خليل تقيُّ الدين

عملاق! يوشك الربعة في القامة — لو رمى ببصره نحو قمة رأسه — أن لا يتصفَّح بجلاء دقة تكوينها؛ لبُعد ما بين رأس هذا وبصر ذاك.

وقد يكون طول لسانه من سلالة أمته الطويلة، فهو لا ينحطُّ على معوجٍّ إلا ويعالجه بهذا الحسام الممشوق، على أنه لا يرمي بذلك إلى هدف مدخول كما شاء بعضهم أن يتزحَّف إلى هذا الزعم، بل إلى الإصلاح المنشود الذي أخذ به من يوم مدرجه، ومن مظاهر الإصلاح الذي فُطر عليه وقُوفه عند ما يُنهى عنه وانتصاحه بنصائح المخلصين.

أخرج إليه الجمال من حقه فجرَّ وراءه ذرية من ربَّاته كما كانت تُجَرُّ الإماء عند شرائها في أيام العرب، وإنك لتستنشق في شعره من هذا الجمال عَرفًا طيبًا ما يثبت لك أن للقوافي — في هيكل الحُسن — طبعًا طيِّعًا كطبع الحسان، واستسلامًا روحيًّا كاستسلامهنَّ.

قال:

ومرِّي على الأرض مرَّ النسيم
ورفي على جفني المسهَّد
وألقي برأسك فوق ضلوعي
تداعب شَعرَ حبيبي يدي
سأرنو لعينيك حتى أرى
خيالي على هدبك الأسود
مها! لا تقولي غدًا سأجيء
إليك فإني أخاف غدي

فيمَ خوفه من غده؟ أتراه يخشى من القدر أن يستفرد رسولًا إليه من رسل الجمال فيقمره مهاه؟ لا أعلم؛ فالأحلام المضطربة تفرغ في نفوس الشعراء أوهامًا من جنسها تخرج على ألسنتهم توسلات وجهشات.

•••

لئن يكن الأستاذ «أبو شهلا» رأس عصبة العشرة وعمدها، فالشيخ «خليل تقيُّ الدين» روحها ولولبها.

إلا أنه يغبُّ١ الإدارة إغبابًا، فلا ينتجعها إلا ليعاجل وثبة على دعيٍّ في الأدب، أو ليصد غارة شهرت عليه أو على الأدب الحديث؛ فهو أحد الأركان الذين تقمع بهم عصبة العشرة نخوة المتهجمين. لا يحمل على أحد في نقده ولا يستشعر التحيف من أحد، على أن الأدباء في هذا البلد لم يتعودوا الصراحة في القول والجرأة عليه، ولو تعودوهما لما حقَّ لأحد منهم أن يتناول إخلاص «خليل تقي الدين» بفلتة من فلتات اللسان أو ينظر إليه نظرة الريبة والشك، وسيجيء يوم — وهذا اليوم قريب — يتضح فيه للناس أن الجرأة التي يقحمها هذا الكاتب الشاب لم تكن إلا فضيلة.

ألم تقرأه غاضبًا؟ بالله تقرأه! فهو يمثل بخصمه تمثيلًا تفرَّد به، ولا يخشى نقاش الحساب فيخلط الشدة بضغث من اللين شأن الكثيرين من النُّقَّاد الذين يحفظون خط الرجوع.

إذا دخلت، أو إذا قيِّض لك أن تدخل إدارة المعرض فوقع نظرك على فتى لا يبلغ الطرْف آخره، مفترشًا مقعدًا شرقيًّا ومتوسِّدًا كفَّه، وإلى جنبه نارجيلة يستظهر بدخانها على استلهام النكات. أو إذا قدِّر لك في الساعة الواحدة ظهرًا أن تدسَّ أبصارك في شق باب الإدارة فأصابت جمهرة تكترش من الطعام، ووقفت فيها على عمود بشريٍّ لا تنابذ معدته لونًا من ألوان المأدبة، ولا تهبط يده على جفنة إلا ويأخذ منها بقسط وافر، فقل هذا «خليل تقيُّ الدين».

في مقلتيه اللوزيتين حوَّة كحوَّة الشفق عند انحطاط الشمس، تفيض على ضفاف أجفانه بشيء من الكسل، وأرى في شعره العذب مجَّة من هذا اللون الجميل.

شاعر حساس اهتدى الطريق إلى مصفَّى اللفظ ولباب الخيال، ولكنه لم يعلف قلبه لِمِدى الشِّعر ككثير من الشعراء؛ إذ لم يغرب عنه أن هذا الشيطان مشغلة عن غيره.

له في عالم الشعر هيكل خاص يمشي فيه مشي المرِح الفخور، إذ اشتراه بدم قلبه وآلام لياليه. قال:

طلبت منيَ شِعرًا
لبيك لبيك إنَّا
أصحابه فجميل
منا وقيس المعنَّى
والشعر يوحى إلينا
وحيًا ويؤثَر عنَّا
إن خان كل البرايا
شيطانه لم يخنَّا
ونحن في كل أمر
إلى الخيال سكنَّا
نهوى الحقيقة لكنْ
لولا الخيال جُنِنَّا
قصورنا شاهقات
في عالم الوهم تُبنَى
لا نستطيب سواها
مأوى وظلًّا وسكنَى

وقال:

كل بيت أرمي به في قصيد
قطعة من صميم قلبي الدامي
بعثته نفسي صدًى لأمانيها
وجادت به يد الإلهامِ
وسواء أشاع في الناس أم ظل
بصدري يشعُّ في أحلامي
أنا أحنو عليه ما همَّني منه
سوى أنه وليدُ هيامي

يريد الشاعر أن يقول للناس إنه لا يستفسر شعره بينهم، ولا يزيع به لتحله الأجيال، وإن قصاراه فيه أن يكون وليد هيامه، وهذا لعَمْري شأن الشاعر الذي ينظر إلى روحه بعين روحه، ويعلم حق العلم أن رضى الإنسان عنه حقيقة تنفر منها أذواق البشر، ولكنها أصدق الحقائق.

لا يزال الأستاذ «تقيُّ الدين» في الخامسة والعشرين من عمره يرى المستقبل الجميل يبسم له في شفق أحلامه وأمانيه … أخذ الله بيده وحقَّق أمانيه وأحلامه.

١  زار يومًا بعد يوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