الفصل السادس

كيف يمرُّ الزمن؟

تناولنا ما هو موجود من حيث بعض الفئات العامة لأقصى درجة. هناك الجزئيات والخصائص، ولكن هناك أيضًا أشياء مثل الكيانات الكُليَّة، والأجزاء، والتغييرات، والعِلل. والفئتان الأخيرتان لا يمكن أن تُوجَدا ما لم يكن هناك شيء آخر، ألَا وهو الزمن. لكي يحدث تغيير، لا بد على الأقل أن يُوجَد شيء ما في وقتٍ من الأوقات، ولا يصبح موجودًا في وقتٍ لاحق، أو العكس. يتجادل الفلاسفة ما إذا كان يمكن أن يكون هناك زمنٌ دون تغيير، ولكن يبدو حقًّا أنه من المؤكد عدم إمكانية أن يكون هناك تغييرٌ من دون زمن.

ما هذا الشيء الذي نسمِّيه الزمن؟ ربما خطر لنا جميعًا هذا السؤال، وإننا إذ نفعل ذلك نستغرق في أفكار ميتافيزيقية. ثمة اعتقاد بأن الزمن شيء بحد ذاته، وهو يشكِّل خلفية تجري في ظلها الأحداث. إننا نتصور هذا الزمن كأنه متدفق وله اتجاه. يمكن أن يفوتك. عليك أن تواكبه وألَّا تضيِّعه. إن له حدًّا معينًا. قد يكون موردًا محدودًا. ربما تشبه هذه الصورة للزمن تدفُّق النهر. إنه يتحرك بسرعة معينة، مارًّا بنقاطٍ معينة على امتداد ضفة النهر. عند ولادتك، تقفز على قارب، والنهر يأخذك في تياره، فتمر بجميع السنوات المحدَّدة بعلامات على الضفة في مشوارك. وعند وفاتك، تنزل من القارب، ويستمر الزمن في سريانه من دونك.

fig7
شكل ٦-١: اتجاه الزمن.

لكن يبدو بعض هذه الأفكار محيِّرًا. إننا نقول إن الزمن يجري، لكن إذا كان في مقدورنا قياس سرعة النهر، فهل يمكننا حقًّا أن نفعل شيئًا من هذا القبيل مع الزمن؟ إذا كان الزمن يجري، فبأي سرعة؟ ربما بمعدل ثانية واحدة في الثانية؟ هل لهذا الكلام معنًى؟ هل يمكن أن يكون هناك أي إجابة أخرى؟ إذا كان معي مجداف على قاربي، فهل في مقدوري أن أتحرك أسرع من الزمن نفسه، أو حتى أبطأ منه؟ وإننا نقول إن الزمن له اتجاه. نقول إنه يتقدم إلى الأمام، ولا يعود إلى الوراء، ولكن ما الذي نزعمه بذلك؟ ربما يعود الزمن إلى الوراء رغم كل ما ندَّعيه. كيف قد يبدو الأمر إذا كان الزمن يفعل هذا؟

الحديث عن الزمن بوصفه شيئًا في حد ذاته، أي له وجودٌ مستقل عن الأحداث الجارية فيه، يوحي أيضًا بإمكانية أن تكون هناك فترة زمنية لا يحدث فيها شيء. هل هذا ممكن حقًّا؟ كيف أعرف إذا لم يكن هناك فجوة لمدة عام؛ حيث توقَّف كل شيء ثم استُكمل مرة أخرى؟ أو ربما كانت فجوة لمدة عامَين.

إننا حين نناقش الزمن، نجد صعوبة بالغة في فهمه، حتى إننا نُضطر إلى اللجوء إلى الاستعارات. لكنها ربما تكون مضلِّلة. من الجائز أن أقول إن الوقت قد فاتني، أو إن زمنًا طويلًا قد مَر، ولكن لا يمكن أن تكون هذه التعبيرات حقيقية حرفيًّا. الطول هو شيء يُنسب إلى المكان، والمرور يُنسب إلى الحركة، مثلما يحدث حين يمر بي كلب راكض. ربما في تصورنا للزمن نرى أن الحدث أو العملية — سنوات مراهقتك، على سبيل المثال — تأتي من المستقبل، إلى الحاضر، ولكنها تذهب بعد ذلك إلى الماضي. يمكنك أن تلوِّح لها مودعًا، مثلما يحدث حين ترى الكلب يركض نحوك، فهو يكون بجانبك بعض الوقت، ولكنه يبتعد ثانيةً بعد ذلك. هل يمر الزمن على هذا النحو؟

متى يحين الحاضر؟

هناك نموذجان للزمن ناقشهما فلاسفة الميتافيزيقا على مدار القرن الماضي. وسأخصص بعض الوقت للنموذج الأول.

