ما العلة؟
سددتُ كرة القدم نحو المرمى فدخلت الشبكة. فأتى زملائي في الفريق لتهنئتي. لماذا؟ لأنني سجلت الهدف. كنت أنا الفاعل. أنا من سببتُ الهدف. فيما بعد، أوقعت كوبًا فتكسَّر. فتوجهوا إليَّ باللوم. لماذا؟ مرة أخرى، لأنني المسئول عن الشيء الذي سبَّبته. ليس ضروريًّا أن يكون البشر هم المسئولين في مثل هذه الأمثلة. فالإعصار يسبِّب تلف الأشجار والفيضانات؛ والبراغي المتآكلة تسبِّب انهيار الجسور.
أحيانًا ما يكون هناك ارتباط بين شيء وآخر، ولذلك أهمية بالغة. كانت ركلتي للكرة مرتبطة بحركتها. ولكن إذا تأمَّلنا مجمَل الأحداث في العالم، فلن نجد معظمها مرتبطًا ارتباطًا مباشرًا بشيء آخر. أفترض أن هزيمة نابليون في واترلو ليست مرتبطة بأن أحد الأشخاص كان يحك أنفه في اللحظة نفسها تحديدًا. قد يكون الارتباط غير مباشر بالمرة، عن طريق تداخُل عدة أحداث أخرى، ولكنه سيكون ارتباطًا ضعيفًا للغاية إلى درجة أنه لن يكون ذا بال. في حالات أخرى يختلف الناس بشأن ارتباط شيء بآخر. من الأمثلة على ذلك أن شركات التبغ ظلَّت سنواتٍ تنفي أيَّ ارتباط بين التدخين والسرطان. يزعم من يدَّعون امتلاك قوة روحية أنهم يستطيعون نقل الأفكار مباشرةً إلى الآخرين، أو تحريك الأشياء بإرادتهم وحدها، بينما ينفي آخرون أن يكون كلٌّ من التخاطر والتحريك الذهني حقيقيَّين. وهذا في الواقع نفي لارتباطٍ سببي.
تأمَّلنا الأنواع العامة من الأشياء التي تشكِّل عالمنا. ناقشنا الخصائص، والجزئيات، والجزئيات المعقَّدة، ثم التغييرات. ويبدو أن العِلل فئة أخرى مهمة لا بد أن نتناولها. هذا الموضوع مرتبط ارتباطًا وثيقًا بموضوع التغيير، على الرغم من أنه ليس الشيء نفسه بالضبط. العديد من التغييرات في العالم، بل ربما أغلبها، مسبَّبة، ولكن ليس بالضرورة أن تكون كلها كذلك. تقول بعض النظريات إن الكون نشأ بانفجارٍ كبير؛ إذ جاء إلى الوجود بحدثٍ ضخم. من ثَم فإنه يبدو كتغييرٍ، ولكن يُقال لنا أيضًا إنه ليس مسبَّبًا لأن شيئًا لم يكن موجودًا قبله حتى يسبِّبه. هكذا يمكننا التمييز بين التغييرات المسبَّبة، وتلك التي لم تكن مسبَّبة. من ثَم فإن التغيير والعِلة شيئان مختلفان. بل حتى عندما يحدثان معًا، لا بد أن نقول إنهما شيئان مختلفان. ستكون العِلة هي ما أنتج التغيير؛ إذ سيكون بالطبع تغييرًا مسبَّبًا. ولكي نجعل الفرق بين المفهومَين أوضح، يمكننا أيضًا القول بأن هناك عِللًا من دون تغييرات. أحيانًا تُنتِج العِلل الاستقرار أو التوازن. على سبيل المثال، من الوارد أن تتماسك أحجار المغناطيس معًا، دون أن يتغيَّر أي شيء. لكن يبدو أن هذا ليس بأوضح الأمثلة على العِلل.
العِلل في كل مكان
إن فهم السببية واحدٌ من أهم المهام الفلسفية على الإطلاق: وليس فقط لأن الفلاسفة ظلُّوا منشغلين بها طيلة قرون. من الضروري أن يكون لدينا تفسيرٌ للسببية لأنها تربط بين كل الأشياء تقريبًا، ومن هنا جاء وصف هيوم لها بأنها «مِلاط الكون». إننا نجدها في كل مكان تقريبًا، ودونها لن يكون لشيء أثرٌ في أي شيء آخر. على سبيل المثال، كان إطلاق النار على الأرشيدوق فرانز فرديناند حدثًا مهمًّا، فقط لأنه تسبَّب في موته، ولأنه حسبما يُقال، تسبَّب في الحرب العالمية الأولى. من المؤكد أن جافريلو برينسيب لم يضغط الزناد إلا لأنه اعتقد أنه قد يتسبب في خروج رصاصة من البندقية، وأن الرصاصة قد تتسبب عندئذٍ في هلاك فرانز فرديناند.
