الفصل السابع والعشرون

ضحكة في سكون الليل

ألقى تارلينج نظرةً واحدة قبل أن يلتفتَ إلى الفتاة التي كانت تُحاول دفعه والدخولَ إلى الغرفة، وأمسك بها من ذراعها برفق ودفعَها مرةً أخرى إلى الممر. سألت بهمسٍ مذعور: «ما الخطب؟ ما الخطب؟» ثم قالت: «أوه، دعني أدخل إلى أمي.»

كافحَت للإفلات من قبضته، لكنه أمسكَها بقوة.

توسَّل إليها قائلًا: «يجب أن تكوني شجاعةً لمصلحتك ولمصلحة الجميع.»

دفعَها ناحية باب الغرفة الثانية وهو لا يزال ممسكًا بذراعها. وتحسَّسَ بيده مفتاحَ الإنارة حتى وجده.

بدا أنها غرفةُ نوم احتياطية، مفروشة بأثاث بسيط، ومِن هذه الغرفة كان ثَمة بابٌ يُؤدي، فيما يبدو، إلى المبنى الرئيسي.

سأل: «إلى أين يؤدي هذا الباب؟» لكن يبدو أنها لم تسمَعْه.

كانت تنوح قائلة: «أمي، أمي! ماذا حدث لأمي؟»

سأل مرةً أخرى: «إلى أين يؤدي هذا الباب؟» وللرد أدخلَت يدَها المرتجفةَ في جيبها وأخرجَت مِفتاحًا.

فتحَ الباب ووجدَ نفسه في رواقٍ مستطيل يُطل على الصالة.

تسلَّلت متقدمةً إياه، لكنه أمسكَ بها ودفعَها إلى الخلف.

قال بحزم: «أقول لكِ، يجب أن تكوني هادئةً يا أوديت، يجب ألا تستسلمي. كل شيء يعتمد على شجاعتكِ. أين الخدم؟»

ثم، على حين غِرة، هربت منه وركضت عائدةً عبر الباب إلى الجناح الذي غادراه. وتبعها في مطاردة سريعة.

صاحَ وهي تُلقي بنفسها على الباب وتندفع داخلةً غرفةَ أمها: «بالله عليكِ يا أوديت، لا تفعلي، لا تفعلي.»

ألقت نظرة واحدة، ثم سقطت على الأرض بجانب أمِّها الميتة، وألقت ذراعَيها حول جسمها وقبَّلت شِفاهها الباردة.

سحبَها تارلينج بعيدًا برفق، وأسندَها وهو يكاد يحملها إلى الرواق. كان ثَمة رجلٌ أشعثُ في قميصٍ وسروال اعتقد تارلينج أنه ربما يكون كبيرَ الخدم يُسرع عبر الممر.

قال تارلينج بصوتٍ منخفض: «أيقظْ أيَّ نساء في المنزل.» ثم أردفَ: «لقد قُتِلَت السيدة رايدر.»

قال الرجلُ مذعورًا: «قُتِلَت يا سيدي!» ثم أردفَ: «أنت لا تقصد ذلك؟»

قال تارلينج بحِدَّة: «أسرع، لقد فقدَت الآنسة رايدر وعيها مرةً أخرى.»

حملاها إلى غرفة الصالون ووضعاها على الأريكة ولم يتركها تارلينج حتى رآها بين يدَيِ امرأتين من الخدم.

عادَ مع كبير الخدم إلى الغرفة حيث كان الجسدُ مُلقًى. أضاء كل الأنوار وأجرى فحصًا دقيقًا للغرفة. النافذة المؤدية إلى الشرفة المغطَّاة بالزجاج حيث كان مختبئًا منذ ساعاتٍ قليلة، كانت مغلقة بمِزلاجٍ وقُفل.

