الفصل الثامن

ما هو الممكن؟

من أشهر العبارات في تاريخ السينما، عبارة مارلون براندو في فيلمٍ عام ١٩٥٤، «في الواجهة البحرية» (أون ذا ووتر فرونت)؛ إذ قال: «كان من الممكن أن أصير من أبطال الملاكمة.» هل كان ممكنًا حقًّا؟ إننا نُقرُّ بإمكان الكثير من الأشياء، ولو لم تحدث في الواقع. من الأمثلة لذلك القول بأنه كان من الممكن أن تتأخر عن موعدك لو كان هناك حادث في الطريق؛ وكان من الممكن أن يصير مايكل فوت رئيس وزراء؛ وكان من الممكن أن يُفكَّك برج إيفل عام ١٩٠٩، وكان من الممكن أن يكون ارتفاعه ٣٥٠ مترًا، بدلًا من ارتفاعه الفعلي. لكننا نُقرُّ أيضًا بعدم إمكانية الكثير من الأشياء. فليس من الممكن القفز إلى القمر؛ ولا من الممكن تحويل الرصاص إلى ذهب؛ ولا يمكن للفهد أن يتحوَّل إلى دجاجة؛ وغيرها أمثلة كثيرة. وهناك أشياء لا نعلم ما إذا كانت ممكنة أو غير ممكنة؛ فالاحتمالان واردان. على سبيل المثال، نبحث عن علاج للسرطان، ولا نعلم بعدُ ما إذا كان ثَمة علاج ممكن، ولكننا نأمل في ذلك. من كان يتصوَّر حين عُثر على النفط الأسود اللزج في الأرض أول مرة أنه سيجعل تسيير السيارات ممكنًا؟ هكذا غالبًا ما يكون تقدُّم العلوم والتكنولوجيا من خلال اكتشاف إمكانات كانت غير معروفة فيما سبق داخل الأشياء.

ما هذه الإمكانات؟ هل هي جزء من الواقع الذي أخذنا نصنِّفه؟ لقد وجدنا الجزئيات، وخصائصها، والتغييرات، والعِلل، فماذا عن الإمكانات؟ هل هي أشياء؟ هل لها أي نوع من الوجود؟ أم إنها مجرد خيال: أشياء يمكننا تصوُّرها، ولكنها ليست بحق جزءًا من العناصر الواقعية للعالم؟

قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، نحتاج إلى توضيح. الإمكانات التي نناقشها هنا هي تلك الممكِنة، دون أن تكون واقعًا. من الضروري قول هذا حتى لا تكون الإجابة عن سؤالنا تافهة. كلُّ ما هو واقع هو بالطبع ممكن: وإلا فكيف له أن يكون واقعًا؟ إذن هذه الإمكانات واقعية بما فيه الكفاية. لا خلاف على ذلك. كون لندن هي عاصمة إنجلترا هو أمر ممكن وفعلي، ومن ثَم فهو جزء من الواقع بالطبع. كون وينشستر كانت العاصمة حتى عام ١٠٦٦ قد يكون جزءًا من الواقع حسب رؤيتك لحقائق الماضي (انظر الفصل السادس). ولكن تنشأ بعض الأسئلة الميتافيزيقية المثيرة للاهتمام عندما ننظر في تلك الإمكانات التي ليست فعلية أيضًا. يمكننا تمييز هذه الإمكانات غير الفعلية بأن نسمِّيَها «محض» احتمالات. نجاة لنكولن من الاغتيال عام ١٨٦٥ هو محض إمكانية، كذلك أن يتولَّى وين روني رئاسة الوزراء خلفًا لديفيد كاميرون، وأن تكون بيستون العاصمة الحالية لإنجلترا. لكنك قد تسأم من استخدامي لكلمة «محض»؛ لذلك سأكتفي الآن فقط بالقول إنني حين أناقش الإمكانات، أقصد تلك غير الفعلية.