يبدو أن أي فعل نُقدِم عليه يقوم على مبدأ أنه سيتسبَّب في حدوث شيء. فأنا مثلًا لا أطرق مسمارًا، إلا لأنني أتوقع أن يتسبب ذلك في غرسه في الجدار. إذا لم يكن للطَّرق أي علاقة بالنتيجة، فسيكون نشاطًا غير مُجدٍ بالمرة. فلنفترض أنه لم يتسبب في دخول المسمار في الجدار. أو لنفترض أنني حين طرقته، حدث تغيير عشوائي: ربما يكون تبخُّر المسمار أو اختفاءه أو تحوُّله إلى دجاجة. إذا لم تكن هناك علاقات سببية بين الأشياء مطلقًا، فسنصير في عالمٍ لا يسَعنا توقُّع ما فيه بأي درجة. صحيح أن توقعاتنا ليست مضمونة تمامًا في الواقع، ولكنها مضمونة بما فيه الكفاية لنتدبَّر أمورنا. وهي كذلك بفضل وجود علاقاتٍ سببية. وغالبًا ما يكون الوقوف عليها من الضرورات القصوى لنا. فتحديد سبب مرض من الأمراض مثلًا ربما يكون حاسمًا. إذ هو يمكِّننا من إنقاذ الأرواح بإبعاد الناس عن أسباب الموت. ومن ناحية أخرى، نحن في حاجة كذلك إلى العثور على أدوية تتسبب في تعافي الناس، حتى لو أصيبوا بالمرض.
توضح هذه الأمثلة أهمية العلاقة السببية. وهو ما يضع على عاتق الفلاسفة واجب فهم العلاقات السببية وإخبارنا بماهيتها. ولكن هنا تبدأ الصعوبة.
الجدل حول السببية
تأتي إحدى المشكلات من فكرة مأثورة طرحَها ديفيد هيوم الذي ما زالت أفكاره عن العلاقات السببية تشكِّل النقاش الفلسفي («رسالة في الطبيعة البشرية»، المجلد الأول، ١٧٣٩). أخبرنا هيوم أن العلاقات السببية ليست بالشيء الذي يمكننا رؤيته. يمكننا رؤية حدث، مثل أن يتناول شخص حبة دواء، وحدث ثانٍ عندما يتحسَّن، ولكننا لا نرى مطلقًا العلاقة السببية بين الحدثَين. كيف لنا إذن أن نعرف أن الدواء تسبَّب في التعافي؟ المشكلة أعمق من مجرد عدم قدرتنا على رؤية ما يحدث داخل جسد شخص (بسهولة). نحن لا نستطيع رؤية العلاقة السببية حتى في أبسط الحالات، حسبما يدَّعي هيوم. يمكننا أن نرى أحدهم يركل الكرة، ويمكننا رؤية الكرة تتحرك، ولكننا لا نستطيع رؤية أي علاقة سببية بين الركلة وتحرك الكرة.

ما دام ليس في مقدور أيٍّ منَّا رؤية العلاقات السببية، فلماذا نعتقد أنها حقيقية؟ كان لهيوم رأيٌ في هذه المسألة. السبب الرئيس وراء اعتقادنا أن الحدث الأول تسبَّب في الثاني هو أنه جزءٌ من نسق. كلما رأيت شخصًا يركل كرة، يعقب ذلك رؤيتي للكرة تتحرك. كل ما أراه هو حدث يتبعه آخر في كل مرة؛ ولكنني أعلم كذلك أنه كلما رأيت حدثًا من النوع الأول، تلاه حدث من النوع الثاني.
