الفصل الأول

القمر الطالع

في يدي الآن هذا القلمُ الذي أكتب به، وهو سنّ قائمة في نِصاب١ من الزجاج أحمر صافٍ يشِفُّ عن دَاخِله؛ فإذا طاف به النورُ أشَعَّ فيه،٢ وانصبغ بلونه؛ فرمى على إصْبَعي ظلًّا مجروحًا،٣ يريك الجلدَ كأنما جُرْحهُ من فوقه لا من تحته.
فإذا راوحَتْه يدي،٤ وقلَّبَتْه أناملي، رأيت له بريقًا يستطير فيه كأنه شُعْلةٌ من اللهب حبستْها معجزةٌ في عُودٍ من الثلج.

فإذا استعرضتُهُ بين العين وبين الضوء الساطع، رأيت منه ياقوتة حمراء قد افتَرَّ فيها نَبْعٌ كالفم الحلو، يتنفس على قلبي الحزين بابتسامات تأتي إليَّ وفيها ألوانُ شفاهها الوردية!

فإني لَجالِسٌ ذات مرَّة في جوف الليل أكتب على ضوء الكهرباء، إذ طارت فيه نظرةٌ من نظراتي، وكان بإزاء الشعِيلة؛٥ فرأيت في خلاله من انعكاس الضوء شُمَيْسَةً صغيرة لم أرَ قطُّ أحسنَ منها حُسنًا، كأنها سَبيكةٌ تحترق، وتتناثر ضبابًا من بخار الذهب؛ فمددت النظر؛ فإذا أنا بتلك الشُّميْسَةِ كأنها إحدى عذارى الجنة انغمست في غدير صافٍ فحوَّلها جمالها، فانقلب من معنى الماء إلى معاني الجمال المستحي؛ فاحمرَّ كأنه لون خدّ مُورَّد!
وراعني ما أبصرت، فاستأنيت لحظةً، ثم رفعت طرفي إلى مَدار هذا الكوكب، فجعل يرمي بمثل شَقَائق البرق٦ تلمح واحدة لواحدة، ثم انقلب يتضرَّم كالتنور المُسْتَعِر، ثم عاد لُجَّة من «السحاب الأحمر» يموج بعضُها في بعض كالحب المتوهِّج، يملأ فراغ قلب كبير؛ فاختلَجَ الذي هو في صدري؛ وحَضَرتْني٧ حاضرةٌ من الذِّكرى لم تكد تعرض للفكر حتى انفلق السحاب عن وجهٍ فاتن كالقمر الطالع، وكان متمثّلًا في نفسي مُذ أبصرتُ تلك الشّمَيْسة، فكأنما أرى من السحاب مرآة فانطبع فيها؛ وما تلَبّثَ إلَّا يسيرًا ثم اختفى.
وغُصْتُ في هذه النفس أفكر فيما رأيت، وأنا أمْسكُ على قلبي أن يطير، فإذا «السحاب الأحمر» يُمْطر عليَّ مطرةً من الخواطر والكلمات، يتلاحق منها طَرف بعدَ طرف، وتُقبل طائفة وراء طائفة؛ كأنَّ متكلمًا يتحدث بها في نفسي، أو كأنه وحيٌ يُوحى من مَلَكِ الجمال؛ فأسرعت أُدَوِّنها، وأحصيها تحت عينَي تلك الصورة الجميلة المُشرقة عليّ، حتى امتلأ البياض سوادًا، واستفاضت روحُ الحبر الأسود بِالهمّ، على صُدوع القلب وعلى شِعابه.٨
وجاءت بعد ذلك ليالٍ كان فيها السحاب يَعرض لي صُوَرًا أعرفها، فإذا مَثّلها فاستوخيتُها الفكرة سَحّ عليّ الخواطر من روحها، فأقبلت كالمطر يُفْرَغُ إفراغًا دَفعة من غير تَلبُّث.٩

•••

رأيت وجه فتاة عرفتها قديمًا في ربوة من لبنان، ينتهي الوصفُ إلى جمالها، ثم يقف؛١٠ كنت أرى الشمس كأنما تجري في شعرها ذهبًا، وتتوقد في خدّها ياقوتًا، وتسطعُ في ثغرها لؤلؤة، وكنت أرى الورد الذي يزرعه الناس في رياضهم، فإذا تأملت شفتيها رأيت ورقتين من الورد الذي يزرعه الله في جنته؛ وكانت لها حينًا خفةُ العُصفور، وحينًا كبرياءُ الطاووس، ودائمًا وداعةُ الحمامة المستأنسة؛ وكانت روحُها عَطِرةً تنْفحُ نفْحَ المِسكِ إذا تشامَّت الأرواحُ الغَزلةُ بالحاسة الشعرية التي فيها!

