بنو بكر وبنو شيبان

أسطورة القبيلتين بكر وشيبان اخترعتها. هذا خطاب عمره ثلاثون سنةً، فقد ألقيته في المأدبة الوداعية لصفنا المتخرج من الجامعة الأميركية سنة ١٩٢٥. تراني أثبته هنا لعاطفية الذكرى أم زهوًا بنجاح مَدْرسيٍّ لم أقوَ بعدُ على التفلُّت من مجد ذكرياته؟

بنو شيبان قبيلة شديدة البأس تفوق سائر القبائل بالمنعة والإقدام، ولكن بني بكر أشد منها بأسًا وأصلب عودًا، فكان إذا اصطدمت القبيلتان خرج من بني شيبان ستة أبطال، ولم يخرج إلا بطل واحد من بني بكر، وإذا أُقِيم ميدان تسابق ستة فرسان من بني شيبان لكل فارس من بني بكر، وإذا تبارى الأدباء في سوق عكاظ جاء ستة شعراء من الشيبانيين وشاعر واحد من بني بكر. ونحن كم قد أكبرنا الحكمة التي نزلت على منظمي هذه الوليمة الذين يعرفون مقادير الرجال، فاختاروا ستة خطباء من بني شيبان، وهم المتخرجون القدامى، ولم يختاروا إلا خطيبًا واحدًا من بني بكر.

رجل من المتخرجين الجدد لكل ستة من القدماء. قسمة عادلة ونسبة محفوظة. فنحن نفضل الذين تقدمونا في كل شيء.

لئن يكونوا قد أنشئوا المجلات، أو جمعوا الأموال، أو أشغلوا عاليات المناصب، أو تمتعوا بالشهرة الواسعة، فنحن في هذا أعلى منهم شأنًا؛ ذلك لأننا نملك الأحلام التي تُذهب الأماني، وتزين لنا المستقبل المجهول. إنشاء مجلة؟! ذلك أمر تافه. دع المتخرج الجديد يختلي بنفسه دقيقةً واحدةً فينشئ لك في لحظة مجلةً تفوق المقتطف والهلال، ويجمع لها الاشتراكات في ثانية. الأموال أمر بسيط! حدثوا أيًّا منا نحن المُطلين على الحياة عن مقادير الأموال التي سيفوز بها تسمعوا العجب العجاب من صناديق ملؤها الذهب الوهاج، وأوتوموبيلات للخدم والحشم والأتباع والأنصار وحدائق تجري من تحتها الأنهار، حتى إذا فرغ من وصف غناه وأدار يداه في جيبه لم يجد فيها من الأموال إلا «محرمةً» ممزقةً يمسح بها عرق جبينه.

أما عن فخم القصور والعروس التي لا تدانيها في جمالها الست بدور، فتلك أمور شرحها يطول. الأحلام هي التي تملأ رأس المتخرج الجديد، وهي التي تجعله في مقام أسمى من زميله القديم. الأحلام هي للواحد منا كتلك العصا لذلك الأعرابي الذي حين سُئِل عما في يده أجاب: هذه عصاي أركزها لصلاتي، وأعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأعتمد عليها في مشيتي، أقرع بها الأبواب، وألقى بها عقور الكلاب، تنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف في مجالدة الأقران. ورثتها عن أبي، وسأورثها ابني من بعدي، وأهشُّ بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى!

على أن أحلام الخريج الجديد وإن تكن كعصا ذلك الأعرابي، فليست منيلته كل الغايات، فإن كلمة «الخريج» أو «المتخرج» قد اختلف الناس في تعريفها، والبعض يقول إن «الخريج» هو الذي «خرج» من عالم الدروس والتنقيب إلى عالم الكد والتجريب.

والبعض يقول إن المتخرج هو الذي أصبح يكسب المال ولم تعد جيبه «متخرجةً»، غير أن أبلغ تحديد هو الذي جادت به قريحة خطيبنا شحادة أفندي شحادة؛ فقد حدده بقوله: الخريج هو من دفع خراجًا سنويًّا لوقفية المتخرجين، فإذا آمنا بهذا التحديد، فنحن — بني بكر المتخرجين الجدد — خاسرون؛ إذ إن الأحلام لو دُفِعت لوقفية المتخرجين لحار سكرتيرها بما يفعل بها؛ لأنها لا تدخل تحت باب «من» ولا تحت باب «إلى».

