الفصل السادس

أخوَنة الموت

هل ثمَّة طريقةٌ مناسبة للبكاء على ضحايا يسقطون لأنهم يدافعون عن «شرعية» انتخابية كما يحدُث الآن في مصر؟ ما دخل الفقراء الجدد؛ أي الذين لا يملكون شروط حريتهم، في الدفاع عن دولة «إسلامية» لم تقع؟ من كلَّفهم بالدفاع عن «الله» المحمدي؟ فمن يسمع شعارات المعتصمين يتعجب من قدرة الحشود الخارجة عن الحاكم الجديد في مصر على الاعتصام بحبل الله في وقتٍ لم تعُد فيه الشعوب تطمع في أي آخرة، بل فقط في قدْرٍ معقول من كرامة اليومي. وإذا بالموت يمرح هناك في كل مكان بشهيةٍ عجيبة، كأن أجسام المسلمين تفاهةٌ حيوانية لا تضيف شيئًا إلى النوع البشري. مَن يموت هناك إذن؟ مَن تقتل الدولة؟ هل يكفي أن نكون على حق حتى نقتل الناسَ باسم السلم الأهلي؟ وهل فعلًا أن احتكار العنف الشرعي هو صك على بياض يُمضيه شعبٌ ما ويُسلِّمه إلى دولة القانون الحديثة؟ ما السبب؟

إن ثقافة الموت هي السبب الأصلي في سقوط ضحايا بلا أي عنوانٍ أخلاقي حقيقي. موتى بلا عنوانٍ إنساني. إنهم موتى الوقت الضائع للثورات العربية الراهنة. صحيحٌ أنهم يدافعون عن شرعيةٍ انتخابية تم تعطيلها بشرعيةٍ ثورية. ولم يكن دور الجيش غير الإنقاذ الأمني للدولة دون أي تفكيرٍ مسئول عن النتائج السياسية الكارثية على مصير فكرة الديمقراطية لاحقًا. لكن الدفاع عن الشرعية لا ينبغي أن يتحول إلى عمليةٍ استشهادية لجموع من الشباب الغاضب الذي يسقط هدرًا دون أي كرامةٍ خاصة. لقد تم تحويل الدفاع عن الشرعية إلى دفاعٍ لاهوتي عن الإسلام والله والمقدسات وتطبيق الشريعة والدولة الدينية وأخونة المجتمع … إلخ. ووقع انزلاق من مشكلٍ مدني عادي حديث إلى استشهادٍ ديني وجهاد «للكفار الانقلابيين» على انتصار «الأمة». مَن المسئول؟ ومَن عليه أن يدافع عن هؤلاء الشهداء بلا شهادة على أي شيء سوى ابتذالية الموت في بلداننا؟

إن انتصار الإسلاميين في انتخابات ما بعد الثورة قد وفَّر إطارًا لشرعية وجودهم في الحكم. لكنه لم يُغيِّر شيئًا من تصورهم للحكم ولا لطريقة استعمالهم للسلطة. لم تكن الشرعية غير استعمالٍ صوري وخارجي للقانون الحديث من أجل إقامة دولة «إسلامية»، قائمة على تصورٍ غيرِ حديثٍ تمامًا للسلطة؛ هي سلطة «أولي الأمر»؛ ولذلك هم قد فهموا الانتصار الانتخابي باعتباره تفويضا شكليًّا «شرعيًّا» (في معنى شرع الله) وليس مجرد فوزٍ إحصائي لأصوات الناخبين في دورةٍ انتخابية دون أخرى. ولو كانوا يفهمون الشرعية باعتبارها مجرد تفوقٍ إحصائي لقبلوا دون تردُّد بإعادة الانتخابات، أو على الأقل بعدم تعطيل وجود الدولة بالاعتصام اللانهائي لأعضاء «الجماعة» في شوارع «المجتمع».

صحيح أنه لا يمكن الدفاع الأخلاقي عن تدخُّل الجيش في الحكم وتعطيل المسار الديمقراطي. لكن دفع الناس إلى الموت المجاني دفاعًا عن شرعية «شرعية» هو أيضًا موقفٌ غير مسئول لقادة «إخوانيين» لم يتعلموا من فن الحكم الحديث شيئًا؛ أي الحكم المدني، بل يمارسون السياسة باعتبارها انتحارًا شخصيًّا من أجل عقيدة، أو من أجل الدفاع عن أمة أو طائفة أو جماعة روحية حصرية. مَن يدفع الناس إلى الدفاع عن الحاكم، مهما كان شرعيًّا، هو يُضحِّي بهم بشكلٍ كلبي ولا يستحق مسئولية الحكم. لم يُوجَد الحكام للدفاع عنهم. بل وُجدوا للدفاع عن المحكومين. فإذا فشلوا في ذلك، فإن عليهم أن يتنحَّوا دون تعريض حياة الناس إلى الخطر، فما بالك بمن يُنمِّي فيهم ثقافة الموت ويرمي بهم إلى مخالب الدولة الأمنية الحديثة دون أي انزعاجٍ أخلاقي لضميره.

