يا عمر

ألقيت هذا الخطاب في حفلة توزيع الشهادات في مدرسة الشويفات ١٩٤٨. كان الجمع كبيرًا جدًّا، وكانت كلمتي أولى كلماتي التي ألقيتها بعد عودتي من المهجر، ولم أكن واثقًا حينئذ من مقدرتي على الخطابة. الجمع طغت عليه الصفة الدرزية؛ لأن «الشويفات» درزية. أعترف خجلًا نادمًا أني أردت تملُّق الجمهور بمثل «بذلوها باعوها.» وهو تعبير درزي. كذلك دغدغته بالإشارة إلى ذكر بطل مجاهد اسمه حمد صعب. وقد تلقيت جزاء هذا النفاق؛ إذ اكتشفت بعد إلقاء الخطاب أن عائلة صعب كثيرة العدد في الشويفات، ولكن حمد صعب ما هو أحد العائلة، وليس هو من الشويفات، بل من «الكحلونية»، ثم اقترفت خطأً ثانيًا، وهو أنني افترضت أن المتخرجين سيجلسون قبالتنا وجلسوا وراءنا. ولكن الخطاب كان ناجحًا جدًّا بدليل ما تناقل الناس ورددوا من آرائه. والظاهر أن الخطب كانت قبل هذا عبارةً عن هوائيات. نجاح هذا الخطاب بعث بي ثقةً في النفس بعد انقطاع ثلاث وعشرين سنةً عن الخطابة بالعربية، حتى — ولحد ما — التحدث بها.

أدير نظري بين هذه الوجوه النظرة فيؤلمني ألا أرى وجهًا حبيبًا إلي هو وجه الفتى عمر.

إن عمر فتًى لم تعرف هذه المدرسة له شبيهًا: عثليتي الجسد، وقاد الخاطر، جريء القلب، فصيح اللسان، ورع يعبد الله ويمشي على وصاياه … إن عمر فاز بكل الجوائز المدرسية، وهو قافز إلى الحياة تواكبه قلوب عائلته ورفاقه التلامذة وأساتذته وكل عارفيه.

عمر هو ولدي، وهو ليس بينكم اليوم لأنه بقي حلمًا في خاطري، وبريقًا في عيني، فلم يمن الله علي بغلام ذكر حلمت بتسميته عمر.

لو أن عمر وُلِد ابنًا لي، وكان هذه الليلة بينكم، فما الذي كنت أود أن يسمعه؟ لعل أجدر بي أن أقول أولًا ما الذي أريد ألا يسمعه؟

أود لعمر ألا يسمع خطابًا داويًا كل ما يترك في نفوس سامعيه صدًى جميلًا لكلام مبهم فخم.

إن من يتوخى التصفيق في الحفلات يفوز بالتصفيق. قليل من المديح، وشيء من الإشادة بالماضي، وبخمسة قروش عواطف. هذه روشتة الخطب الناجحة.

أريده أن يسمع نصائح صاغتها الحياة من دماء العيش ودموعه. كلامًا صقله غبار الحياة، وفيه بريق وحرارة ولدها احتكاك آلام الخيبة بأفراح الانتصارات.

فيا عمر ويا رفقاء عمر:

كلماتي التالية ستنقصها البلاغة ولن ينقصها الاختبار. لن تكون فخمةً ولا جزلةً، ولكنها مخلصة. كم مرةً في سني الغربة قعدت فاشلًا منهكًا، ورفعت إلى الله عينين جريحتين أبتهل ولا أعاتب، بل ضارعًا: «ربي يسر لغيري ما حرمتنيه … ربِّ أرسل لفتياننا من يرسم لهم خارطة الطريق فلا يتيهونها.»

فيا عمر ويا رفقاءه:

نصيحتي الأولى هي أن تقتنعوا أنه ليس عن الوقت من بديل … طريق النجاح في معظم الأحيان طريقة موحشة صعبة طويلة، فلا تحاولوا اختصارها بدروب القادوميات غير المشروعة … بدون ريب أن سوق الكميونات هو أقل ربحًا من تهريب الحشيش. ولكن من يقترف منكم التهريب يتغلغل في خلايا نفسه سم من القلق الروحي لم يجدوا له بعدُ ترياقًا.

