خطاب يبحث عن موضوع

دعتني منظمة الكتائب اللبنانية إلى إلقاء خطاب في حفلتها السنوية التي اعتادت أن تحييها في أواخر نوفمبر. كان ذلك قبل دخولي الحزب السوري القومي الاجتماعي. ولعل بعض المغريات لدعوتي أني غير مسيحي، ورحت أستشير الأصدقاء عن موضوع، فكان كل منهم يجيب «الطائفية».

وقد حدث أنني حين كنت ألقي الخطاب ووصلت إلى «سفينة النجاة لن تُبحر في أوقيانوس من زبد الأشداق، ورغوة الأفكار، ولن تُسيِّر شراعاتها أرياح الهتافات.» حين نطقت بهذه العبارة رأيت في الصف الرابع شبانًا ثلاثةً ينصرفون متأففين.

حضرة رئيس حزب الاتحاد اللبناني.

إخواني الكتائبيين.

سيداتي وسادتي.

ليس في يدي خيزرانة، ولا على جنبي مسدسان، ولا مسدس واحد.

ولكني أريد أن أدعي وأن أعلن وأن أتبجح أنني أكبر قبضاي.

وما أنا بمفتخر بشجاعة جسدية، فلئن خضت معركةً ولم أهرب فقد لا يكون البأس والإقدام والجرأة أسباب ثبوتي في المعمعة، بل لعلي أبقى في ساحة القتال ولا أهرب لسبب واضح جلي ظاهر؛ وهو أنني لا أستطيع أن أركض.

منذ أيام أراني صديق صحافي بشيء من المباهاة مقالًا أعده للنشر، وفيه يهاجم الحكومة. قلت للصديق الصحافي: «مهاجمة الحكومة أمر هين. إن كنت «قبضاي» دافع عن الحكومة.»

ولست أدعي بأني «قبضاي» لأني جئت أدافع عن الحكومة، أو لأبشر في هذا المحفل بالعروبة.

بل إني لا أدري عمن أدافع، ومن أهاجم، وبماذا أبشِّر.

الذي أعرفه أني سأُفصح عما يجول بخاطري، ويوحيه ما أتوهمه حكمةً وصدقًا واختبارًا. يا لعار مثالية هؤلاء توحي كلامًا ينطق به ذو عينين: إحداهما ترنو إلى مقعد نيابي، والثانية ترمق مصلحةً شخصيةً.

ما أنا بالغريب عن «الكتائب اللبنانية»، وإن كنت لست من أعضائها، وعلى رغم أن اتصالاتي بها اقتصرت على زيارة واحدة ومقابلتين.

لقد قصدت إلى بيت الكتائب اللبنانية منذ سنتين عن غير معرفة، وسألت رئيسها وأعضاء مجلس إدارتها المساهمة في عمل يعود لخير اللاجئين الفلسطينيين، فلقيت منهم الكياسة والاندفاع، وقاموا بخدمة اللاجئين كما طلبت، ودفعوا النفقات من صندوقهم.

كل هذا من غير ضجة ولا مباهاة.

قلت: قصدت إلى بيت هذا الحزب عن غير معرفة. ولم لا؟

إن كانت هذه المنظمات وُجدت للخير العام، وإن كان الواحد منا يشعر بأنه جزء حي من هذا الوطن، فله الحق، بل من الواجب عليه أن يستنجد بالمنظمات في كل ملمة، وفي سبيل الخير العام.

ثم كذلك على المواطن الصادق الحي أن يشعر أنه قريب إلى مواطنيه. إني لا أعرف في لبنان شخصًا لا يشوقني أن أواخيه، ولا معبدًا لا يشرفني أن أركع فيه.

من أسباب تفككنا القومي أننا في عصر مائع بين عهد الإقطاعية المطلقة، وعهد الحزبية المنظمة الصحيحة.

فمن الناحية القصوى ليس في البلاد إقطاعي أو عشرة إقطاعيين يستطيعون أن يُعبِّئوا الشعب جمهورًا طيعًا خدومًا، ومن الناحية المعاكسة ليس فيها عشرة أحزاب تقوى أن تستنفر جنودًا مدربةً منظمةً.

لذلك وجب على الأفراد أن يشجعوا الحزب — أي حزب — على أنه المنظمة التي نفتقر إليها، ووجب على الأحزاب وهي ما تزال في طور الاختبار ألا تخون الفكرة الحزبية وتصبح مطيةً للرغائب.

