هل العدم شيء؟
لقد ناقشنا ما هو موجود وماهيته. كان منطقيًّا أن نبدأ بالأشياء السهلة. بدا واضحًا أن هناك جزئيات وخصائص، وأن التغييرات تحدث، وأن بعضها يمكن أن تكون له عِلة. كانت هناك كُليَّات وأجزاء، وكذلك كان هناك أشخاص. ووجدنا بعض الموضوعات أقل سهولة. فهناك خلاف بشأن الكُليَّات، وما إذا كانت أحيانًا تتجاوز أجزاءها، وما هي الإمكانات، وما إذا كانت الجواهر الروحية موجودة، وما إذا كان الزمن شيئًا يمرُّ.
الفئة التالية من الأشياء تبدو أكثر التباسًا من أيٍّ من الأشياء السابقة. بيد أنه ليس من السهل استبعادها فحسب. يبدو أن هناك فئة من الكيانات المزعومة الغامضة: أنواع العدم. فهناك غيابات، ونواقص، وهوامش، وفراغات، وحدود، وثقوب، وأصفار، ومفقودات، وخواءات، ونهايات، وكلها تبدو أنواعًا مختلفة من العدم. من الأمثلة على ذلك أن الجبن به ثقوب. هل الثقوب جزء من الجبن؟ هل هي شيء يمكن أن يحتوي عليه؟ هل هي نوع من الكيانات من الأساس؟ الجبن نفسه يبدو حقيقيًّا تمامًا، أما الثقب فقد لا يكون شيئًا مطلقًا: مجرد مساحة فارغة. ينتهي مدى الثقب عند حدود الجبن. لكن حتى الحدود تبدو نوعًا من أنواع العدم. إنه حد الجبن — نهايته — الذي لا يوجد بعده شيء. إنه الحافة بين الوجود والعدم.
إذا لم تجازف، فلن تكسب شيئًا
لقد اختلف الفلاسفة بشدة بشأن المنعدم والغائب وما على شاكلتيهما. كان بعضهم على استعداد لإثارة المسألة، بل الإقرار لها بدرجة من درجات واقعية الوجود. كثيرًا ما نقول أشياء على غرار «لا يوجد طعام في الخزانة»، وهو ما يبدو ظاهريًّا كأنه ينسب الوجود («يوجد …») إلى شيء سلبي («انعدام طعام …»). قد يكون الرد الأول هو القول بأنه من المؤكد أن هذه الكلمات ليس من المفترض فهمها بهذه الطريقة. لكن المشكلة هي أنه من الصعب جدًّا تجنُّب الحديث عما هو غائب. نذكر الأشياء الغائبة طَوال الوقت، وليس من الواضح مطلقًا أننا يمكن أن نفسرها عن طريق الأشياء «الموجبة» التي نعلم أنها موجودة. لهذا السبب، صار بعض الفلاسفة يأخذون الأشياء الغائبة على محمل الجِد، مما يسمح بجعلها جزءًا من الواقع. فهي قد تكون جزءًا كاملًا من الواقع، أو قد يكون لديها وجود جزئي فحسب. وقد تكون بمنزلة مواطنين من الدرجة الثانية في عالمنا. الرد على هذا الخيار الأخير هو الفكرة القائلة بأن للوجود وجهًا واحدًا: إما أن يكون الشيء موجودًا وإما غير موجود، فلا يوجد شيء بينهما.