بعد عودتي من غربة السنوات الكثيرة رحت أتطلع إلى وجوه رفاق الصبا؛ فأما من سرق وكذب وارتشى وداجى، فحوَّل أحداقه وعلى جانبي فمه خشونة بصقتها نفسه شبه سم الأفعى، يطفو على أنيابها؛ إذ هي تحاول الدفاع عن السم الذي يجسدها بالسم الذي تنفثه، وأما من طهرت نفسه وعاش في أمن وسلام مع خالقه وضميره وجيرانه، فلقد طغت على وجهه موجة من الهدوء والثقة والصراحة.

كذب من قال لكم أنه فاز بالسعادة من فاز بالمال عن طرقه غير المشروعة.

عاشرت الأغنياء والأقوياء الذين سلكوا القادوميات، فإذا هم في معظم الأحيان يركضون هنا وهناك يحاولون ابتياع ما لا يُشترى بمال: ذلك الهدوء الروحي الذي رأيتموه هنا في هذه البلدة على وجوه الكثيرين الذين لم يخافوا الدروب الوعرة.

الأمثولة الثانية التي أريد أن يحذفها عمر هي الاقتصاد: الاقتصاد في بدء الحياة. لقد سمعتم ولا ريب أن أصعب مراحل الثراء هو الحصول على أول مليون ليرة.

أسرفوا وبذروا ما تشاءون، إنما بعد أن تحصلوا على المليون الأول … فرص كثيرة في الحياة فاتتني لأنه لم تكن لي الحكمة ولا قوة ضبط النفس على توفير ألف أو خمسمائة ريال. لتكن لكم جرأة مجابهة الناس بكفٍّ مقبوضة … ليُسمِّكم الناس بخلاء. البخل في معظم الأحيان هو تقريظ لازم … لتكن لكم الجرأة أن تظهروا بثياب عتيقة، وكرافاتات لم تصل من باريس في فجر هذا النهار، ولتكن لكم الشجاعة أن تشبعوا ضيوفكم ولا تتخموهم.

أقول لكم كونوا بخلاء في بدء العمر، فتضحكون بعدئذ ممن كان يضحك منكم. أقول كونوا بخلاء ولا تكونوا لؤماء. التقتير والروية في الإنفاق أمر محمود، ولكن البخل في موقف النبل هو لؤم. أقول لكم: لا تهدروا الشمبانيا، ولكني لم أقل لكم أن تحبسوا الرغيف عن لاجئي فلسطين.

كذلك أقول لكم وللحبيب عمر أن تعطوا الحياة شيئًا أسميه «زودة البياع». أذكر حانوتيًّا جاور بيتنا دكانه فيما مضى، وكنا نحن صغار الأولاد نذهب إليه بالمتليك، فيزين لنا القضامي ويصرها في ورقة، وحين يهم بتسليمها إلينا يحفن من طبقه قبضةً من القضامي ويرميها في الصرة، مخاطبًا إيانا مودعًا قائلًا: هذه «زودة البياع.» وكنا نحب ذلك الحانوتي ونحترمه؛ لأنه كان يسخو علينا بما لا يُطلب منه. كانت محتويات الصرة من القضامي دسمةً، ولكن أدسمها كانت تلك الحبات التي يجود بها جارنا الحانوتي.

كل أمر نبيل في هذه الحياة هو «زودة البياع»: الشوفير الذي يفتح باب الأوتوموبيل لركابه بعد أن يقبض الكراء، والطبيب الذي يداعب مريضه ويلاطفه بعد أن يصف الدواء، والمرأة التي تساعد جارتها بتقريص العجين، كلهم يعطون أكثر مما هو مفروض عليهم.

أعرف أن من الشويفات كثيرين ممن أعطوا من طبق الحياة حفنات من القضامي. أسمع بحمد صعب الذي ترك ضيعته وحمل بارودته، ورقد رقدته الأخيرة في بقعة لم يسمع بها يوم كان فتيًّا؛ لأنه من قوم تعودوا أن يجودوا في الحياة «بزودة البياع»، وما هي بأول مرة بذلوها، وما هي بأول مرة باعوها.

كذلك تسنَّى لي طيب الأخوة مع المرحوم بشارة الجريديني من الشويفات، وأذكر فيما أذكر عنه أنه ما سمع بأن خلافًا نشب بين اثنين إلا وتطوع لتسويته، أو عرف شخصًا نُكِب بأمر إلا وأسرع بالترفيه عنه بالنصيحة والمؤاساة.

