ما الطاولة؟
عندما أتطلَّع في العالَم من حولي، أرى أنني محاطٌ بأشياء من شتَّى الأنواع. أرى طاولةً وكرسيَّين، وأبنية، وطائرة، وصندوق مشابك أوراق، وأقلامًا، وكلبًا، وناسًا، وطائفةً متنوعة من أشياء أخرى. لكنَّ هذا كتاب عن الميتافيزيقا، وفي الميتافيزيقا نهتم بطبيعة الأشياء بوجه عام جدًّا. وإنني بصفتي متخصصًا في الميتافيزيقا، أميل إلى الاعتقاد بأن كل هذه الأشياء التي سردتُها هي أشياء جزئية، أو مجموعات أو أنواع منها. إن مفهوم الجزئي مهم جدًّا بالنسبة إلينا. إنني أريد أن أعرف ما إذا كان القلم على الطاولة هو قلمي تحديدًا، لا قلم شخص آخر، أو إن كانت المرأة في الغرفة هي حقًّا زوجتي وليست شقيقتها التوءم المتطابقة. لفهم أهمية هذه الموضوعات، يجب أن نستكشفها على نحوٍ أعمق.
توجد قبالتي طاولة أستطيع رؤيتها، ولمسها، وسماعها إذا طرقتُ بأصابعي عليها. ليس لديَّ شك في أنها — أي الطاولة — موجودة. ولكن الآن سأبدأ في طرح الأسئلة الفلسفية. ما هذا الشيء؟ ما طبيعة وجوده؟ هل الطاولة شيء أعرفه من خلال التجربة، أم إنَّ حواسي تكشف لي شيئًا آخر؟ على كل حال، إنني عندما أنظر إليها، أرى لونها: لون الخشب البُني. وعندما أتحسَّسها، أشعر بصلابتها. اللون البُني، والصلابة، والقوائم الأربع، وما إلى ذلك، هي صفات الطاولة أو خصائصها. من ثَم ربما يميل المرء إلى أن يقول إنني لا أعرف الطاولة نفسها، وإنما أعرف خصائصها فقط. هل يعني ذلك إذن أن الطاولة شيءٌ كامن لا أعرف عنه شيئًا؟ يبدو أن خصائصها لصيقة بها، ومن المستحيل انتزاعها.
ما ينطبق على الطاولات ينطبق كذلك على سائر الأشياء الجزئية. لم أختَر الطاولة مثالًا لسببٍ خاص. فإنني لا أعرف العملات، والسيارات، والكتب، والقطط، والأشجار، إلا من خلال معرفتي بصفاتها. أي إنني أرى شكلها، ولونها، وأستطيع الشعور بملمسها، وشم رائحتها، وهكذا. وطبيعة خصائص الأشياء — الحُمرة، والاستدارة، والصلابة، والرائحة، وما إلى ذلك — ستكون موضوع الفصل القادم. لكننا حقًّا لا يسَعنا إلا أن نذكر الخصائص بمجرد ذِكر الجزئيات التي ترتبط بها.
كلما تغيَّرت الأشياء، ظلَّت على حالها
لماذا قد أقول إن الطاولة شيء آخر غير اللون البُني، والصلابة، والقوائم الأربع التي أراها أمامي؟ أحد الأسباب أن في مقدوري أن أتخيَّل هذه الخصائص وهي تتغير، في حين أن الطاولة تظل الشيء نفسه الذي كانت تمثِّله. يمكنني مثلًا أن أدهن الطاولة باللون الأبيض، لأنه ملائم أكثر لديكور مكتبي. إذا فعلت ذلك، فإنها ستظل الطاولة نفسها، لم يتغيَّر سوى مظهرها. سيتغير شيء، في حين سيبقى شيء آخر على حاله.
في الفلسفة، نرى أنه من الممكن أن يسود كثيرٌ من الارتباك إذا تحدَّثنا على نحوٍ غير دقيق عن كونها الطاولة نفسها؛ لذا سنستخدم تمييزًا مهمًّا. يمكننا القول بأن شيئًا ما تغيَّر من الناحية النوعية على الرغم من أنه ظل نفسه من الناحية العددية. لذا يمكن أن تختلف الطاولة في صفاتها — كانت بُنِّية اللون، وأصبحت الآن بيضاء — لكنها تظل شيئًا واحدًا، الشيء نفسه. الطاولة التي كانت بُنية صارت الآن الطاولة البيضاء. تخيَّل إذا جاءني زائر، وسأل عمَّا حدث لطاولتي البُنية القديمة. من المقبول تمامًا أن أرد عليه بأنها لا تزال هنا: إنما لم يتعرَّف عليها لأنني دهنتها. كونها واحدةً، ونفس الطاولة، على الرغم من هذه التغييرات في الصفات، هو ما نعنيه بالتماثُل العددي (سنبحث موضوع التغيير بمزيدٍ من التفصيل في الفصل الرابع).
