أفعل الأساليب في مكافحة المحاضرات وقطع دابر المحاضرين

القاعة صغيرة، ولكنها ملأى. نحن في طرابلس بدعوة نادي المرشدات. وقد جاءت المديرة تطلب محاضرةً. إنها لا تريد خطابًا، ولا حديثًا، ولا كلمةً، ولا نقاشًا، ولا حورًا، إنها تريد محاضرةً.

وطرابلس مدينة تطيب فيها الخطابة؛ فجماهيرها لا تتثاءب ولا ترقد في عصمة الوقار، وهي تتعشق الكلمة فتحفظها وترددها.

٢٨٤٢٠ مرةً دُعيت إلى الاستماع لمحاضرة.

و٢٨٤٢٠ مرةً لم أستمع لمحاضرة.

٢٨٤٢١ دُعيت لإلقاء محاضرة.

٢٨٤٢١ مرةً اعتذرت عن إلقاء محاضرة.

المحاضرة، ما المحاضرة؟

إنها خطاب يتثاءب ويتمطى.

إنها عبارة فتحت فمها ثم نسيت أن تطبقه.

دجاجة تمروح ذيل طاووس. إنها خطبة تلبس ردنكوت. هي ألفاظ لها لحية ولها كرش. هي حبات «غاردينال» كلامية تقتل الأرق وتجلب النعاس. إنها لغة كاوتشوكية. إنها بالون ينفخ فيه أستاذ.

وعلى الصعيد الفردي ليس لي على «المحاضرة» إلا شرطان؛ الأول: ألا أسمعها، والثاني: ألا أُلقيها.

ومن الواضح أن في كلامنا هذا — وأستعمل نون الجمع لأننا محاضر — شيئًا من الغلو، ففي الأبحاث ما لا يُشْرح إلا بمحاضرة، وفي الناس اختصاصيون يستطيعون مناقشة الأمور وإيضاحها خلال ساعة أو أكثر، ولكن هذا الطوفان من المحاضرات من بعض أسبابه حب الظهور، وزيف الثقافة، والتدجيل الكتبي.

نعترف لجورج حكيم مثلًا أنه يحاضر في القطيعة بين لبنان والشام، ويشوقنا أن نصغي لبلطجي يقص علينا تاريخ مرفأ بيروت وحركة السفن فيه. ومن النافع أن يلقي فينا محاضرةً إبراهيم عبد العال عن مشروع الليطاني.

أما أن يتصدى كل واحد منا — كما شاع أخيرًا — لمعالجة الأبحاث الاجتماعية على أنه فيها مرجع وثقة؛ حاشدًا في معرض كلامه أسماء مفكرين عالميين، ففي هذا جناية على الحقيقة. وهذا التزييف يا طالما أنزل ببلادنا الويلات!

أقول هذا بعد أن ظهر أن إلقاء المحاضرات صار أداة للتبرج والتضخم، ولتشويه العلوم؛ فليست الشهادة الجامعية (باسبورًا) يدخل كل من حمله إلى جنة المعرفة؛ فكل موضوع تعرف إليه أحدنا ليس له من أهمية إلا بعد أن يتفاعل في نفسه، ويُعْجن بالتجارب الشخصية، والملاحظات الشخصية، ثم يتجوهر بالتفكير الأصيل، ويُصْقل على وجه الاختبار.

