ميشال أبو شهلا

يطَّلع على الثانية والثلاثين.

أشهل المقلتين، بعيد ما بين العُنق والترائب، ذو جبينٍ عريض كأنه قطعة من صدره ينحدر منه أنف مستقيم كأنه صبابة من الثلج تجمَّدت في سفح جبل أجرد، أو نعجة تردَّت من قمة الجبل إلى منحدر من منحدراته فوقفت هناك تجيل طرفًا حائرًا في المهوى السحيق.

عذب الفم والمبسم على تصلُّب القسمات في أديم وجهه.

ترى عليه ظلَّيْن من اللين والشدة، فلا تستبين موضع الأول ولا الأخرى، ولا تعلم فيمَ مذهبهما وأين يقعان؛ إذ لا تنحط على هذه حتى ترتفع إلى ذاك، كأنَّ بين لينه وشدته خصامًا قديمًا يظل بين مدٍّ وجزر، وكأنَّ بين عنصرَيْ شدته ولينه نسبًا وقُربى، فلا شكَّ أنَّ شدته تتحدَّر من سلالة تصلُّبه، ولينه من سلالة الجمال فيه، وقد يكون عنصرا شاعريته يمتَّان إلى هذين العنصرين بسبب؛ فلقد تقاسم شاعريته جمالٌ وقبح، فتدلَّى هذا وعلا ذاك إلى أقصى مراتبه وأنبل مستوياته.

قال — ويا ليته لم يقل:

قد حلت شرعة الحياة لقومٍ
وأمرت لسائر الأقوام

وقال — لا فُضَّ فوه:

ولدي! يا ما أُحيلاه ولدْ
ناعم الخدينْ
قمريُّ الوجه عطريُّ الجسدْ
أزرق العينينْ
حسنه باللطف والأنس اتَّحدْ
وهو في الشهرينْ
إنه والملِك السامي أحدْ

بدينُ الجثة عاليها، واسع فناء الصدر، نافر الثديين، يمشي دفعة دفعة كأنَّ على صدره رحًى.

تألبت اللحوم على ساقيه فالتفَّت إحداهما بالأخرى، إلا أن هذا الالتفاف لم يمسح عنهما جمال التركيب، فلقد سكبتهما الطبيعة في أكمل قوالبها، ولقد يرى عليهما الخبير في سبر قرارة الفن بيتًا من أشعاره، فبعض أشعار هذا الأديب الفتى تمزج ألوان الصور بمتانة النسيج. قال يصف وادي حمانا:

يا حبذا الوادي الظليل تشابكت
في حبِّه الأغصان بالأغصان
يمشي النسيم خلاله واهي الخُطى
بندى الصباح مبلَّل الأردان
… صفت إلى الجنبين منه أرائك
خضر قوائمها على الأزمان
تيجانها درر السحائب أفلتت
فهوت على هام هناك حواني

صور جميلة نجمت من بيت غنًى لا نسب، فقد لا يكون للبيت الأخير جدٌّ، إذ لا ينتسب إلى سلالة من سلالات المعاني، فهو من صلب دماغه، وفي أدمغة الشعراء أصلاب وأرحام.

والأستاذ «أبو شهلا» كاتب قويُّ الحجة، يصقل العبارة في مخيلته ثم يرسلها في ديباجة عربية طاهرة.

ترفه الله أو الحظُّ، وقد يكون لهذا الترف يد أثيمة على شعره، فلقد شاء سوء الطالع ألا تُحصِن المخيلات وتلد إلا إذا حالفت القلة جيوب أربابها، فما على جيب «أبي شهلا» إذا حالفته مغذية الشعراء وتملته؟

صغت إليه فئة من أدباء هذا البلد، وختمت قلوبها عليه، وإذا بها تؤلف عصبة في كنفه سيكون لها في تحرير وجه الأدب شأن جليل، هي عصبة العشرة.

عشرة من النَّمِرة، لم يتقطعوا أمرهم بينهم، يترسمون خطى الأدب خطوةً خطوة، فإن وقعوا على درن كنسوه، وإن واجهوا معترضًا وجَّهوه، وإن استووا على أدب صحيح قدَّسوه، فهُم سِلم إن شئت، وحرب إن أردت.

لن تقف عينك على مشهد ألطف وأكمل من مشهد هؤلاء الجنود الروحيين وقد أُغري بينهم الجدل والحوار حول فكرة يتخطفونها بأبحاثهم، ولن يقدَّر لك أن تستنشق روحًا أخفَّ من روحهم، وقد رفوا بها في مكتب جريدة «المعرض»، وحلَّقوا في سماء الأدب تحليق النسور في مذهب الجو. أما العصبة هذه فهي دائرة معارف حيَّة، «ميشال أبو شهلا» أحد أجزائها.

الأستاذ «أبو شهلا» شاعر علَمٌ، إلا أنه مُقِلٌّ، قد لا يتجمَّع لك من قصائده ما يربي على العشرين.

على أن هناك قصيدة ستخرق حرمة الأيام وتعيش طويلًا، هي «ظلمة العين». جاء في هذا الطُّرفة الشعرية:

ولزمت آلامي تمرُّ بها
صور الشباب ومذهب الحلم
متغلغل الإحساس في لججٍ
زخارة باليأس والسأم
مات الرجاء بمهجتي فأنا
حيٌّ بلا أمل ولا همم
وتساقطت حولي المنى قطعًا
ما بين منثلم ومنهدم
ألله في ألم فرشت له
عيني فنام مخضَّبًا بدمي

لم ينشد الشاعر بعد أغنيته الخالدة، فلندعه يمهِّد لها عدة الروح، فهو لم يبرح فتى ويعلم أن الوثبة الكبرى التي عليه أن يثبها إنما هي لزام في عنقه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