كان من الممكن، كان سيصبح، كان يجب أن يكون

إذن السؤال الرئيسي هو ما إذا كانت هذه الأشياء واقعًا أم لا. من الواضح أنها، نوعًا ما، ليست كذلك. إذا رأيتَ لافتةً على الطريق تقول «من الممكن أن تجد الطريق مزدحمًا»، وأنت تعلم أنه محض ازدحام محتمَل، فليس لديك ما تخشاه؛ لأن الازدحام الفعلي فقط هو الذي يمكن أن يعطلك. واحتمال أن بيستون كان من الممكن أن تكون العاصمة الآن لا يهم على الإطلاق. وعلى الرغم من أن برج إيفل كان من الممكن أن يكون بارتفاع ٣٥٠ مترًا، فهذا لا يعني المنطاد الذي يمر فوقه في شيء، إنما يعني ارتفاعه الفعلي.

من ناحية أخرى، يبدو من الحماقة أن نتجاهل الإمكانات التي يمكن أن تصبح واقعًا. هناك إمكانية أن تُصاب بسرطان الجلد إذا بقيتَ في الشمس بانتظامٍ فترةً طويلة، وإمكانية أن تُصاب بسرطان الرئة إذا كنت تدخن. لا شك أنه ينبغي ألَّا نتجاهل هذه الإمكانات. وعندما يكون الزجاج هشًّا، فمن الممكن أن ينكسر بسهولة إلى حدٍّ ما. لا بد أن يُمليَ عليك هذا كيف تتعامل معه، ما دمتَ لا تريد كسره. وفي كل مرة تقود سيارة على الطريق السريع، ما لم تكن حذرًا، سينتظرك عدد لا يُحصى من الحوادث المحتمَلة. وعليك توخي بالغ الحذر لتجنُّب حدوثها في الواقع. حقًّا يبدو أن الإمكانات التي تحيط بنا تشكِّل طريقة تفاعلنا مع العالم، وعلى هذا الأساس، يبدو أن لها شيئًا من الواقعية.

إذن، ربما هناك نوعان من الإمكانات. يبدو أن إمكانية أن يكون ارتفاع برج إيفل ٣٥٠ مترًا — أو حتى ٤٥٠ مترًا — غير ذات أهمية فعليَّة. وحده ارتفاعه الفعلي يؤثر في الطريقة التي يجب أن نتصرف تجاهها: إذا كنا نريد المرور فوقه بمنطاد، على سبيل المثال. ولكن هناك إمكانات أخرى لها تبعات، يمكن أن يجرَّها علينا سلوكنا بسهولة. وعلى الرغم من أننا نريد تجنُّب حوادث السيارات التي تجرُّها علينا الرعونة، فهناك العديد من الإمكانات الأخرى التي نهدف إلى تحقيقها. منها إمكانات الثراء، أو الثقافة، أو التفوق الرياضي، والعديد من الناس يسعَون لتحقيق هذه الأشياء.

لقد صادفنا فعلًا (في الفصل الخامس) فكرة يجدها الكثيرون مفيدةً في فهم ماهية الإمكانات. عندما تناولنا السببية، رأينا النظرية التي تقول إن ثمة عالَمًا آخر ممكنًا؛ حيث لا يقع الحدث الذي وقع في عالَمنا. لكن مفهوم العالم الممكن له استخدام أوسع من مجرد توضيح السببية. هناك كذلك افتراض بأننا حين نتصور إمكانية ما، نتصور شيئًا يحدث في عالم آخر أو واقعًا فيه. ومن ثَم، هناك عالم آخر كان فيه مايكل فوت رئيس وزراء، وعالم آخر، ليس بالضرورة أن يكون العالم نفسه، حيث يبلغ ارتفاع برج إيفل ٣٥٠ مترًا. وفي عالم آخر، نجا لنكولن من الاغتيال، ومات من الشيخوخة. بناءً على هذا التصوُّر، فكل إمكانية في عالمنا موجودة فعليًّا في عالم آخر؛ من ثَم هناك عوالم بقدر ما هناك إمكانات، وهو ما يبدو عددًا هائلًا.

