ما هو الشخص؟
كانت بعض الأمثلة على الجزئيات المذكورة في الفصل الأول أشياء مثل الطاولات والكراسي. وهي جماد وليس بها روح. من ناحية أخرى، تشمل الجزئيات كذلك الحيوانات، مثل القطط والكلاب. لكن الناس أيضًا جزئيات، ومن الممكن القول بأنها ذات ميزة خاصة. فللناس أهمية بالغة لدينا. هل لمكانتهم الخاصة أسس ميتافيزيقية؟ لديهم عقول، وحسبما يعتقد البعض، لديهم أنفس أو أرواح. من ثَم فإن ما يجعل شخصًا ما باقيًا عبر الزمن ربما يكون مختلفًا عما يجعل كائنًا ماديًّا بحتًا مثل الطاولة باقيًا.
لا أقصد ﺑ «شخص» كائنًا بشريًّا بالضرورة. جميع الأشخاص الذين أعرفهم هم بشر غالبًا، لكنه يبدو ممكنًا، ولو من باب التصوُّر، أن يكون هناك شخص غير بشري. لقد تصوَّر الفيلسوف جون لوك هذا («مقال في الفهم البشري»، ١٦٩٠)، مشيرًا إلى أن أي حيوان ذكي بالقدر المناسب يجوز اعتباره شخصًا من حيث المبدأ. ومن ناحية أخرى، يجوز ألَّا نعتبر واحدًا من البشر شخصًا. ربما يكون الرأي الأخير مثيرًا للجدل لأن نفي منزلة الشخص عن إنسانٍ يبدو من أسوأ الأشياء التي يمكننا فعلها به. ومع ذلك، فما زال التساؤل قائمًا عما إذا كان البشر المصابون بحالات الخمول الممتدة يجوز اعتبارهم أشخاصًا.
إذن، ما الذي قد يجعل شيئًا ما محسوبًا في عداد الأشخاص؟ يذكر لوك الذكاء، وبوجه عام، يجوز أن نعتقد أن الشخص شيء يفكر، قادر على الإحساس: يختبر الأفكار والأحاسيس. ربما يكون لديه ذاكرة، ومعتقدات، وآمال، وعواطف. الأشخاص قادرون كذلك على أداء الأفعال، وهذا يجعلهم فاعلين أخلاقيين، مسئولين عما يفعلونه. إذا كانت الحيوانات قادرة على أيٍّ من هذه الأشياء، أو حتى إذا كانت أجهزة الكمبيوتر قادرة على ذلك، فلنا إذن أن نعتقد أنها جديرة بأن نعدَّها في منزلة الأشخاص.
شكرًا للذكريات
لأن هذا على ما يبدو هو ما يجعل شيئًا ما شخصًا، ثمة تبعة مهمة جدًّا، رآها لوك. رغم اعتقادنا أن الطاولة تستمر عبر الزمن لاحتوائها على الأجزاء المادية نفسها، فليس هذا ما نعتقده بخصوص الأشخاص. ولدينا هنا بعض القضايا الصعبة. كما رأينا في الفصل الرابع، يمكن أن يبقى الجوهر بالفعل رغم أن تغييرًا جرى في بعض أجزائه. إنك حين تستبدل شمعات الإشعال في محرك سيارتك، فإنها تظل السيارة نفسها. وفي حالة الكائنات الحية، نعلم أن الجسم يتجدد باستمرار: يتخلص من الجلد الميت القديم، ويستبدل به جلدًا جديدًا. ولكنها تظل السِّمات المادية في هذه الحالات هي ما نستخدمه لتحديد هُوية شيء، وإعادة تحديدها على مَر الزمن. اعتقد لوك أن الذاكرة في حالة الأشخاص، أو الاستمرارية النفسية، هي مفتاح بقاء الشخص. بما أن جسدي تجدد على الأرجح عدة مرات منذ أن كنت طفلًا مشاكسًا في المدرسة، فإن ما يجعلني وذلك الطفل المشاكس الشخص نفسه هو أنني أتذكر أنني كنت هو.
لكننا لسنا في حاجة إلى حصر نفسيتنا في ذاكرتنا. فقد نسيت معظم الأشياء التي فعلتها وأنا صغير رغم كل شيء. ولكنني ما زلت أشارك ذلك الطفل الصغير بعضَ المعتقدات نفسها، وبعض الآمال نفسها، وبعض العيوب النفسية والمخاوف نفسها. ليست كل الأشياء واحدة. فقد كان ذلك الطفل يعتقد أن سانتا كلوز موجود، أما أنا فلا. ولكن هذه التغييرات بيني وبينه حدثت تدريجيًّا، شيئًا فشيئًا، مما يعني أنه كان هناك بعض الاستمرارية خلال التغييرات. يبدو أن علينا أن نضع في اعتبارنا هذا النوع من المرونة.