وكنت إذا رأيتها بِجُملة النظر من بعيد صَوَّر لها قلبي من الحسن والهوى ما يموت فيه مَوْتةً ثم يحيا؛ فإذا جالستُها، وأثبتُّ النظرَ فيها رأيتُها في التفصيل شيئًا بعد شيء بعد شيء، كما أنظر نجمًا بعد نجم بعد نجم: كلها شعاع، وكلها نور، وكلها حُسن!

وما نظَرْتُ مرة إلى النساء حولها إلا وجَدْتُ من الفرق بينها وبينهن ما يتضاعف من جهتها عاليًا عاليًا، ويتضاعف منهن نازِلًا نازلًا؛ كأنه ليس في الأمر إلا أنها أُخِذَتْ من السماء، ووُضعت بينهن!

هي كالفتنة المحتومة تنبعِث إلى آخرها، فليس منها شيءٌ إلا هو يُحسِّن شيئًا، ويُشوِّق إلى شيء، وبعضُها يُزَين بعضها.

•••

لقد تَراخَى الزمنُ بي وبها! فلو عددت لأحْصَيْتُ مائةً وخمسين قمرًا منذ فارقتُها، وما أحسب الأرض إلا انصدعت بيننا عن أقيانوس عظيم من الزمن تملؤه الأيام والليالي، فلا يخاض، ولا يُعبَر، ولا ينظر فيه أهلُ ساحل أهلَ ساحلٍ غيره.

وعلى أنَّ هذا الزمن قد محا في قلبي مِن بَعدها وأثْبتَ، فلا تزال تنشقُّ لها زَفْرَةٌ من صدري كلما عَرَضَت ذِكراها، كأنَّ القلبَ يسألني بِلُغَته: أين هي؟

والقلب الكريم لا ينسى شيئًا أحبه، لا شيئًا أَلِفه؛ إذ الحياة فيه إنما هي الشعور، والشعور يتَّصِلُ بالمعدوم اتصالَه بالموجود على قياس واحد، فكأنما القلب يحمل فيما يحمل من المعجزات بعضَ السر الأزَلي الذي يحيط بالأبعاد كلِّها إحاطة واحدة؛ لأنها كلها كائنة فيه: فليس بينك وبين أبعد ما مرَّ من حياتك إلا خطوة من الفكر، هي للماضي أقصرُ منِ التفاتةِ العين للحاضر.

•••

ليس بجمالٍ إلا ذلك الروحُ الذي يرفعُ النفسَ إلى أفق الحقيقة الجميلة، ثم ينفخ فيها مثل القوَّة التي يطير، ويدعها بعد ذلك تتَرامَى بين أفق إلى أفق؛ فإمَّا انتهى المُحِبُّ إلى حيث يصير هو في نفسه حقيقةً من الحقائق، وإمَّا انكفأَ من أعاليه، وبه ما بالطيارة الهاوية: رَفَعتْ راكبَها إلى حيث تَرمي به ميتًا، أو كالمغشيّ عليه من مسِّ الموت!

والذين ينكرون أن الجمالَ يَقتل أحيانًا، أو يجعلُ الحياة كالقتل، ثم يدَّعون مع ذلك هوًى وحبًّا، إنما هم أولئك الذين يعشقون بنفس العاطفة المادية الخسيسة التي يحبُّونَ بها الذهب، والفضة، وورق البنك …

وليس بحب إلَّا ما عرفته ارتقاء نفسيًّا، تعلو فيه الروح بين سماوَين من البشرية فتلوح منهما كالمصباح بين مرآتين: يكون واحدًا وترى منه العينُ ثلاثة مصابيح؛ فكأن الحب هو تعدُّد الروح في نفسها، وفي محبوبها.

•••

ولا سُمُوَّ للنفس إلا بنوع من الحب مما يشتعل إلى ما يتنسم؛ من حب نفسك في حبيب تهواه، إلى حب دمك في قريب تُعِزُّه، إلى حب الإنسانية في صديق تبرُّه، إلى حب الفضيلة في إنسان رأيته إنسانًا؛ فأجللته وأكبرته.

فإذا أنت أُصبت في الخليقة من أغفل الله قلبه١١ عن تلك الأربعة! فلا حب، ولا صلة! ولا يَألَف ولا يُؤْلَف، فذلك هو الذي لا نفْس له من نفوس الناس، كأنه سَبُع من السباع الضارية، أو هو الذي كله نفس، كأنه نبي من الأنبياء … تجد الأولَ فيمن اعتزله العالم من شرَار المجرمين، وأخلاطِ الشياطين الإنسِيَّة الذين لا يَسَعهم الناسُ بعد أن انفصلوا من إنسانيتهم، وانحطوا انحطاطًا في أشدِّ العنف؛ وتجد الثاني فيمن اعتزل هو العالَم من خيار الأوَّابين، والشهداء الذين لا يَسَعُون الناسَ بعد أن اتصلوا بإنسانيتهم الكاملة؛ فارتفعوا عن الخلق ارتفاعًا في أرقِّ الرحمة!

