كلمة

كانت دُرَّتان متجاورتين في حليْة على صدر حسناء؛ وكلتاهما يتيمة إلا من أختها،١ تَمُجُّ ذلك الشعاع النادر الذي جاءه الحُسن من كونه ضوءًا لم يُولَد من شمس، ولا من قمر! ولكن من ظُلمات البحر؛ فتناجَتا يومًا، وكانت الجميلة قد استوفت كلَّ زينتها، وحملت الدرَّتين على صدرها كأنهما عَيْنا قلبها الثمين؛ فقالت إحداهما للأخرى وهي تشير إلي هذه الفتَّانة: انظري … انظري، ما أحسَنَ لؤلؤتنا!

صارت اللؤلؤة في هذا المنطق الشعريِّ هي امرأة الأعماق المظلمة، وعادت المرأة الحسناء لؤلؤة الأعماق السماوية المضيئة؛ فلا شيء يريد أن يكون كما هو في نفسه؛ إذ لا يزال موضعُ الفصلِ من حكمة الله خفيًّا، لا يُرى بل يُتوَهَّم، ولا يُسْتَيْقن بل يُظنّ؛ وكان خفاء هذه الحكمة في سماواتها إيجادًا للخيال في الإنسان؛ حتى لا يظلَّ أبدًا في حيوانيته، ولكن هذا الخيال نفسه كثيرًا ما أضاف إلى الإنسان حيوانيةً أخرى.

ولو كشِف لك عن الحقيقة لرأيت أقبَح ما في كل شيء أن لا يبرحَ أبدًا محبوسًا في حقيقة لا يُجاوِزها؛ ومن ثمَّ خفف الله عن الإنسان؛ فأودع فيه قوةَ التخيُّل، يستريح إليها من الحقائق؛ فإذا ضجر أهلُ الخيال من الخيال، لم يُصلحهم إلا الحبُّ، فهو وحده ناموس التطور للقوة المتخيلة، ولن تجد في الأشياء العجيبة أعجبَ منه، حتى كأنه أمٌّ تلِد؛ فالمرأة هي تلد الإنسان، ولكن حبها يلد النابغة.

•••

وليس يقع التعجب من الأمر؛ لأنه عجيب في نفسه، بل لأنه متصل من الإنسان برُوعه،٢ أو بعقله، أو بهواه، أو بمطامعه؛ فإن دهش الرُّوع، أو تحيَّر العقل، أو اشتهى الهوى، أو تمكن المَطْمَع من النفس، فهذه هي الألوان الأربعة التي تصوِّر منها الطبيعة الإنسانية كلَّ معاني التعجب، والذي هو أعجب من جميعها أن الطبيعة لا تحتاج إلى جميعها في تصوير شيء إلا واحدًا، هو تصوير الحب الصحيح في قلب إنسان.
فهذا الحب ليس حقيقة واحدة عجيبة، بل هو أربع حقائق داخَل بعضها بعضًا، فلا يتميَّز لونٌ منها من لون منها. وما حقيقةُ الحب الصحيح إلا امتزاج نفسين بكل ما فيهما من الحقائق، حتى قال بعضهم: لا يصلح الحبُّ بين اثنين إلَّا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر: يا أنا؛٣ ومن هذه الناحية كان البغض بين الحبيبين — حين يقع — أعنفَ ما في الخصومة؛ إذ هو تقاتُلُ روحين على تحليل أجزائهما الممتزجة، وأكبر خصيميْن في عالم النفس، مُتَحابَّان تباغضا!
وللحب العجيب جنسٌ من النساء عجيب، خُلِقْنَ جواسيس على القلوب يدخلن فيها، ويخرجن منها، وقلَّما تجسَّمت الواحدة منهن إلَّا لتفضح للدنيا أسرارَ روحٍ عظيمة؛ وهذا الجنس تُهيِّئه الطبيعةُ تَهْيِئَةَ المادة السحرية، وتولد المرأة منه مرتين؛ فإذا هي انحدرت إلى الدنيا طفلةً جعلتْ تأخذ في دمها الجذَّاب من شعاع الشمس يتوهَّج، ومن القمر يتندى،٤ وذهبت تنمو في ظاهرها نموًّا، وفي باطنها نموًّا غيره، حتى إذا بلغت مَبلغَها، وانبعثت مِلْءَ شبابها، آن لها أن تُولَدَ الثانية، فوُلِدَت في قلب رجل!

والعجيب أنها في الولادة الأولى يكون أولُ وجودها هو أولَ وجودها؛ أما في الثانية فذلك أولُ فَنائها؛ لأن المرأة متى حلَّتْ من قلب الرجل محلًّا، جعل يُفنيها معنى في كل معنى حتى تفرغ، فلا يبقى منها إلا ذكرى زمن مضى …

وكل امرأة من هذا الجنس هي مُعْجِزَةٌ عقلية ما دامت مخبوءة في الشعاع السماوي من جمالها، وما دام هذا الشعاعُ يفعل فعله الذي عرفه الناسُ أوضحَ ما عرفوه في أديانهم، وعقائدهم، وفيما أنزلوه منزلةَ الأديانِ والعقائد.

وآية مصداقِ هذا الإعجاز٥ في المرأة الساحرة المحبوبة ذلك النوعَ من الحب، أنه بَيْنَا يكون مُحبُّها رَزينَ الطبع، وازِنَ الرأي٦ كالجبل الراسخ الوطْأة، إذا هو من سخافة رأيه في بعض أهواء الحب وَنَزعاته، كأنه جبلٌ يطير بألف جَناح، وقد ملأ الخوافقَ بين السماء والأرض أوهامًا سحرية!
وهنا مُعضِلة الحب التي لا حيلةَ في فهمها، ولا في تقريبها إلى الفهم، وهي تثبت أنَّ العاشقَ يُعطى في ناحية خياله قِبَل الناس جميعًا؛ ولكنه يُنتَقَصُ من ناحية عقله مع حبيبته وحدها؛ فهما سِحْرانِ تَظاهرا.٧

ولا يُشْبه تلك المعجِزة إلَّا أنْ ترى إنسانًا يقوم على ساحل البحر الملِح؛ فيلقي فيه رطْلًا سكَّرًا، ثم يتذوَّق البحر؛ فإذا هو في مذاقه، وفي رأيه، وفي حكمه شرابٌ سائغ، كأنما ألقى الرجل فيه وزن كرة الأرض من هذا الطعم اللذيذ الحلو … ومع ذلك فهو عاقل فيما عدا ذلك!

هوامش

(١) أي لا يشبهها في الدار إلا أختها.
(٢) الروع: الخاطر والقلب.
(٣) يريد اتحادهما في الميل والهوى والحياة والخضوع، كأنَّهما تبادلا نفسيهما، فنفس كلٍّ منهما انتقلت في الآخر.
(٤) يترطب. والتوهج: توقد النار ونحوها.
(٥) أي برهانه. تقول: مصداق الأمر كذا، وآية مصداقه كذا.
(٦) عاقل وقور، راجح الفكر.
(٧) أي تعاونا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