ما سأطرحه الآن هو شيء محتمَل. لا أتذكر شيئًا عن كوني ذلك الطفل الصغير الذي عاد إلى المنزل من المدرسة ركضًا ذات يوم (على الرغم من أن أمي قد حكت لي القصة كثيرًا). ولكنني أتذكر أنني كنت الشخص الذي تخرَّج بتفوق في كلية التقنيات المتعددة بجامعة هادرزفيلد؛ لذا فإنني متطابق معه وفقًا لوجهة نظر لوك. ولكن المشكلة، كما أعتقد، هي أن الشاب الذي تخرج كان آنذاك يتذكر أنه كان الطفل الذي ركض إلى المنزل من المدرسة. من ثَم فإن الخريج الشاب متطابق مع الطفل الصغير، بينما أنا، لأنني لا أتذكر أنني ركضت إلى المنزل من المدرسة، لستُ كذلك. لكنني متطابق مع الخريج. الذاكرة تضعف مع مرور الوقت؛ لذا علينا أن نضع في اعتبارنا التغيير التدريجي والاستمرارية. أعطانا فيتجنشتاين صورة جميلة لنتأمَّلها هنا. فقد قال إن الخيوط التي يتكوَّن منها الحبل يمتد كلٌّ منها بدرجة معينة خلاله. لا خيط منها يمتد من البداية إلى النهاية. ولكن من خلال سلسلة من الأجزاء المتداخلة، يُتاح للحبل الامتداد من طرف إلى الطرف الآخر. لا بد أن استمراريتنا النفسية مشابِهة لذلك.
الفكرة القائلة بأن عقولنا هي التي تجعلنا ما نحن عليه أغْرَت البعض لطرح ادِّعاء أقوى من ذلك. كان ديكارت يعتقد أننا مكوَّنون من جزأين: أجساد وعقول («تأملات في الفلسفة الأولى»، ١٦٤١). واعتقد أن العقل هو أهم ما لدينا. فنحن في الأساس أشياء تفكر. إننا نتجسَّد في كائناتٍ فانية فترةً من الزمن، ولكن من الممكن لنا أن نبقى بعد موت أجسادنا، حسبما اعتقد ديكارت. في إمكان عقولنا أن تعيش بعد الموت، أرواحًا خالدة. هذا ادِّعاء ميتافيزيقي بدرجة كبيرة، لكنه قد يكون شائعًا، لا سيما بين المتدينين. ربما يكون هذا واحدًا من أكثر المعتقدات الميتافيزيقية شيوعًا، إلى جانب الإيمان بوجود الله، مما يبيِّن أن بيننا ميتافيزيقيين أكثر مما نعتقد.
غير أن الفلاسفة شأنهم دائمًا تعكير الصفو. فهم يوجِّهون نظرتهم المتشككة والمتسائلة نحو الكثير من المعتقدات الباعثة على الطمأنينة. وهناك، على أقل تقدير، همَّان يحاولون إثارتهما لدى مَن يؤمنون بالأرواح. الأول بشأن ما الذي قد يُعَد جوهرًا روحيًّا. والثاني هو كيف يمكن لجوهر روحي أن يتفاعل مع جوهر مادي، كما يُفترض أن يحدث عندما يتَّحد العقل والجسد خلال الفترة العادية من حياة الإنسان.