fig9
شكل ٨-١: ما الاحتمال الممكن هنا؟

ولكن ما هذه العوالم الأخرى؟ هل هي جزء من الواقع؟ أولًا وقبل أي شيء، ليست الكواكب هي المقصودة بالعوالم الممكنة. في قصص الخيال العلمي القديمة، قد نشير إلى الكواكب الأخرى على أنها عوالم، ولكن الفكرة هنا هي أن العالم هو كون بأكمله. عالمنا — الفعلي — يشمل كل شيء موجود. يشمل ذلك المكان والزمان بأكملهما بما يحتويانه من خصائص، وجزئيات، وتغييرات، وعِلل تشكِّل الإجمالي الذي نحن جزء منه. ومن المفترض أن تكون العوالم الأخرى على ذلك النحو أيضًا، بكواكبها ونجومها، وناسها، وحقائقها البسيطة، وطاولاتها وكراسيها، ورؤساء وزرائها، وعواصمها. لكن بعض العوالم الممكنة لن يكون فيها حياة على الإطلاق، وبينما سيكون بعضها عوالم ضخمة، ستكون الأخرى بالغة الصغر. بل هناك عالم محتمل يحتوي على كائنَين فقط في علاقة متماثلة مكانيًّا (لقد صادفنا هذا العالم بالفعل في الفصل الأول).

في عوالم أخرى

من هذه النقطة فصاعدًا ستنقسم الآراء. ربما تندهش لسماع أن هناك رأيًا يقول إن كل هذه العوالم حقيقية مثل عالمنا تمامًا. إنها موجودة بكل معنى الكلمة، مثلما يوجد عالمنا بالضبط. مثلما الطاولة أمامك غرض مادي يُصدِر صوتًا عندما تطرقه، هناك طاولات مادية في عوالم أخرى ممكنة يمكنها أيضًا أن تُصدِر صوتًا عند طرقها. بل بعض العوالم مأهولةٌ بعض مناطقها بالناس: ليسوا بالضرورة بشرًا، وإنما أشياء قادرة على التفكير والتصرف (وفي عوالم أخرى أيضًا، هؤلاء الأشخاص هم ويا لَلعجب أجهزة كمبيوتر). يمكن لهؤلاء الناس الشعور بالأحاسيس تمامًا كما نشعر نحن، ويمكنهم تصور ما إذا كانت هناك عوالم أخرى ممكنة مثل عالمهم. يمكن حتى أن تكون لديك نظائر في بعض من هذه العوالم: أشخاص يشبهونك كثيرًا، لهم تاريخٌ مشابِه، وربما حتى الاسم نفسه.

رغم أن هذه العوالم حقيقية، فلا يمكن لنا أن نزورها أبدًا. إنها موجودة داخل الزمان والمكان، بها سكان حقيقيون، ولهذا السبب يُطلَق عليها أحيانًا اسم العوالم الممكِنة الملموسة. لكنها ليست في زماننا ومكاننا. كل عالم مفصول زمانيًّا ومكانيًّا عن العالم الآخر. في الواقع، ربما يكون هذا جزءًا مما نعنيه بعالم. إذا كان ثمة شيء متصل زمانيًّا ومكانيًّا بعالمنا، فإنه بذلك يصبح جزءًا من عالمنا؛ لأنه من الممكن نظريًّا الوصول إليه. وفي هذا السياق الميتافيزيقي، لا بد أن يكون واضحًا أنه بينما نستخدم مصطلح «الفعلي» للإشارة إلى عالمنا، فإن سكان العوالم الأخرى يستخدمون المصطلح للإشارة إلى عوالمهم الخاصة. وهكذا يصير الفعلي مصطلح إشارة، مثل أنا، ونحن، وهنا، والآن. تختلف إشارة هذه المصطلحات حسب مَن يستخدمها. عندما أقول «هنا»، تشير الكلمة إلى نوتنجهام، ولكن عندما تستخدمها أنت، فقد تشير إلى أوسلو، أو إسطنبول، أو سانت لويس، أو أنتيجونيش، أو أي مكان قد تكون فيه.