حين تفضل السيد بيار الجميل، وليسمح لي أن أُعريه من مشيخته، ولقاء ذلك أتعرَّى أنا من مشيختي؛ أقول حين سألني الشيخ؛ السيد بيار، الكلام قال: إن بينه وبيني فروقات، ولكننا متفقان على الجوهر.

بلى، إن بيننا فروقات عديدة قد أعرف بعضها، وقد أجهل البعض الآخر.

معمل الصابون يصنع الصابونة كالصابونة؛ فبركة البلاط تنتج البلاطة كالبلاطة. طبق الترمس حباته متشابهة. أما الرجال الذين يدعون الفكر الحر والعقل المستقل المستنبط الواعي فلا يجمعون على كل شيء. لا تجد الإجماع الشامل على الأمور كلها إلا عند المستعبدين والصعاليك. أجل، إن بيننا فروقات كثيرة أرجو أن تتكاثر وألا تُمْحى.

أما الجوهر فهو أن لبنان قبل أن يتجسد حقيقةً واقعيةً نهائيةً، ووضعًا لا مجال إلى إعادة النظر في كيانه، كان لبنان نبرةً في حِدائنا، ولهبًا في عيوننا، وموسيقى في أغانينا، وحنينًا في نفوس مهاجرينا، وحبالًا التفت حول أعناق شهدائنا.

أما الجوهر فهو أننا لن نذهب إلى لبنان بأن نبني حوله الأسوار.

في زمن تحتضن به أمريكا الجبارة جاراتها الدول اللاتينية الأميركية، وتجعل منها جبهةً حليفةً، وفي الوقت الذي تتكتل به دول أوروبا في حلف أطلانتي للدفاع عن كيانها، وفي هذا اليوم الذي انصهرت فيه دول أوروبا الشرقية في القالب السوفياتي القوي، لن نقترف نحن أبناء الوطن الصغير الخطأ الكبير، فنبتعد عن الدول العربية اللواتي هن بحكم التاريخ والجغرافية والمصلحة حليفات للبنان، شقيقات له.

وأما الجوهر فهو أنه مهما اختلفت بيروت ودمشق، وتعالى صياح الحكومتين، واشتبكت الأقلام، فعلينا ألا يزيغ بصرنا عن حقيقة بديهية أساسية؛ وهي أنه ليس لنا في سوريا أعداء طبيعيون.

ليس لنا في سورية إلا أصدقاء طبيعيون.

ويجب أن يفهم السوريون أن ليس لهم في لبنان أعداء طبيعيون، بل ليس لسوريا في لبنان إلا أصدقاء طبيعيون.

أما الجوهر، فهو أن على أبوابنا المشرعة ضبعًا يعسعس ويهمدر، وينفخ السم أرياحًا. ولقد بدت مخالبه تجرح من أعناقنا.

إن الذي لم يحس بناجذ إسرائيل في عنقه هو إما ميت أو مخدر نفسه بأوهام.

إن هذا الضبع يريد أن يبتلعنا، ويقدر أن يبتلعنا ساعة يشاء، وحين يفعل هذا سيزدردنا أغنياء وفقراء، مفوضيات ووزارات، مسلمين ومسيحيين، كتائبيين وندائيين، سباق الخيل وملعب «البيسين».

بحق نحن ننتقد الحكومة أنها لاهية عن المهام الكبرى بسياسة المختار والناطور، ولكن النقد يبلغ ذروته الصادقة حين يوجهه الناقد إلى نفسه، ونحن إذ نغضي الطرف عن الخطر المداهم لنعنى بمن تولى منصبًا وبمن استقال، نكون قد تلهينا عن المعضلة الكبرى باللعب بخيط من شرابة طربوش المختار، وبذرة من تراب علق بعصا الناطور.

قد نتساءل: «ما في وسعنا أن نفعل؟»

في وسعنا أن ننتفض.

من هذه الانتفاضة تتولد القوة التي تكهرب كل مواطن وكل شيء.

هذه الانتفاضة تجيش الجيوش، وتسيل المال، وتنشئ القلاع، وتبقي هذا الوطن مصفقًا حرًّا طليقًا.

ليمتحن كل واحد منا ولاءه لقومه ودولته واستقلاله بسؤال بسيط: «حين تنزهت الطائرات الإسرائيلية في سماء لبنان؟ هل انتفضت؟»

هنا محك الصدق في الوطنية.

هنا تنجلي الوطنية القوالة، الوطنية اللهاثة، النفاثة، النافورية، عن الوطنية الفعالة الهادئة.