تأمَّل حدثًا مثل اغتيال الرئيس أبراهام لنكولن. بالنسبة إلى من عاشوا قبل عام ١٨٦٥، كان هذا الحدث في المستقبل. أما لنا نحن، فهذا الحدث من الماضي. وفي ١٤ أبريل ١٨٦٥ قرابة الساعة ١٠:١٥ مساءً بتوقيت واشنطن العاصمة، كان الحدث من الحاضر. هل المفترض أن نفهم هذه الحالة بالقياس المكاني؟ هل تسلَّل الحدث إلى الناس؛ حيث حاز الحاضرَ فترةً وجيزة، ثم مضى إلى الماضي؟ أم ثمة طريقة أخرى يفترض أن نفهمه بها؟

هناك رأي لا يزال يتسم ببعض الاحترام مفاده أن الأحداث لها خصائص زمنية من نوعٍ ما. فاغتيال لنكولن له خصيصة أنه ماضٍ. وهناك العديد من الأحداث التي لديها خصيصة أنها حاضرة، مثل حدث قراءتك لهذه الجملة (قس على ذلك سائر الأحداث الأخرى التي تحدث في أثناء قراءتك). والعديد من الأحداث لديها خصيصة أنها ستكون في المستقبل، وهي الخصيصة التي يمكن أن تُسمَّى بالمستقبلية. من الأمثلة عليها، بقدر ما يسَعنا العلم، ونحن في عام ٢٠١٢: كأس العالم لكرة القدم في قطر، والانتخابات العامة القادمة في المملكة المتحدة، وكسوف الشمس في ١١ سبتمبر ٢٠٢٥، وبلوغ عدد سكان الأرض ثمانية مليارات نسمة في عام ٢٠١٢.

وهنا قد نفهم معنى اتجاه الزمن بعض الشيء. الأحداث دائمًا ما تكون في المستقبل أولًا، ثم في الحاضر، ثم في الماضي. إنها لا تسير في الاتجاه المعاكس مطلقًا، على حد علمنا. ربما يتعقد الأمر لو كان السفر بالزمن إلى الماضي ممكنًا، لكن يبدو أن الخصائص الزمانية الثلاث دائمًا ما تأتي بهذا الترتيب. وإنني بالطبع أعامل الأحداث معاملة الجزئيات هنا، لا ما يُسميه فلاسفة الميتافيزيقا بالأنواع. تُقام الألعاب الأولمبية كل أربع سنوات، لكننا نقصد بها نوعًا من الأحداث. أما كل دورة منها فهي تحدث مرة واحدة، وهذه هي الأحداث بصفتها الجزئيات التي أشير إليها. «تجري» هذه الأحداث من المستقبل، عبر الحاضر، ونحو الماضي.

ربما يكون للخصائص الزمانية بعض السِّمات الغريبة. ذلك أنها فيما يبدو قادرة على أن تأتي وتذهب بتوليفات مختلفة. فما كان مستقبلًا ربما صار الآن ماضيًا. كسوف عام ٢٠٢٥ سيكون في المستقبل بينما أكتب هذه السطور، ولكنه في النهاية سيكون من الماضي. ربما أنت تقرأ هذا بعد حدوثه. هكذا يتبيَّن لي من موقعي في عام ٢٠١٢ أن لديه خصيصة أن يكون ماضيًا مستقبليًّا؛ أي أنه حدث في المستقبل سيصبح في النهاية ماضيًا (بحلول أكتوبر ٢٠٢٥، على سبيل المثال). وهناك أيضًا المستقبل الماضي. فبمنظور عام ١٨٦٠، كان اغتيال لنكولن في المستقبل، ولكنه لم يعُد كذلك. لم يعُد اغتياله من المستقبل منذ عام ١٨٦٥. هنا قد نتساءل كيف يمكن للأشياء أن يكون لها مثل هذه الخصائص، وما الذي يحدث عندما تتغير هذه الخصائص. هل يجوز أن يكون هناك الكثير من الأشياء الماثلة في مكان ما بخصيصة المستقبل، في انتظار أن تحصل على خصيصة الحاضر؟ هل هناك أشخاص مستقبليون يتوقون إلى أن يكونوا في الحاضر، يتساءلون في أنفسهم «متى يحين الحاضر؟»؟ وأين يذهبون عندما يحصلون على خصيصة الماضوية؟ هل لدى أي شيء حقًّا هذه الخصيصة، أم إن حسبها أنها تخرج من الوجود؟

