الفصل الرابع

الطبيعيات … من الكلام إلى الحكمة … ولا فَرْق

(١) من الحدوث إلى الفيض والقدم

عادة ما يؤرخ لبدء الفلسفة الإسلامية بالكندي (١٨٥–٢٥٢ﻫ/٨٠١–٨٦٥م) الذي خرجت على يديه من إطار علم الكلام، إنه أول مفكر إسلامي يطرح مشكلة المعرفة طرحًا أوسع من الطرح الكلامي لها، وأول من أجرى تصنيفًا في الفلسفة الإسلامية، حين قسَّم المعرفة أو الحكمة التقسيم الأرسطي نفسه للعلوم النظرية؛ أي إلى حسية موضوعها العالم المحسوس أو الطبيعيات، ثم عقلية موضوعها العلم الرياضي أو الكليات، ثم إلهية موضوعها الربوبية أو الله أو الشريعة. ظل هذا التقسيم الثلاثي — بشكل أو بآخر — دستورًا دائمًا للفلسفة الإسلامية القديمة، اعتمده جميعهم، وكان الكندي بهذا الدستور يفتح أمام العقل آفاق المعرفة الفلسفية بمعناها الشامل، وآفاق المعرفة الطبيعية النظرية والتجريبية، فقد كانت الفلسفة/الحكمة عنده «علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان.»١
في نظرته للطبيعيات جرى مجرى المعتزلة في نفي تأثير الله المباشر في المادة، وهذا ما سلم به الفلاسفة أجمعون، وقالوا: «إنَّ الله تعالى لا يباشر الأفعال بذاته، بل عن طريق العلل.»٢ آمن الكندي بالعليَّة، وعلَّم الفلاسفة أنْ يُؤمنوا بها، رُبَّما بحكم ممارسته التجريبية للطب، ولئن سلم تسليمًا بأن العالم حادث ومتناهٍ واجتهد في إثبات تناهيه؛٣ لأنَّ الله هو اللامتناهي الأوحد، فإنَّ الكندي تحدث عن وجود سرمدي — فقط بالقوة — للمادة والحركة والزمان، لقد شق الطريق إلى معرفة العالم لذاته.
على أنَّ الكندي وقع في إسار عقيدة التنجيم التي هيمنت بصورة مُزعجة على حكمة الإسلاميين، وبما لا يُقارن بتناثر رذاذها في علم الكلام،٤ وهذا بفعل المدرسة الحرانية المشرقية من ناحية، والتراث الإغريقي من النَّاحية الأخرى، فتصور الكندي الأجرام السماوية على أنَّها حية وفاعلة في الكون، إنها أقرب إلى الألوهية منها إلى الأرض؛ فحركتها في أكمل الأشكال؛ أي الدائرة، حركة دائرية لا مُستقيمة كحركة الأرض، بل رأى فيها «قوة التمييز، فهي إذن ناطقة اضطرارًا.»٥
ولا أوافق حسين مروة إطلاقًا في اعتبار هذا مع الكندي — أو مع إخوان الصفا — بمثابة علِّية شاملة؛ فهي في الواقع تضخم للإحساس الديني المشخص إلى أقصى درجة، فيكتسح نطاقًا من الطبيعة يتصور الخيال أنها تُلامسه، ويشخصها هي الأخرى أو يشخص جزءها ذاك. وإذا رمنا تنظيرًا فلسفيًّا أعمق، وجدنا عقيدة التنجيم بصفة عامة امتدادًا للنظرة الحيوية للطبيعة، وأنها «عالم حي وعاقل وكل كياناتها — الإنسان والحيوان، النبات والكواكب — تُشاركها في العقل والحياة.»٦ وكما أشار كولنجوود (روبن جورج)، هذه النظرة سيطرت على مُجمل الفكر القديم شرقًا وغربًا، وظلت سائدة حتى بدايات حركة العلم الحديث وتصورها الميكانيكي الآلي للطبيعة الذي ساد أيما سيادة حتى انهار مع ثورة الكمومية والنسبية والعلوم الذرية في القرن العشرين.
ليس فقط التصور الحيوي للطبيعة والنُّجوم، بل التصورات الإغريقية بصفة عامَّة لم يستغنِ عنها الكندي الذي عمل بالمفاهيم الأرسطية، لكن بعد أن يملأها بالمضمون الإسلامي. فالقوالب الأرسطية لم تمنع الكندي من التسليم بالمسلَّمة الإسلامية الصميمة؛ أي خلق العالم من العدم، أو أنه على أقصى الفروض يسبح في البرزخ المعتزلي بين فاعلة العلية وبين الخلق من العدم، وعبر منه إلى أول صياغة فلسفية لتصور إسلامي للكون الطبيعي، تتجاوز النص والكلام، وتتمثل في فئة من المفاهيم والحدود والمقولات والرسوم، انتظمت في هيكل متكامل، هو للبرهنة على الموضوعة الأساسية: خلق الله العالم من العدم، أو بتعبير الكندي: «جرم العالم مُحدث اضطرارًا من ليس.»٧ ومن ثمَّ، فإذا كانت الفلسفة عنده أشرف العلوم، فإنَّ أعلاها شرفًا هو الفلسفة الأولى؛ لأنها «علم الحق الأوَّل الذي هو علة كل حق.»٨

هكذا لم يخرج الكندي عن الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية، وتصوره للطبيعة لم ينفصل البتة عن الفعل الإلهي، حتى وإن أقرَّ بخضوعها لقانون العلية العتيد، فليست العلل إلا وسائط، و«الطبيعة» هي الشيء الذي يجعل الله منه علة أولية لكل مُتحرك أو ساكن، والله — الفاعل غير المنفعل البتة كمحرك أرسطو — هو العلة الأولى لجميع المعقولات، والتي هي معلولات لفعله، إمَّا بتوسط الطبيعة أو سواها، وإمَّا بغير توسط؛ فظَلَّت الطبيعة موجهة نحو المتجه الإلهي، ولم يتحدث عنها الكندي إلا من أجل إثبات الله في النهاية.

•••

وإذا غادرنا البدايات الكندية، وجدنا التراث الإغريقي وقد انتظم رافدًا دافقًا في نهر الحضارة الإسلامية، وأصبح ذا فاعلية أقوى، والفلسفة وقد اكتملت أطرها مع أبي نصر الفارابي (٢٥٩–٣٣٩ﻫ/٨٧٢–٩٨٠م) وذات بناء أكمل، فعُدَّ لهذا المعلم الثاني، على الرغم من أنه «مُقلٌّ في التأليف وقصير النفس فيه.»٩ وكان أكثر اهتمامًا بالإنسان والأخلاق والسياسة والموسيقى منه بالطبيعة.

لكن كان من المنطقي أنْ تتكامل الأطر مع الفارابي؛ لأنَّه آمن إيمانًا جارفًا بوحدة الحقيقة، إنه المركز الإسلامي الصميم: عقيدة التوحيد، يتكشف في شكل هَمِّ الفارابي بوحدة الحقيقة.

الوحي ذاته ليس غيبًا مستورًا، بل ناشئًا عن المخيلة القوية للأنبياء القادرة على هذا الإدراك المتفرد للحقيقة. شغفُ الفارابي بوحدة الحقيقة وضعه على المفترق القلق بين دهرية الإغريق وبين الألوهية في الوحي الإسلامي، ووجد طوق النَّجاة أو المركَّب الجدلي من هاتين المتناقضتين في: نظرية الفيض الأفلوطينية، وهي تقوم على الأقانيم الثلاثة: المطلق – العقل – النفس الكلية، وفيض أو صدور الأقنوم عن سابقه.

النبع النوراني الأصيل الثابت للوجود هو المطلق، أو الأول أو الواحد أو الخير، وبالفيض يصدر عنه العقل، ثم تفيض عنه النفس الكلية١٠ ها هنا كما رأى الإغريق: العالم لم يُخلق من العدم، لكن الله علة وجوده كما ينص الوحي الإسلامي.

المطلق/الواحد عند أفلوطين هو الله/العلة الأولى عند الفارابي الذي مارس دوره في استغلاله للقوالب الأرسطية، فوضع للطبيعة تحديدًا شبه أرسطي ذاهبًا أنها مصدر الحركة والسكون دون قوة خارجية أو مُريدة، ولكن في تصنيفه أو إحصائه للعلوم يجعل العلم الطبيعي مع العلم الإلهي علمًا واحدًا، فلا تعود الطبيعيات إلهيات مقلوبة فحسب، بل إنها هي ذاتها إلهيات.

على أنَّ دور الفارابي الفعَّال في مسار الطبيعيات الإسلامية يتلخص في أنه أوَّل مَن ناقش «حدوث العالم» ورفضه، فوضع — بديلًا — نظرية الفيض في سياق التطور التاريخي للفلسفة الإسلامية، بعد استعارة هذه النظرية كشكل وملئها بالمضمون الإسلامي.

•••

فتحت نظرية — أو قالب — الفيض آفاقًا فلسفية جديدة لمعالجة المشكلة المحورية الموجهة لمبحث الطبيعيات الإسلامية؛ أي مشكلة العلاقة بين الله والعالم المادي. وحددت المسار الفلسفي لهذه المشكلة حتى أبعد امتداداتها، فيمكن اعتبار الحلول ووحدة الوجود الصوفية، التي هي أهم إسهاماتهم الأنطولوجية امتدادًا ما لنظرية الفيض.

أمَّا حكمة الإشراق مع السهروردي المقتول — حيث تفيض الأنوار عن النور الأوَّل — فمجرد شكل آخر لها. موقف الصوفية من الطبيعيات أعمق وأكثر دهاء مما يتبدى للوهلة الأولى، فقد جاهر السهروردي — الذي تربطه صِلات فكرية بابن سينا — بأزلية العالم والحركة والزَّمان، وليس من الضروري أن نتبع سنن المشروع الغربي باعًا بباع وذراعًا بذراع، فنعتبر الفلسفة الإشراقية — كما اعتبر نفرٌ من مفكرينا — كارثة وانحرافًا؛ لأنها تناقض مسار الفكر الطبيعي في الغرب.