يُرْوى أن رجلًا فاضلًا من أتقياء الإسكندرية أخذ على نفسه أن يشيد معبدًا، فكان يجمع الإحسانات من الناس، فالتقى ذات يوم فتًى يسأل عن الطريق إلى حمام سنجاب. قال الرجل الفاضل أنا أدلُّك، ثم مشى وإياه، ولكن بدلًا من أن يدلَّه على حمام سنجاب اقتاده إلى بيته ثم قال: لا أدلُّك على الحمام ما لم تدفع إعانةً لبناية معبد الإسكندرية، قال الفتى: فتش جيوبي، فليس فيها فلس، قال: هذا لا يعنيني، فما أنت بخارج من هذا المكان من غير أن تدفع الإعانة. فخاف الفتى فقال: حسنًا، خذ طربوشي وارهنه، وخذ نصف قيمة رهنه إعانةً للمعبد. فلما أن خرج الرجل من البيت ليرهن الطربوش خفَّ الفتى إلى الصندوق؛ حيث أُودِعت الإعانات، فاحتملها وفرَّ بها هاربًا. رجع الرجل إلى البيت فما وجد الفتى ولا الإعانات، فأخذ يطوف المدينة صائحًا:

يَا مَنْ رَأَى رَجُلًا قَدْ كَانَ يَسْأَلُنِي
كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى حَمَّامِ سِنْجَابِ

فلما أعياه التطواف ولم يجبه أحد أطل فتًى من شرفة منزله وصاح:

قُلْ لِلَّذِي أَخَذَ الطَّرْبُوشَ يَرْهَنُهُ
مَا ضَرهُ لَوْ يَضَعُ قُفْلًا على البابِ

ونحن — جماعة المتخرجين الجدد — لو زُرنا مكتب السكرتير العام للمتخرجين فالأفضل له «أن يضع قفلًا على الباب.»

ولكن لنا ميزة على القدماء — على بني شيبان — هي أعظم الميزات؛ ذلك أنهم تخرجوا يوم كان محيطهم متعطشًا لأمثالهم، ونحن نتخرج اليوم ومحيطنا غاصٌّ بأمثالنا. يوم نزلتم إلى معركة الحياة، يا بني شيبان، كانت المزاحمة غير حادة، فكانت اللقمة سائغةً. أما اليوم فالمزاحمة خطرة، والعراك قاتل في بعض الأحيان.

فنحن إذن لنا الميزة عليكم؛ فاللقمة التي نأكلها سنختطفها من فم الأسود؛ فهي إذن ألذ طعمًا، وقد قال الشاعر الاسكتلندي Leigh Hunt في هذا المعنى:

«ألذ الحلويات تلك التي نسرقها على غفلة من عين الرقيب، وأطيب القبلات تلك التي نغتصبها اغتصابًا من خد الحبيب.»

حَذَارِ اليَوْمَ يا شَيْبَانُ مِنَّا
بَنُو بَكْرٍ عَلَيْكُم حَامِلُونَا
أَلَمَّا تَعْرِفُوا مِنَّا وَمِنْكُمْ
كَتَائِب يَطَّعنَّ وَيَرْتَمِينَا؟
فَنَحْنُ الآكِلُونَ إِذَا طَعِمْنَا
وَنَحْنُ الشَّارِبُونَ إِذَا سقِينَا
وَنَحْنُ الدَّافِعُونَ إِذَا قَبَضْنَا
لِوَقْفِ جَمَاعَةِ المُتَخَرِّجِينَا
وَفِي إِسْبَانيَا شِدْنَا قَدِيمًا
مِنَ الأَحْلَامِ «قَعْقُورًا» مُبِينَا
لَئِنْ ضَاقَتْ بِنَا كُلُّ المَنَاحِي
وَأَفْلَسْنَا نَصِيرُ مُعَلِّمِينَا

•••

وَدَاعًا جَنَّةَ الدُّنْيَا وَإنَّا
عَلَى رغْمٍ لِرَبْعِكِ تَارِكُونَا
عَلَى أَنَّا إِذَا اليَوْمَ انْتَثَرْنَا
نَظَلُّ عَلَى العُهُودِ مُحَافِظِينَا
إِذَا الأَشْبَالُ جَالَتْ فِي الفَيَافِي
هَلِ التجْوَالُ يُنْسِيهَا العَرِينَا؟
تخَذْنَا حُبَّهَا دَيْنًا عَلَيْنَا
وَلَوْلَا الكُفْرُ سَمَّيْنَاهُ دِينَا
وَلَوْ أَنَّ الخُمُورَ لَنَا أُتِيحَتْ
شَرِبْنَا النخْبَ كَاسَاتٍ مئِينَا
نَهُزُّ لِوَاءَهَا فِي الأَرْضِ فَخْرًا
وَإِنْ مِتْنَا سَيَرْفَعُهُ بَنُونَا

•••

أَذِيعُوا فِي المَلَا نَبَأً مرِيعًا
بِأَنَّا لِلْمَعَارِكِ خَارِجُونَا
بَنُو بَكْرٍ عَلَيْكُمْ قَدْ أَغَارُوا
بَنِي شَيْبَانَ فِرُّوا هَارِبِينَا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