يعتقد العديد من مؤيدي هيوم أن هذا أكثر من مجرد رأي بشأن معرفتنا بالعِلل. فهناك كذلك رأي شائع يقول بأنه تفسير للسببية في الواقع. إلى أن تقرأ فلسفة، ربما تعتقد أن الأحداث تتسبب في أحداث أخرى. كأن هناك نوعًا من القوة الدافعة أو الإلزام بين الحدثَين الأول والثاني. لكن أتباع هيوم يقولون إننا ليس لدينا معلومات عن هذه القوة الدافعة، كما أننا لسنا في حاجة إلى معرفتها من أجل فهم العالم. يكفينا الأحداث والأنساق التي تنتظم فيها. فكثيرًا ما تُركل الكرات، وكثيرًا ما تتحرك الكرات بعدها. إنما تصادف أن أحداث الركل تلاها تحرُّك الكرات. بذلك يُدرك العالم أنه مزيج من الأحداث غير المترابطة، تصادف أن بعضها جاء في أنساق.
تصوَّر، على سبيل المثال، أن لديك دلوًا كبيرًا مليئًا بقطع الفسيفساء. تصور أنك هززتها، ثم أسقطتها على الأرض. ستسقط بترتيبٍ عشوائي بدرجة كبيرة. ولكن حتى في هذه الحالة، إذا أمعنت النظر في القطع، ربما تستطيع أن ترى أنساقًا. قد ترى أن القطعة الحمراء دائمًا ما تأتي بجوار القطعة الزرقاء، أو أن القطعة المربعة دائمًا ما تظهر بجوار القطعة المثلثة. إذا أمعنت النظر أكثر وأكثر، فقد تلاحظ أنساقًا أكثر تعقيدًا: القطعة الصفراء المستديرة دائمًا ما تكون بجوار إما مربع أخضر وإما مثلث برتقالي، وهكذا. لنا إذَن أن نقول إن هذا جُل ما نفعله عندما ندرس العالم علميًّا. إذا كان تناول الدواء يتبعه دائمًا الشفاء من المرض، فماذا عسانا نريد من السببية أكثر من ذلك؟
لكن هناك فكرة أخرى جذبت بعض الناس نحو رأيٍ من نوع مختلف. وهي أيضًا موجودة في أعمال هيوم، الذي اقترح نظريتَين مختلفتين. تقول الأولى إن جوهر السببية هو الانتظام. أما النظرية الأخرى فتحتاج إلى تفسيرٍ مختلف. فغالبًا ما ندرك العلاقات السببية بين الأشياء من خلال التجارب في العالم. عندما كنتَ طفلًا، ربما كنت تشد الخيط في ظهر دميتك وتتركه، فتجد أن الدمية تتحدث. لقد فعلت ذلك عدة مرات ورأيت أن سحب الخيط يتبعه دائمًا تحدُّث الدمية. ومع ذلك، يمكن القول بأنه حتى يكون لديك معرفة حقيقية بالعلاقة السببية، يجدر بك أن تعلم أن الدمية لن تتحدث إلا إذا سحبت الخيط. هذا لأنه إذا كانت الدمية تتحدث طَوال الوقت، سواء سحبت الخيط أم لم تسحبه، فمن غير المرجح أن تظن أن سحب الخيط هو الذي سبَّب الكلام. يقودنا هذا إلى رؤية أوضح. وهي أنه يجوز أن نعتبر العِلة حدثًا يتبعه آخر؛ بحيث إذا لم يحدث الأول، لم يكن الثاني ليحدث أيضًا. هذه كلمات هيوم بالضبط تقريبًا.

ولكن كيف لي أن أعرف ذلك؟ يمكنني أن أرى أن حدثًا يتبعه آخر، ولكن كيف أعرف أن الحدث الثاني لم يكن ليحدث إذا لم يحدث الأول، وهو حدث فعلًا؟ يخشى البعض أن يكون الاعتقاد بأن الحدث الثاني لم يكن ليحدث جاء مستندًا في الواقع إلى الاعتقاد بأن الأول سبب الثاني. هذا غير مقبول لأن من المفترض أن تخبرنا النظرية ماهية أن يسبِّب حدثٌ حدثًا آخر؛ من ثَم فإنها لا يمكن أن تعتمد على افتراض مُسبَّق للعِلة (لأنها عندئذٍ ستكون تفسيرًا دائريًّا).