ولقد تبين أن الكثيرين من محاضرينا يبدءون أولًا برش العطور على المكان الذي يحاضرون فيه، ونثر الأزاهير على جبين من دعاهم إلى الكلام، ثم يعترفون بتواضع مُصطنَع أن هذا الميدان الذي نزلوا إليه أوسع من أن يجولوا فيه خلال ساعة أو ساعتين، ثم يستعرضون أسماءً عالمية، وكتبًا يقولون إنهم طالعوها، ثم يسردون بتِيهٍ ودلال حوادث شخصية، فإن كان أحدهم اقترب من «تشرشل» ٣٤ كيلومترًا ذكر: «في السنة الماضية، حين قابلني تشرشل.» وإن كان قد درس في جامعة «كيلوتسكي»؛ من أعمال دولة «صفرانيا»، راح يقصُّ أمر مناقشة جرت بينه وبين الدكتور «جهيروز»؛ الأستاذ الاختصاصي في «علوم شروق الشمس عند المغيب وعلاقتها باستئناف الحرب في كوريا». هكذا يضفي محاضرنا جوًّا علميًّا مزيفًا على الفلسفة، فيلقم سامعيه حقائق بديهية، ويستعرض ما فتح الله ورزق من عبارات انتشلها من هنا وهناك على أنها من صوغ دماغه.

وإنها كلمة جدٍّ: إن أكثر المحاضرات التي غمرت «بازار» الثقافة في بيروت كانت لها أضرارها؛ لأنها ضخَّمت شأن بعض الناس الذين ليس لهم تفكير أصيل، ونشرت الفوضى الفكرية، وأشبعت الأثرة في بعض حملة الشهادات والسياسيين، والمشتغلين بذلك الفن المبهم الذي يُدْعى «أدبًا»، وشلَّت إمكانية بعض فتياننا الذين لو لم يُفسح لهم سبيل المجد الموهوم على المنابر، لطلبوه عملًا فعالًا بين مواطنيهم، أو ثقافةً صحيحةً ينبتها التفكير الهادئ، وتفولذها التجارب، وتعتقها وتغذِّيها الأصالة.

وتنطبق هذه الملاحظات بشكل أدق على الأبحاث الاجتماعية والسياسية. كثيرًا ما نسمع مثلًا: «والمعلوم أن القبائل إن فعلت كذا وكذا صار كذا وكذا» أو «من المعترف به أن الحكم الجمهوري إذا نزل به كذا وكذا وصار الملك كيت وكيت لنشأت عن ذلك الحالة الفلانية.»

والحقيقة أن السياسة والاجتماع والتاريخ ما هي بمعلوم بالمعنى الدقيق؛ إذن فليس لأحد أن يقول: «إن المعترف به» أو «المعلوم» أو «المسلم به.» إن الاجتماع ما هو بمعادلات جبر، وأربعة أربعة في السياسة والاجتماع ما كانت ولن تكون ثمانية. هناك كميات مجهولة، هناك كثير من اﻟ X. هناك عامل الإنسان بعاطفته وجشعه، غروره وإنسانيته، ونبله وحيوانيته. هناك العوامل الخارجية. هناك المصادفة. هناك عشرات اﻟ X.

وليس غرضي اليوم أن أهدم بالتهكُّم محاولات بعض محاضرينا. قد تكون هذه المحاضرات محاولةً صادقةً لاستعراض مواطن الضعف فينا ووصف علاجها، ولكن هذا الأسلوب — لأنه في غالب الأحيان يتوخى الأهداف الضخمة — قد يكون صدًى لأحلام الضعف النفسي المتوطن في كثرتنا؛ فنحن نرقب مستعجلين حصول العجيبة التي تنقذنا، بل في كثير من الأحيان نطلب هذا العون من مصادر غريبة عن نفوسنا نحن. وهذه الأحلام الأفيونية هي تلازم الضعف، فلا عجب أن تأتي المواضيع التي يعالجها أكثر كتابنا وخطبائنا ومحاضرينا من النوع الضخم. من أجل هذا، يظهر من يدعون النُّبؤات. وفي حالات هذا الضعف تروج الرُّقَى، وتزدهر تجارة «البصارة براجه». وبعض من شاع عنهم أنهم مفكرون هم في حقيقة الأمر منجِّمون. وبعض محاضراتنا هي رُقًى تصفها «البصارة براجه»، والفرق بين عقلية «البصارة براجه» وبين العقلية الواقعية العملية يتضح لمن يكثر الاختلاط بالأجانب، فيتسنى له المقابلة بين ما يعالجون من المواضيع وما يعالجه مواطنونا.