لا يوجد زمن حاضر

هناك نظرية تقول إن الحاضر فقط هو الحقيقي؛ والتسمية الملائمة لها هي نظرية «الحاضرية». يمكن اعتبارها بمنزلة ردٍّ عن بعض الأسئلة التي طرحناها للتو. ذلك أنه أليس من العبث أن نقول إن هناك أشياء تحمل خصيصتَي المستقبل والماضي؟ يبدو أن الوجود شرط لحمل الخصائص، ولكن يمكن أن نجادل بأن الأشياء المستقبلية والماضية ليس لها وجود على الإطلاق. وُلد باراك أوباما عام ١٩٦١. أليس من التضليل أن نشير إلى أنه كان موجودًا في عام ١٩٥٩، غير أنه كان في ذلك الوقت يحمل خصيصة المستقبل؟ وكان يوليوس قيصر موجودًا فترةً من الزمن، ولكنه لم يعُد كذلك الآن. مرة أخرى سيكون من الخطأ القول بأنه موجود الآن ولكن بخصيصة الماضوية. من ثَم فإنه يبدو لدينا خيار أن نستغني عن الخصائص الزمانية الثلاث، ونستخدم مفهومًا بسيطًا للوجود عوضًا عنها؛ إذ نتصور أن الأشياء تدخله وتخرج منه. وحين تكون حاضرة، تكون حقيقية. بعدها، لا تكون كذلك.

يبدو هذا الرأي منطقيًّا، ولكن هناك بعض المسائل التي تتطلَّب تأملًا. أولًا، كم يستمر الحاضر؟ هل هو اليوم، أم هذه الدقيقة، أم ثانية واحدة فقط؟ في الساعة ٢٠:٥٠ مساءً، ستكون ظهيرة اليوم قد مضت بالتأكيد. بل، حتى الساعة ٢٠:٤٩ ستكون من الماضي، وكذلك الثانيتان الماضيتان. يبدو الحاضر مثل الوميض الخاطف. يمكننا انتظار وجوده، ولكنه سرعان ما يمضي. في الواقع، إذا كان ثمة وحدة صغرى للزمن — أشبه بجزء من جزء من الثانية؛ بحيث يمكن أن نسمِّيَها لحظةً — فلا يبدو أن الحاضر سيزيد أمده على تلك اللحظة. إذا أنكرنا هذا، وجادلنا، عوضًا عنه، بأن للحاضر مدةً زمنية معينة، فما المدة التي نخصِّصها له؟ دقيقتان؟ يبدو هذا الرقم اعتباطيًّا. ومع ذلك، إذا لم نجعل للحاضر امتدادًا زمنيًّا، فسيبدو أقرب إلى أن يضمحل ليصير عدمًا.

وها هي مشكلة ثانية تعترض نظرية الحاضرية. فقد شكَّكت نظرية النسبية في مفهوم الحاضر. ربما أعتقد أن الشمس ساطعة الآن، ومن ثَم يبدو أنها جزءٌ من الحاضر. ولكنه من المعلوم أيضًا أن ضوء الشمس يستغرق ٨ دقائق و١٩ ثانية للوصول إلى الأرض. دحضت الفيزياء التزامُن المطلَق، وقيل لنا إنه لا يمكن القول بتزامُن حدثَين منفصلَين مكانيًّا. قد تشاهد نجمَين يسقطان في مجرَّتَين بعيدتَين، وقد يبدو كأنهما يسقطان في الوقت نفسه. ولكن إذا كان أحدهما أقرب بكثير إلى منظارك من الآخر، فإن هذين الحدثَين ليسا متزامنَين تزامنًا حقيقيًّا على الإطلاق. إذن يبدو أن ثمة مشكلةً بشأن ما نعنيه بالضبط بالحاضر؛ حيث يبدو أنه دائمًا ما يكون نسبيًّا حسب موقعٍ ما أو وجهة نظر ما. يمكننا الاكتفاء بتفسيرٍ ذاتي محض للحاضر — وهو ما يبدو الآن، من وجهة نظر شخص معين — ولكن الكثير منَّا لا يريد أن تكون نظرياتنا الميتافيزيقية معتمدة بدرجة كبيرة على وجهة نظر فرد. إنما نفضِّل أن نشعر بأننا نتعامل مع حقائق موضوعية، وأبدية، وثابتة، لا تتأثر بمنظورنا البشري إلى الأمور.