الستائر التي أُسدِلَت، على الأرجح من قِبَل ميلبرج عندما جاء لأخذ المحفظة، لم تتزحزح. من الوضع الذي رقدت فيه جثة المرأة والهدوء البادي على وجهها؛ خمَّن أن الموت لا بد أنه داهمها على نحوٍ مفاجئ غيرِ متوقَّع. على الأرجح تسلل القاتل من ورائها بينما كانت واقفة عند نهاية الأريكة التي كان يرى جزءًا منها من النافذة. في الغالب ذلك ما حدث، لتمضية الوقت الذي تنتظر فيه عودةَ ابنتها، أخذت كتابًا من المكتبة الصغيرة خلف الباب مباشرةً، وجاء دعمُ هذه النظرية على شكل كتاب من الواضح أنه وقع من يدها بين الموضع الذي عُثِرَ عليها فيه وبين المكتبة.

رفعَ الرجلان الجثة معًا على الأريكة.

قال تارلينج: «من الأفضل لك النزولُ إلى المدينة وإبلاغُ الشرطة.» ثم سألَه: «هل يوجد هاتف هنا؟»

أجابَ كبير الخدم: «نعم يا سيدي.»

قال المحقق: «جيد، هذا سيُوفِّر عليك الرحلة.»

أبلغَ مسئولي الشرطة المحليِّين، ثم اتصلَ بسكوتلاند يارد وأرسلَ ساعيًا لإيقاظ وايتسايد. كان ضوء الفجر الخافتُ يتسلل من السماء عندما نظر من النافذة، ولكن ذلك الضوء الباهت لم يفعل شيئًا سِوى أنه أكَّد على الظلام الحالك الذي غلَّف العالم.

فحصَ السكِّين الذي بدا وكأنه سكينُ جزارٍ عاديٌّ جدًّا. كان هناك بعضُ الأحرف الأولى الباهتة المحروقة عند المقبض، لكنها بَلِيَت كثيرًا من خلال الاستخدام المستمرِّ للمقبض بحيث لم يكن هناك سوى أثرٍ ضعيف جدًّا لما كانت عليه في الأصل. يمكنه رؤية حرف «إم» وحرفَيْن آخرَيْن يُشبهان «سي» و«إيه».

«إم سي إيه؟»

حيَّر عقله لتفسير الأحرف الأولى. ثم على الفور جاء كبيرُ الخدم مرة أخرى.

«السيدة الشابة في حالة رهيبة يا سيدي، وقد أرسلتُ في طلب د. توماس.»

أومأ تارلينج برأسه.

وقال: «لقد تصرَّفتَ بحكمة شديدة.» ثم أردفَ: «الفتاة المسكينة، لقد تلقَّت صدمة مريعة.»

مرةً أخرى اتجه نحو الهاتف، وهذه المرة اتصلَ بدار رعاية في لندن ورتَّب لإحضار سيارة إسعاف لأخذِ الفتاة دون مزيدٍ من التأخير. عندما اتصلَ هاتفيًّا بسكوتلاند يارد طلبَ بعد التفكير أن يُرسَل رسولٌ إلى لينج تشو، يأمره بالمجيء دون تأخير. كان لديه إيمانٌ عظيم بالرجل الصِّيني، لا سيَّما في قضيةٍ مثل هذه حيث كانت الأدلةُ طازَجة؛ لأن لينج تشو كان يمتلك مواهبَ خارقةً لا يُنافسه فيها إلا الكلابُ من سلالة بلَدهاوند.

ألقى تعليماته لكبير الخدم قائلًا: «لا أحدَ يصعد إلى الطابق العلوي.» ثم أردفَ: «وعندما يأتي الطبيب والطبيب الشرعي، لا بد من إدخالهما من المدخل الرئيسي، وإذا لم أكن هنا، يجب أن تفهم أنه تحت أي ظروف يجب عدمُ استخدام السلالم المؤدية إلى الشرفة.»

هو نفسُه خرجَ من المدخل الرئيسي للقيام بجولة في الأرض. لم يكن لديه أملٌ كبير في أن يؤديَ هذا البحثُ إلى أي شيء. ربما تكون الأدلة كثيرةً هناك عندما يكشفها ضوء النهار، ولكن احتمالية بقاء القاتل بالقرب من مسرح جريمته كانت بعيدة جدًّا.