إن سكان لندن وسكان ستالينغراد خلال السنين السوداء في الحرب الأخيرة لم يهتفوا بحبهم للوطن، ولم يتغنوا بأمجادهم التاريخية، ولكنهم صبروا على النار والدمار والقنابل والموت بهدوء وجلد ومكابرة.

هذه هي الوطنية الفعالة.

حين استشرت أصدقائي عن الموضوع الذي يحسن أن أعالجه من فوق هذا المنبر كادوا يجمعون على القول إن الموضوع الأجمل والأليق هو الطائفية؟

على أني لا أريد أن أخطب في الطائفية. لقد قلت كل ما أريد قوله في الطائفية حين تزوجت فتاةً من غير طائفتي.

لقد دونت كل ما أريد أن أدون عن التعصب الطائفي حين آخيت في الحياة، وشاركت في الأعمال فتًى من غير مذهبي، وفوضت إليه أن يوقِّع باسمي، كما فوَّض هو إلي أن أوقع باسمه، فله أن يحرمني من كل ما أملك إن شاء، ولي أن أحرمه من كل ما يملك إن شئت.

في السنة الماضية، نشرت جريدة العمل افتتاحيةً أغضبت أوساط الجامعة الأميركية وأخصها المتخرجون.

كان من السهل إذ ذاك أن أجاري التيار، فأقف من جريدة «العمل» والكتائب موقفًا عنيفًا فأكتسب شعبيةً رخيصةً، وأمتطي موجةً من صخب ترفعني في عيون الكثيرين.

ولكنها طريقًا ثانيةً سلكت، فتبادلنا الكلمات الناعمة، وفناجين القهوة، وكانت زيارة ودٍّ وانتهى الأمر.

إني لا أعرف في لبنان معظلةً لا يحلها حسن النية وكلمة ناعمة وفنجان قهوة.

لا أريد أن أخطب بالطائفية لأن الكلام فيها يضر ولا ينفع.

لا أريد أن أخطب بالطائفية لأن الخطابة في الفضيلة هين؛ ولأننا لا نبشر حقيقةً بالفضيلة إلا حين نمارس الفضيلة.

الحرية هي فضيلة، فكيف نمارسها هنا؟

نسمع في بعض الأحيان كلامًا عن الحرية المخنوقة في لبنان.

هل هذا صحيح؟

إن لنا من الحرية أضعاف ما نحتاج.

ليتنا لم نكن أحرارًا.

ليت يدًا حديديةً تشد على أعناقنا إذ ذاك، فإما أن نختنق وإما أن ننعتق.

أما هذه الحرية التي تشملنا فقد أضرت بنا. نقول ما نريد؛ لذلك تفجرنا طوفانًا من كلام، فحيث توجهت انصبت في أذنيك قصيدة، وتفرقع أمام عينيك خطاب، تزكات، تزكات، من خمور الألفاظ، حوَّلها الناس سكارى بالبلاغة والفصاحة.

وهناك الذي يحملون أقراصًا من بنسلين الحكمة؛ إذ إن عندهم علاجًا لكل شيء، ويفهمون كل شيء عن كل شيء، من أسرار الحرب الكورية إلى تصدير الأثمار الحمضية، وفلسفتهم تُختصر بعبارة واحدة: «الحكومة فظاعة يا أستاذ!» وأحدهم يعنف الناس على الإسراف فيما هو يحكم عقدة ربطة باريسية ثمنها ثروة فقير: فظاعة يا أستاذ! ويوقف سيارته في عرض الطريق فيما ينتقد حالة السير، فظاعة يا أستاذ!

هؤلاء يعتقدون أنهم قاموا بواجبهم نحو المجتمع كلما وصفوا علاجًا شاملًا شتموا حكومة أو نطقوا: «فظاعة يا أستاذ!»

على أنهم ليسوا بخطرين.

الخطرون المجرمون هم الذين يسلكون إلى الانتهازية طريق المثالية، هؤلاء الذين تتهدج أصواتهم ثورةً على نظام أو قانونًا أو ظلامةً، ثم تنعم أصواتهم؛ إذ يتوسلون لخرق النظام، وطيح القانون، وإنزال الظلامة.

هذه الأيدي التي تنقبض مهددةً متوعدةً مستثيرة النقمة على الفساد، ثم تنبسط مستجديةً مساهمةً في أعمال الفساد.

وهناك فئة؛ هذه التي تلوح بالشهادات الجامعية، والألقاب العلمية، وتتباهى بالثقافة، وتعلن بكل تواضع أن البشرية خلفها بمراحل.