لقد تمَّت أخونة الموت من أجل تدجينه واستعماله كأداة ضغط سياسية على الدولة الحديثة بوصفها خصمًا انتخابيًّا مجردًا. وهذه كارثة أخلاقية سوف تؤجل مجيء عصر الحرية في أفقنا المدني إلى أجلٍ غير معلوم.

كيف ندافع عن ضحايا الاختزال الأمني لدور الدولة في فرض السلم الأهلي دون أي انشغالٍ كبير بمصير فكرة الحرية لدى شعوبنا؟ ثمَّة سكوتٌ أخلاقي مريع حول سقوط الضحايا، لمجرد أنهم «إخوانيون»؛ أي لا يؤمنون برابطة المواطنة، ويُفضِّلون الانتماء إلى الجماعة على الانخراط المدني في المجتمع الحديث. لكن السكوت على الموتى هو أيضًا ثقافة وليس مجرد موقفٍ سياسي، فلا ينبغي تحويل السكوت على موت الخصوم السياسيين إلى ثقافةٍ أخلاقيةٍ معترَفٍ بها أو مدافَعٍ عنها. إن الموت هو هو، وهو لا يختار ضحاياه إلا عرضًا؛ ومن ثَم فإن علينا أن ندق ناقوس الخطر الأخير، خطر الموت الجماعي للشعوب، وذلك مهما كانت مسوِّغات قتل الناس تبدو «شرعية».

وهذا هو الدرس الرائع لثقافة «حقوق الإنسان» التي لا يقبل بها الإسلاميون أنفسهم، والحال أنها هي الأفقُ الأخلاقي الأخير للدفاع عنهم ضد آلة الموت. لا يموتُ هناك إلا الإنسان. أما «شرع الله» أو «أنصار الشرعية» أو «أعضاء الجماعة» أو «مؤيدو الرئيس المنتخب» … إلخ. فهذه مسمياتٌ صحفية وخارجية وبلا توقيعٍ حيوي. مَن يموت هناك هو بشرٌ علينا أن ندافع عنه باسمِ بشريةٍ هو ربما لا يؤمن بها؛ أي لا يعتقد فيها باعتبارها السقف الرمزي الأعلى لوجوده في العالم؛ لأن لديه «آخرة» تنتظره. لكن عدم مشاركته في انتظار الآخرة ليس دليلًا كافيًا للتضحية الأخلاقية به كأن موته خسارة حيوانية غير مكلفة في سلمنا الأخلاقي «العلماني»، بل بالعكس؛ إن فهمنا العلماني للحياة الحديثة هو وحده الذي يسمح لنا بالدفاع عن «شهداء» الدولة الدينية التي يسعى إليها الإسلاميون تحت مفرداتٍ شتى، ولكن ليس باعتبارهم شهداء، وإنما باعتبارهم بشرًا يشاركوننا الحدود الدنيوية لأجسامنا. لا ينبغي أبدًا أن ننسى إنسانية الموت، ونعامله كأنه هديةٌ أمنية من الدولة المواتية لتصوُّراتنا للمواطنة أو للحياة الحديثة. لا يُوجَد تبريرٌ علماني لموت الآخرين. وكل من يموت داخل عالمنا هو أخٌ بشري جذري لنا، ولا تفاوض حول موته مع أحد.

لذلك، ليس العلمانيون هم الذين يقتلون الناس في مصر أو في تونس بل ثقافة الموت. العلماني هو فقط من يوسع دائرة الإيمان حتى يستطيع المؤمن الآخر أو حتى «غير المؤمن» إيمانًا تقليديًّا، بأن يجد مكانه داخل دائرة المواطنة باعتبارها رابطًا مدنيًّا حرًّا وعادلًا ومتسامحًا تجاه أيٍّ كان، مهما كان معتقده أو لونه أو لغته أو هويته الثقافية؛ فتعطيل الانتماء الديني ليس موجهًا ضد أحد. إنه ليس كفرًا بأي إله. بل فقط هو نمطٌ أوسع من الانتماء، هو الانتماء إلى الإنسانية.

وهكذا فإن من يحرق كنائس «الآخر» أو يسعى إلى قتله، رمزًا أو جسدًا، هو ملحدٌ ديني بأديان الآخرين. وليس مؤمنًا بدينه الخاص. لا يمكن حرقُ كنيسة باسم نفس الإله الذي يُعبد فيها. بل لا يمكن أخلاقيًّا أن نُهاجمَ أي مكانٍ للعبادة على الأرضِ مهما كان غريبًا عنا، فهل يعبُد الناس إلا إلهًا ما؟ وكل ما يُشار إليه بأنه إله هو في نهاية المطاف وبشكلٍ أو بآخر، اسمٌ آخر من أسماء «الله»، وإن كان ذلك تحت هذا الاسم أو ذاك الذي لا نقبل به أو حتى لا نعرفه. ومَن يقوم بذلك هو ملحدٌ ساذج، حوَّل معتقده إلى آلة حربٍ على معتقدات الآخرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