عندما اقترح ديفيد لويس (في كتاب «الاحتمالات المخالِفة للواقع»، عام ١٩٧٣، ثم في كتاب «عن تعدُّد العوالم» عام ١٩٨٦) أول مرةٍ هذه الواقعية بشأن العوالم الممكنة، لقي تفسيره ردود أفعال متعجبة. صحيح أنه كان يقصد حقًّا أن الواقع مليء بعددٍ لا نهائي من العوالم الملموسة، ولا يزيد عالمنا على كونه مجرد واحد منها. لكن ردود الأفعال المتعجبة لا ترقى إلى مستوى الحُجج. وكان من الردود على طرح لويس قولٌ على غرار ما يأتي. فقد قال البعض إننا حين نتحدث عن إمكانية أن يكون ارتفاع برج إيفل ٣٥٠ مترًا، ربما نتصوره بهذا الارتفاع في عالمٍ آخر ممكن، لكن ليس من المفترض أن نُعد هذا العالم حقيقيًّا. إنه عالم ممكن فحسب، وليس عالمًا حقيقيًّا. لذا ربما يمكننا استخدام العوالم الممكنة كأداةٍ تصورية للتعبير عن أفكارنا بشأن الممكِن. لكن هذه العوالم ستكون نظريةً فقط. إننا حين نقول إن شيئًا ما ممكن، ربما نقصد أن هناك عالمًا ممكنًا يكون فيه هذا الشيء حقيقيًّا، لكننا لا نقصد هذا حرفيًّا. يمكننا استخدام لغة العوالم الممكنة دون الإقرار بأنها واقعٌ ميتافيزيقي.

أما لويس فقد كان رافضًا لهذه الواقعية «المزيَّفة». وكان من بين مساعيه محاولة تحليل ما هو معنى أن يكون شيء ما ممكنًا. وكان جوابه أن هناك عالمًا ملموسًا يكون فيه هذا الشيء حقيقيًّا. وكانت هذه العوالم حقيقية مثل عالمنا. وإذا حاولنا مقاومة هذه الخطوة الأخيرة، فلن نستطيع القيام بما كان لويس يحاول القيام به. لن نستطيع تحليل ما هو الممكِن؛ لأن كل ما سيمكننا قوله عن هذه العوالم الأخرى هو أنها ممكِنة، وليست فعلية مثل عوالم لويس الفعلية كلها. القول بأن معنى أن يكون شيءٌ ما ممكنًا هو أن يكون حقيقيًّا في عالمٍ ممكِن، هو منطق دائري وغير مفيد. من ثَم، ينبغي ألَّا نحط من مستوى هذه العوالم؛ لأننا إذا فعلنا ذلك، فربما لا تتمكَّن هذه العوالم من أداء المهمة الجوهرية التي صُممت لها. لكن ربما هذا النهج الاستدلالي لا يحسم المسألة.

إن الدافع إلى الابتعاد عن واقعية لويس الشديدة بشأن الإمكانات مفهومٌ رغم كل شيء. فهو يجعلها جزءًا من الواقع . إنها ليست مجرد جزءٍ صغير من الواقع المألوف لنا. إنها واقع شخص آخر. وهو ما يجعل الواقع شيئًا أكبر بكثير مما كنا نعتقد. وقد نرى في ذلك مغالاةً ميتافيزيقية. فإنه يقول إنه لا بد أن يكون هناك عالم لكل إمكانية من الإمكانات، وبذلك سيكون عالمنا جزءًا ضئيلًا للغاية من إجمالي الواقع. هل نحتاج حقًّا إلى كل هذا لمجرد تفسير الممكِن؟ يا لهم من مسرفين أولئك الفلاسفة، أليس كذلك؟

ولكن هذه أيضًا ليست حُجة. فلا يوجد سببٌ يجعل النظرية الأبسط هي النظرية الصحيحة. من الممكن أن يكون العالم (أو العوالم كلها) مكانًا فوضويًّا؛ حيث الحقيقة معقَّدة، وتنطوي على أشياء كثيرة جدًّا. ولكنَّ ثمة اعتبارًا ربما يكون أهم قليلًا (تتباين الآراء كثيرًا بشأن أهميته). الجملة التي بدأنا بها هي: «كان من الممكن أن أصير من أبطال الملاكمة.» لاحظ التركيز على الفاعل. العديد من الادِّعاءات التي نقدِّمها حول الممكِن تشير إلى جزئيات. كان الممكِن أن يكون ارتفاع برج إيفل ٣٥٠ مترًا، ولنكولن كان من الممكِن أن ينجو من الاغتيال، وكان من الممكِن أن أكون لاعب كرة قدم محترفًا. ولكن إذا كانت واقعية العوالم الممكِنة صحيحةً، فلن تكون هذه الادِّعاءات عن الإمكانات صحيحةً، بالمعنى الدقيق.