اعتقد ديكارت أن جوهر المادة — واستخدم لها مصطلحَ الجسد — هو الامتداد. فقد رأى أن الأشياء المادية — الأجزاء المادية من المادة — ممتدة في المكان. لديها أبعاد: الارتفاع، والطول، والعرض. كذلك يمكننا أن نضيف أن لها موقعًا في المكان أيضًا، وإن كان ذلك قد يرتبط بأشياء أخرى فقط. غير أن الامتداد ليس كافيًا. يبدو أن ديكارت كان مخطئًا في هذا الأمر؛ لأن حجمًا ما من الفضاء الفارغ يمكن أن يكون له امتداد. فلديَّ في وسط غرفتي مساحة فارغة، على سبيل المثال، تبلغ مترًا مكعبًا. رغم أنها ليست شيئًا ماديًّا، فلديها امتداد. ما نحتاج إليه هو أن تكون المنطقة الممتدة من المكان مشغولة. ولكن مشغولة بماذا؟ شيء مادي؟ سيكون ذلك دورانًا في حلقة مفرغة. إننا نحاول تحديد ماهية الشيء المادي. وهنا طُرح مفهوم عدم قابلية الاختراق، أو الصلابة. جوهر المادة أن تكون ممتدة وغير قابلة للاختراق. من المرجح أننا سنُضطر إلى تعقيد الأمر كثيرًا عند تناول الغازات والسوائل، فهي أشياء مادية، ولكن ليست صُلبة كما نتصورها عادةً. ولكن دعنا نركز على الفكرة الأساسية.
على النقيض من ذلك، الجوهر الروحي ليس ممتدًّا في المكان، ولا له موقع، ولا غير قابل للاختراق. تلك كلها صفات مادية. ليس من المفترَض أن يكون للجوهر الروحي وجودٌ في المكان على الإطلاق، وإن كان بعض الناس يعتقدون أنَّ له وجودًا في الزمان. أحيانًا ما تظهر الأشباح في الأفلام في صورة كائنات شِبه شفافة، إشارةً إلى أنها ليست ماديةً تمامًا. ويمكنها أن تمرَّ من خلال الجدران، دلالةً على أنها ليست صُلبة. لكن هل يُفترض تصوُّر أن لها وجودًا في المكان أساسًا؟
اعتقد ديكارت أن جوهر العقل هو الفكر. عقل الإنسان هو كيان مفكِّر، وهذا الكيان المفكر يُفترَض أن يظل على قيد الحياة، من بعد زوال الجسد. يبدو أن الأفكار أيضًا لا تحتاج إلى خصائص مكانية، وهذا ما يسمح لنا بتصوُّرها من دون جسم. فلتفترض أنك تعتقد أن اليوم هو الثلاثاء، وأنك تود كذلك امتلاك لوحة أصلية لسلفادور دالي. هل تقع رغبتك في امتلاك لوحة دالي على يسار أو يمين اعتقادك أن اليوم هو الثلاثاء؟ ربما لا يوجد جوابٌ منطقي لأن الأفكار ليس لها موقع.
وبذلك يكون لدينا تساؤل عما إذا كنا نعيش في عالمٍ يحتوي على نوعَين متمايزَين من الجواهر هما العقلي والمادي، وهو سؤال ميتافيزيقي نموذجي. من السُّبل لإنكار هذه الثنائية القول بأننا نستطيع تفسير كل شيء عن طريق نوعٍ واحدٍ فقط من الجواهر. يعتقد الماديون أن كل الأشياء العقلية يمكن اختزالها في الأشياء المادية. ويعتقد المثاليُّون أن كل الأشياء المادية يمكن اختزالها في الأشياء العقلية. بناءً على هذَين الرأيَين، كل ما يتعلق بأحدهما يمكن تفسيره عن طريق الآخر. لكن لنفترض أن هناك مَن يصرُّ أن كليهما موجود: المادي وغير المادي. عندئذٍ سيكون لدينا مشكلة أخرى بشأن كيفية تفاعل الاثنين.
عندما تُحركك الروح
بصفتنا كائناتٍ مفكِّرة متجسِّدة ماديًّا، يبدو واضحًا أن عقلنا وجسدنا يتفاعلان سببيًّا. فالقرارات التي يتخذها عقلنا تؤثر فيما يفعله جسدنا، وما يأتيه من تصرفات. فقرار الركض للحاق بالحافلة يجعل ساقَيك تتحركان. وتذكُّر موقف محرج يجعلك تحمرُّ خجلًا. كذلك ما يحدث لجسدك يؤثر في ذهنك. فإذا أُصيب جسدك، شعرت بالألم. وإذا كان جسدك متعبًا، فإن التفكير يصبح صعبًا ومضطربًا. والمؤثرات الحسِّيَّة التي تستقبلها حواس جسدك تجعلك تدرك العالم من حولك. يعتقد المؤمنون بالنظرية الثنائية أن أفكارنا وأحاسيسنا وإدراكاتنا تقع كلها في نطاق العقل. ليس على المؤمنين بنظرية الثنائية التسليم بأن العقل والجسد يتفاعلان، ولكن في حال أنكروا ذلك، سيكون عليهم تقديم تفسير.