تجار كلام أقاموا نفوسهم معلمين يلقنون سواهم الوطنية، والفلسفة الاجتماعية، والمثالية العقائدية، وبايع بعضهم بعضًا ملوكًا للفكر.

فأما العقائد فهي إما مستوردة رأسًا أو عن طريق الترانزيت، وأما الأفكار فينبشونها بالمجرفة من بطون الكتب في أي صفحة من أي كتاب عُلِّقت به المجرفة.

كأنما من شروط الوطنية ألا تثبت العقيدة الوطنية بنا في هذا الوطن، وكأنما من ضروريات الأفكار عدم الفكر.

وبعد أن يتم وصف الكلام — لا فرق من أي كتاب تدحرج — يطوفون على الناس منادين بأنهم فاتحون في دنيا الهداية عالمًا جديدًا.

كلنا ناقدون، كلنا ناقمون، ولكن سفينة النجاة لن تبحر في أوقيانوس من زبد الأشداق، ورغوة الأفكار، ولن تُسَير شراعاتها أرياح الهتافات.

خير لنا أن نبقى على اليابسة الصحراء ثابتةً أقدامنا من أن نحاول أن نسبح في الضباب.

وأريد أن أتحدث عن الرجل العادي.

أما الرجل العادي، فلا ينادي بالأمير، ولا الشيخ، ولا البيك، حتى ولا أستاذ.

الرجل العادي هو سائق الترامواي، وبائع الخضار، والحمال، والفلاح، وسائس الخيل. لقد فقد احترام النفس جمهور هذا الشعب.

لقد قتل رجولتهم موظف الحكومة الذي يدفن أوراقهم في درجه، وصاحب المعمل الذي في يده أن يصرفهم ساعة يريد، وصاحب الديوان الذي يبقيهم خارج الديوان، وخادمة الزعيم التي تقفل الباب في وجوههم، والمتنفذ الذي يقول لهم أنتم لا شيء إن لم أطبع على جباهكم أنكم من أتباعي. فصار المواطن اللبناني العادي يشعر أنه امرؤ لا شأن له.

المواطن العادي هو أحد السابلة؛ غبار السجاد.

مسكين يقرع الأبواب متسولًا كرت توصية.

مستعطف يشكر كلما وهبوه بعض ما نهبوه.

ورقة تصويت تملأ صندوقة الاقتراع وتقرأ — غلطًا أو صوابًا — عند الانتخاب، ثم ترمى وتبقى سنوات أربع مهملة مجعلكة في جانب الطريق.

من أهم واجباتنا أن نرفع المواطن العادي إلى مستوانا رجلًا كان أو امرأةً.

وأخيرًا أود أن أذيع سرًّا عظيمًا.

أمس جاءني مهندس ألماني يشرح عن مكنة جبارة جديدة اخترعها الألمان.

هذه المكنة تتلقف الأنقاض التي تملأ شوارع برلين فتطحنها ثم تخرجها حالًا حجارةً جديدةً جاهزةً للبناء.

سألت هذا المهندس: كيف يذكر الألمان هتلر؛ بالخير أو بالشر؟

أجاب: «هتلر مات ونسيناه، ونسينا جورنغ وبسمارك وفريدريك الكبير، والقيصر غليوم، كلهم ماتوا. نحن مشتغلون بهذه المكنة التي تتلقف الأنقاض وتصنع منها حجارةً جديدةً.»

قلت: «إن الدنيا متهافتة على كسب رضا الألمان، ولكن الألمان مَن يؤيدون؟ أميركا وحلفاؤها، أو روسيا؟»

أجاب: «الألمان يؤيدون الألمان.»

السر العظيم الذي أريد أن أذيعه هو أن هتلر وغليوم وبسمارك ماتوا.

السر العظيم الذي أريد أن أذيعه هو أن فخر الدين المعني مات، وبشير الشهابي مات، وصلاح الدين الأيوبي مات، كلهم ماتوا.

السر العظيم هو أن فرنسا ليست لنا، أميركا ليست لنا، إنكلترا ليست لنا، روسيا ليست لنا.

إنما الدنيا بأجمعها تصبح لنا إن صرنا مثل الألمان، «لبنانيين نؤيد اللبنانيين»، ومشتغلين بمكنة تتلقف هذه الأنقاض التي ملأت شوارعنا ونطحنها ونُصيِّر منها حجارةً جديدةً جاهزةً للبناء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