هذا هو الاعتبار الذي يدعوني إلى الاعتقاد بأن الطاولة نفسها لا يمكن أن تكون هي وخصائصها الشيء نفسه. من الجائز أن تتغيَّر، ولو بعض خصائصها، ومع ذلك تظل هي الطاولة نفسها. لذا عندما أنظر إلى خصائص الطاولة، وأشعر بها، ألاحظ فقط ذلك — خصائصها — وليس الطاولة نفسها. ولكن ماذا تكون الطاولة، إذا لم تكن خصائصها؟
إليكم اقتراحًا. الطاولة هي شيء كامن وراء الخصائص، ويجمعها كلها في مكان واحد. إنه شيء لا أستطيع أن أراه أو ألمسه؛ لأن كل ما أختبره هو خصائص الشيء، ولكنني أعرف أنه موجود من خلال تفكيري العقلي. عندما أنقل الطاولة في أنحاء الغرفة، على سبيل المثال، تتحرك معها كل خصائصها. إنها متجمعة معًا بطريقة شبه دائمة. فلا يمكن أن يتحرك لونها البُني وصلابتها في حين تبقى قوائمها الأربع مكانها. ومع ذلك فإنني أقول إن الخصائص متجمعة معًا على نحوٍ شبه دائم. ذلك أنه كما رأينا، من الممكن إزالة بعض الخصائص من المجموعة لتحل محلها خصائص جديدة؛ لذا ليس في مقدورنا أن نكون قاطعين تمامًا ونقول إن الخصائص مرتبطة معًا، ولا يمكن فصلها. فمن الممكن إزالة اللون البُني ليُستبدل به اللون الأبيض.
قد تكون أفضل طريقة لفهم هذه الرؤية للجزئيات هي استعارة وسادة الدبابيس التي تُستخدَم لحفظ الدبابيس معًا في مكانٍ واحد. تمثِّل الدبابيس خصائصَ الشيء، وتمثِّل الوسادة الجزئي نفسه. يُطلِق البعض على هذه الرؤية اسم نظرية الركيزة للجزئيات؛ حيث الوسادة هي الركيزة الكامنة وراء جميع الخصائص البادية. هكذا يمثِّل دبوسٌ اللونَ البُني للطاولة، ويمثِّل دبوس ثانٍ صلابتها، ويمثِّل ثالث وزنَها، ورابعٌ ارتفاعَها، وهكذا دوالَيك لكل خاصية من خصائص الطاولة. وإذا كنا نستطيع أن نزيلها — ذهنيًّا، من خلال عملية التجريد — سندرك أن الشيء نفسه منفصل عنها، وهو الذي يحتويها جميعًا. بالطبع، حين تزيل جميع الدبابيس من وسادة دبابيس حقيقية، يظل لديك شيءٌ يمكنك أن تراه وتلمسه. لكن كي نستطيع تصوُّر ماهية الطاولة في حد ذاتها، علينا أن نتذكر أنه عند إزالة جميع الدبابيس من وسادة الدبابيس المجازية تصير جزئيًّا جُرِّد من جميع خصائصه. وإنها من دون خصائص، لن يكون لها مظهر أو ملمس.
لنأخذ قطًّا مثالًا. ولنتصوَّره دون لونه الأسود؛ لأنه خاصية، ونحن نريد أن نعرف ما الشيء الكامن خلف جميع خصائصه. ولكن إزالة سواده ليس معناه سلخ القط. بالإضافة إلى إزالة لونه، علينا أيضًا أن نزيل شكله؛ لأنه مجرد خاصية أخرى مثل سائر الخصائص، وكذلك قوائمه الأربع، ورائحته، وفروه. أزِل كل هذه الخصائص، وعندئذٍ قد نتساءل ما الركيزة الكامنة تحتها. لا بد أنه سيكون غير مرئي. ولن يكون له طول، أو عرض، أو ارتفاع، ولا لون أو تماسك. سيصير لدينا محض تجرُّد مما قد يحملنا على الشروع في التساؤل فعلًا عما إذا كان لدينا أي شيء على الإطلاق.