من ثَم فإن السؤال الصعب الذي قد يُضطر المؤمنون بنظرية الثنائية إلى مواجهته، هو كيف يستطيع العقل والجسد التأثير بعضهما في بعض، ما داما شيئَين مختلفين تمامًا؟ تشير المواصفات المذكورة أعلاه لما هو عقلي وما هو جسدي إلى أنهما من طبيعة مختلفة جدًّا إلى درجة أن وجود العلاقة السببية بينهما يبدو مستبعَدًا. عندما يتسبَّب شيء مادي في شيء مادي آخر، كأن يتسبَّب الركل في حركة الكرة، فإن ما يحدث هو دفع شيء لشيء آخر. هناك حركة أو زخم ينتقل من الركلة إلى الكرة. إننا نتصور السببية عملية مادية. ولكن الأشياء العقلية أو الروحية ليس لها موقع في المكان، ولا امتداد، ولا صلابة. كيف إذن لحركة شيء صُلب أن تؤثر فيها؟ أين عساها تُجري مثل هذه العملية؟ ما الذي قد يمنع مرور الحركة المادية من خلال الجوهر العقلي دون التأثير فيه، مثل تلك الأشباح في الأفلام؟
هذه هي مشكلة التفاعل بين العقل والجسد، وهي عسيرة إلى درجة أن بعضًا من المؤمنين بنظرية الثنائية كانوا على استعداد للقول بأن العقل وجسده لا يتفاعلان، خلافًا لما يبدو. كذلك يجوز الرد على المشكلة بالقول إننا في حاجة إلى مفهومٍ مختلف للسببية من أجل شرح التفاعل. لأننا إذا اقتصرنا مفهوم السببية على السببية المادية، فبالطبع سيتعذَّر تطبيقها على الجواهر الروحية.
لكن هناك بعض الأشخاص الذين اعتبروا هذه المشكلة مستعصيةً على الحل. لقد ذكرت أن من بين النظريات ما تفسر كل ما يتعلق بالعقل عن طريق الجسد. فربما العقل ليس سوى عمليات دماغية. وليس هذا اختزالًا بالضرورة للجانب العقلي في الجانب الجسدي: مثل الادِّعاء بأن الألم هو مجرد نوعٍ معين من عمليات الدماغ، أو أن الاعتقاد بأن اليوم هو الثلاثاء هو نمط معين من الرسائل العصبية. إن إمكان تفسير تعقيدات العقل عن طريق أنواعٍ بسيطة من العمليات المادية أمرٌ مستبعَد. ولكن الماديِّين سيقولون إن ثمة تفسيرًا للعقل في نهاية المطاف، وإن كانت التفاصيل بالغة التعقيد. هنا، قد نتذكر الموضوعات التي ناقشناها في الفصل الثالث. هل الوعي مجرد نتاج لأجزاءٍ مادية مرتبة ترتيبًا مناسبًا، أم إنه ينطوي على شيء آخر: شيء منبثق؟
بدلًا من تكرار النقاش نفسه مرة أخرى، لدينا شيء آخر لا بد من تناوله بشأن الأشخاص. اعتقد لوك أنه لاعتبار المرء شخصًا لا بد أن يكون لديه حياة ذهنية متطورة بما فيه الكفاية، قادرة على خوض المشاعر، والتفكير، والتصرف. ولا يعنينا ما إذا كان هذا قابلًا للتفسير على نحوٍ مادي في نهاية المطاف. وإنما لا بد أن ننظر مرة أخرى في الرأي القائل بأن الاستمرارية النفسية هي التي تجعل شخصًا ما هو الشخص نفسه الذي كان في الماضي. إنها المشكلة التي تعرَّضنا لها في الفصل الأول بشأن الهُوية العددية. في هذه الحالة، إنها ما يجعل شخصًا ما في وقتٍ ما هو الشخص نفسه لاحقًا.
لا يمكن لواحدٍ أن يكون اثنين
الاستمرارية النفسية فكرة حسنة، لكن تعترضها مشكلة أن العلاقة فيها ليست بالضرورة علاقة تطابق، في حين أنها كذلك في حالة الهُوية، بما في ذلك الهُوية الشخصية، على ما نعتقد. المقصود بذلك إمكانية أن يكون شخص في عام ٢٠١٢ متطابقًا مع شخص واحد على الأكثر في عام ٢٠٠٢ (إذا كان قد وُلد بحلول ذلك الوقت). بالمثل، أن يكون الشخص في عام ٢٠١٢ متطابقًا مع شخصٍ واحد على الأكثر في عام ٢٠٢٢ (على أن يعيش حتى ذلك الوقت). المغزى أن يكون هناك لأي شخص في أي وقت، شخص واحد على الأكثر متطابقًا معه في أي وقت آخر.