تسمع الأجنبي — وهو عادةً مواطن دولة تركزت واستقرت — يتحدث عن قنينة حبر، عن برغي، عن كرسي، عن صندوق خشب، أو كتاب. وتسمع الكثيرين من مواطنينا يعالجون ٢٣ موضوعًا في أربع دقائق، فيختصرون الحالة الدولية، ويقابلون بين قوى المعسكرين الغربي والشرقي، ويشرحون أفعل السبل لتحسين زراعة البطيخ، وكيف يجب أن يُحَدد الاستيراد، ثم يصفون طريق استرجاع فلسطين. ما سبب البون الشاسع بين التفكير الأجنبي — أو لنُسمِّه الغربي — بحوادث معينة ومواضيع هي في نظر الكثيرين منا تافهة، وبين تفكير أكثرنا في الشئون الضخمة من عالمية ومحلية؟

ما السبب؟

كأكثر الأمور، هذه المشكلة ليس لها سبب واحد، بل عدة أسباب نقتصر منها على ذكر سببين؛ الأول: أن مواطن الدول الأجنبية لا تواجهه الصعاب التي تواجهنا؛ ففي ميدان السياسة الخارجي له حكومة هو انتخبها، وهو يثق بها، تكفيه عناء التفكير فيما قد يواجه دولته من مخاطر، وفي الميدان الداخلي يجد أن نظامه قد حل مشاكله الأساسية من حقوق متساوية أمام القضاء، وضمان اجتماعي هو متوفر في أكثر الدول المتمدنة على درجات متفاوتة بالطبع. ولعل السبب الثاني والأهم هو أنه مواطن دولة قوية، ومجتمع مستقر ثابت صحيح، فليس هو من الضعف بحيث يحلم بالعجائب وينادي على كل «بصارة براجه».

في الدقائق الباقية سآتي على ذكر بعض هذه التوافه التي هي في نظري هي هي الهامة.

حين ينتسب مواطن إلى جيش دولته، يُعلِّمونه أولًا كيف يجب أن يربط شريطة «صباطه»، وكيف يجب أن يُلقي التحية، ويدققون في أهمية تنظيف حذائه؛ ذلك لأن الخبير العسكري يعرف أن هنالك علاقةً مباشرةً بين ربح المعركة، بل وربح الحرب، وبين معرفة ربط شريطة «الصباط».

أما عندنا فبعض ملوك الكلام، وبطاركة الأفكار، وفرسان المحاضرات، يقتحمون المعارك، ويربحون الحروب من غير جنود، أو بجنود لا يحسنون ربط شريطة «الصباط».

هذه الملاحظات ما هي بتخطيط عام، بل الغاية من ذكرها هو إثارة التفكير لإعادة النظر بكثير من عاداتنا، والتأمل في كيف أن هذه التقاليد التي مشينا عليها تؤذينا، وكيف أنه لا بد عند التعبئة العامة من التشديد على تمحيص ما لا نأبه له عادةً، أو ما افترضنا أنه صحيح بسبب أننا درجنا على ممارسته.

هو ذا بعض هذه الملاحظات:
  • (١)

    فلان بيته مفتوح: بيته مفتوح؟ ما معنى هذه العبارة؟ أفندم! نعم، بيته مفتوح؛ يعني أن صاحب البيت يستقبلك في بيته. ما أهمية هذا؟ يعني أنه يقدم لك قهوةً وحبة شوكولاته، ويلح عليك بالدعوة للطعام. ما أهمية كل هذا؟ لماذا هي فضيلة أن يكون بيته مفتوحًا؟ أنا أفضل أن يبقى بيتي مقفلًا. مَن له شغل معي فليتفضل إلى مكتبي، وإن شرَّف البيت فلتكن إقامته قصيرةً، ولا ينتظر فنجان قهوة إلا إذا جاء بدعوة. الحياة ثمينة، وأغلى من أن تهدر بأشياء لا معنى لها، وقيم الحياة هي أثمن من أن تخمن بهذا الذي لا معنى له، ويذاع على أنه فضيلة؛ فضيلة البيت المفتوح.