الفلاسفة معروفون باستنباط كل النتائج التي قد تترتب على الأفكار. لكنهم لا يرضون حتمًا بتلك النتائج دائمًا. أحيانًا ما تكون النتيجة عبثية إلى درجة أنها يمكن اعتمادها أساسًا وجيهًا لرفض الافتراض الأوَّلي. من شأن مثل هذه النتيجة غير المنطقية أن تهبط بالافتراض الذي نشأت منه إلى مستوى العبثية. ربما نستطيع القول بأن هذا ما حدث في هذه الحالة. لقد اقتُرح أن الجزئي لا بد أن يكون شيئًا آخر غير خصائصه. ولكن بمجرد أن بدأنا في تجريد القط نفسه من خصائص القطط، أدركنا أنه لن يتبقَّى شيء. يبدو أن قِطنا الركيزة ليس شيئًا على الإطلاق. إنه بلا وزن، أو لون، أو امتداد في الفضاء، أو ما إلى ذلك. وهكذا سيبدو كأنه لا شيء. أليس من المعهود أن يكون لكل شيء موجود خصائص؟ فلا يمكن تصور إمكانية أن توجد الجزئيات «مجرَّدة»، وأن يكون بعضها قد صادفها الحظ فاكتسبت الخصائص. فمن المؤكد أن كل شيء مادي كان موجودًا من قبل، وسيكون موجودًا، لا بد له من شكل أو وزن أو سِمة. وربما كان القول بإمكانية أن يوجد الشيء بمعزل عن تلك الخصائص كان هو الخطأ الذي أدَّى بنا إلى العبثية.
حُزم الخصائص
لننظر نهجًا مختلفًا. إذا لم يكن ممكنًا وجود جزئيات «مجرَّدة»، موجودة من دون خصائص، فقد يكون من الأفضل إذَن أن نتأمل مرة أخرى مجموعة أو حُزمة الخصائص التي بدأنا بها. حين أزلنا تلك الخصائص في أذهاننا، في عملية التجريد، كان الخوف ألا يتبقَّى لنا شيء على الإطلاق. ألَا يجدر بنا إذن أن نُقرَّ ببساطة بإمكانية ألَّا ينطوي الجزئي على شيء سوى تلك الحُزمة من الخصائص؟ إذا لم يتبقَّ شيء بمجرد إزالة جميع الخصائص، فذلك كفيلٌ لندرك أن هذا الجزئي لا يمكن أن يكون شيئًا سوى خصائصه. من ثَم تقول نظرية الحُزم بأنه لا يمكن تعريف الجزئيات إلا من خلال الخصائص. فإلى أي درجة تبدو هذه النظرية منطقية؟
بيدَ أنَّ هناك بعض المشكلات المرتبطة بهذه النظرية؛ إذ تنبع من مشكلة التغيير التي ناقشناها من قبل. إذا كان الشيء مجردَ مجموعة من الخصائص، فلا يمكنه أن يبقى بعد أي تغيير. إذا فُقدت خاصية واكتُسبت أخرى، فسنحصل على مجموعة مختلفة؛ لأنني أفترض أن ما يجعل المجموعة الشيء نفسه في أوقات مختلفة هو أنها تتألَّف من الأشياء نفسها التي تكوِّنها. ومن ثَم، ستتكوَّن مجموعتان مختلفتان إذا كانت الأشياء المجمعة داخلهما مختلفة. وبالطبع فإن الجزئيات المعنية تتغيَّر طيلة الوقت بينما تبقى (عدديًّا) هي نفسها. فالقط يغيِّر شكله مرارًا. أحيانًا يستلقي مستويًا، وفي أوقات أخرى يكون مُتكورًا، وكذلك قد ينطلق جريًا، فيتغيَّر شكله باستمرار. إذن كيف يمكن لقطٍّ أن يكون مجرد مجموعة من الخصائص، وهو يتغير طوال الوقت؟
لكن ربما من الممكن الرد على هذا الاعتراض. ربما يجب أن نرى الشيء سلسلةً من حُزم الخصائص، متحدة بدرجة من الاستمرارية. لذا على الرغم من أنه في الإمكان تغيير الطاولة بطلائها باللون الأبيض، فإنها تحتفظ تقريبًا بنفس الوزن، والارتفاع، والموقع الفيزيائي. وإنني أفترض أن الموقع الفيزيائي للشيء إحدى خصائصه، ولا شك أنه خاصية مهمة جدًّا في هذا السياق. فأنا متأكد أن الطاولة البيضاء هي نفسها الطاولة التي كانت بُنية فيما سبق، خصوصًا لأنها موجودة في الغرفة نفسها. وإذا كانت قد تحركت، فمن المتوقع أن تكون فعلت ذلك تدريجيًّا عبر سلسلة من المواقع الممتدة بين المكان الذي بدأت فيه، والمكان الذي انتهت إليه. والقط إذا كان يغيِّر شكله سريعًا، فإنه يحتفظ بنفس اللون، والفراء، والرائحة، والأهم من ذلك، أنه يبقى في المكان نفسه؛ أو إذا غيَّر موقعه، فهو يفعل ذلك بالمرور عبر سلسلة من المواقع. من ثَم، يمكننا القول بأنه رغم تبدُّل حُزم الخصائص، فإن الشيء الجزئي هو سلسلة من هذه الحُزم، مع استمرارية مناسبة ممتدة عبرها.