المهم أنَّ المتفلسفين جميعًا — حتى المتصوفة منهم — اهتموا بنظرية الفيض، وساعد خطأ نسبة كتاب ثيولوجيا أفلوطين إلى أرسطو على انتشارها بسبب المكانة التي تمتع بها أرسطو بوصفه المعلم الأول.

رفض المتكلمون نظرية الفيض؛ لأنَّها في أصلها شكل من أشكال أزلية وأبدية العالم، ونفي الحدوث والخلق من العدم، وتنفي الشروط التي تجعل من العالم فعلًا لله، وهي الإرادة والاختيار والروية والقدرة على الفعل والترك. ورأوا أنَّ ما يحدث بالفيض ليس خلقًا، بل فقط خروجًا إلى حيز الوجود، شبيهًا بالكُمُون الذي قال به زميلهم النظَّام. العالم يوجد ها هنا اضطرارًا بالطبع بينما أوجد الله العالم اختيارًا بمشيئة وتقدير مسبق لزمان محدد.

إذن، فالفيض من العلامات الفاصلة بين الكلام والحكمة، من حيث إن التساؤل عن حدوث العالم وقِدمه هكذا. ولكن هل أدى هذا إلى فرق؟ لنرَ كيف سار الأمر.

•••

تستوقفنا هذه الظَّاهرة العذبة المعروفة باسم «جماعة إخوان الصفاء وخلان الوفاء»، ظاهرة في تاريخ الفلسفة الإسلامية بجملتها وليس التشيع فحسب؛ فهم موسوعيون أكثر منهم إسماعيليون باطنيون، وبنزعتهم الطبيعية يذكروننا بالموسوعيين الفرنسيين في العصر الحديث، وإنْ كانت موسوعية إخوان الصفاء مُشبعة بعبق الشرق ودفئه الحميم.

لقد ساروا في الطريق الذي أفسحه الكندي للنظر إلى العالم في ذاته، آخذين بنظرية الفيض التي أرساها الفارابي … لكن ظلوا مبقين على المسلَّمة الكلامية بأنَّ العالم محدث مصنوع، وأفردوا فصلًا في «بيان مقدمات عقلية تدلُّ على هذا»، وفصلًا آخر في «بيان الضرر لمن يعتقد أنَّ العالم قديم».١١ وبخلاف هذا لا تكشف رسائلهم التي عُرفت لأول مرة عام ٣٣٤ﻫ عن اتجاه فلسفي محدد، بقدر ما هي محاولة سردية، بل وتلفيقية للم أشتات خطوط المعارف وتوجهات الفكر الإسلامي، وعرضها في قالب ممتع بأسلوب سلس جذاب وسهل في متناول القارئ العادي، وكما أشار دي بور، التضارب والتفكك والنزوع إلى الشمولية في بحوثهم أو رسائلهم جعلها أقرب شبهًا بدائرة معارف جمعت كل عناصر الثقافة الإسلامية آنذاك.

ولما كنا الآن معنيين بالتوجه العام للفلسفة الإسلامية، ليس بمذهب بعينه، وجدنا رسائلهم كاشفة عن هذا التوجه أكثر من سواها، ومستحقة لتناول مُفصل أكثر نسبيًّا، لا سيما وأنها أتت في أوج مد الحضارة الإسلامية — القرن الرابع الهجري.

هذا فضلًا عن أن إخوان الصفاء اهتموا كثيرًا بالطبيعيات، حتى يمكن القول إنها الرَّكيزة والإطار العام لمنطلقهم. لقد أفردوا لها المجلد الثاني من رسائلهم ومواضع أخرى، حيثُ استقصوها من جميع عناصرها: الفلك والظواهر الجوية والمناخ والتضاريس والبحار والجبال والبراري وصنوف المعادن وأجناس النبات وتكوين الحيوانات … إلخ.

والحق أنه استقصاء يكشف عن نزعة علمية، أو على الأقل طبيعانية، وجهد ما لتحجيم الخرافات والتفسيرات الأسطورية، لكن فقط في حدود ما تسمح به آفاق المعرفة الطبيعية في ذلك العصر، فثمة إسرافهم المضجر في التنجيم وتحديد النجوم لمصائر البشر، ورد النزعات والملكات الإنسانية إلى الكواكب،١٢ التي تساهم في تشكيل الجنين حيث تفيض عليه قوى الأشخاص الفلكية في تدرج هابط على مدى شهور الحمل التسعة،١٣ وسوف نرى أنَّ التنجيم يسهم هو الآخر بخطاه العرجاء في توجيه الطبيعيات نحو المتجه الإلهي.
ولنبدأ من البداية، من نظرية العلم، لنجد العلوم عندهم ثلاثة أنواع: الرياضية والشرعية والفلسفية. العلوم الرياضية — في استعمالٍ غريب للمصطلح — هي كل العلوم المطلوبة للدنيا؛ كعلوم اللغة والنحو والشعر والعَروض والحساب والمعاملات، وأيضًا التنجيم والسحر والسيمياء، والحيل والميكانيكا والحِرف والصنائع والزراعة والنسل … إلخ. أمَّا العلوم الفلسفية فهي الرياضيات؛ أي الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، والمنطقيات والطبيعيات والإلهيات.١٤
الطبيعيات هي علم المبادئ الجسمانية: الهيولي والصورة والزمان والمكان والسماء والعالم والكون والفساد وحوادث الجو وعلم المعادن وعالم النبات.١٥
والحقُّ أنَّ تفسيرهم للعالم استند على المباحث الطبيعية والتجريبية أكثر مما استند على المعارف اللاهوتية. لقد اعترفوا بالوجود المادي للعالم الطبيعي وجودًا مُنفصلًا عن وجود الله وموضوعًا للمعرفة، يختلف عن موضوع المعرفة الإلهية، وحرصوا على ذِكر الصنائع مُقْتَرِنَة دائمًا بذكر العلوم الطبيعية، «الصنائع العملية بعد العلمية في الجواهر الجسمانية.»١٦ والرسالة الثامنة من رسائلهم في أن «كل صناعة تحتاج إلى الفكر والتعقل»، وتدور بأسرها حول الصنائع العملية والغرض منها.
وبديهي أن الصنائع العملية منصبة على جواهر جسمانية. والجواهر الجسمانية منفعلة، كلها تدرك بطريق الحواس، بينما الجواهر الروحانية فاعلة كلها لا تُعرف إلا بالعقل؛ لذا سلموا بالقيمة الأولية للمبادئ الحسية أو المعرفية التجريبية والاستقرائية، فإذا كانت «أوائل العقول» تناظر ما نسميه الآن «الحس المشترك»، فهي ما يعلمه كل العقلاء ولا يختلفون فيه، فإنها «تحصل في نفوس العُقلاء باستقراء الأمور المحسوسة شيئًا بعد شيء.»١٧ و«اعلم يا أخي، أنَّ نسبة المعلومات التي يُدركها الإنسان بالحواس الخمس، بالإضافة إلى ما ينتج عنها في أوائل العقول، كثيرة كنسبة الحروف المعجمة، بالإضافة إلى ما يتركب عنها من الأسماء.»١٨ هكذا سلموا بالقيمة الأولية للمبادئ الحسية، وإن كانت المبادئ العقلية أسمى منها، فعلى أساس الدستور الإسلامي الثلاثي ينتقل العلم عندهم من الحواس إلى المعرفة العقلية إلى البرهان.
وكانت نظرية الفيض هي سبيلهم لتوجيه كل هذا — بما يحمله من رصيد طبيعي ضخم — نحو المتجه الإلهي، فالباري «علة الموجودات ومبدعها ومبقيها، أوَّل فيض فاض من الوجود ثم البقاء ثم التمام.»١٩ وعلى الرغم من الطابع السردي السطحي لرسائلهم، كان لهم تعاملهم المبدع مع نظرية الفيض؛ إذ مزجوها بالفيثاغورية ليخرجوا بمضمون إسلامي قشيب، يدثرون به هذا الوجود ليدور وإياهم في الدائرة الثيولوجية، ولنقتبس منهم هذا النص الشامل:

قال اليوناني: الحمدُ لله الواحد الأحد الفرد الصمد (هل قال اليوناني هذا؟!) الذي كان قبل الهيولي ذات الصورة والأبعاد، كالواحد قبل الأعداد والأزواج والأفراد، والتعالي عن الأنداد والأضداد، والحمد لله الذي تفضل وتكرم وأفاض من جوده العقل الفعال، ذا العلوم والأسرار، وهو نور الأنوار وعنصر الأرواح، والحمد لله الذي أنتج من نوره العقل والبحث عن جوهر النفس الكلية الفلكية ذات الحركات، وعين الحياة والبركات.

والحمد لله الذي أظهر من قوة النفس عنصر الأكوان ذات الهيولي والكيان، والحمد لله خالق الأجسام ذوات المقادير والأبعاد والأماكن والأزمان، والحمد لله مركب الأفلاك والكواكب والسيارات، الموكل بدورانها النفوس والأرواح ذات الصور والأشباح، ذوي النطق والفكر والحركات الدورية، وجعلها مصابيح الدجى، ومشرق الأنوار في الآفاق والأقطار، والحمد لله مركب الأركان ذوات الكيان، وجعلها مسكنًا للنبات والحيوان والإنس والجان. وأخرج النبات، وجعل ذلك مادة للأبدان وغذاء للحيوان وهو المخرج من قعار البحار وصم الجبال، الجواهر المعدنية الكثيفة ذوات المنافع.٢٠
هكذا ببساطة يكتمل تصور الوجود الطبيعي في إطار أو شكل نظرية الفيض اليونانية التي امتلأت بالمضمون الإسلامي، على أنَّ نظرية الفيض اكتست معهم أيضًا بأردية فيثاغورية، فهم يقولون «برأي فيثاغورس الحكيم»: «إنَّ طبيعة الموجودات بحسب طبيعة العدد، فمن عرف العدد وأحكامه، وطبيعته وأجناسه وأنواعه وخواصه، أن يعرف كمية أجناس الموجودات وأنواعها وما الحكمة في كمياتها على ما هي عليه الآن.»٢١

فجعلوا العدد أساس فلسفتهم. ونسبة الباري إلى الكون كنسبة العدد واحد إلى الأرقام والعقل ٢، والنفس ٣، الهيولي ٤، الطبيعة ٥، الجسم ٦، الأفلاك ٧، الأركان ٨، المولدات ٩.