  • (٢)

    الإشاعة: كم جندلت الأقوال الكاذبة من ضحايا! وكم رفعت شأن رجل لا يستحق أن نتطلع إليه حتى بمنظار! يسود بيننا اعتقادات خاطئة تَحْرمنا من احترام من يستحقون الاحترام، وتحفزنا إلى الابتعاد عن مبادئ من أقل واجباتنا أن نفحصها قبل أن نعتنقها أو نرفضها. كم مرةً نسمع «فلان آدمي؟!» «شو آدميته؟ ما حدا بيعرف.» فلان زلمة الإنكليز. ما هو البرهان؟ «هيك! كيف هيك؟ هيك!» إني أتكلم عن اختبار شخصي حين آتي على ذكر شارل مالك. لقد ساد الاعتقاد فيما مضى أن هذا الرجل هو عميل أميركي «ليش؟ هيك!» هل فحص أحد متهميه مواقفه وأقواله فانتهى إلى ما يثبت هذا الاتهام؟ لا، شارل مالك ضد العروبة، هو صنيعة الأميركان. لو أنه أضعف شخصية، أو لو أن له مكانةً محليةً بدلًا من منزلة عالمية لكانت الإشاعات قتلته. ولما كنا اليوم ننتفع به كناطق مؤتمن باسم الدول العربية. وعلى الصعيد الإيجابي، نجد أننا نسمع بفلان مثلًا أنه محسن كبير وأبو الفقير. أي إحسان؟ أين المستشفى الذي شاده؟ أو التلامذة الذين علمهم على حسابه؟ لا أحد يعرفهم، إنما يعرفون أن فلانًا أبو الفقير ومحسن كبير.

  • (٣)

    نحن والأجانب: بيننا طبقة حقيرة النفوس يتملقون الأجانب بذم مواطنيهم. لا أعرف بلدًا في الدنيا يجرِّئ الأجنبي أن يتنقص علنًا من ساكنيه مثلما يفعل الأجانب عندنا في لبنان. إنني بعد اختبار ست سنوات في هذه الجمهورية، أجد — عن معرفة — أن اللصوصية موجودة بيننا وبين القليلين من مواطنينا، ولكن اللصوص الضخام وأسياد الصفقات الكبرى من الناهبين والسالبين هم أجانب لا وطنيون. مع كل هذا، نسمح للأجانب أن يتنقصوا منا علنًا. وقليلون بيننا من لهم الكرامة الوطنية والجرأة أن يوقفوا الأغراب عند حدهم، بل نحن نجد أننا في كل جلسة نجتمع بها إلى الأجانب تسابقًا إلى التزلف لهم بالقدح من بلادنا ومواطنينا. وهذا ما يشجع الأجانب على احتقارنا، والإمعان بسلب حقوقنا. هذه الخيانة التي يقترفها أكثرنا من امتهان بني قومهم كلفتنا وتكلفنا الكثير من المال ومن الكرامة.

  • (٤)

    الأديب: في معتقدنا السائد شيء خاطئ، إعجاب لا مبرر له بالأديب من كاتب أو شاعر. نتوهم أن الأديب مؤهل لأن يصبح وزيرًا أو مدير كمارك، أو أي شيء. الحقيقة أن الأديب في أكثر الأحيان هو رجل يُحسن الكتابة، كما أن الحلاق هو رجل يحسن الحلاقة. وهذه الهالة من الإعجاب والتكبير التي انتشرت حول الأديب كأديب يجب أن تُمْحى كي تستقيم موازيننا.