وما دمنا ذكرنا ذلك، فثمة مشكلة أخرى تعترض نظرية الحاضرية. على الرغم من أن قيصر ليس على قيد الحياة، فهناك إحساس قوي بأنه جزء من الواقع، حتى في وقتنا الحالي. هناك حقائق عنه، منها قرارته السياسية الحاسمة، ولا بد أن هناك ما يجعل تلك الحقائق واقعية. إذا كان الحاضر وحده موجودًا، فما الذي يجعل الحرب العالمية الثانية، أو اغتيال لنكولن، أحداثًا واقعية؟ أليس من الحكمة القول بأن تلك الأحداث والأشياء الماضية جزءٌ من واقعنا، حتى لو لم تكن حاضرة؟ بناءً على الاعتبارات المذكورة أعلاه من نظرية النسبية، هناك بعض الحقائق الماضية التي لا يزال في مقدوري رؤيتها: منها على سبيل المثال، كيف كانت الشمس تبدو قبل ثماني دقائق. ما الذي قد يمنع شخصًا من إعادة كتابة التاريخ إذا كنا ننفي الواقعية عما حدث في الماضي؟

الحفظ في الماضي

من ثَم فلدينا رؤية تُعامِل الماضي والمستقبل كلًّا على نحوٍ مختلف. من المنطقي أن نرى فكرة مكوث الأشخاص المستقبليين في مكانٍ ما في انتظار أن يولدوا فكرة سخيفة. أما الماضي فأمره مختلف. فقد كان موجودًا. كان حاضرًا. ومن هذا المنطلق، لا بد أن يُعَد جزءًا من مجمل الواقع. من ثَم فإن كونه جزءًا من الواقع، دون أن يكون في الحاضر، ربما يفسر خاصية الماضوية.

كثيرًا ما تُشبَّه هذه النظرية بمكعب مُتنامي الحجم. من الممكن أن نتصور الحاضر كطبقة رقيقة أعلى مكعب صُلب كبير. وطَوال الوقت تُضاف الطبقات الجديدة إلى سطحه العلوي. يوليوس قيصر، وكل ما فعله، موجود في المكعب، في مكانٍ أعمق قليلًا. إننا حين نشير إلى ما هو موجود، ربما نقصد شيئَين. ما يوجد الآن لا يعدو السطح العلوي لمكعبنا، والذي يبقى في ذلك الموضع فترةً وجيزة فقط. ربما لا يشكِّل سوى بضعة جزيئات فقط من سُمك المكعب. لكن من الممكن كذلك أن نقصد بما هو موجود المكعب بأكمله، وهو مجمل الوجود من بدايته حتى الوقت الحاضر. والآن صار الماضي جزءًا من هذا. ولكن مع إضافة طبقاتٍ جديدة إلى الكتلة المتنامية، تتراجع الأحداث التي كانت حالية في السابق بعيدًا. يمكننا أن نقول إنها أصبحت محفوظة في الماضي، لمجرد بناء مستقبل جديد عليها.

إذن انتقلنا من رؤية تعطي الأولوية للحاضر، إلى واحدة تميز كلًّا من الحاضر والماضي، دون الاعتداد بالمستقبل. لا يزال يتعيَّن على هذا الرأي الثاني مواجهة مشكلة ما يُعَد حاضرًا، من ناحية قصره البالغ، ومشكلة التزامُن المطلَق. إلى حدٍّ ما، لا تزال قائمة لدينا مشكلة معاملة الحاضر والماضي كخصائص للأحداث أو الأشياء. لم تتخلص صورة المربع المتنامي إلا من خصيصة المستقبل.