الفيض ليس في ثلاث درجات كما رأى أفلوطين، بل هو في تسع، ليس بسبب تاسوعاته، إنما لأنَّ الرقم ٩ آخر مرتبة الأرقام الآحاد، وكذلك المولدات آخر مرتبة وجود الكليات، ثم نجد المعادن في مرتبة العشرات والنبات كالمئين والحيوان كالآلاف فتكتمل دائرة الأرقام المعروفة آنذاك، وتكتمل دائرة الوجود الأنطولوجي المتجه نحو الثيولوجيا.

ويمكن مُلاحظة هذا التسلسل لدرجات الفيض التسع في النص المقتبس، ونتوقف عند الرقم ٣، النفس الكلية الفلكية، فهي الطريق الذي تسلكه الطبيعيات لتتجه، بل لتنصبَّ توًّا في الإلهيات، مستعينين بتراثهم الزاخر في التنجيم، وها هنا مناط إبداعهم، وكان توجيه الطبيعيات إلى الإلهيات همهم الأول وشغلهم الشاغل؛ فكيف كان ذلك؟

يجعل التنجيم دوران الأفلاك محدِّدًا لكل شيء في عالم البشر وعالم الطبيعة على السواء، حتى إنَّه العلة الصورية التي تجعل من العلة الهيولانية (الزئبق والكبريت) جواهر المعادن. ودوران الفلك يدوم ما دامت النفس الكلية مربوطة معه، إذا فارقته توقف دوران الأفلاك وقامت القيامة.٢٢ الطبيعة أو الطبائع ليست إلا قوة النفس الكلية الفلكية، وهي قوة روحانية فاضت من العقل فيضًا سرورًا مُتصلًا، بتأييد أبدي ودائم من الباري، وهي قوة سارية في جميع الأفلاك التي دون فلك القمر. باقٍ أن نعلم أن «الباعث للنفس الكلية إلى إدارة الفلك وتسيير الكواكب هو الاشتياق منها إلى إظهار تلك المحاسن والفضائل والملاذ والسرور التي في عالم الأرواح، التي تقصر ألسنُ الوصف عنها إلا مختصرًا كما قال تعالى: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ».٢٣ هذا من الناحية الأنطولوجية التي هي الجوهر والأساس والآية.

ومن الناحية الإبستمولوجية أيضًا العلماء نفوس جزئية خادمة للنفس الكلية. الفلاسفة أطباء النفوس، غرضهم نجاة النفوس الغريقة في الهيولي وإخراجهم من هاوية الكون والفساد، وإيصالها الجنة عالم الأفلاك وسعة السماوات بتذكيرها ما قد نسيت من أمر معادها.

هكذا كان توجيه الطبيعيات نحو الإلهيات المهمة المنوطة بالفيض والنفس الكلية الفلكية، وهما صلب نظرية الوجود لتساهم معهما مجامع علم التنجيم. إنَّ التوجيه اللاهوتي يكاد يكشف عن نفسه في كل سطر وأحيانًا كثيرة يأتي بصورة ساذجة، كأنْ تكون الظواهر الفلكية بشارات أو نُذُر ليرتدع العُصاة، فضلًا عما يستنطقون به الدواب والطير والهوام، واسترسالهم في هذا وكأنهم يكتبون للأطفال، ولا يفوتهم أبدًا ليُّ عنق كل مبحث طبيعي في نهايته ليصبَّ لا في المتجه الإلهي فحسب، بل في متجه وعظي إرشادي سطحي، حتى إن رسائلهم في الطبيعيات تكاد تذكرنا ببرامج العلم والإيمان في الإذاعة المرئية الآن.

ثم إنهم — كفلاسفة — بوجه عام يُفسرون الطبيعيات في إطار العلل الأرسطية الأربع: الهيولي والصورة والفاعل والغاية. والفاعل هو العِلَّة الأولى ونقطة البدء، أمَّا العلة الغائية فهي السهم المنطلق توًّا إلى الإلهيات، فتدور الطبيعيات من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس في الدائرة المغلقة، التي لم يفتح الانتقال من الكلام إلى الحكمة طريقًا للخروج منها … فلا فرق.

•••

ثم يأتينا الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا (٣٧٠–٤٢٨ﻫ/٩٨٠–١٠٣٧م) بفلسفة طبيعية أنضج نسبيًّا في تسخيرها لنظرية الفيض، لم تبرأ من تهاويم التنجيم المهيمنة، لكن تخلو من تلك الملامح الطفولية، وتخلو أيضًا من الإبداع أو إضافة ذات بال عمَّا قاله المعلم الثاني الفارابي. ينقل ابن سينا عن الفارابي ترتيب الموجودات في فيضها عن الله نقلًا حرفيًّا.

هاجم بضراوة طبيعيات المتكلمين، وقال: إن العالَم — كما علمنا أرسطو — مكوَّن من مادة وصورة لا من جواهر فردة، ومثلما رفض أرسطو ذرية ديمقريطس، رفض ابن سينا نظرية الجوهر الفرد ونقدها نقدًا عسيرًا،٢٤ خصوصًا من زاوية التناهي واللاتناهي، وحاول تفنيد اللاتناهي في كل تطبيقاته.٢٥ وبالمثل نقد الكُمُون والطفرة عند النظَّام، وقد فصل الدكتور عاطف العراقي هذا النقد.٢٦
لقد سار ابن سينا سيرة الكندي والفارابي — وتقريبًا كل حكماء الإسلام — في أطر القوالب الأرسطية، وكأنها هيكل الوجود والمعرفة على السواء. رأى ابن سينا العالم قديمًا ومخلوقًا، العالم قديم بالزَّمان لكنه مخلوق بالذات؛٢٧ لأنه ممكن الوجود، وبالتالي يحتاج في وجوده إلى واجب الوجود … إلى الله، وفي النهاية لم يكن أكثر ولا أقل من قرنائه في توجيه الطبيعيات مُتجهًا إلهيًّا؛ حتى إنَّ فلسفته الطبيعية تكادُ تكون موزعة بالعدل والقسطاس بين كتاباته في الطبيعيات وكتاباته في الإلهيات، تمامًا مثلما اختلطت مباحث الفيزيقا بالميتافيزيقا في كتابات أرسطو؛ فليست الفلسفة الإشراقية هي وحدها الملومة؛ لأنها هي التي نبتت من تراب الشرق، إذ يبدو أرسطو ملومًا كعلة لتلك الجنوحات التي لا بدَّ وأن يرفضها منظور فلسفة العلوم.
ولأن ابن سينا انتظم في سمت التفلسف، شيخًا للحكماء ورئيسًا للفلاسفة؛ أي كان فيلسوفًا بالمعنى الأتم، فإنَّ نظرية العلم عنده هي الكاشفة عما يُبحث عنه في فلسفته. وقد قسم العلوم نفس التقسيم الأرسطي لها إلى عملية ونظرية؛ العلوم العملية هي التي نعمل بها، وتنقسم إلى ثلاثة: مدنية ومنزلية وخُلقية، أو سياسية واقتصادية وسلوكية؛ أمَّا العلوم النظرية فهي المتعلقة بأمور لنا أن نعلمها وليس لنا أن نعمل بها، وهي الطبيعيات والرياضيات والإلهيات.٢٨ موضوع الطبيعيات أو الحكمة الطبيعية في الحركة والتغير؛ أي الأشياء الواقعة تحت الحواس — الكون الفيزيقي — وتمامًا كما قال أرسطو وتبعه الكندي والفارابي الأقسام الأصلية للحكمة الطبيعية ثمانية هي:
  • (١)

    المبادئ العامة كالمادة والصورة، وإثباتها للمُحرك الأول.

  • (٢)

    الأركان؛ أي السماوات المرادفة للعالم؛ لأنها تحوي الأشياء الطبيعية كلها، والعناصر الأربعة.

  • (٣)

    الكون والفساد والتوليد والنشوء والبِلى والاستحالة ولطيف الصُّنع الإلهي في ربط السماوات بالأرضيات.

  • (٤)

    أحوال العناصر الأربعة قبل الامتزاج لما يعرض لها من أنواع الحركات والتخلخل والتكاثف، بتأثير السماوات فيها، فنتكلم بالعلامات والشهب والأمطار والرعد والرياح والزلازل والبحار.

  • (٥)

    المعادن.

  • (٦)

    النبات.

  • (٧)

    الحيوان.

  • (٨)
    النفس والقوى المدركة في الحيوانات خصوصًا الإنسان، وتبيان أنَّ النفس الإنسانية لا تموت بموت البدن، وأنها جوهر روحاني إلهي.٢٩

هكذا، في تلك الأقسام الأصلية للحكمة الطبيعية لم يلقَ ابن سينا أدنى صعوبة في توجيه التقسيم الأرسطي نحو المتجه الإلهي. إنَّ القسم الأول يتعلق بالمحرك الأول، والثامن الأخير يتعلق بالجوهر الروحاني الإلهي، لتدور الطبيعيات في الدائرة الثيولوجية المغلقة.