  • (٥)

    الكلمة المطبوعة: كذلك في نفوسنا عبودية للكلمة المطبوعة وللكتاب. إن الذي يعرف كيف تُحَرر الصحف والمجلات، وكيف تُؤَلف أكثر الكتب يزول من نفسه التقديس للكلمة المطبوعة. وهذه الحقيقة تنطبق بشكل أصدق على ما يظهر في بلادنا من كتب وصحف ومجلات.

  • (٦)

    بعض تفكيرنا الحقير: لماذا نعتقد أن غناء جارنا هو تحدٍّ لنا؟ لماذا نتوهم إن أطلق فلان سهمًا ناريًّا فإنما يفعل ذلك نكايةً فينا؟ لماذا التفكير الحقير؟ أسمع البعض يصيحون أن مكبرات الصوت تُرَكب في الجوامع نكايةً بالمسيحيين، وأن الصلبان المنتشرة على الطرقات إنما قامت هناك لوزوزة عيون المحمديين. إن القرآن الكريم في إيمان الملايين هو رسالة منزلة من الله. وهو في إجماع البشر كتاب عظيم يحتوي على التبشير الإنساني الرفيع. إني أشتهي أن أسمع التجويد لا خمس مرات في النهار، بل خمسين مرة، وأصغي إلى التجويد بخشوع ورفعة.

    والصليب؛ إنه رمز الإيمان والفداء، والشعار المقدس لمئات الملايين من البشر؛ فرؤية الصلبان توحي في النفس المحبة، ولا توقظ البغضاء. إذن لماذا أثور أنا المسيحي لسماع الآذان في مكبرات الصوت، وأغضب أنا المحمدي لرؤية الصلبان على الطرقات؟ إن كان بيننا من يلوح بالشعائر الدينية لإيقاظ الأحقاد الراسبة؛ فالسبيل لمقاومة ذلك هو أن تُقْبل هذه الشعائر كما وُجِدت، كما يجب أن تكون مصدرًا للود والإخاء والتأمل.

  • (٧)
    الوقار وفروعه: ومن الفضائل التي لا قيمة حقيقية لها هو ما يسمى الوقار؛ كأن الفكر أو الشخصية أو القيم السامية لا تثبت إلا إذا تردت العبوس، وتهادت في كلمات موزونة كأنها Quota النقد النادر، ويتفرع من الوقار نقائص كثيرة حتى اختلط علينا الأمر، فصرنا نحسب أن الشراسة شجاعةً، وصار تقطيب الحاجبين والنظرات النارية مقياسًا للبطولة. والحقيقة التي أثبتتها تجارب الحروب أن الشرس هو في أكثر الأحيان جبان في المعركة، وقد يكون بطاشًا في «المشاكل»، وأن اللطيف المتواضع هو الجندي الأمثل.
  • (٨)

    الأدب القديم: آداب العربية التي درسناها والتي لا تزال تُدَرس وتسري أمثالًا على ألسنة الناس يجب إعادة النظر فيها، ويجب على الأمهات والآباء والمدارس في بلادنا أن يقوموا بحملة في هذا السبيل. وإن كان نظام التربية عندنا خاطئًا، فيجب علينا أن نصلحه نحن في البيت والمعهد، وبتوضيح الأمور لناشئتنا. يجب أن يفهم أولادنا حين يقرءون أشعار الأخطل والفرزدق والخطيئة أن الهجاء قذارة عقلية، وأن إنشاد الشعراء في حضرات الملوك والخلفاء والأمراء هو تسوُّل وذُل، وأن هؤلاء حين كانوا يأمرون بالهدايا والأموال إنما كانوا ينهبون أموال الشعب لإرضاء أثرتهم وغرورهم، وأن التفاخر بالأجداد وبالأعمال هو قلة ذوق، وأن كل هذه النقائص لا تزال متفشيةً في مجتمعنا لأسباب كثيرة، من أهمها أن كتب الآداب عندنا لا تزال تعمر بهذه النقائص مرتديةً أثواب دور النشر في طبعات جديدة.

