المقدمة

الطبيعيات أو الفلسفة الطبيعية هي السلف التاريخي المباشر — وفي الآن نفسه الجذور الضاربة في البنية الثقافية — للعلم الطبيعي الذي يتربع على صدر نسق العلم الحديث، واحتل الموقع الاستراتيجي المعروف في مشروعه، هذا المشروع الذي اتسعت جنباته رويدًا رويدًا، حتى شملت كل فروع العلم؛ الفيزيوكيمياوية ثم الحيوية ثم الإنسانية، بفضل القيادة النَّاجحة للفيزياء الكلاسيكية النيوتونية، وفي مطالع القرن العشرين هبَّت ثورة النِّسبية والكوانتم (الكمومية) اللتين انتزعتا مقاليد السلطة الفيزيائية من النيوتونية، وكان هذا إيذانًا بالتعملق المعاصر الرَّهيب للعلم الطبيعي، وبالنضج الثري الزَّاخر لفلسفة العلوم، حتى تعد من المنجزات اليانعة حقًّا للفكر الغربي الحديث؛ أَوَليست تقنينًا لأصلاب أشد عناصر الحضارة الحديثة فاعلية واتِّقادًا: العلم الحديث؟!

بيد أننا نحيا في عصر توظيف المعلومة، وليسَ مَقْبُولًا أنْ يقتصر بحثُنا في فَلْسَفَة العلوم — التي هي غربية بقدر ما هي مُعاصرة ومُستقبلية — على الدرس والنَّقل والترديد الأصم، بل لا بدَّ من استيعاب هذا لتشغيله وتفعيله في واقعنا الحضاري، ويا حبَّذَا لو جاء هذا التشغيل في رحاب ولخدمة الهاجس المُلِحِّ إلحاحًا على العقل العربي، منذ فجر يقظته الحديثة مع بدايات القرن التاسع عشر، وحتى الآن وما هو آتٍ … ألا وهو هاجس تجديد التراث وضخ الدماء في شرايينه، وبعث الحياة وعوامل النَّماء والتطور فيه، هذا الهاجس الذي تمخَّض عما يموج به الفكر العربي المعاصر من مشاريع شتَّى تهدف إلى تجاوز واقع مأزوم بآفاق فكر نهضوي، وكما سوف يتضح من السياق التالي، مثَّلت تلك المشاريع مَددًا قويًّا لهذا البحث، فقد حاول الاستفادة من معظمها، والذي تخلَّق في بقاع شتى من الوطن العربي/الثقافة العربية، بل ومواصلة مسيرتها!

إنَّ جميعها — بطبيعة الإنجاز الفكري والفلسفي — مشاريع نخبوية مجرَّدة بدرجات متفاوتة، تدور في رُحى إشكالية العلاقة بين الفكر والواقع، بين مطرقة واقع موَّار وسندان فكر رهَّاج؛ لتبزغ الطبيعيات كبؤرة أولية متعينة للواقع، تميَّزت عن كل تعينات الواقع بأن العقل العلمي المُمنهج استطاع أن يُحكِم قبضته عليها حين اقتنصها بين شباك النسق العلمي، التي تزداد ثقوبها ضيقًا ودقة يومًا بعد يوم، وإلى غير نهاية.

ويبرز علم الكلام بوصفه الانبثاقة الأولى للعقل العربي، لا سيما وأننا سوف نحاول الغوص في أعماقه، وتتبع توالي نصوصه فيما يختص بالطبيعيات، ثم يُلزمنا منهاج البحث بتتبع مسار الطبيعيات إلى الفكر الفلسفي؛ هذا لأنَّ الفلسفة الإسلامية — كما سوف نُبَيِّن — لم تكن إلا تطويرًا لعلم الكلام، ظهرت بعد أن تفاعل مع تراث الحضارات الأخرى، واستوفى نضجه، لتمثِّل الفلسفة مرحلةً أعلى من مرحلة التمهيد الكلامي التي كانت المقدمة الضرورية لها. هكذا نجد معالجة الطبيعيات في علم الكلام يتضمن ركابُها الطبيعيات في الفلسفة الإسلامية عند أساطين المشرق والمغرب معًا، ثم أولئك المعروفين باسم الفلاسفة الطبيعيين الذين يتحمَّلون عبء ما نُسَمِّيه الآن تاريخ العلوم عند العرب.