لكننا نرى احتمال أن يكون لشخصٍ ما في وقتٍ معين استمرارية نفسية مع عددٍ من الأشخاص في أوقات أخرى. كيف ذلك؟ إليك مثالًا. في حلقة قديمة من مسلسل «رحلة النجوم» (ستار تريك) الأصلي في ستينيات القرن العشرين، بعنوان «العدو الداخلي»، ينقسم الكابتن كيرك إلى اثنَين بسبب عُطل في جهاز النقل. وهو ما نتج عنه شخصيتان «جديدتان» لكيرك، يتذكر كلاهما التخرج في أكاديمية ستارفليت. وكلاهما يتذكر أنه طلب من سكوتي أن ينقله. بطريقة ما، نسخ جهاز النقل كيرك بكل تفاصيله الجسدية والنفسية. إنها قصة من قصص الخيال العلمي بالطبع، ولكنها تبدو احتمالًا منطقيًّا. فكل ما يأبه له الفلاسفة هو أنه ممكن. في قصة «رحلة النجوم»، نرى الشخصيتَين اللتَين انقسم إليهما كيرك مختلفتَين بعض الشيء. فإحداهما في غاية الشر والعدوانية، والأخرى في غاية اللطف والتردد. لكنَّ كلتيهما يشبه كيرك الأصلي، ولنا أن نتخيل سيناريو آخر حيث تكون الشخصيتان الجديدتان متطابقتين. قرب نهاية الحلقة، يتشاجر الاثنان ويتجادلان، فيقول أحدهما: «أنا كيرك!» ويرد الآخر «لا، أنا كيرك»، وما إلى ذلك.
هذا يضع نظرية الاستمرارية النفسية للهُوية الشخصية في مشكلة. يبدو أن كلا الشخصيتين الجديدتين ليست شخصيته القديمة، لأنهما اثنتان وهو واحد فقط. وتقتضي الهُوية التطابُق بين اثنين. ومع ذلك، لنفترض أنه بعد عودة كيرك الأول، كما كان من قبل، رأى سكوتي جهاز النقل المعطَّل وهو على وشْك خلق كيرك آخر. وحينما أدرك سكوتي أن وجود شخصيتَين من كيرك معناه انتهاء كيرك الأصلي من الوجود في الواقع، قرر تدمير كيرك الثاني قبل اكتمال عملية تركيبه.
في هذه القصة الثانية، يبدو أن كيرك الناتج عن جهاز النقل هو كيرك الأصلي. فلديه استمرارية نفسية متطابقة مع الأصلي، وهو واحد فقط. ولا يوجد شخص آخر ليتنازع معه على هُوية كيرك. لكن لماذا ينبغي أن يعنينا كثيرًا ما إذا كان هناك شخص آخر؟ هل يجوز أن نعتقد أن الهُوية لا بد أن تكون مسألة جوهرية خاصة بالفرد (الأفراد) المعنيِّين؟ هل يجب حقًّا أن تعتمد على ما إذا كان شخص آخر موجودًا؟ إنني متأكد تمامًا أنني الشخص نفسه الذي تخرج في جامعتي شابًّا. رغم ذلك، فإنني لا أستطيع استبعاد احتمال : احتمال أن عالِمًا مجنونًا اقتحم غرفة نومي الليلة الماضية ومعه جهاز مسح ضوئي للدماغ والجسم بالكامل وصنع نسخة مني في مكان آخر هذا الصباح. ما دمت لا أعلم يقينًا ما إذا كانت مثل هذه النسخة المكررة موجودة في مكان آخر، فلا يمكنني أن أعرف يقينًا ما إذا كنت فعلًا الشخص نفسه الذي تخرج في هادرزفيلد عام ١٩٨٩.