أيها الفتيان:

من شروط النجاح والسعادة في هذه الحياة أن تهبوها غير المنتظر منكم، وفوق المفروض عليكم. وأريد لكم أن تطلبوا القوة والمال فاطلبوهما. ليس في الجهاد في سبيل المال من عارٍ. لقد سعيت وراء الدولار ٢٣ سنةً من حياتي وما أنا بخجول. الثقافة التي فزتم بها كلفت أهلكم مالًا … لولا المال لما شريت البنزين الذي سيِّر الأوتوموبيل الذي نقلني إليكم. هذه الورقة التي منها أقرأ شُرِيت بمال. الدواء الذي يشفي المريض لا يحصل عليه إلا بالمال … حاولوا الحصول على المال بكل وسائطه المشروعة.

المال قوة، ولكنه ليس بالقوة الوحيدة. الصوت الجميل هو قوة. الصوت الانتخابي هو قوة كما تعلمون. من يجيد تصليح السيارات فهو قوي. من يحذق صنع الأحذية فهو قوي.

نصيحتي هي امتلاك القوة بتشغيل مواهبكم واستغلالها إلى الدرجة القصوى. وإني أتمنى لعمر، ولرفاق عمر، أن يكونوا فتيانًا تكهربهم حمية الفتوة … إني أرى الخوف قد ملك على شبابنا قلوبهم. هم يرتعبون من ميدان القتال في الحياة فيجنحون إلى دفء وظيفة في التابلاين أو اﻟ I.P.C أريد من عمر ومنكم أن تتنافسوا فتيانًا تملؤهم روح الغمار، فلا يخافون الفشل ولا الجوع ولا الفاقة. لكل مصيبة عزاء، وعزاؤكم عن الجوع أنه يجوهر الجسد، وعن الفاقة أنها تقوي الروح، وعن الفشل أنه طريق النجاح.

هذه بعض الفضائل الإيجابية التي أرغب إليكم في أن تعتنقوها. أما الفضائل السلبية فكثيرة. أنتقي منها اثنتين:

الأولى: لا تكونوا اعتذاريين. إنني كلما حدثت أحدًا من الناس عن فلسطين مثلًا: لماذا لا يفعل كذا وكذا؟ تمطى وحرك موتور لسانه فزغرد خطابًا فخمًا يدوي بالأعذار التي تنتهي عادةً بأن الحكومة مقصرة. من يمنع الواحد منا أن يجاهد في فلسطين، أو أن يجود عليها بكل ماله، أو أن يؤاسي لاجئيها. لا تسأل الناس هذا السؤال؛ لأنك تنتهي بأن تغرق في طوف من الكلام الفصيح والأعذار اللبقة. متى اتخذ الواحد منكم موقفًا اعتذاريًّا ينتهي بأن يقنع نفسه بأن فعل أي شيء مستحيل! حذار حذار من الموقف السلبي من العيش! فكروا بما تقدرون على فعله؛ واطرحوا الأعذار التي تبرر لكم في عيونكم عجزكم عن القيام بأي عمل مثمر مفيد.

وأخيرًا، فليبتعد عمر ورفاق عمر عن الفصاحة والزركشة الكلامية التي ملكت ألسنة الناس هذه الأيام. إنني كلما سمعت كلامًا أنيقًا مثل: فظيع، فظاعة، التوجيهات، التكتل، العناصر الحيوية، أعلم أن قائلها كسول التفكير. خلِّ عنك موهن الكلام، واستوح عاطفتك وعقلك، وأفصح عن قلبك وإدراكك باللغة التي تملكها أنت؛ فإنك متى أخذت عن الناس مألوف كلامهم، فقد قتلت في قلبك فورانه، وفي دماغك حدة تفكيره.

يعز علي أن عمر ليس بينكم، ولكني تعزيت عن غيابه بلذة التحدث والتعرف إليكم. وأعلم أن كلًّا منكم هو للبنان عمر. وإن لبنان ينتظر منكم رجالًا أحرارًا شجعانًا مغامرين، تخافون الله، وتتعاونون مع جيرانكم ومواطنيكم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