هناك ردَّان على هذا السؤال. يستخدم الأول أساليب ميتافيزيقية معقدة، أما الثاني فعمليٌّ أكثر. يقول الفلاسفة إنه بينما في عالمنا يقع الحدث الأول والثاني، فهناك عالم آخر مشابه تمامًا لعالمنا باستثناء أن الحدث الأول لا يقع فيه. إذا لم يقع الحدث الثاني أيضًا في ذلك العالم، فسيجوز في عالمنا أن نقول إن الحدث الأول تسبب في الحدث الثاني. بمعنًى آخر، نظرًا إلى أن الحدثَين وقعا في عالمنا، فلا يسعنا سوى أن نتصور احتمال عدم وقوع الحدث الأول في عالم آخر محتمل. والعالم الذي سنتصوره شديد الشبه بعالمنا باستثناء أن الحدث الأول لم يقع فيه. من شأن هذا أن يفصل ما أراده هيوم بنظريته الثانية عن السببية. الحدث أ يتسبَّب في ب، لأنه في العالم الذي يشبه عالمنا باستثناء حدوث أ، لم يحدث ب كذلك.
قد يبدو هذا الحديث عن عوالِم أخرى ممكنة من قبيل الشطط الميتافيزيقي. سنتعرض لهذه العوالم مرة أخرى في الفصل الثامن. ولكن من الجائز أن يكون ثمة طريقة أخرى لمعرفة إذا كان الحدث الثاني لن يقع، في حال عدم وقوع الحدث الأول. إنه نهجٌ ذو طبيعة علمية، ويُطبَّق بانتظام. فمن الممكن أن نُجريَ تجربة فعلية بدلًا من التفكير فيما يحدث في العوالم الأخرى. للقيام بذلك، علينا إعداد حالتَي اختبار متشابهتَين قدر الإمكان في كل الجوانب التي ربما تخطر لنا على بال. في حالة الاختبار الأولى، نطبِّق الحدث المعني. وفي الحالة الثانية، لا نطبقه. ثم نرى ما إذا كان العامل المُدخَل قد أحدث فرقًا في النتائج أم لا. هذا ما سمَّاه جون ستيوارت ميل بمنهج الاختلاف.
يعتقد البعض أن هذا المنهج هو الطريقة التي نكتشف بها العِلل في الواقع. فعلى سبيل المثال، لكي نرى ما إذا كان دواءٌ ما فعالًا — وأقصد بكلمة «فعَّال» ما إذا كان يتسبَّب في الشفاء — نقسِّم عينة كبيرة من الأشخاص عشوائيًّا إلى مجموعتين. إذا كان العدد كبيرًا بما يكفي، والتوزيع العشوائي حقيقيًّا، فعندئذٍ لا بد أن نحصل على مجموعتَين متشابهتَين بالقدر المناسب. هنا نعطي الدواء التجريبي للمجموعة الأولى، ولا نعطي المجموعة الثانية شيئًا منه. إنما تحصل المجموعة الثانية على دواءٍ وهمي، تحسبًا لأن مجرد الاعتقاد بأنك تتلقَّى علاجًا يمكن أن يتسبَّب بحد ذاته في الشفاء. إذا تحسَّنت الحالة الصحية للمجموعة الأولى، ولم تتحسن المجموعة الثانية، يُعلَن أن الدواء تسبَّب في الشفاء. يُطلَق على هذا النوع من التجارب اسم التجربة المعشَّاة المُضبَطة بالشواهد، ويُفترض أنها تبيِّن بالتطبيق على أعدادٍ كبيرة ما اقترحه هيوم وميل نظريًّا. إنها تتيح لنا أن نرى بالتجربة العملية أنه من دون الشيء الأول (تناوُل الدواء)، لن يتحقق لدينا الشيء الثاني (الشفاء).