غير أنه هناك بعض الصعوبات الأخرى التي لا بد من مواجهتها، ولكن قبل أن نمضي لمناقشة إحداها، يجدر بنا أن نذكر ما قد يكون ميزةً كبيرةً لنظرية الحُزم هذه. في النظرية الأولى التي تناولناها كانت الجزئيات ركائزَ كامنة تضم خصائص الشيء معًا. ولتفسير ماهية الجزئيات من قبيل الطاولة، والكرسي، والكلب، والشجرة، كان لدينا نوعان من المكونات. كان لدينا خصائص الشيء وركيزته. أما في حالة نظرية الحُزم الجديدة، فيبدو أننا في حاجة إلى نوعٍ واحد فقط من الأشياء. فلدينا الخصائص وحدها، وعندما تأتي في حُزمة أو سلسلة مستمرة من هذه الحُزم، نقول إن لدينا بذلك شيئًا جزئيًّا. من ثَم، فبينما كنا بحاجة فيما سبق إلى عنصرَين، لدينا الآن عنصر واحد فقط. يمكن أن نرى الأمر بطريقة أخرى بأن نقول إن مفهوم الركيزة قد اختُزل بالكامل بمصطلحاتٍ أخرى. فلن تزيد الأشياء على كونها محض حُزم من الخصائص، مرتبة ترتيبًا مناسبًا.
من ثَم فإن النظرية الثانية أبسط من حيث طرحها لأنواعٍ أقل من الكيانات. إن نظرية الركيزة المبهمة العديمة الشكل لا تقدم شيئًا فيما يبدو: من ثَم إذا كانت نظرية الحُزم صحيحة، فمن الممكن أن نستغني عن نظرية الركيزة. الحق أنه لا يوجد سببٌ معين يجعل النظرية الأبسط والأقصر أرجح من النظرية المعقَّدة والطويلة، ولكن الفلاسفة يفضِّلون النظريات البسيطة. بالطبع لا يبدو هناك داعٍ لقبول عناصر زائدة في نظريتنا عن العالم؛ لأننا من المؤكد لسنا في حاجة إلى أي عناصر زائدة لتحقِّق النظرية هدفها. إنها لا تخدم أي غرض.
التوائم المتطابقة
من ثَم فإن نظرية الحُزم تبدو أبسط من نظرية الركيزة. ولكن هل هي بالغة البساطة؟ هل ستكون لديها موارد كافية لتفسير كل ما نريده بخصوص الجزئي؟ ثَمة اعتبار يشير إلى أنها ليست كذلك. الجزئي، حسب هذه النظرية، هو مجرد مجموعة من الخصائص. كرة السنوكر، على سبيل المثال، هي مجرد حُزمة من خصائص اللون الأحمر، والشكل الكروي، واللمعان، وقطر ٥٢,٥ ملم، وغيرها من الخصائص. لكن المشكلة التي تعترض النظرية، هي أنه من الممكن أن يكون هناك غرض آخر بتلك الخصائص بالضبط. في الواقع، لكي تكون لعبة السنوكر عادلة، لا بد أن تتوفر بها العديد من الكرات الحمراء بتلك الخصائص نفسها: فإنها موحَّدة. لكن هنا ستواجه النظرية صعوبة. فهي تقول إن الجزئي محض حُزمة. لكن إذا كان لدينا الحُزمة نفسها، فهذا معناه أن لدينا الشيء نفسه. بعبارة أخرى، لا يمكن، بناءً على هذه النظرية، أن يكون هناك أكثر من كائنٍ واحدٍ هو حُزمة الخصائص نفسها.