قلت فيما سبق إن للزمن نموذجَين ناقشهما الفلاسفة. يحاول الأول شرح مرور الزمن من حيث أحداث وأشياء لديها خصيصة الحاضر، أو الماضي، أو ربما المستقبل. لكننا رأينا أن هذا يؤدي بنا إلى أشياء غير منطقية في كل حالة. ربما تتمثَّل المشكلة في أننا بدأنا بالبحث عن نظرية تليق بصورة مسبَّقة عن الزمن وهو يتدفق: ينساب مثل الماء في نهر. لكن هناك طريقة مختلفة لفهم التسلسُل الزمني. في هذه النظرية، لا يوجد خصيصة للحاضر، ولا الماضي، ولا المستقبل. بدلًا من ذلك، يمكننا فقط القول بأن الأحداث والأشياء في عالمنا تربطها علاقاتٌ منتظمة. إنها مترابطة زمنيًّا، وعلى هذا الأساس من الممكن ترتيبها في تسلسُل.

قبل، أو بعد، أو بالتزامن

العلاقات الأساسية التي يمكن بناء مثل هذا التسلسُل منها هي «أقدم من»، و«أحدث من»، و«متزامن مع». فميلاد أوباما أقدم من وفاته بالطبع، ولكنه كان أحدث من اغتيال لنكولن، الذي كان بدوره أقدم من اغتيال كينيدي. كما رأينا واجه مبدأ التزامُن اعتراضًا، لكنه ينطبق فقط على الأحداث التي تقع في أماكن مختلفة. من ثَم يجوز أن أقول شيئًا من قبيل: ميلاد أوباما كان متزامنًا مع أول نفَس يتنفَّسه، باعتبار أن هذَين الحدثَين وقعا في المكان نفسه.

يمكن رؤية سير الزمن أو مروره، في هذه النظرية، كمجازٍ خادع وُضع لاستيعاب علاقات «أقدم من» و«أحدث من» القائمة بين الأشياء والأحداث. ولا يوجد تغيير في الخصائص، من خصيصة الحاضر إلى خصيصة الماضي. تستمر العلاقات الزمنية بين الأحداث في هذا التسلسُل الجديد مع تغيُّر الأزمنة. أيًّا كان الزمن، يظل ميلاد أوباما أحدث من وفاة لنكولن. ولا شيء يتعيَّن عليه أن يمر من حالة إلى أخرى. ولا نحتاج إلى رؤية الزمن كشيء مادي، مثل وسيط تحدث فيه الأحداث. ومن ثَم ربما لا نحتاج إلى الانشغال بما إذا كان يمكن أن يكون هناك زمنٌ دون تغيير. حسبنا بدلًا من ذلك تصوُّر جميع أحداث العالم منتظِمة في ترتيب — أحداث تسبق أحداثًا — وبذلك يصير لدينا تسلسُل الزمن.

تأخذنا هذه الفكرة الأخيرة إلى عمق مسألة مهمة جدًّا؛ إذ نجد انقسامًا آخر بين الأفلاطونيين والأرسطيين. ظل الانقسام قابعًا في الخلفية طَوال هذا الفصل. هل نعامل الزمن كشيءٍ حقيقي موضوعي، له وجود مستقل، سواء جرت فيه أحداث أم لم تجرِ؟ أم نظن أن الزمن ليس سوى تسلسُل منظم للأحداث؟

في بداية الفصل، كدت أقترح أننا في حاجة إلى واقعية الزمن كخلفية يمكن أن تحدث أمامها التغييرات. أما الطريقة الأرسطية في تناوُلها الزمن فتبدأ بالتغيير — ربما كل تغييرات العالم — وترى الزمن كأنه بناءٌ مكوَّن منها. إذا كانت فكرة توقُّف كل شيء عن الحركة لمدة عام — ثم استكمال نشاطه من حيث توقف دون أن يلاحظ أحد — تبدو فكرة سخيفة، فقد تكون الرؤية الأرسطية أكثر جاذبية. سنقول في هذه الحالة إن الزمن بدأ مع الحدث الأول: ليكن الانفجار العظيم. ربما تكون فكرة وجود أي شيء «قبل الانفجار العظيم» سخيفة من وجهة نظر الأرسطيين، ولكن ليس بالضرورة من منظور الأفلاطونيين. بل ربما يرحب الآخرون بإجابة جادة عن سؤال «متى حدث الانفجار العظيم؟» كما لو كان هناك ساعة فلكية إلهية تحدِّد تاريخ كل شيء. أما الأرسطيون، فيرَون أن الحدث الأول هو اللحظة التي بدأت تدق فيها الساعة.