أمَّا الأقسام الفرعية للحكمة الطبيعية فلن تغير شيئًا، لا من النظرة الأنطولوجية ولا من النظرة الإبستمولوجية، فهي الطب وأحكام النجوم والفراسة وعلم التعبير والاستدلال على الغيب، والطلسمات والنيرنجيات والسيمياء لتحويل المعادن إلى ذهب وفضة.

وحين ننتقل إلى الرياضيات نجدُ أقسامها الأصلية هي العدد والهندسة والفلك والموسيقى، لكلٍّ منها فروعه في الأقسام الفرعية للرياضيات. أمَّا أقسام العلوم الإلهية، فإنها الإعلان الصريح والبيان الفصيح عن المتجه الإلهي للطبيعيات والدائرة الثيولوجية المغلقة.

فكما يُجاهر ابن سينا، ليس العلم الإلهي إلا العلم الباحث عن أمر الوجود المطلق ولواحقه؛ لأنَّ الله مبدأ الوجود ومبدأ المعلول على الإطلاق، وينتهي العلم الإلهي في التفصيل إلى حيث تبتدئ منه سائر العلوم، فيكون في هذا العلم (= الإلهي) مبادئ سائر العلوم الجزئية (= الطبيعيات).٣٠ فنجد الأقسام الأصلية للعلم الإلهي كالآتي:
  • (١)

    المعاني العامة لجميع الموجودات من الهوية والوحدة والكثرة والوفاق والخلاف والتضاد والقوة والفعل والعلة والمعلول.

  • (٢)

    النظر في الأصول والمبادئ مثل علم الطبيعيين والرياضيين وعلم المنطق ومناقضة الآراء الفاسدة فيهما.

ويندهش الدارس هل هذان القسمان من الإلهيات أم من الطبيعيات؟ وهما على أية حال، يُفضيان إلى القسمين الثالث والرَّابع اللذين يوضحان لماذا كان القسمان الأولان، ولماذا كانت الطبيعيات أصلًا. القسمان التاليان هما:
  • (٣)

    إثبات الحق الأول وتوحيده والدلالة على تفرده وربوبيته، وأنه واجب الوجود بذاته … إلخ.

  • (٤)

    إثبات الجواهر الأولى الروحانية التي هي أعز مبدعاته وأقرب مخلوقاته (الملائكة). ثم:

  • (٥)
    تسخير الجواهر الجسمانية السماوية والأرضية لتلك الجواهر الروحانية، وارتباط الأرضيات بالسماوات وبيان أنَّ الكل مبدع لا فطور (هكذا: فطور) فيه، وأن مجراه على مقتضى الخير، وأنَّ الشر ليس محضًا، بل لحكمةٍ.٣١

هكذا يحكم القسم الخامس والأخير إغلاق الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية تمامًا، أمَّا الأقسام الفرعية للعلوم الإلهية فهي من قبيل نزول الوحي ومعجزاته المخالفة للطبيعية ومآل الأتقياء الأبرار وكراماتهم، ثم علم المعادن … إلخ.

إنَّ الإلهيات الفرعية هي الجزئيات التي ابتعدت خطوة عن الطبيعة، مثلما كانت الطبيعيات الفرعية هي الجزئيات التي ابتعدت خطوة عن الإلهيات، لكنها لن تنفصل عن الأقسام الأصلية ليدور الكل — الأصلي والفرعي جميعًا — في الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية المغلقة حول المركز/الوحي.

وقبل أن نُغادر ابن سينا، والفلسفة المشرقية إجمالًا، نلفت الأنظار إلى أننا عيَّنَّا المتجَه الإلهي لفلسفته فقط بتقرير من قلب منطلقاته الأرسطية، ولا ينقصنا المزيد والمدد من منطلقاته أو مراسيه الإشراقية والغنوصية، هذا لنؤكد ما أشرنا إليه أكثر من مرة من أنه لا داعي لاتباع السنن الغربية باعًا بباع وذراعًا بذراع، لنُفرط في إدانة الفلسفة الإشراقية، وكل ما يخرج من التراث الغربي القديم الذي يتربع أرسطو على قمته.

(٢) من المشرق للمغرب … ولا فَرْق

يبقى من أساطين الفلسفة الإسلامية وأركانها العمد أبو الوليد بن رشد (٥٢٦–٥٩٥ﻫ/١١٢٦–١١٩٨م)، لا سيما وأنَّ به تكتمل المعالجة السابقة لفلسفة المشرق بتتبعها في المغرب، وسوف يتقدم قاضي قرطبة المبجل وطبيبها الفقيه على قرنائه من منظور الطبيعيات والعلم بها الذي يستوجب العقلانية، فهو يبز الجميع في الإيمان بالعقل والزود عن سلطانه، بحيث يعد رافع لواء العقلانية في فلسفة العصور الوسطى بأسرها؛ الإسلامية والمسيحية على السواء.

وثمة شبه اتفاق على أنَّ سوناتا الكلام وكونشيرتو الحكمة قد ارتفعا على يديه إلى سيمفونية بوليفونية، أَوَليست تتناغم فيها «الحقيقتان» الإلهية والفلسفية؟! وقد وضع قواعد تأويل المجاز في القرآن والفهم المقاصدي للشريعة من أجل إنجاز هارمونية هذا التناغم على أساس أنَّ الحق لا يضاد الحق، بل يُوافقه ويشهد له، إنها «وحدة الحق»، الذي ظهر مرتين؛ الأولى في كل ما قاله أرسطو والثانية مع القرآن.

الحقيقة الأولى — أي الحكمة الأرسطية — هي للخاصة، حرَّفها الفلاسفة. الحقيقة الثانية — أي الوحي الديني والشريعة — هي للعامة، حرَّفها المتكلمون والفقهاء والصوفية. وبهجومه النقدي الضاري على المتكلمين والفلاسفة على السواء، وجهاده الباسل لإنقاذ الحق بالعود مُباشرة إلى الأصول الأرسطية والقرآنية، كان تأسيس مشروعه القائم على الفصل بين الحقيقتين، بين الفلسفة والدين، ورفض قياس الغائب على الشاهد — الذي رأيناه أساس الكلام وعماده — لأنَّ عالم الغيب مُطلق بينما عالم الشهادة مُقيد.

ومن يُجادل في أنَّه بهذا اضطلع بدوره البطولي في قصة العقلانية وعلى المسرح العالمي بأسره؟

ولكن لماذا لا نُجادل في هذا؟ لا سيما بعدما شاع أخيرًا من أنه يمثل قطيعة معرفية لفلسفة المشرق، ليبدو وكأنَّه خرج عن توجهها الإلهي. يُغالي عابد الجابري — خصوصًا — في هذا، ليجعل المغرب بأسره قطعًا عن المشرق، ويبدو ابن رشد بالذَّات وكأنَّه مارس في الفلسفة الإسلامية قطيعة معرفية بالمفهوم الأتم، المطروح في الفصل الثاني. ولم يصعب على باحث مُدَقِّق إثبات أنَّ هذا الزَّعم ليس له نصيب من الصحة، ولا يستند إلا على تعسفات من الجابري، وأنَّ نقد ابن رشد لقياس الشاهد على الغائب والتزامه بمنهج برهاني، لا يعني قطعًا معرفيًّا مع المشرق، لا في المنهج ولا في المذهب ولا على صعيد المفاهيم والإنتاج المعرفي، وأنَّ ابن رشد في النهاية تعامل مع الشريعة من نفس الموقع الذي تعامل به فلاسفة المشرق معها، حتى أقرَّ طريقتهم في اعتبار ما في الشريعة على أنه مثالات لما في الفلسفة، مكررًا ظَاهرة التقسيم المشرقي للناس إلى عامَّة وخَاصَّة، والشريعة إلى ظاهر وباطن.٣٢
وفضلًا عن القطع، يصرُّ الجابري إصرارًا غريبًا على نفي وإهدار الأصول المشرقية للفلسفة المغربية مستندًا على مناقضة فلسفة المشرق البيانية ثم العرفانية٣٣ لفلسفة المغرب البرهانية، هذا على أساس أن فلسفة المشرق نشأت امتدادًا لعلم الكلام فظلت بيانية عرفانية، أما فلسفة المغرب فنشأت امتدادًا للمنطق والرياضيات فكانت برهانية، أعلى درجة.

ولست أرى في هذا شوفونية كما رأى محمود أمين العالم وعلي حرب؛ لأنَّ علم الكلام ليس وصمة والتبرؤ منه ليس زهوًا، إِلا إذا كان هذا تبتلًا للنموذج الأوروبي. إنَّ الكلام فلسفة خصبة زاخرة متميزة بحضارة ومميزة لها، وأطروحة الجابري لا تنطوي على شوفونية مغربية بقدر ما تنطوي على مغالطة صريحة؛ فعلم الكلام أصل فلسفة المشرق التي هي بدورها أصل — بل مادة — فلسفة المغرب؛ أي إن الكلام الأصل الأصيل والتربة الخصيبة للفلسفة الإسلامية بأسرها، وهذه الأخيرة — أي المغربية — امتدادٌ عادي جدًّا وتطور طبيعي لفلسفة المشرق، وما كانت — بداهة — لتقوم البتة بدونها.