هنا تطالعنا مشكلة كبيرة بخصوص النظريات من هذا النوع، المعروفة بنظريات السببية المعتمِدة على الواقع المعاكس. هل يمكن حقًّا أن يكون هذا الاختلاف هو غاية السببية؟ ربما يتيح لنا فهم ماذا يسبب ماذا، ولكنه لا يخبرنا فعليًّا ماهية أن يسبب شيء شيئًا آخر. تصور المشكلة على النحو التالي. كان الفريق الذي تناول الدواء سيتحسَّن سواء كان هناك فريق آخر في مكان آخر تناول الدواء الوهمي، أم لا يوجد. فلنفترض أن خطأً إداريًّا أدَّى إلى نسيان الفريق الذي كان من المفترض أن يتناول الدواء الوهمي، وأن هذا الجزء من التجربة لم يحدث قَط. هل معنى هذا أن الفريق الأول، على الرغم من تحسُّن أفراده، فإن الدواء لم يكن ما بعث على تعافيهم؟ إذا تناولوه وتعافوا، فمن الجائز جدًّا أن يشكوا ما إذا كان لأي شيء يحدث في مكان آخر أي صلة على الإطلاق بمدى فعالية الدواء معهم. بالمثل، إذا ركلت كرة قدم وتحركت، فكيف يمكن أن تتأثر مسألة تسبُّب ركلتي في تحركها بما حدث في عالمٍ آخر محتمَل، أو اختبار مزدوج حيث لم يركل أحدٌ الكرة؟
المبدأ وراء هذا المنطق هو أنه عندما يكون لدينا حدثان، أ وب، فإن مسألة ما إذا كان أ قد سبَّب ب يتوقف على أ وب وحدهما، وعلى العلاقة بينهما أو انعدامها. يبدو أنه ليس المفترض أن يكون لِما يحدث في أوقات وأماكن أخرى أي دلالة. يُعرف هذا الرأي بالفردانية. كيف يمكن تسويغ هذا الرأي؟ يمكن تسويغه بأن نقول مثلًا إن ما يهم هو ما إذا كان للدواء قدرة حقيقية على إحداث الشفاء. تحديدًا، قد أرغب في معرفة ما إذا كانت هذه الحبوب بالذات لديها القدرة على جعل هذا المريض بالذات في حالٍ أفضل. إذا كانت كذلك، فإنها عند تناولها بالطريقة الصحيحة، تسبِّب الشفاء. بالمثل، عندما تركل كرة القدم، ما يجعلها تتحرك هو القوة السببية للركلة. الأمر مرهونٌ بالقدم والكرة فقط.
يبقى لنا شيء لنقوله عن نظريتَي هيوم اللتَين تناولناهما. أفادت النظرية الأولى بأن جوهر السببية هو الانتظام. لكن أصحاب المذهب الفرداني يدَّعون أن ثمة مشكلة في هذه النظرية. ذلك أنها فيما يبدو تمزج بين الادعاءات الخاصة والعامة بالعلاقات السببية. قد يكون الادعاء الخاص هو أن هذا الدواء جعل هذا المريض يتحسَّن. وقد يكون الادعاء العام بالسببية هو أن هذا النوع من الأدوية يمكنه أن يجعل أي شخص يتحسَّن. إننا حين نزعم أن التدخين يسبِّب السرطان، نقدِّم ادعاءً عامًّا بعلاقة سببية. قالت النظرية إن تسبُّب حدث معين في حدث آخر معناه أن يكون جزءًا من نسق: بمعنًى آخر، لا بد أن يكون هناك حقيقة سببية عامة؛ حيث تُعَد الحالة الخاصة مجرد مثال عليها.
قد يُصرُّ المعارضون لآراء هيوم على أن ترتيب التفسير هنا معكوس. فالسبب في وجود حقائق عامة عن علاقات سببية هو وجود حقائق خاصة نعمِّم انطلاقًا منها. مثل أن نقول إن هذا الرجل تحديدًا كان يدخِّن، وأدى ذلك إلى إصابته بالسرطان، وكذلك تسبَّب التدخين في إصابة ذلك الرجل بالسرطان، وهكذا؛ من ثَم يمكننا التعميم انطلاقًا من كل هذه الادعاءات بعلاقاتٍ سببية محدَّدة لنقول إن التدخين في العموم يسبب السرطان.
لهيوم تُقرع الأجراس
لكن العلاقة بين الحقائق السببية الخاصة والعامة ليست بهذا القدر من الوضوح والبساطة. نعلم جميعًا أن هناك بعض الأشخاص الذين يتمكنون من التدخين طيلة حياتهم دون الإصابة بالسرطان. ومع ذلك، نحن لا نزال نعتقد أن من الحقائق المتعارَف عليها أن التدخين يسبِّب السرطان. فما الذي تعنيه الحقيقة السببية العامة أو ما الذي تستتبعه؟ من الممكن أن نقول الآتي. غالبًا ما يؤدي التدخين إلى السرطان. هذا ما يحدث بالفعل في العديد من الحالات، لكن ربما ليس في جميع الحالات. إن لديه القدرة على ذلك — فالتبغ مسرطن — ولكن ثمة حالات لا يستطيع فيها إحداث أثره الخبيث. ربما يكون لدى شخص ما الجينات المناسبة القادرة على منع تأثيرات التبغ. من ثَم يمكن أن يكون هناك حقيقة سببية عامة لا تنطبق على كل حالة من الحالات. ومن ثَم، من الممكن أن تثبت تجربة عشوائية مُضبَطة بالشواهد فعالية دواء ما ضد مرض معين، ولكن قد يكون هذا مستندًا إلى الإحصاءات فقط. ربما يتحسَّن بعض الأشخاص في مجموعة التجربة، ولكن ليس كلهم. في هذه الحالة، من الوارد تمامًا ألَّا يكون للدواء تأثير في حالتي أنا شخصيًّا.