وفقًا للنظرية، حتى تصبح إمكانية أن أصير لاعب كرة قدم حقيقيةً لا بد أن يكون هناك عالم آخر يوجد فيه شخص يشبهني كثيرًا، هو نظيري، وهو لاعب كرة قدم. ولكن ما شأني وهذا الشخص الآخر؟ إنه ليس أنا؛ بل إنه ليس جزءًا من عالمي بالمرة. لا شيء مما يقوله أو يفعله يمكن أن يؤثر فيَّ لأنه ليس من الممكِن أن تتفاعل العوالم سببيًّا. ومن ثَم ومِن هذا المنطلق، فإنه لم يكن من الممكن أن أصبح لاعب كرة قدم، في نهاية المطاف، إذا أخذت بتداعيات النظرية. وحده شخص آخر هو من صار كذلك. على النحو ذاته، يبلغ ارتفاع برج إيفل في عالمنا ٣٢٤ مترًا. ونعتقد أنه كان يمكن أن يكون بارتفاع ٣٥٠ مترًا، ولكن النظرية لا تزيد على إخبارنا بأن هناك عالمًا آخر حيث يوجد نظيرٌ لبرج إيفل يبلغ ارتفاعه ٣٥٠ مترًا. ما دلالة هذا على عالمنا والبرج الذي فيه؟ ليس ممكنًا أن يكون بارتفاع ٣٥٠ مترًا، بالنظر إلى أنه في الواقع ٣٢٤ مترًا. كل ما تقوله النظرية هو أنه مثل برج آخر يبلغ ارتفاعه ٣٥٠ مترًا. يبدو هذا فشلًا ذريعًا للنظرية. يبدو أن تأكيد واقعية العوالم لتفسير الإمكانية، كان له التأثير العكسي؛ لأنه يجعل تركيزنا مقتصرًا على الاختلافات التي تحدث لنظراء سكان عالمنا. أراد براندو أن يعلم لو كان من الممكن أن يصبح بطل ملاكمة، ونحن نتساءل عما إذا كان من الممكن تفكيك برج إيفل في عام ١٩٠٩. على المؤمنين بواقعية العوالم الممكنة إمعان الفكر للرد على هذا الانتقاد.

تجميع وإعادة تجميع

لكن نظرية العوالم الممكنة ليست بالتفسير الوحيد المتاح. ثمة نظريةٌ أخرى جديرة بالمناقشة. ولنا أن نعتبر هذه النظرية الثانية أقرب إلى الفلسفة الأرسطية منها إلى الفلسفة الأفلاطونية. لنفترض أن الإمكانات المحضة ليس لها وجود على الإطلاق. ومع ذلك، يبدو أن لها دلالة ما. فكيف يمكننا تفسيرها؟ اقترح البعض تصوُّر الإمكانات على أنها إعادة تجميع لجميع العناصر الموجودة في الواقع.

إليكَ الكيفية التي يمكن بها تصوُّر الأمر. لنفترض أنك جديدٌ نسبيًّا في العالم، وخبرتك به محدودة. في لحظة من اللحظات، مَر بك كلب أبيض. وفي اللحظة التالية، رأيتَ قطة سوداء. بذلك صرت على عِلم بأن هناك هذَين النوعَين من الجزئيات: كلبًا وقطة. ولكنك عرفت كذلك أن هناك خصيصتَين أيضًا: البياض والسواد. على الرغم من أنك لم ترَ سوى كلب أبيض وقطة سوداء، فإنك تعلم أنه من الممكن كذلك أن يكون هناك كلب أسود وقطة بيضاء. كل ما فعلته هو إعادة تجميع العناصر الموجودة في رأسك. لقد رأيت الموجود من الجزئيات والخصائص؛ ولم تفعل سوى أنك أعدتَ توزيعها أو أعدتَ ترتيبها. بالمثل، أنت تعرف أن هناك أبنية مختلفة في العالم، وتعرف أن هناك خصائص ارتفاع مختلفة. الارتفاع ٣٥٠ مترًا ليس هو ارتفاع برج إيفل، ولكن بما أنك تعرف أن برج إيفل موجود، وأن ٣٥٠ مترًا هو ارتفاع، ففي إمكانك الجمع بين هذَين العنصرَين معًا في ذهنك، وأن تتصور برج إيفل ممكنًا بارتفاع ٣٥٠ مترًا.