هل العقل هو الأهم؟
حتى هذا الحد، كنتُ على استعداد لاعتماد فكرة أن الاستمرارية النفسية هي الأهم، اتِّباعًا لفكرة لوك الأصلية. ولكن هل في مقدورنا حقًّا الوثوق بتلك النظرية؟ لو حدث وأقدم العالِم المجنون على خلق نسخة منك، ألن يمكنك ادِّعاء أنك الأصلي رغم ذلك، حتى لو كانت النسخة قد استنسخت عقلك بالكامل؟ إليك الطريقة التي يمكن أن تدلِّل بها على ذلك. وهي القول بأنك أنت الحقيقي لأنك الكائن الأصلي. بالإضافة إلى الاستمرارية النفسية مع الأصلي، يمكنك أيضًا الإشارة إلى الاستمرارية الجسدية. لقد استيقظت في الفراش نفسه الذي أويت إليه الليلة الماضية، ولم تغادره خلال ذلك. هناك خط متصل في الزمان والمكان بينك الآن وبين ما كنته طَوال الماضي. أما منتحل شخصيتك فليس لديه مثل هذا الخط. إنما صُنع في مختبرٍ رديء في الجانب الآخر من المدينة، بعيدًا عن مكانك بأكثر من خمسة أميال. ربما يعتقد المسكين أنه أنت، ولكنه ليس كذلك. إنه، أو إنها، يستحق الرثاء.
إليك اعتبارًا آخر لصالح هذا الرأي. فلنفترض أن هناك مؤرخًا أمريكيًّا قرأ كل المعلومات المتوفرة عن جيه إف كينيدي. لنفترض أنه صار أعلم الخبراء. ولكنه ظل يعمل بجِدٍّ شديد في مسيرته الأكاديمية حتى إنه أُصيب بانهيارٍ عصبي تام. وراح يعتقد أنه جيه إف كينيدي، وأنه استفاق لتوِّه بعد غيبوبة بدأت في نوفمبر ١٩٦٣. ولأنه يعرف الكثير عن حياة كينيدي، فهو يستطيع إخبارك بكل كبيرة وصغيرة «عنه». وهو يحكي كل شيء بضمير المتحدث. ويتذكر، متوهمًا، أنه كان رئيسًا خلال كارثة خليج الخنازير وأزمة الصواريخ الكوبية.
هذا يدل على أن معيار الذاكرة الذي حدَّده لوك للهُوية الشخصية ليس كافيًا. هناك فَرق بين الذكريات الحقيقية والزائفة؛ حيث الذكريات الزائفة وهمية أيًّا كان السبب. أحيانًا ما يسمع الناس قصصًا ما مرارًا وتَكرارًا حتى يأخذهم الظن أنهم شاهدوها بأنفسهم، وهو ما لم يحدث. فإن الذاكرة المزعومة ليست كافية.
ما دمنا افترضنا أن رواية الذكريات بضمير المتحدث ليست كافية لنحسبها حقيقيةً — أو ربما ليست كافية لاحتسابها ذكريات، وليس مجرد ذكريات وهمية — فلا بد أن يكون هناك أساس آخر نستند إليه للتمييز بين الذكريات الحقيقية والزائفة. وما المعيار الأفضل من الاستمرارية المادية للجسم في الزمان والمكان؟ لنقُل بذلك إن مؤرخنا ليس كينيدي لأنه ليس لديه استمرارية جسدية مع كينيدي. لا يزال جثمان كينيدي راقدًا في مقبرة أرلينجتون بولاية فيرجينيا. أما المؤرخ فلم يذهب حتى إلى أرلينجتون قَط. بل في أثناء مقتل كينيدي في دالاس، كان مؤرخنا صبيًّا صغيرًا في نيويورك، وهكذا.
إذا أخذنا بمعيارٍ جسدي للهُوية الشخصية، فمن الممكن أن نتحرر بذلك من بعض الحالات الإشكالية التي طُرحت. لكن ليس كلها. في حالة النقل الآني في «رحلة النجوم»، قد تكون كلتا الشخصيتين اللتين انقسم إليهما كيرك الأصلي متساويتين معه في الاستمرارية الجسدية والعقلية والنفسية. يبدو أنه من الممكن نظريًّا أن ينقسم الشخص، مثل الأميبا، جسدًا وروحًا. ربما لا يسَعنا في مثل هذه الحالات سوى أن نُقرَّ بضياع الهُوية.
إذن ما هو الشخص؟ ستتوقف إجابتك أولًا على ما إذا كنتَ تعتقد أننا أرواح أم لا. إذا كنا مرتبطين رباطًا لا ينفصم بالجسم، فستبدو العوامل النفسية والجسدية حاسمة في تحديد ما نحن عليه في وقتٍ ما، وعلى مَر الزمن كذلك. لكن ربما ليست هذه الاستمرارية كافية لتحديد الهُوية الشخصية في كل الحالات.