ربما يتضح أن هذا الموضوع شديد الالتباس عندما نبدأ في تأمُّل الأمثلة، وإن كنا سنرى، في أثناء ذلك، أنه ليس من السهل أن نفرغ من هذه الحالات. كنا قد تأملنا سابقًا سؤال: «ما هي الدائرة؟» مما أدى بنا لتأمُّل الخصائص. قد يكون لرجلٍ ما خصيصة أن طوله ١,٨ متر. هل هذا يعني أنه لديه أيضًا خصيصة أن طوله ليس مترَين؟ هل للأشياء خصائص سالبة بالإضافة إلى خصائصها الموجبة؟ ربما يكون من خصائص إحدى البطاقات أن شكلها مثلث ولونها أحمر. فهل نقول إن لديها أيضًا خصيصتَي أنها غير مربعة وغير زرقاء؟ يبدو أن هناك ما يثير الالتباس في هذه الخصائص السالبة، ولكن ما هو بالضبط؟ هل هناك أي أساس منطقي يمكِّننا من استبعادها؟
ربما تتبادر إلى أذهاننا بعض الأفكار. بدايةً، يمكننا القول إنه إذا كان لدى الأشياء خصائص سالبة، فسيتحتم أن يكون لديها عددٌ لا نهائي منها. إذا كان لدى رجل خصيصة «موجبة»، وهي أن طوله ١,٨ متر، فإننا إذا قلنا إن لديه خصيصة «سالبة»، وهي أن طوله ليس مترين، فسنُضطر أيضًا إلى القول بأن لديه خصائص أن طوله ليس ٢,١ متر، ولا ٢,٢ متر، ولا ٢,٣ متر، وهكذا لكل طول ممكن. بالمثل، إذا قلنا إن بطاقتنا المثلثة الحمراء لديها خصيصة أنها ليست زرقاء، فسنُضطر أيضًا إلى القول بأن لديها خصائص أنها ليست خضراء، ولا وردية، ولا برتقالية، بالإضافة إلى كونها ليست مستديرة، ولا على شكل معين، وهكذا لكل الألوان والأشكال. ولكن ما مدى قوة هذا الرأي؟ إنه يمثِّل اعتراضًا عن طريق القول إن الاعتداد بالخصائص السالبة، سيؤدي إلى أن يصبح لدى الأشياء عددٌ لا نهائي من الخصائص. ولكن هل نحن متأكدون أن هذه ليست الحال بالفعل؟ كم عدد خصائص الغرفة التي تجلس فيها؟ فلتنظر حولك. هل أنت متأكد حقًّا أن عددها محدود؟ في هذه الحالة، ربما لا تكون هذه بالحُجة الكافية ضد وجود الخصائص السالبة في نهاية المطاف.
ولدينا حُجة أخرى. إذا كان هناك شخصان طولهما ١,٨ متر، فسيكون بينهما شيء مشترك. إنهما يشتركان في خصيصة. هناك واحد — وحدة — ممتد في عدة أفراد. أما إذا كان هناك شخصان طولهما ليس مترين، فسيبدو أنه ليس ضروريًّا أن يكون بينهما أي شيء مشترك على الإطلاق فيما يتعلق بطولَيهما. ربما لا يكون طول ماري مترَين لكونه ١,٦ متر. وربما لا يكون طول جون مترَين لكونه ١,٩ متر. ومن ثَم، لا توجد خصيصة مشتركة بينهما. لا يوجد الواحد الموجود في عدة أفراد. ولكن هذه الحُجة أيضًا غير كافية. المشكلة هي أنها تصادر على المطلوب. فهي لا تفلح إلا إذا قررنا مسبقًا أن الخصائص السالبة ليست حقيقية. إذا أراد شخصٌ ما الدفاع عن الخصائص السالبة، فيكفيه أن يؤكد أن ماري وجون بينهما بالفعل شيء مشترك: وهو أن طولَيهما لا يبلغ مترَين.
هناك فكرة أخرى ربما تكون أقوى. وهي أنه يمكننا القول إنه إذا كان شخصٌ ما طوله ١,٨ متر، فهذا يخبرنا بكل الأطوال الأخرى التي ليست بطوله. بدلًا من القول بأن لدى هذا الشخص خصيصة أن طوله ليس مترَين، يمكننا ببساطة استنتاجها باعتبارها مجرد حقيقة أو واقع من الخاصية الموجبة التي لديه. إذن ربما لسنا في حاجة إلى تخصيص مجالٍ منفصل للخصائص السالبة. فإنها مجرد حقائق ضمنية نستنتجها من أي خاصية موجبة.