ربما يُقال إن هذا الاعتراض هو مجرد تفصيل لا يهم البتة. ألَا يمكن أن تكون المسألة ببساطة، أنه لا يتأتَّى في الواقع مطلقًا أن يشترك شيئان متمايزان في جميع الخصائص نفسها؟ حتى الطاولات التي تُصنَع بالجملة ستكون بينها اختلافات طفيفة؛ في الوزن، أو اللون، أو حتى نمط الخدوش الدقيقة غير المرئية على السطح. كل ما تحتاج إليه كرات السنوكر لدينا هو أن تكون متشابهة في خصائصها بما فيه الكفاية لكي يكون اللعب عادلًا؛ لذا يجوز أن يكون بينها هي أيضًا بعض الفروق الطفيفة. مع ذلك فإن هذا الرد يغفل عن الغرض من النظرية الفلسفية. فقد كان من المفترَض أن تكون تفسيرًا لماهية الشيء الجزئي. وليس من المفترَض أن ترهن صحة هذه النظرية بمحالفة الحظ لها، بحيث يتصادف أن يكون كل شيء جزئي مجرد حُزمة مختلفة. وإن اشتراك شيئَين في جميع خصائصهما لهو شيء محتمَل على الأقل فيما يبدو. وإذا كانت الجزئيات، كما تنص النظرية، محض حُزم من الخصائص فقط لا غير، فإنها تتعارض مع ذلك الاحتمال. وبذلك يصير الجزئيان بالخصائص نفسها جزئيًّا واحدًا.
ثَمة طريقتان ممكنتان لأصحاب نظرية الحُزم لحل هذه المعضلة، ولكنَّ كليهما تعترضه مشكلات. أول حل فيما يبدو هو القول بأن هناك سببًا مبدئيًّا لعدم إمكانية اشتراك جزئيَّين في جميع خصائصهما. إذا أخذنا في اعتبارنا الخصائص العلاقية، فيجوز أن نقول إنها لا بد أن تختلف؛ إذ هي تسمح بدخول الموقع الزماني والمكاني في المعادلة. يوضح المثال التالي ما المقصود بالخصائص العلاقية. حتى لو لم يكن التمييز بين كرات السنوكر الحمراء عند فحصها ممكنًا، فقد تكون إحداها على بُعد ٢٠ سنتيمترًا فقط من الجيب الأيمن السفلي للطاولة، بينما الأخرى على بُعد ٣٠ سنتيمترًا منه. هكذا يكون لدى إحدى الكرات خاصية علائقية تتمثَّل في كونها على بُعد ٢٠ سنتيمترًا من الجيب، بينما لدى الأخرى خاصية علائقية تتمثل في كونها على بُعد ٣٠ سنتيمترًا من الجيب نفسه. مع افتراض أنه لا يمكن لجزئيَّين متمايزَين تمامًا أن يشغلا المكان نفسه في الوقت نفسه، يبدو أن جميع الأشياء سيكون لديها مجموعة فريدة من الخصائص العلائقية.
لكن ها هي المشكلة التي تعترض هذا الاقتراح. ليس هناك ضمانٌ بأن تكون للأشياء المتمايزة خصائص علائقية مختلفة إلا إذا أعدنا الجزئيات إلى نظريتنا الميتافيزيقية. هذا هو السبب. هل نعتبر الموقع في المكان (والزمان) مسألةً مطلَقة أم نسبية؟ إذا كان مطلقًا، فإن ذلك سيشير إلى أن جزئية من نوعٍ ما في المواقع المكانية. ومن ثَم سيمثِّل الموقع جزئيًّا. هكذا سيعود إلى النظرية مفهوم الجزئي، الذي لا يُحدد بحُزمة من الصفات. ولا طائل من ذلك لأننا كنا نتطلع إلى التخلص من الجزئيات من خلال حُزم الخصائص.