كانت الأرض واسعةً وجيدةَ التشجير. اجتمعت مساراتٌ متعرجة عديدة، وتشعَّبَت بلا هدفٍ من المسارات الواسعة المفروشة بالحصى حول المنزل إلى الأسوار العالية التي أحاطت بهذه العزبة الصغيرة.

في أحد أركان الأرض كانت هناك بقعةٌ كبيرة إلى حدٍّ ما، خاليةٌ تمامًا من الشجيرات وغير مغطَّاة على الإطلاق. أجرى مسحًا عاديًّا لهذه البقعة، مُمرِّرًا الضوءَ عبر الصفوف المرتَّبة للخضراوات النامية، وكان على وشك المغادرة عندما رأى كتلة سوداء ذات مظهر، حتى في ظلام بيت البستاني. اجتاح هذا الغِطاءَ المحتمل بمصباحه.

هل كان خيالُه يخدعه، أم إنه قد لمح للحظةٍ قصيرةٍ وجهًا أبيضَ يُحدِّق إليه في هذه الزاوية؟ وجَّه الضوء مرة أخرى. لم يكن هناك شيءٌ مرئيٌّ. مشى إلى المبنى ودار حوله.

لم يكن هناك أحدٌ في مجال رؤيته. ظنَّ أنه رأى هيئةَ شيءٍ مظلمٍ تحت ظل المبنى يتحرك نحو حزام الصَّنَوبر الذي يُحيط بالمنزل من ثلاث جهات. أضاء المصباح مرةً أخرى، لكن الضوء لم يكن قويًّا بما يكفي لإضاءة المسافة المطلوبة، وتقدَّم إلى الأمام بسرعة مهرولًا في الاتجاه الذي رأى الشبحَ يختفي فيه. وصل إلى الصنوبر وسار بنعومة. وبين الحين والآخَر كان يتوقف، وذات مرة كاد يُقسم أنه سمع صوت تكسير غُصَين أمامه.

شرَع في الجري في مطاردة، والآن لم يكن هناك خطأٌ في حقيقةِ أن شخصًا ما كان لا يزال وسطَ الأشجار. سمع خطواتِ طريدته السريعة، ثم ساد الصمت. تابع الجريَ، ولكن لا بد أنه قد تجاوز الهدف؛ لأنه الآن صار يسمع ضوضاء خفية خلفه. وفي لمح البصر دار على عقبَيه.

قال: «مَنْ أنت؟» ثم أردفَ: «أظهِر نفسك، وإلا فسأطلق النار!»

لم يكن هناك جوابٌ وانتظر. سمع صوتَ كشطِ حذاءٍ في الطوب وعلم أن الدخيل كان يتسلق السور. استدار في اتجاه الصوت، لكنه لم يجد شيئًا مرة أخرى.

ثم من مكانٍ ما فوقه جاءت ضحكة شيطانية جمَّدت الدم في عروقه. كان الجزء العلوي من السور مَخفيًّا بغصنِ شجرةٍ متدلٍّ وكان ضوءُ مصباحه بلا قيمة.

صاحَ: «انزل، لقد أحطتُ بك!»

مرة أخرى جاءت تلك الضحكة الرهيبة التي يمتزج فيها الخوفُ مع السخرية، وسمعَ صوتًا حادًّا صاخبًا قاسيًا.

«قاتل! قاتل! لقد قتلتَ ثورنتون لاين، اللعنة عليك! لقد احتفظت بهذه من أجلك … خذها!»

جاءَ شيء يصفر من خلال الأشجار، شيء صغير ومستدير، وسقطت نقطة صغيرة، كأنها نقطةُ ماء، على ظهر يد تارلينج فنفضها صارخًا؛ لأنها كانت تحرق كالنار. سمعَ صوتَ سقوط الغريب الغامض في الناحية الأخرى من السور وصوت أقدامه السريعة. انحنى والتقطَ المادة التي أُلقِيَت عليه. كانت زجاجةً صغيرة عليها ملصقٌ صيدلانيٌّ ملطَّخٌ مكتوبٌ فيه «حمض كبريتيك».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