الحب بعض الإيمان: وكما أن الطريق إلى الجنة من الإيمان بكل قوى النفس؛ فإن الطريق إلى الحب من قوة لا تنقص عن الإيمان إلا قليلًا؛ والخُطوة التي تقطع مسافة قصيرة إلى القلب، تقطع مسافة طويلة إلى السماء!

وكما ينشأ الفكر أحيانًا من عمل العقل الإنساني إذا هو تحكم في الدين، يأتي البغض من هذا العقل بعينه إذا هو تحكم في الحب.

وتُرى ما هذا الشَّبه بين المرأة وبين السماء؟ أكانت المرأة في أصل الخلقة مادةَ سماءٍ بدأتْ تتخلَّق في الغيب، فحبسها الله في ضلع الرجل عقابًا لها، ثم عاقبها الثانيةَ فأخرجها للرجل تنظر إليه، كما ينظر السجين إلى سجنه … ويكون الله سبحانه قد عاقبها مرَّتين؛ لتتعلمَ هي بطبعها كيف تتجنَّى على الرجل، وتعاقبه مِرارًا لا تُعَدُّ؟

أيمكن أن يكون هذا الجَمالُ الفتَّان في المرأة الجميلة خُلاصةَ سماءٍ من السماوات خُلقت عينين وخَدَّين وشَفتين؛ تضحك أحيانً بالنور، وتلتهب أحيانًا بالبرق، وتنفجر أحيانًا بالرعد؟

لقد عرفنا أن في السماء جنَّةً ونارًا، وأُقسِم لو صُغِّرت الجنة، وجُعلت أرْضية تُلائم حياة رجلٍ من الناس، ثم عُجِّلتْ له هذه الحياة الدنيا؛ لما كانت بمتاعها ولذاتها، وفنون الجمال فيها إلا المرأة التي يُحبُّها! … أما الجحيم فلا أراني في حاجة إلى برهان على أنها صُغرت وتجزأت، واندفقت على الأرض شُعَلًا في أسماء من أسماء النساء!

لذلك أراني لا أستطيع أنْ أفهم المرأة الجميلة، بل لا أدري كيف أفهمها؛ فمن حيثما نظرتُ إليها لا أراها تبتدئ إلا من فوق العقل، فأنظر إليها ساكتًا على أنها هي لا تنظر فيَّ إلا متكلمة.

•••

يا ملوِّن السماء، والوجوه الجميلة؛ يا مُصوِّر الرَّوعة والحب، يا مُبدع هذه المعاني الظاهرة إبداعًا، جعلها لدقَّتها كأنها لم تظهر … يا مُوجِد القلب كما هو لِتَملأه السماءُ إيمانًا، والجمالُ حُبًّا، والمعاني فِكرًا منهما معًا …

ويا خالق الإنسانية العالية في الإنسان الكامل من إيمانه، وحبه، وفكره …

… نعرِف هذه السماء بما وسِعَتْ للإيمان، وهذه الطبيعةَ بما رَحُبَتْ للفكر؛ فهل المرأة وحدها هي التي للحب؟

تباركتَ إذ جعلت ما وراء الطبيعة فوق الفكر مهما سما، وجعلتَ الطبيعة حَول الفكر مهما اتَّسع، وأنزلت المرأة بين المنزلتين مهما كانت!

إنَّ من النساء ما يُفْهَم ثم يعلو في معانيه الجميلة إلى أن يمتنع، ومن النساء ما يُفْهَم ثم يَسْفُل في معانيه الخسيسة إلى أنْ يُبتذل!

إن من المرأة ما يُحَبُّ إلى أن يلتحق بالإيمان، ومن المرأة ما يُكْرَه إلى أن يلتحق بالكفر!

•••

من المرأة حُلوٌ لذيذ يُؤكل منه بلا شِبَع، ومن المرأة مُرٌّ كَريه يشبع منه بلا أكل!

هوامش

(١) السن: الريشة. والنصاب: اليد التي تمسكها.
(٢) أظهر شعاعه فيه.
(٣) استعير له الجرح؛ لأنه أحمر يترقرق كالدم.
(٤) داورته وقلبته.
(٥) هي فتيلة السراج المشتعلة، سمينا بها خيوط النور المنبثقة في المصباح الكهربائي، وما تجري فيه، ترجمة الكلمة “Duill”.
(٦) قطع البرق، جمع شقيقة.
(٧) خطرت ببالي، والذي هو في الصدر: القلب.
(٨) طرق القلب وشقوقه.
(٩) المطر متى سح تتابع حتى تنقشع السحابة أو تتساير.
(١٠) لا نطيل في وصفها هنا؛ فهي التي وصفناها في «حديث القمر».
(١١) أهمل قلبه، وتركه لا يثبت فيه شيء منها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