إنها حُجةٌ معقدة. لذلك قد يكون الملخص القصير مفيدًا. لقد حاولنا التمييز بين الجزئيات التي لا يمكن التمييز بينها على أساس أن لها مواقع مختلفة. لكننا وجدنا أنه إما أن تكون هذه المواقع هي بحد ذاتها جزئيات، وفي هذه الحالة نكون قد فشلنا في استبعاد الجزئيات، وإما أن تكون المواقع متميزة فقط بعلاقات بعضها ببعض. وفي الحالة الأخيرة، سيؤدي احتمال البِنية المتماثِلة لعدم إمكانية أن يكون لدينا جزئيَّان لا يمكن التمييز بينهما حتى على أساس الموقع.

ما استعرضناه للتوِّ كان الطريقة الأولى المقترَحة لكي يتجنَّب صاحب نظرية الحُزم استنتاج أن تصير الجزئيات ذات الخصائص المتماثلة واحدًا. وبما أنها لم تفلح على ما يبدو، إليكَ الاقتراح الثاني. الاعتراض القائل بأن النظرية تنص على أن الحُزم التي لها الخصائص نفسها يجب أن تكون الشيء نفسه، يصح فقط إذا كنا سنرى الخصائص بطريقة معينة: شيء لا يشبه الجزئيات. ولكن هناك تصورات أخرى، كما سنرى في الفصل الثاني. قد تكون تلك الخصائص جزئياتٍ على نحوٍ ما. ومن ثَم، قد يكون الأحمر في هذه الحُزمة شيئًا أو حالةً مختلفة عن الأحمر في حُزمة أخرى. من ثَم قد يكون من المحتمل أن تكون هناك جزئيات متمايزة لها الخصائص نفسها. بمعنى أنها تتألف من خصائص من النوع نفسه، ولكن لديها حالات مختلفة منها. أليس هذا ما نعتقده بشأن كل كرات السنوكر الحمراء؟ الأحمر في هذه الكرة ليس هو نفسه الأحمر في تلك الكرة. إنهما حالتان مختلفتان من اللون الأحمر.
ولكن هناك كذلك مشكلة في هذا الحل الظاهري. فقد أنقذنا نظرية الحُزم، ولكن بثمن. كنا أشرنا إلى أنه من مميزات نظرية الحُزم أنها تفسِّر الجزئيات بالكامل على أنها خصائص. اختزلت النظرية الجزئيات في خصائص. لكن يبدو الآن أننا لن نستطيع إنقاذ نظرية الحُزم من اعتراض أن تصير الحُزمتان المتطابقتان شيئًا واحدًا، إلا إذا اعتبرنا الخصائص جزئياتٍ بطريقة ما. لقد تحدثنا عن وجود حالتَين متمايزتَين من الأحمر، وتبدو حالة الخاصية مثل نوعٍ من الجزئيات. لذا نقول إنه لكي نجعل حُزمنا أشبه بالجزئيات، وهي الحالة التي نفترضها بشأن الأشياء، كان علينا جعل خصائصنا أشبه بالجزئيات. وهكذا تمكَّنت الجزئية من التسلل عائدة إلى النظرية.
من الوارد أن نكون قد ارتكبنا أخطاءً لا تُعَد ولا تُحصى في أثناء ذلك. لكن يبدو أننا قد نُضطر إلى استنتاجٍ مفاده أن الجزئية سِمة من سِمات الواقع، فمن الممكن، نظريًّا، أن يكون هناك جزئيَّان متمايزان دون أن يكون تمايُزهما ناتجًا عن وجود خصائص مختلفة بينهما.
بناءً على ذلك، ماذا تكون الطاولة؟ بعد التأمُّلات المطروحة في هذا الفصل، يبدو أن علينا أن نقول إنها جزئيٌّ يحمل بعض الخصائص، ولكنه ليس مطابقًا لتلك الخصائص، ولا يمكن اختزاله فيها. لقد اخترت الطاولة بطريقة عشوائية لتكون موضوع دراستنا، ومن ثَم يبدو أنه من الآمن التعميم انطلاقًا منها. من ثَم علينا إعطاء الإجابة نفسها لأي شيء آخر.
ذكرتُ خصائص الجزئيات طَوال هذا الفصل. والآن نحن في حاجة إلى أن ننظر إلى ما يُفترض أن تكونه هذه الأشياء، إذا كانت بالفعل أشياء على الإطلاق. من ثَم سيكون هذا هو الموضوع الذي سننتقل إليه.