أمَّا المنطق والرياضيات والمناقضات لعلم الكلام المشرقي مناقضة البرهان للبيان؛ فهُما محض نبتة مَشرقية. صحيحٌ أنَّ الأندلس؛ وخصوصًا قرطبة موطن ابن رشد — بعد أنْ خبت جذوة الإبداع في المشرق — كادت أنْ تنفرد فيهما بالميدان إبان القرن السادس، قرن ابن رشد، وأن تنجب أكثر من نصف مناطقة القرن ورياضييه، ولكن هذا بعد أن جلبتهما عزيمة الأمير عبد الرحمن الأوسط وابنه الحكم المستنصر من بغداد ودمشق والقاهرة إلى قرطبة في صناديق — أجل في صناديق كما فصَّلتُ في بحث أو بحثين سابقين لي — وكانت بغداد لا سواها هي التي قدمت ذروة العطاء العربي في الرياضيات، وعن طريق قرطبة وسواها انتقل هذا العطاء إلى حركة العلم الحديث.٣٤
إننا لا نخوض في تناحر بين مشرق الفلسفة الإسلامية ومغربها، بل على العكس تمامًا، نصرُّ على إلغاء مَزَاعمه. ولا شكَّ أنَّ ابن رشد «جزء من خطاب عقلاني واقعي نقدي تميز به الفكر العربي الإسلامي في المغرب والأندلس على عهد الموحدين.»٣٥ لكن لم يعنِ هذا نقصًا لفلسفة المشرق، فما زال التوجه الإلهي يحكم الفلسفة الإسلامية حيثما حلَّت في أرجاء العصر الوسيط، وسيظل الوحي مركزها حيثما ارتحلت في أي عصر وفي أي مكان. وليس يمثل ابن رشد قطيعة معرفية بالمعنى الكامل الذي — رأيناه — يستوجبُ الجدة والإبداع، وليس مجرد التطوير والتنقيح … بله العود.
فقد «رفض ابن رشد ما أنجزه فلاسفة الإسلام؛ لأنَّه مجرد تحريف للفلسفة الحقة: الأرسطية الخالصة، فخلطوها تارة بالأفلاطونية وتارة بالشريعة في عملية تأويل وجمع مفتعلَيْن؛ أي رفض ابن رشد القراءة الإسلامية للفلسفة الأرسطية، فقرر إنشاء خطاب خارج الخطاب الفلسفي الإسلامي المعهود.»٣٦ وعلى مذبح المعلم الأول لم يتردد ابن رشد في نحر كل غثٍّ وسمين رعته فلسفة المشرق، إن كان يحمل أدنى شرك بالأرسطية. فلاسفة المشرق كرسوا أرسطو لهم كيفما شاءوا، أمَّا ابن رشد فقد تكرَّس له، هم استخدموه وهو خدمه؛ إنَّه الشارح الأكبر للفلسفة الأرسطية، خصوصًا بعد أن فصلها عن الحقيقة الدينية.

في الطبيعيات كان هجوم ابن رشد المضري على الفيض؛ لأنَّ أرسطو لم يَقُل به، ورفض طبيعيات المتكلمين والفلاسفة على السواء. الأولى — الكلامية — رفضها لأنها جدلية وليست بُرهانية أرسطية؛ والثانية — الحكمة الطبيعية — وإن كانت أرسطية، فقد رفضها لأنها ليست خالصة في هذا بما يكفي.

ثم شيَّد خطابه العقلاني، حتى كان محور النقد عنده كون الحجة تقصر عن «رتبة اليقين والبرهان».٣٧ أو أنها ليست بمفيدة نوعًا من أنواع اليقين؛ أي جدلية خطابية،٣٨ وهذا مبرر كافٍ لرفضها، فهو لا يقبل بديلًا عن البرهان. بدأ بنظرية في المعرفة تقوم على الارتفاع من المحسوسات إلى المعقولات، يقرُّ بالأولى ويثق في الثانية — تمامًا كأرسطو — أمَّا الوجود فزمانه أرسطي خالص أبدي أزلي، والعالم الطبيعي هكذا قديم أزلي أبدي، لكنه مخلوق أو مفعول أو مصنوع، ولا يستغني عن صانعه مثلما يستغني البيت عن البنَّاء بعد اكتماله، بينما الفاعل الإلهي أشرف وأدخل في باب الفاعلية؛ لأنه يوجد ذلك المفعول ويحفظه باستمرار.٣٩ هكذا العالم في خلق مستمر — نفس المعول الكلامي لتدميره — لكنه بلا بداية ولا نهاية ولا يجوز عليه العدم؛ إذ «لا نستطيع أن نتصور الإله الكامل معطلًا عن فعله، وهو إيجاد العالم.»٤٠ ويذكرنا هذا بقول هيجل إن الله بدون العالم لا يعود هو الله.٤١

الله هو الفاعل المطلق، أما الفاعل المقيد فهو العلل، ومنها إلى المعلولات أو المفعولات، أو العالم الذي يخضع للضرورة والحتمية.

العلِّية شاملة صارمة، ولا بدَّ وأن تتوقف سلسلة العلل عند علة أولى هي المحرك الأول الأرسطي أو رب الإسلام. هكذا لا يكون الله فاعلًا بالطبع، بل عن طريق العلل؛ لأنه أشرف الموجودات وموهبها الوجود، فكيف يكون فاعلًا مثلها؟! الفعل الإلهي ليس مباشرًا، بل يسري عن طريق العلل الطبيعية التي أودعها الله قوة التغيير، إنَّه سريان العلة، فهي قوة طبيعية في الأجسام. فكان ابن رشد من أصحاب الطبائع، أقرَّ بفعل الطبع والطبيعة مستقلًّا عن الله، وكما هو معروف شنَّ هجومه الضاري على الأشاعرة والغزالي لرَفضهم العلِّية والطبائع والضرورة، فالأشياء عند ابن رشد — كما عند أرسطو — لها خصائصها الذاتية والملازمة لوجودها، والتي تفعل طبقًا لها.

هذا حسنٌ، لكن لا يحتاج الأمر لخوض أكثر لتبيان أنَّ العقلانية عنده مطابقة للأرسطية؛ فقد كان مُتحمسًا للعقلانية بقدر ما كان مهووسًا بالأرسطية، كان إصراره المبدئي على أنَّ أرسطو الفيلسوف المطلق ولا ينطق إلا بالحق المبين. وحكمته أقصى حد يصل إليه العقل، وبالتالي هدف العاقلين الخلوص للأرسطية ومحاربة كل المتغيرات المتوالية … بهذا التصور للأرسطية التي تنفصل عنه بسبعمائتين من السنين يُقدم لنا ابن رشد أنضج وأبلغ تعبير من غياب التاريخ ومفهوم التقدم من تراثنا وحلول القهقرى والعود إلى الوراء محله.

لقد فصل ابن رشد بين الحقيقة الإلهية والحقيقة الفلسفية، لينفرد بالأخيرة ويجعلها في واقع الأمر تشكيلًا للفلسفة الأرسطية، فكان أقرب فلاسفة الإسلام لمعايير الآخر الغربي، فهل لهذا نُصِرُّ على أنه أعلى من سواه؟

لقد أدنتُ سابقًا — ودائمًا — الرَّفض الآلي لإيجابيات الحضارة الغربية، وليس أرسطو منها. فبوصفه المعلم «الأول» يُؤكد تفريد الحضارة الغربية ومصادرها اليونانية، فتبدو وكأنها تملك في صلب ذاتها حيثيات بدئها المكتمل، وفيما عدا هذا لا قيمة كبيرة لأرسطو الآن. وكما أشار د. زكي نجيب محمود، الوقت الذي يُنفق مع أرسطو ومنطقه ضائع سدى. وإذا كنَّا ننشد آفاق المستقبل ومشارف القرن الحادي والعشرين، فلا مندوحة عن الاستفادة من أروع وأنبل منجزات الحضارة الغربية: ظاهرة العلم الحديث.

ولما كانت التفاصيل معروفة، وخضتُ فيها في أكثر من بحث سابق لي، فتكفينا الآن الإشارة إلى أنَّ نشأة وتخلُّق ونماء العلم الحديث كان على وجه الدِّقة هو تخلُّق ونشأة ونماء التحرر من الأرسطية، التي عرقلت العلم الطبيعي ألف عام أو يزيد، ولولاها لتسارعت خُطاه؛ فقد كانت الأرسطية تجريدًا وتمثيلًا لروح الحضارة الإغريقية التي دأبت على تمجيد النظر وتحقير العمل، مثَّلها أرسطو بمنطقه القياسي العقيم، بعد أن أدَّت دورها التاريخي واستنفدت مقتضياتها وآذنت شمسها بالغروب؛ لذلك لم تساهم الأرسطية كثيرًا في تقدم البشرية. وبالنِّسبة للعلم الطبيعي كانت عقبة كئود، دفعت برتراند رسل لتأكيد أنَّ الله لم يبتلِ البشرية بالفقر ولا بالجهل ولا بالمرض، بل ابتلاها بأرسطو.

شربك أرسطو العالم الطبيعي بمنظومة جهنمية من التفانين الميتافيزيقية؛ كفريق العلل الرباعي المضاد والمتربص لمفهوم العلية العلمي، وعالم ما فوق فلك القمر وما تحته والمحركات والوسائط … إلخ. وبقدرة قادر هيمنت على العقول، وأولها عقل ابن رشد الذي تشبث بكل تفاصيلها، حتى إنَّ عقلانيته الشهيرة والرَّائعة لم تنقذه من عقيدة التنجيم ما دامت قد ترددت أصداؤها في الأرسطية. الأجرام السماوية عند ابن رشد حيَّة شريفة متنفسة، ليس لها من قوى النفس إلا العقل والشوق إلى الحركة في المكان، لا تكون ولا تفسد ولا تتغير، بل هي سبب التغير. والحوادث في عالم الطبيعية والإنسان مادتها مباينة لمادة الأجسام المتحركة؛ فهي ليست من العناصر الأربعة، بل عنصرًا خامسًا هو الأثير.٤٢

ونعود إلى موضوعنا: المتجه الإلهي، لنجد الأرسطية مع ابن رشد تمامًا مثلما مع ابن سينا أيسر السُّبل لتوجيه الطبيعيات في المتجه الإلهي. وبصرف النظر تمامًا عن حكمة الإشراق السينوية نجد أنَّ فلسفة أرسطو الطبيعية أو الفيزيقية كلها موجهة في اتجاه ميتافيزيقاه، التي يقفُ على قمتها المحرك الأول. وما أيسر أن نستبدل به الله الواحد الأحد الفرد الصمد، لتتجه إليه الفلسفة الطبيعية!

