوفة، تتوهج بلون الذهب (الحب في أرض الشوك، ٧٩). والبوتيكات مكتظة بعلب الشامبو والأقمشة الجرسية ومشدات الصدر والورد الصناعي وأعواد البخور الجاوي وعلب الأناناس (ظل الحجرة، ١٩).
ويسأل الصديق صديقه: أنت عاشرت أهل البلد، وتعرف كيف يفهمون العلاقة الإنسانية بين الناس …
يقول الصديق: لعلهم لا يجدون في حياتهم شيئًا غير عادي كأهل المدن الأخرى. أعتقد أن أسلوب معيشتهم هنا رتيب لا يتغير، أعني لا شاذ فيه، ولا خروجَ أحيانًا على ما ألِفوا من قديم.
ويُجمل الفنان الأمر كله بأن هذه طبيعتهم. قد يضيق الغريب الوافد على المدينة حديثًا بهذه العادة كثيرًا في أول الأمر، ثم لا يلبث أن يروض نفسه على قَبولها (المصدر السابق). ومع أن دمياط اشتهرت بالصناعة والتجارة، فإن البطالة تمثل في حياتها مشكلة يصعُب إغفالها:
– وماذا يأمُل شخص مثلك أن يجد هنا، في هذه المدينة، غير البطالة؟
– صحيح … ماذا في دمياط يمكن أن يجده شخص مثلي؟ … لكن ماذا أفعل؟ … هي لا تريدني أن أترك هذا البلد.
و«هي» هذه، شأنها شأن بنات دمياط، كما يقول الفنان، لا يُرِدْن ترك بلدهن (الأصبع والزناد). واللافت أنه قد تكونت في المدينة طبقة جديدة، تقتني الثروات من أزمة الخشب. تحوَّل النجارون إلى تجَّار أثاث، وصدَّروه إلى الخارج، واغتنوا (الحب في أرض الشوك، ٧٥). وملاحظة الرجل أنه «لا أحد يسرق الشقق في دمياط» (المغاربة). ولأن دمياط مثلُ قرية كبيرة، فإن أكثر مِن رابطٍ يشدُّها إلى القاهرة التي تتمركز فيها مصالح أبناء الأقاليم، فقاضي المحكمة يُنهي جلساته كلَّ يوم في موعد محدد حتى يلحق قطار القاهرة، وعشرات الأُسر القاهرية تقضي فترة الاصطياف في رأس البر، وقبل إنشاء الجامعات الإقليمية، كان أبناء دمياط يرحلون إلى العاصمة استكمالًا لدراساتهم العالية، أو لقضاء مصالحهم التجارية والزراعية والصناعية. وعلى الرغم من أن الموظف الذي كان يُنقل إلى منطقة القناة، كان يتقاضى ثلاثة جنيهات علاوة «القنال» (حتى مطلع الفجر، ٥)، فإن المنطقة، كما يصفها الفنان، ذاتُ تقاليدَ أوروبية مرِحة (المصدر السابق، ٥).