قد يميل البعض إلى الربط بين هذا الرأي الأرسطي وما يُسمَّى بنظرية الأبدية بشأن الأحداث والأشياء. لقد تناولنا نظريات تعتد بالحاضر، أو الحاضر والماضي، أما صاحب وجهة النظر الأبدية فيعتبر جميع الأحداث واقعية بالقدر نفسه، حتى لو كانت مستقبلية من منظور واحد. لا أعلم ما إذا كانت دورة الألعاب الأولمبية عام ٢٠٢٠ ستنجح أم لا، ولكن، إذا نجحت، فسيعتبرها أصحاب وجهة النظر الأبدية جزءًا من الواقع، مثلها مثل أي شيء آخر. قد يبدو هذا مربكًا. سنستعين بصورة المكعب مرة أخرى، ونقول إن أصحاب وجهة النظر الأبدية يتصورون الواقع مكعبًا ضخمًا يضم كلَّ ما كان وما سيكون. ونحن موجودون في مكان ما في المنتصف، وقادرون على النظر إلى الوراء لنرى ما حدث من قبل، ولكن ليس في مقدرونا رؤية ما هو أحدث من منظورنا. لكن كل شيء واقعي على حدٍّ سواء.

عندما نتأمَّل فيما هو موجود، نميل أحيانًا إلى تصوُّر الأمر بمنظورٍ ثلاثي الأبعاد فقط: الموجود في المكان كله. لكن أليس أجدر بنا أن نفكر على نحوٍ رباعي الأبعاد بدلًا من ذلك: فيما يوجد في مجمل المكان والزمان؟ ميلاد أوباما أقدم من وفاته. لكن لا يمكننا ادِّعاء هذا القول إذا لم يكن أحد هذَين الحدثَين واقعًا بعدُ (بينما أكتب كلامي هذا في عام ٢٠١٢). لماذا أقول ذلك؟ الفكرة هي أن العلاقة لا تكون واقعية إلا إذا كانت مترابطاتها — الأشياء التي تربطها — واقعية. لا يمكن أن يكون لميلاد أوباما علاقة بشيء غير موجود. من ثَم لا بد أن نُقرَّ بواقعية وفاة أوباما، وإن كنا بالطبع نتمنى له طول العمر.

ربما يبدو هذا التفسير جذابًا؛ إذ يخلِّصنا من فكرة تصوُّر الزمن وسيطًا جاريًا. لكن قد يكون ثمة قلق أيضًا من إغفاله شيئًا جوهريًّا عن الزمن. بالتأكيد يبدو أن للحاضر سِمة مميزة. فربما نعتبر جميع الأزمنة على القدر نفسه من الواقعية ما دامت كلها موجودة، ولكن ألا يجوز أيضًا أن نجادل بأن الحاضر لديه شيء ليس لدى الماضي ولا المستقبل؟ ما ذلك الشيء؟ حسنًا، إنه ما يحدث الآن، في مكانٍ واحد، ومن وجهة نظر ما على أقل تقدير. وهل لدى رؤية الزمن كمجرد ترتيبٍ نسبي للأحداث ما يجعلها قادرة على شرح أي زمن من أزمنة الحاضر؟

ثمة قضية أخرى من قضايا فلسفة الزمن تستحق أن نذكرها. ألَا وهي مسألة تضاريسه. فأحيانًا ما نتصوَّر الزمن كخطٍّ واحد مستقيم. لديه بداية، ومسار يسير فيه، ونهاية. ولكنَّ هناك طُرقًا أخرى لتصوُّره. ربما يستمر الخط إلى ما لا نهاية. ربما ليس الزمن بالمورد المحدود. بل ربما يسير إلى ما لا نهاية في كلا الاتجاهين. من ناحية أخرى، ربما تتشعَّب منه فروع في مسيرته. قد يكون هناك خطَّان زمنيَّان منفصلان متفرعان من مصدر واحد، نتيجة لاختلافٍ كبير ما. ثمة فكرة أكثر تطرفًا، وهي القول بأن الزمن يدور في دائرة. ما الذي بعث على الحدث الأول في تاريخ الكون؟ ربما كان آخر لحظة في تاريخ الكون. لا تزال هذه المناقشات قائمة، وربما يستطيع القارئ أن يرى كيف أن مواقفنا من بعض القضايا التي ناقشناها سابقًا يمكن أن تؤثر في آرائنا في هذه الخيارات الأخيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