للإمكانات وجودٌ من نوعٍ ما: لكنها موجودة من خلال العناصر التي تكوَّنت منها. فليس للعناصر، المُعاد تجميعها التي هي محض إمكانات، وجود ملموس. برج إيفل البالغ ارتفاعه ٣٥٠ مترًا هو مجرد خيال. البرج موجود، وكذلك الارتفاع، أما اجتماعهما معًا فليس موجودًا. إنه شيء نتخيله فحسب.

لكننا لسنا في حاجة إلى شخص كي يتخيل الأمر، أو يكتبه قصةً. لكي يكون شيء ما ممكنًا، يكفي وجود الجزئي والخصيصة اللتَين سيشكِّلانه إذا اجتمعا. وقد يشكِّلان جمعًا جديدًا لم يفكر فيه أحد قَط. ليكن أبراهام لنكولن مثلًا هو الجزئي، وهناك نشاط (أو خصيصة) وهو الغوص. هكذا ستكون ممارسة أبراهام لنكولن الغوصَ إمكانيةً من الإمكانات، حتى لو لم يذكرها أحد قَط. لقد ذكرناها هنا الآن، ولكن هناك الكثير من الإمكانات الأخرى التي لم يذكرها أو يفكر فيها أحد قَط.

جاء بهذه النظرية عن الإمكانات ديفيد أرمسترونج («نظرية تجميعية عن الإمكانات»، ١٩٨٩). يمكننا تصوُّر جميع عناصر العالم في شكل شبكة. في هذه الشبكة تصطف جميع الجزئيات على محور، وجميع الخصائص على المحور الآخر. بذلك قد تكون تفاحة من التفاحات جزئيًّا من الجزئيات، والخُضرة خصيصة من الخصائص، ولكن سيكون هناك الكثير غيرهما. يمكننا تصوُّر التقاطع في بعض مساحات الشبكة بين خاصية معينة وجزئيٍّ معين كأنها مؤشَّرة (بعلامة صح مثلًا). وهذه إشارة إلى انتساب الخصيصة إلى ذلك الجزئي. سيكون من الحقائق، على سبيل المثال، أن هذه التفاحة خضراء. ولكن ستُترك العديد من المساحات فارغة. فأبراهام لنكولن لم يكن أخضر؛ لذا لن يكون ثمة حاجة إلى وضع علامة صح في تلك الخانة. إذا اكتشفنا جميع المساحات التي وُضعت فيها علامة صح في شبكتنا، فسنكون قد اكتشفنا جميع حقائق عالمنا. ربما يصير لدينا بذلك معرفة كاملة. لكن الشبكة تُخبرنا كذلك، وفقًا لهذه النظرية، بكل الإمكانات المحضة. وهي جميع المساحات الفارغة: جميع الخانات التي لم نضع فيها علامة صح. فقد كان من الممكن أن يكون لنكولن أخضر. كل ما يعنيه هذا هو أن لنكولن جزئيٌّ من الجزئيات، والخضرة خصيصة من الخصائص.

إنها فكرة بسيطة. لكن كما هي الحال دائمًا، تكمن الصعوبة في التفاصيل. هذه النظرية التجميعية تفلح فقط إذا اعتبرنا العناصر قابلةً لإعادة التجميع. فلنا أن نرى أن مبدأ إعادة التجميع — إمكانية الجمع بين أي جزئي وأي خصيصة — هو الذي يتكفَّل بكل شيء. وهنا قد يتساءل البعض إذا كانت الشبكة التجميعية تخبرنا حقًّا بالإمكانات، أم تفترضها فقط عن طريق اعتماد مبدأ إعادة التجميع الحر.