لكن ابن رشد أحرز خطوة تقدمية، حين انشغل بالمشكلة التي رأينا الثقافة الإسلامية — حيث مركزية الوحي — تفرضها؛ أي العلاقة بين الله والعالم الطبيعي. وقعت فلسفة أرسطو في مأزق عدم وجود صلة أنطولوجية بين المحرك الأول والعالم، أما محرك/إله ابن رشد فقد أصبح إسلاميًّا، واختلف عن محرك أرسطو بما يردم هذه الهوة بينه وبين العالم. فالله ينتج الوجود. إنما بصورة مختلفة عن تصور المتكلمين. فقد أنتجه كما تنتج العلة معلولها، وبقدر ما يتضمن المعلول وجود العلة، يتضمن العالم وجود الله. لذلك تجاوز ابن رشد أيضًا ثنائية الفيض الفارابية والسينوية وجعل الله أشبه بعقل العالم الساري فيه والممسك به. وكما تسري أحكام الرئيس في المدينة تسري إرادة الله في العالم. وبغير الألوهية لا تصوُّر فلسفيًّا للعالم، وقد اعتبر الدهريين النقيض الحقيقي للفلاسفة.

وهو في «فصل المقال» يعرِّف الفلسفة أو الحكمة بأنها النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، وكلما كانت المعرفة بصنعتها أتمَّ كانت المعرفة بالصانع أتمَّ، والعكس أيضًا صحيح. معرفة الصانع لا تكون إلا بالنظر في الكائنات التي خلقها، وكانت أدلة وجود الله عنده: العناية والاختراع والحركة، كلها منصبة على — أو مستقاه من — العالم الطبيعي الذي يعني عنده كل شيء سوى الله والأجرام السماوية.

هكذا تتبدى أمامنا الدَّائرة الثيولوجية الأنطولوجية المغلقة، وإن كانت عقلانية ابن رشد لا تجعلها مغلقة بمثل ذلك الإحكام الذي رأيناه فيما سبق … ولكن هل يمثل هذا قطعًا معرفيًّا؟ وطبيعياته ظلَّت في كل حال سائرة نحو المتجه الإلهي؟!

•••

وأخيرًا — وربما أولًا — يبقى أولئك المعروفون باسم الفلاسفة الطبيعيين الذين يتحمَّلون عبء ما نُسَمِّيه الآن تاريخ العلوم عند العرب. وكأننا نُصادر على إبقائهم خارج مجال الفلسفة/الحكمة، فضلًا عن أنَّ المتكلمين عدوهم زنادقة ملحدين. ولئن كانت أفكارهم الفلسفية غير مترابطة وغير نسقية ولا ترقى للمستويات المعروضة آنفًا، وهم أنفسهم نادرًا ما واتتهم الجرأة على أن يَعتبروا أنفسهم فلاسفة، فإنَّ المسائل الفلسفية فرضت نفسها عليهم، بحيثُ إنَّ إسهامهم الفَلسفي جزء تكميلي لتاريخ الفلسفة،٤٣ فضلًا عن تمركز دورهم في تشكيل الطبيعيات الإسلامية.

في وقت مبكر، منذ القرن الثاني، وقع رائدهم التجريبي الشهير جابر بن حيان في إسار إيمانه الطاغي بحيوية الطبيعة وكل شيء فيها، بل رآها عاقلة مُريدة. والكواكب قوى حيَّة علوية تمارس تأثيرها. الفرق بينها وبين الله هو دخول المادة فيها، ولعل إفراط جابر في حيوية الطبيعة والتنجيم — وهو الذي يتصدَّر باكورة الاهتمام الإسلامي التوَّاق بالطبيعة — هو الذي أدَّى إلى ثبوتهما المزعج في الطبيعيات الإسلامية.

أمَّا في القرن الرابع الهجري حين بدأ هؤلاء الطبيعيون في التمييز كفئة أو كدائرة في الدوائر التي ارتسمت حول الوحي، في هذا القرن آمن بحيوية الطبيعة والتنجيم الطبيب العالم أبو بكر الرازي، وكان إيمانه بالغ الحماس؛ لقَّبه المتكلمون بالملحد الكبير الخارج عن الروح الإسلامية، والحق أنه «تبنَّى موقف الحرانيين تبنيًا كاملًا.»٤٤ وهم مدرسة ظهرت في حرَّان انتهت إلى تجسيم الله ودخلت في إطار الصابئة، وتحمل أقوى تأكيد بحياة الأجرام السماوية وتصرُّفها في شئون الطبيعة والحياة والبشر، وتغلغلت في التراث الإسلامي. تأثر بها الكندي وإخوان الصفا — كما بدا فيما سبق — وابن سينا، وينسب إليها عابد الجابري ما حملته الفلسفة المشرقية من عناصر هرمسية وغنوصية أدت إلى انتقال البيان إلى العرفان.

ويكاد يكون الرازي أكمل تمثيل تلك الفلسفة الحرانية؛ أنكر مثلهم المعجزات والنبوة؛ لأنَّ الناس سواسية في إمكان الاتصال بالعالم العلوي عن طريق تطهير النفس ومُفارقة المحسوسات، وقال بقدمائهم الخمسة: الهيولي والصورة أو النفس، والزَّمان والمكان والحركة، كلها لامُتناهية وكل لامتناهٍ قديم، والخلق من العدم مستحيل. الخلق حدث من اشتياق النفس إلى الهيولي. إنَّ الرازي يسخِّر نظرية الفيض ذات الأصول المثالية، لكن التطور النِّسبي لمنجزات العلوم الطبيعية في عصره عمومًا، وعلى يديه خصوصًا، مكَّنه من توجيه نظرية الفيض توجيهًا ماديًّا أكثر.

بصفة عامة ابتعد هؤلاء العلماء عن طريق المتكلمين، وتلمَّسوا طريق الفلاسفة. تولوا عن فيثاغورث والفيض وساروا مع الأرسطية، وعلى الرغم من أنَّ اهتمامهم كان بالوقائع المادية، وما ينجم عنها من آثار، وعنايتهم فقط بدراسة الطبيعة وظواهرها المادية، فإنهم جميعًا «جاوزوا الطبيعة والعقل والنفس في أبحاثهم، وارتقوا إلى ذات الله، فجعلوه العلة الأولى أو الصانع الحكيم الذي تتجلى حكمته ويتمثل إحسانه في مخلوقاته.»٤٥ نفس التوجه الإلهي ونفس الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية.
فيستهل البيروني — مثلًا — مبحثًا هندسيًّا خالصًا بأنك إذا تحقَّقت من ماهية الهندسة تعرف نسبة الأجناس والكمية، ومقدار المزروع والمكيل والموزون، وما بين مركز العالم وأقصى المحسوس منه … «ثم ترتقي بواسطة التدرب بها من المعالم الطبيعية إلى المعالم الإلهية.»٤٦ أيضًا لا فرق.

•••

هكذا تحيط الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية بالطبيعيات الإسلامية من كل صوب وحدب، لتنصب في المتجه الإلهي حتى انصبت جهود الطبيعيين أنفسهم فيه. لم يَعُق هذا حملهم للواء التجريبية طوال العصور الوسطى؛ لأنَّ بحوثهم العلمية — كما أشرت في الفصل الثاني — اتصلت بالوقائع الجزئية دون القوانين الكلية، فضلًا عن الأنساق العلمية.

مع هذا تجمُل الإشارة إلى أنَّ المتجه الإلهي وإن استوجب القطع المعرفي في عصرنا هذا، فإنه صنع الملامح الخاصة للطبيعيات الإسلامية في ذلك العصر، فلا هي انساقت مع مادية القبل سقراطيين المتطرفة، ولا مع مادية أرسطو المعدلة إلى آخر المدى.

وعلى الرغم من استفادتها من الفيثاغورية والأفلاطونية والأفلوطينية أيضًا لم تنسق معها إلى آخر المدى. فهذه فلسفات مثالية تحرم العالم الطبيعي من الوجود الموضوعي، وهذا ما لا يمكن أن تفعله الفلسفة الإسلامية؛ قد تحرمه من استقلاله، أمَّا وجوده الموضوعي فكلا؛ لأنَّ العالم الطبيعي فعلٌ مُتعين للقدرة الإلهية. إنَّ المصطلحات اليونانية تقوم فقط بدور ظاهري.

وكانت الفلسفة الإسلامية تيارًا مُستقلًّا في النظر إلى العالم الطبيعي، استوعب ذينك الطرفين المادية/المثالية، وتجاوزهما إلى مركَّب جدلي أشمل. لم يكن محض انتقاء بينهما أو توفيق لهما مع الشريعة، بل كان خطوة في طريق تطور الفكر الطبيعي عرفت كيف تقطعها دون أن تخرج عن إطارها المثالي وتوجهها اللاهوتي الذي فرضته ظروف العصر.

(٣) الطبيعيات في نظرية الوجود

اتضح لنا الآن كيف أنَّ انتقال الطبيعيات إلى دائرة يفترض أنها أعلى — أي من الكلام إلى الحكمة — لم يُغَيِّر من الأمر شيئًا، وظلت الطبيعيات مُتجهة نحو الإلهيات أو مُقدمة إلهية، وليس هذا كل — ولا حتى أهم — ما يكشف عنه هذا الفصل. ولكي ندرك عمق الحكم: لا فرق — مما يستوجب قطعًا معرفيًّا عن كل التراث القديم — ينبغي أن نُلاحظ قبلًا كيف أنَّ الطبيعيات في الحكمة تُكافئ نظرية الوجود في الكلام … إنها الأنطولوجيا.

رأينا كيف انقسمت الحكمة إلى عقليات: منطق ورياضة، ثم طبيعيات محسوسة ثم إلهيات وشريعة، وكأننا بإزاء تقسيم الفلسفة الذي لم يستقر إلا في القرن التاسع عشر إلى إبستمولوجيا وأنطولوجيا وأكسيولوجيا، لا سيما مع ما تعنيه الإلهيات الإسلامية من نسق قيمي مهيب، وما تحمله الشريعة من جهاز أخلاقي جبار. على أنَّ أخطر ما في الأمر هو إخراج الطبيعيات تمامًا من الإبستمولوجيا وانفصالها عن العقليات والمنطق. لقد تقوقعت تمامًا في قلب نظرية الوجود المتجهة إلى الإلهيات.