إذن يتشكَّل متن هذا الكتاب من التفاعل والتحاور والتلاقح بين مقوِّمات ثلاثة؛ هي أولًا: فلسفة العلوم ومناهجها. وثانيًا: نصوص تراثنا القديم الكلامي والفلسفي حيثما تتموضع الطبيعيات فيه. وثالثًا: الفكر العربي المعاصر؛ إذ تتيح مشكلة الطبيعيات بالذات أن تتأتى محاولة الإسهام فيه منطلقة من كنانة فلسفة العلوم.١

وأخيرًا، لئن كانت غايتنا هي الطبيعيات في علم الكلام، فلا شكَّ أنَّ ثمة مُبررات للتمسك بأنَّ روح العصر، التي يتوجب استقطابها على كل تجديد وكل تفكير مستقبلي، إنما تتمركز في الطبيعيات؛ لأنَّ العلم الطبيعي دون سواه — دون العلوم الرياضية التي عرف العقل البشري روعة تعملقها منذ ما قبل الميلاد، ودونًا عن العلوم الإنسانية التي يشكل تخلفها النِّسبي مشكلة — هو الذي صنع عصر العلم، إنه العلم الطبيعي الحديث الذي أنجبه العصر الحديث ليصنع العالم الحديث.

وبنماء هذا العلم الطبيعي وتطوره، وتطور تقاناته وأجهزته، نمت وتطورت فروع العلم الأخرى، وتطور وتغير كل شيء؛ بدءًا من المُثل العقلية وانتهاءً بواقع الحياة اليومية، مرورًا بأشكال الصراع الطبقي؛ مما أدَّى إلى عصرنا هذا الذي جعل جدلية العلاقة مع الطبيعة، والسيطرة عليها وصيانتها بيئيًّا، والحفاظ على مقدراتها، هو الحلبة الكبرى لمعرفة الصراع والتفوق بين الحضارات. فهل نتوانى عن البحث في تأصيل وتطوير وضعية الطبيعيات في منظومتنا الثقافية وبنيتنا الحضارية؟!

وكان من الضروري أن تمثِّل فلسفة العلوم المدخل لهذا، باعتبارها التمثيل العيني الرسمي والشرعي، ورُبَّما الوحيد، للتفكير المعاصر في الطبيعة، إنْ رُمنا قهرًا لتحدياتنا وتقدُّمًا نريد من علم الكلام الجديد أن يكون إطارًا أيديولوجيًّا له، فنسير بمجامع مقومات حضارتنا نحو شقِّ أجوازَ المستقبل.

وبالله قصد السبيل.

١  أما شرارة البدء التي أدت إلى تفاعل هذه المنظومات فقد كانت عام ١٩٩١، في أعقاب حرب الخليج بما خلفته من جيشان للهم القومي في الصدور، ثم عقدت الجمعية الفلسفية المصرية، بالاشتراك مع أقسام الفلسفة في الجامعات المصرية، وكلية أصول الدين، الندوةَ الفلسفية الثالثة (من ٢–٤ ذي الحجة ١٤١١ﻫ، والموافق ١٥–١٧ يونيو ١٩٩١)، تحت رعاية شيخ الأزهر، بعنوان: «نحو علم كلام جديد.» وكُلفتُ بإلقاء بحث تحت عنوان: «طبيعيات علم الكلام من وجهة نظر فلسفة العلوم». لكل العوامل المذكورة ولسواها كان انشغالي بهذا الموضوع عميقًا ومتقدًا، فقدَّمت لمؤتمر الندوة المذكورة ورقة في خمس صفحات تحمل فكرة أساسية بدت لي هامة.
عكفت فيما بعد على معالجتها تفصيلًا وتطويرًا وتنقيحًا على مدى طويل، فكانت النتيجة هذا الكتاب الذي يجتهد من أجل انضباط وضع الطبيعيات في منظومة علم الكلام الجديد القادر على شقِّ الطريق قُدمًا نحو المستقبل. ولئن كان للمُجتهد حين يخطئ أجر وحين يصيب أجران، فحسبيَ أجرٌ واحد، والله نسأل القبول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