قد يتساءل البعض ما إذا كان ينبغي دعم هذا المبدأ مهما كانت الحالة المطروحة. هل كان من الممكن حقًّا أن يكون لنكولن أخضر؟ من المؤكد أن هذا ليس باللون الممكن للبشر. ربما هناك ولو بعض القيود على ما هو ممكن. ذكرنا سابقًا أنك لا تستطيع القفز إلى القمر، ولكن إذا أخذنا بهذه النظرية، فسيبدو أن هذا في عداد الأشياء الممكنة. أنت موجود، وهناك خصيصة القفز إلى القمر؛ لذا ربما يبدو أن هذا ممكنٌ ما لم نفرض بعض القيود.

عادةً ما نميز بين أنواع الإمكانات. هناك ما هو ممكن منطقيًّا، أي أنه ببساطة لن يناقض قوانين المنطق أو يخالفها. وهناك الإمكانات الطبيعية: أي ما تسمح به قوانين الطبيعة. تشمل الفئة الأخيرة قوانين الفيزياء، والبيولوجيا، والكيمياء، وعلم الاجتماع، والبصريات، وهلمَّ جرًّا. يجوز القول بأنه من الممكن منطقيًّا أن يكون لنكولن أخضر اللون، حتى لو لم يكن هذا ممكنًا بيولوجيًّا. قد تكون الإمكانات الطبيعية مجموعةً فرعية من الفئة الأكبر للأشياء الممكنة منطقيًّا. وبناءً على ذلك، يمكننا اعتماد إعادة التجميع غير المقيدة في حالة الإمكانات المنطقية، وفرض القيود في حالة الإمكانات الطبيعية.

يمكن انتقاد النظرية التجميعية للإمكانات من هذا المنظور لسماحها لفيضٍ من الأشياء بأن تكون ممكنة. ولكنها في الوقت ذاته تواجه اعتراضًا من الطرف الآخر. فليس في إمكانها دائمًا تقديم ما يكفي من الأشياء الممكن حدوثها. فالنظرية تبني الإمكانات عن طريق الجمع بين كل العناصر الموجودة. ولكن من المحتمل أنه يكون هناك عناصر أكثر من الموجودة في الواقع. يبدو ممكنًا أن يكون هناك جزئي إضافي أو خاصية إضافية. على سبيل المثال، كان ممكنًا أن يكون لكينيدي طفل آخر، بالإضافة إلى الأربعة الذين كانوا لديه في الواقع. يبدو هذا أمرًا ممكنًا، وليس إعادة تجميع لما هو موجود. الطفل الإضافي الذي تخيلته هو جزئي إضافي تمامًا: عنصر آخر كان ممكنًا أن يكون موجودًا في الواقع. في إمكان النظرية أن تتقي هذا الاعتراض، ولكن بقدْرٍ وليس اتقاءً تامًّا. فمن الممكن أن نقرنها برؤية رباعية الأبعاد، تعطي كل ما وُجد، وكل ما سيوجد يومًا، من الجزئيات والخصائص، وتتركها جميعًا متاحة لإعادة التجميع. لكن حتى لو كان عدد العناصر ضخمًا، فهو لا يزال محدودًا. وسنشعر أنه لا يزال من الممكن أن يكون هناك أكثر: مثل ذلك الطفل الذي لم يُولد.

أما من يتبنَّى نظرية العوالم الممكنة، فحسبه أن يقول ببساطة إن هناك عوالم تحتوي على أكثر مما يحتوي عليه عالمنا. وربما يكون هناك عالم يكون لدى كينيدي فيه خمسة أطفال. بيد أننا لا بد ألَّا ننسى مشكلة هذه النظرية. وهي أن الرجل الذي لديه خمسة أطفال في العالم الآخر ليس كينيدي، والطفل الخامس ليس طفلًا لم يُولَد في هذا العالم. من ثَم فلدينا نظريتان رئيسيتان للإمكانات، وكلتاهما لديها نقاط ضعف. ربما لاحظت أن السائد حتى الآن هو الاستنتاجات غير الحاسمة. هذا ما يحدث غالبًا في تخصصنا، ولكنه يدل على كثرة العمل المتبقي ليتولَّاه جميع الفلاسفة المحتملين في المستقبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