ولا فرق. فهذا هو نفس الوضع في الكلام، انقسم أيضًا إلى نظرية العلم ونظرية الوجود ثم إلهيات، وإن لم يتبلور هذا إلا في مرحلة متأخرة، في مقابل الحكمة التي عرفت التقسيم منذ مرحلة الافتتاح الأولى التي دشَّنها الكندي. وأيضًا أخرج المتكلمون الطبيعيات تمامًا من المشكلة المعرفية؛ أي من نظرية العلم التي تكافئ المنطق في الحكمة، ووضعوها في قلب مشكلة أو نظرية الوجود والسؤال عن الموجود والمعلوم. والواقعُ أنَّ المباحث الطبيعية في الكلام — وبالتحديد مبحثا الجواهر والأعراض — صلب نظرية الوجود.

شهد علم الكلام مُصنَّفَيْن هامَّين مُخصصَيْن لمبحث الجواهر والأعراض؛ وهما «التذكرة لابن متويه» من القدماء، و«التحقيق التام للظواهري» من المحدثين. والحقُّ أنَّ «التذكرة» نموذج للبحث المنهجي المستقصي لموضوعه، والمحيط بأطرافه برؤية واضحة وأفكار مرتبة وعبارة مستقيمة، فيكشف عن نضج واقتدار يفوق ما يتكشَّف في كثير من نصوص الحكمة. ولأنه أكمل عرض للطبيعيات الكلامية، فإنه يحوي أوجز صياغة لنظرية الوجود. يقول ابن متويه:
اعلم أنَّ المعلومات أجمع لا تخرج عن قسمة تتردد بين النفي والإثبات، فإمَّا أن تكون لها صفة الوجود وهو المعبر عنه بالموجود، أو أن لا تكون لها صفة الوجود، وهو المعبر عنه بالمعدوم. والذي له صفة الوجود فإما أن تكون حاصلة له عن أول، أو لا عن أول، وهذه القسمة كالأولى، فالذي لا أول لوجوده ليس إلا القديم وحده عزَّ وجلَّ، والكلام فيه وفي صفاته ينفرد عن الكلام في غيره من المعلومات، فلا نجمعُ بينه وبينها في الذكر إعظامًا له تعالى، والذي لوجوده أوَّل وهو المعبر عنه بالمحدث، وهو ينقسم إلى ما يتحيز عند الوجود، وإلى ما لا يتحيز عند وجوده، فالأول وهو الجوهر والثاني هو العرض.٤٧
فتلك هي النظرة الكلامية الشاملة لمجمل الوجود، التي تحتوي حتى على العدم، أو بالمصطلحات الفلسفية الحديثة: للوجود ككل أو الوجود بما هو كذلك. إنَّه وجود قديم أزلي أبدي أحدث وجودًا هو العالم، العلامة البيِّنة عليه والتي انحلت إلى جواهر وأعراض إمعانًا في أدائها لهذا البيان. «ولا موجود بعد الله إلا الجواهر الجسمية وما يقوم بها من أعراض»٤٨ (= الطبيعيات)، ويمكن التمثيل لهذه النظرة الأنطولوجية بالشكل الآتي:

هذا الوضع للطبيعيات/الجواهر والأعراض في قلب نظرية الوجود هو الذي أدَّى — وكان لا بدَّ وأن يُؤدي — إلى جعلها طبيعيات إلهية أو متجهة نحو الإلهيات، ولا مندوحة عن هذا؛ لأننا حضارة مركزها الوحي/النص. والواقع أنَّه لم يحدث أصلًا فصل بين نظرية الوجود وبين الإلهيات في مُقدمات علم الكلام إلا في المصنفات المتأخرة بعد مرحلة النضج.

لذا فكثير ما يستحيل التفرقة بين الطبيعيات وبين الإلهيات بمصطلحات الكلام: التوحيد. وتحت عنوان التوحيد يناقش المعتزلة حدوث العالم قبل نفي الصفات.٤٩ وها هو ديوان الأصول للنيسابوري المعتزلي يحمل عنوان «التوحيد»، في حين أنَّ أربعة أخماسه حول الطبيعيات — الجواهر والأعراض والجسم المحدث — أخيرًا يتلوها باب: القول في نفي الصفات.٥٠ ومثله معظم مصنفات علم الكلام القديم. ولا غرو، فالتوحيد والعالم، أو الإلهيات والطبيعيات، هما معًا «الوجود»، ويظلُّ الجواهر والأعراض — كما أوضحنا — هما صلب نظرية الوجود والقطاع الأكبر منها.

•••

لقد كان علم الكلام يحمل إمكانيات خصبة وواعدة، أكثر من الحكمة التي انشغلت بتكييف وتعديل وتطويع للفلسفة اليونانية. فقد بدأ الكلام بنظرية في العلم «تطورت من الحديث عن مضادات العلم من ظن وشك وتقليد، ومصادر العلم من محسوسات وأوليات ومتواترات، إلى أن أصبحت نظرية متكاملة في العلم ابتداء من القرن السادس حتى التاسع.»٥١ وفي المؤلفات المبكرة تظهر نظرية العلم على أنَّها هي المقدمات النظرية دونًا عن نظرية الوجود المقابلة، أو بالأحرى التالية لها، «ثم اتحدت نظرية العلم ونظرية الوجود معًا فيما بعد، فيما يُعرف بأحكام العقل الثلاثة: الواجب والممكن والمستحيل.»٥٢

نظرية العلم ونظرية الوجود، أو الإبستمولوجيا والأنطولوجيا، كلتاهما سائرة نحو المتجه الإلهي إثباتًا للعقيدة، وصلبها وجود الله الواحد الأحد الموجد من العدم، وفي إثبات هذا كما أوضحنا لَعِبَ دليل الحدوث دورًا رئاسيًّا.

وقد كان دليل الحدوث منشأ البحث في الطبيعيات، وظلَّ دائمًا هيكلها، وأي دليل من حيث هو دليل يلامس الإبستمولوجيا؛ فكان دليل الحدوث يُلامس الكفتين: الوجود والمعرفة، ويمثل حلقة الوصل بينهما. وبكل ثقله كمبتدأ بل وكموضوع لمبحث الوجود: ساهم في نزع الطبيعيات تمامًا من نظرية العلم وإلقائها في قلب نظرية الوجود.

ترك المتكلمون الإبستمولوجيا للمُشتغلين بالمنطق من أهل الحكمة، وراحت نظرية العلم في الاختفاء من الكلام، ليكون البدء بنظرية الوجود بحثًا في دليل الحدود، وكأن موضوع المعرفة سابق على الذات العارفة وأهم منها. لقد تراجع العلم وفازت أخيرًا نظرية الوجود.

لقد حَمَل التراث الإسلامي — خصوصًا أصله الأصيل علم أصول الفقه الذي اشتغل به كل المعتزلة تقريبًا — كنزًا مَذخُورًا لنظرية المعرفة من مناهج بحث وأساليب استدلال وأشكال قياس، فضلًا عن الطرق التجريبية. لكن ظلَّت الطبيعيات بتقوقعها في نظرية الوجود بمنأى عن كل هذا، وانصبت في المتجه الإلهي الذي حال بينها وبين أن تكون مجالًا للفعالية الإنسانية، وبالتالي التغير والصيرورة والنماء والتطور، فانتهى بنا المآل إلى ما نحنُ عليه من استيراد كامل للطبيعيات وتقاناتها.

كان إقصاء الطبيعة عن نظرية العلم، والذي ساهم فيه المعتزلة والأشاعرة على السواء، هو السبب والعلة والأصل؛ أمَّا المعلول والنتيجة والأثر فهو أنْ أصبحت الطبيعيات إلهية، تدور في الدائرة المغلقة من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس؛ لأنَّ الوجود إثبات لله، والمعرفة إثبات للإنسان.

علم الكلام وضع الطبيعة في نظرية الوجود؛ لأنَّه لا يُريد إلا إثبات الله، وعلم الكلام الجديد سوف يضع الطبيعة في نظرية المعرفة؛ لأنه يريد إثبات وجود الإنسان المسلم في خضم الحياة المعاصرة.

إنَّ الوجود صنيعة الله، والعلم صنيعة الإنسان، الوجود قديم والعلم حادث، الوجود ثابت والعلم مُتغير، الوجود باقٍ والعلم نامٍ، والوجود حتم والعلم حرية، الوجود مفعول فيه والعلم فاعلية، الوجود كينونة والعلم صيرورة.

وإخراج الطبيعيات من العلم، من مجال الإنسان ووضعها في مجال الألوهية، هو السبب في انفلاتها من يدي المسلم المعاصر … المعاصر لعصر أحرز فيه الآخر الغربي سيطرة على الطبيعة تجاوزت كل آفاق الرؤى والأساطير. وغنيٌّ عن الذكر ما نجم عن انفلات الطبيعة من ضعف وهزائم وتنازل، وتخلف واستنزاف للموارد الطبيعية في استيراد عقيم وتبعية وفقر ودينونة لجلب رغيف الخبز، ثم الاستسلام تلو الاستسلام.