  • (٩)

    شرفونا على سهرة: في بلادنا مؤسسة يجب هدمها. هذه المؤسسة اسمها السهرة. سيران في صالون. ساعات ساعات نهدرها حلقةً مفرغةً نطوف بها على أصدقائنا، ويطوف خلالها أصدقاؤنا علينا. وكما أن الأرض ومواردها هي ثروة الأمة لا يحق لأحد أن يهدرها أو يتلفها، كذلك يجب أن نعلم أن وقت المواطن منا هو أيضًا ملك الأمة لا يحق لأحد منا أن يضيعه. وإنه لهادر للإنتاج من يسحق وقته حديثًا حديثًا وكلامًا كلامًا في سهرات لا تنتهي مع أصدقائه وجيرانه. نحن لا نستطيع التغلب على اليهود حتى ولا مقاومتهم إن كان أثمن ما نملك — هذا الوقت — نرميه كأنه شيء لا قيمة له.

سيداتي سادتي:

ما هي مصادفة أننا ضعفاء. هذه البلاد أثبتت كبرها وقوتها خلال ألوف السنين. وحالتنا من الضعف اليوم والاستخذاء لها أسبابها، وإني لم أحاول اليوم شرحها ولا علاجها. ولقد أعطيت أمثلةً قليلةً على أن بعض الطريق لنجاتنا، وتحقيق مصيرنا، وتجسيد أمانينا هو موقف فكر ثوري يعيد النظر في عاداتنا الاجتماعية. هذا الموقف يحتم علينا أن ننظر إلى كل ما نحن فيه من أنظمة نظرةً موضوعيةً جديدةً. ونحن لا نستطيع أن نتطلع إلى مشكلاتنا ولا أن نحلها إلا إذا أقبلنا بجرأة وتعرٍّ على تفقد قوانا، والتخلص بحزم وانتفاضة من كل ما يكبلنا، وإلا فما نحن بمخلصين. نقطة الانطلاق ليست النظر إلى جزئيات الأمور ولا توقع العجائب. كل واحد منا يجب أن يحيا في جبهة قتال. وليس من المعقول أن نربح الحرب الكبرى إن كنا نخسر في كل جبهة من جبهاتنا الصغرى.

لا أعتذر عن قصر هذا الحديث. مهمة الثقافة — ومنها إلقاء المحاضرات — هي ألا نسلم الناس الفكر رزمًا مضبوبةً، ولا أن نقدم الفكر برشانةً يبتلعها السامع. مهمة الثقافة — ومنها إلقاء المحاضرات — أن نستثير الفكر، فيفعل كل عقل، وينطلق موجات مغرقًا كل خرافة، متحدِّيًا كل افتراض، منضبطًا في نظام المنطق، مستهدفًا الغاية الكبرى: تقوية المجتمع.

أيها المواطنون:

قبل أن أتوقف، يتوجب علي أن أجيب على السؤال الذي هو موضوع هذا الحديث: ما هي أفعل الأساليب في مكافحة المحاضرات وقطع دابر المحاضرين؟

هل نقتلهم جميعًا؟ لعلهم يستحقون أكثر من الإعدام!

هل نستصدر قانونًا يمنع إلقاء المحاضرات؟ إن القوانين تُشْترع حتى تُخْرق. هل نرميهم في البحر؟ قد لا يسعهم البحر. إذن كيف السبيل إلى القضاء عليهم؟ لعل أفضل الأساليب هي اقتباس قاعدة اقتصادية: تنزل قيمة النقد وتتلاشى حين يُبَاح طبع الأوراق المالية. سبيل التخلص من المحاضرات والمحاضرين هي الإكثار منها ومنهم.

لهذا كانت هذه المحاضرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