ربما تكون هناك أسبابٌ وجيهة جدًّا لتأثير العِلة في بعض الأشياء من نوعٍ معين وليس كلها. أدرك هيوم أن نظرية القُوى السببية بديلٌ لنظريته. ولكنه كان يعتقد أن مثل هذه النظرية تقضي بضرورة أن تستلزم العِلل تأثيراتها. فقد جادل بأنه إذا كان لعِلة ما قوة إحداث تأثير معين، فسيعني ذلك أنها لا بد أن تنتجه حين تحدث. لكن ليس بالضرورة أن يكون الوضع كذلك. ربما كل ما في الأمر أن القوة تنزع نحو تأثيرٍ معين. ربما ثمة حالات حيث تنجح في إحداث ذلك التأثير، وفي حالات أخرى يمنعها مانعٌ من القيام بمهمتها. إن التأثيرات التي نراها حولنا غالبًا ما تكون نتيجة لتضافُر عدة عوامل مختلفة. عندما تُلقى طائرة ورقية، على سبيل المثال، تحدِّد انسيابية شكلها مسارها، لكن تحدِّده كذلك الجاذبية، وهبوب الريح، والتجاذب والتنافر الكهروستاتيكي، وما إلى ذلك. من الممكن أن تدفعها بعض هذه العوامل في اتجاه، وتدفعها عوامل أخرى في اتجاهٍ معاكس.
إذَن في حالة الدواء، قد نجد أن العقَّار لديه القدرة على العلاج، ويحققه في العديد من الحالات. لكن قد يجد فرد معين أنه بلا أي تأثير. قد يكون لديه مناعة طبيعية ضده، أو ربما يعيش نمط حياة يلغي تأثيره، أو يتبع نظامًا غذائيًّا يزيد من حدة المرض، أو أيًّا كان السبب. ليس ضروريًّا أن يؤدي وجود الدواء إلى الشفاء على الدوام، حتى إن كان هذا تأثيره في كثير من الأحيان. من هذا المنظور، ليس ضروريًّا أن تُنتِج القُوى آثارها. اعتقد هيوم أن لديه سببًا لرفض نظرية القُوى باعتبار أنه من الممكن منعها أو عرقلتها. ما رأيناه هو أنها لا تعمل بالضرورة، ولكن هذا ليس سببًا لرفض نظرية القُوى، إذا فهمناها فهمًا صحيحًا.
يظهر اسم أرسطو المألوف مرةً أخرى. يبدو أنه اعتقد أن القُوى السببية جزءٌ من الواقع. جاء اعتراض هيوم بعده بزمنٍ طويل، ولكن كان تأثيره في الفلسفة بالقوة نفسها، ولا يزال هناك انقسامٌ كبير بين الميتافيزيقيين المعاصرين بين مؤيدين لهيوم ومعارضين له. يبدو أن الخلاف الرئيسي بين الذين يعتقدون أن العِلة بالفعل تُنتِج أثرها، وبين الذين يعتقدون أن الأمر لا يعدو نسقًا من الأحداث، لا تربط بينها علاقة حقيقية. لكن لا بد من الانتباه إلى أن أتباع هيوم يزعمون أن «ينتج»، و«يسبِّب»، و«قوة»، وغيرها، لا يمكن أن تعني شيئًا غير التتابُع المنتظِم، أو أنه إذا لم تكن العِلة موجودة، لمَا كان التأثير موجودًا. من ثَم فإن كل ما يقوله الواقعيون عن السببية، يمكن ترجمته إلى مصطلحات هيوم بشأن نسق الأحداث. هكذا يصير من الصعب مجرد صياغة الفَرق بين المتفقين مع هيوم، والمختلفين معه.