إنَّ السيطرة على الطبيعة قرينة بوضعها في قلب وعلى رأس المشكلة الإبستمولوجية … نظرية المعرفة. لم يكتفِ الآخر الغربي بهذا فوضعها في نظرية المنطق ومناهج البحث، التي هي أصلًا مدخل لنظرية المعرفة، فكان له ما كان. وفي مجال العلم — المجال الإنساني الخالص — ثمة مُعامل مُشترك، ما هو إنساني عام، وهو أكثر أولية ومبدئية وعمومية من الأيديولوجية؛ إنها آليات العقل العلمي، وحين ننظر إلى حيثُ انتهى الآخر الغربي، إلى حيث يجبُ أن نبدأ نحنُ منه، نجد في مجال العلم أيضًا الحوار والاشتباك بين الحضارات، ونجد التحدي الحقيقي والإنجاز الذي يأتي بأقوى إثبات للذات الحضارية، أصدق تحقيق للأيديولوجيا. ثمة تنافس وصراع، الانتصار فيه … أو حتى مجرد القدرة على اقتحام حلبته، هي عند الله وعند الناس خير وأبقى.

أما الوجود فهو مجال التمايز بين الحضارات، مجال الأصالة والخصوصية. لكل حضارة عالمها وأنطولوجيتها، حذف الآخر الغربي الألوهية من جُلِّ توترات سؤاله الحديث عن الوجود. وخصوصية حضارتنا في تميز أنطولوجيتها بآفاق الألوهية، منذ هبوط الوحي فيها. إنَّ خصوصيتها الحضارية الثمينة حقًّا في أنطولوجيا ذات أبعاد إلهية، إنها نظرة أنطولوجية إسلامية، من الصعب أن نتنازل نحن عنها — نحن ضمير الجماعة بأيديولوجيتها المتميزة — لتظل الألوهية معلم حضارتنا ووهجها الذي يشع أبعادًا دفيئة، افتقادها في حضارة الآخر الغربي أصبح يستصرخ أديم الأرض. ثم تأتي العلاقة بين الوجود والمعرفة لتجعل ذلك التميز الحضاري الأنطولوجي ينعكس بشكل ما في نظرية المعرفة.

•••

الطبيعيات الكلامية إلهية أنطولوجية، ونحنُ نُريد أنْ نجعلها إنسانية إبستمولوجية؛ لأنَّ إبستمولوجية الطبيعيات الآن على وجه التحديد والتعيين الشديد هي الحلبة الكبرى للفعالية الإنسانية، والتغير المتوالي والتقدم المطرد.

ولن يجدينا في هذا ترقيعٌ ولا تنقيحٌ ولا استبدال مصطلحات بأخرى، ما دامت الطبيعة كائنة في قلب نظرية الوجود، لن ينفعنا أي استئناف كان لطريق الأقدمين.

لا بدَّ من قطيعة معرفية لطريقهم وشق طريق جديد كل الجدة، توضع فيه الطبيعيات في قلب المشكلة المعرفية … في سويداء نظرية العلم.

ولكن … كيف؟ تلك هي المهمة المنوطة بعلم الكلام الجديد، إنْ أُريد له أن يُيَمِّمَ الأبصار شطر المستقبل.

١  رسائل الكندي الفلسفية، تحقيق د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط٢، القسم الأول، ص٢٥.
٢  رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، دار صادر، بيروت ١٩٥٧، ج٢، رسالة ٢٣، ص٣٩٤.
٣  رسائل الكندي الفلسفية، ص٤٧–٥٠، ١٣٧ وما بعدها.
٤  بل شنَّ المعتزلة هجومًا عليه وإن ظهر مع الأشاعرة بعد الغزالي.
٥  د. فيصل عون، فكرة الطبيعة في الفلسفة الإسلامية، ص٥٨.
٦  R. G. Collingwood, The Idea of Nature, Clarendon Press, Oxford, 1954. p. 34.
٧  رسائل الكندي الفلسفية، ص١٠٠.
٨  السابق، ص٣٠.
٩  د. أحمد فؤاد الأهواني، الفلسفة الإسلامية، م. س، ص٧٢.
١٠  د. أميرة حلمي مطر، الفلسفة اليونانية: تاريخها ومشكلاتها، دار المعارف، القاهرة ١٩٨٨، ص٤٥٠ وما بعدها.
١١  رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، ج٣، رسالة ٣٩، ص٣٣٤–٣٤١.
١٢  الرسالة ٢٠، ج٢، ص١٤٦-١٤٧.
١٣  الرسالة ٢٥، ج٢، ص٤٣٣–٤٤٢.
١٤  الرسالة ٥، ج١، ص٢٢٦-٢٢٧.
١٥  الرسالة ٧، ج١، ص٢٧٠.
١٦  الرسالة ٨، ج١، ص٢٧٦.
١٧  الرسالة ١٤، ج١، ص٤٣٩.
١٨  نفسه، ص٣٤٦، وأيضًا الرسالة ٣٢، ج٣، ص١٨٣.
١٩  الرسالة ٣٢، ج٣، ص١٨٢.
٢٠  الرسالة ٢٢، ج٢، ص٢٨٧.
٢١  الرسالة ٣٢، ج٣، ص١٨٧، ١٧٩.
٢٢  الرسالة ١٦، ج٢، ص٤٩.
٢٣  الرسالة ١٨، ج٢، ص١٢٤.
٢٤  الشيخ الرئيس ابن سينا، النجاة في الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية (مختصر الشفاء)، طبعة محيي الدين الكردي، مطبعة السعادة، القاهرة، ١٣٣١ﻫ، ص١٦٦-١٦٧.
٢٥  النجاة، ص٢٠٢، ٢٠٩، وأيضًا: الإشارات والتنبيهات لأبي علي بن سينا مع شرح نصير الدين الطوسي، تحقيق سليمان دنيا، القسم الثاني: الطبيعيات، دار المعارف، القاهرة، ١٩٥٧، ص١٦٥–١٧١.
٢٦  د. محمد عاطف العراقي، الفلسفة الطبيعية عند ابن سينا، دار المعارف، القاهرة، ١٩٧١، ص٣٧٩–٣٨٦.
٢٧  ابن سينا، النجاة، ص٣٥٥.
٢٨  ابن سينا (الشيخ الرئيس)، رسائل في الحكمة والطبيعيات، مطبعة الجوائب، قسطنطينة، ١٢٩٨ﻫ، ص٢-٣.
٢٩  ابن سينا، المرجع السابق، ص٧٤-٧٥.
٣٠  ابن سينا، النجاة في الحكمة، م. س، ص٣٢٢.
٣١  ابن سينا، رسائل في الحكمة والطبيعيات، ص٧٦-٧٧.
٣٢  يحيى محمد، الجابري والقطيعة المزعومة بين الفكر المغربي والفكر المشرقي، مجلة الفكر العربي، ع٧٦، ١٩٩٤، ص٢٢، ٥٩.
٣٣  في مناقشة هذا التناحر بين المشرق والمغرب، الذي يخوض فيه أهلونا المغاربة، انظر: جابر الأنصاري، تجديد النهضة باكتشاف الذات، ص٢٧٣ وما بعدها.
٣٤  يمنى الخولي، أدلار الباثي ومدارس قرطبة في الرياضيات: انتقال الرياضيات من بغداد إلى العلم الحديث، أعمال المؤتمر الدولي الثالث للحضارة الأندلسية، مركز النشر لجامعة القاهرة، ١٩٩٢. ص٢٤٧–٢٦٥.
وعن تحليل النشأة المشرقية الواعدة للرياضيات العربية: مقدمة دراستنا «في الرياضيات وفلسفتها عند العرب»، وهو تقديم وترجمة وتعليق لبحث الدكتور رشدي راشد: القابلية للتصور والقابلية للتخيل، والقابلية للإثبات في التفكير البرهاني، السجزي وابن ميمون في القضية ١٤، الكتاب الثاني من «القطوع المخروطية لأبو لونيوس»، (دار الثقافة، القاهرة، ١٩٩٤).
ويُراجع: نيقولا ريشر، تطور المنطق العربي، ترجمة ودراسة وتعليق د. محمد مهران، دار المعارف، القاهرة، ١٩٨٥، ص١٦٢-١٦٣.
٣٥  محمد عابد الجابري، نحنُ والتراث، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط٦، ١٩٩٣، ص٤٣.
٣٦  علي أومليل، التراث والتجاوز، ص٩.
٣٧  أبو الوليد بن رشد، تهافت التهافت، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة، ط٣، ١٩٨١، ص٥٩، ج١.
٣٨  السابق، ص٩٨، ج١.
٣٩  تهافت التهافت، ج٢، ص٤٢٨.
٤٠  فيصل بدير عون، فكرة الطبيعة في الفلسفة الإسلامية، ص٣٣٦.
٤١  علي حرب، التأويل والحقيقة، ص٢٤٧.
٤٢  ابن رشد، تهافت التهافت، ج١، ص١١٧، ١١٩، وأيضًا: د. محمد عاطف العراقي، النزعة العقلانية في فلسفة ابن رشد، دار المعارف، القاهرة، ط٢، ١٩٧٩، ص٢١٦–٢١٨.
٤٣  د. رشدي راشد رشد، القابلية للتصور والقابلية للتخيل والقابلية للإثبات في التفكير البرهاني، ترجمة يمنى الخولي، م. س، ص٣٥-٣٦.
٤٤  محمد عابد الجابري، نحن والتراث، ص١٢٩.
٤٥  ج. دي بور، تاريخ الفلسفة الإسلامية، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، ص١٢٨.
٤٦  أبو الريحان البيروني، استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها، تحقيق أحمد سعيد الدمرداش، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، ١٩٦٥، ص […]
٤٧  الحسن بن متويه، التذكرة في أحكام الجواهر والأعراض، تحقيق د. سامي نصر لطف وفيصل عون، ص٣٣-٣٤.
٤٨  دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة أبو ريدة، ص٧٢.
٤٩  سعيد بن محمد النيسابوري، التوحيد، تحقيق أبو ريدة، ص٤٥٧ وما بعدها.
٥٠  رسائل العدل والتوحيد، تحقيق محمد عمارة، ص١٧٤ وما بعدها.
٥١  د. حسن حنفي، دراسات إسلامية، الأنجلو المصرية، القاهرة ١٩٨١، ص١٢.
٥٢  السابق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