بيد أن هنا أيضًا لدينا بعض المشكلات. فكيف ينطوي كون الشخص طوله ١,٨ متر على أن طوله ليس مترين؟ يمكن القول إنه كذلك بسبب أن كون شخصٍ طوله ١,٨ متر لا يتفق مع كون طوله مترين. لكن عدم التوافق يبدو كأنه نوعٌ آخر من أنواع السلب. عدم التوافق هو عدم إمكانية أن يكون طول الشيء ١,٨ متر ومترين في آنٍ واحد. هل كل ما فعلنا إذَن أننا أبدلنا نوعًا من الوجود السالب بآخر؟ هل نريد الإقرار لعدم التوافق بأن يكون جزءًا من الواقع؟
وبغضِّ النظر عن ذلك، هل ستنجح استراتيجية عدم التوافق على الدوام؟ أفترض أن الغرفة التي تجلس فيها الآن لديها خصيصة عدم وجود فرس نهر بها. ولكنني أفترض أيضًا إمكانية أن يكون فيها واحد. فمن الجائز أن تتسع له. لا تنطوي أيٌّ من الخصائص الموجبة للغرفة على ألَّا تحتوي على فرس نهر. كل ما هنالك أنها ليس لديها هذه الخصيصة.
هل علينا إذن الإقرار بالخصائص السالبة، أم نتمسَّك بحدسنا أنها ملتبسة؟ هناك حالتان أُخريان علينا مناقشتهما قبل محاولة الإجابة. وسأناقشهما أولًا لأن جميع الحالات قد تأتي بردٍّ واحد.
حتى الفلاسفة البارزون طالما أخذوا السببية بالغياب على محمل الجِد، على الرغم من عبثيَّتها. ما هي السببية بالغياب؟ لنفترض أنك ذهبتَ في عطلة، وحين عدت للمنزل وجدت نباتاتك ميتة. ما الذي قتلها؟ ربما يخطر في بالك غياب الماء. هناك حالات عديدة مثل هذه؛ حيث يبدو أن غياب شيء ما — الذي يبدو أشبه كثيرًا بالعدم — كان عاملًا سببيًّا. ربما يموت البشر بالاختناق بسبب غياب الأكسجين، ويؤدي نقص إنتاج الأنسولين إلى الإصابة بداء السكري، وكذلك تنخلع حدوة الحصان لعدم وجود مسمار، وعادةً ما تُعطَّل الآلات عند إزالة جزء من أجزائها. هناك كذلك آلياتٌ سببية تعمل فقط بسبب غياب عنصر من العناصر. الوسادة الهوائية بالسيارة، على سبيل المثال، تعمل عندما تكون قوة التوقُّف المفاجئة شديدة إلى درجة تؤدي إلى انفصال محمل كريات مغناطيسي عن الجزء العلوي من أنبوبٍ معدني، بحيث يتدفق الهواء من خلاله. لا يتسبَّب الاصطدام في انتفاخ الوسادة الهوائية إلا من خلال غياب محمل الكريات هذا.
تبدو فكرة السببية بالغياب جذابة عندما تنظر هذه الحالات. ومع ذلك، فإن منح قوًى سببية لغياب الأشياء يبدو خطيرًا من الناحية الميتافيزيقية. بادئ ذي بدء، ربما يعتبر الكثيرون الفعالية السببية معيارًا مناسبًا لكون الشيء حقيقيًّا. لذلك فإننا إذا قلنا إن غياب الأشياء يمكن أن يكون له تأثير سببي، فسيبدو كأننا نمنحه وجودًا كاملًا. سيتعيَّن علينا تجسيد الغياب (معاملته كأنه واقع). وهو أمر خطير. إذا اعتبرنا غياب الأشياء عِللًا، فسيبدو أن عِلل أي حدث ستتكاثر إلى حد العبث.

لدينا مثال (أدين به لفيل داو) يوضح هذه النقطة. لو كان أحد الحراس قد اعترض الرصاصة بجسده، لكان كينيدي قد عاش. وإذا كنت تعتقد أن غياب الأشياء يمكن أن يكون عِللًا، فيبدو أن عليك القول بأن أحد أسباب موت كينيدي كان غياب هذا الحارس. ولكن كذلك لو كان جاك روبي (قاتل كينيدي) اعترض الرصاصة، لكان كينيدي قد عاش. إذن، لن يكون سبب موته غياب الحارس فقط، ولكن كذلك غياب جاك روبي. لكن لو كنت أنا أو أنت اعترضنا الرصاصة، لكنَّا أنقذنا كينيدي. في الواقع، أي إنسان عاش أو سيأتي يومًا كان في مقدوره هو أيضًا أن يعترض الرصاصة. من ثَم فإن من بين أسباب موت كينيدي غياب كل شخص من الأشخاص. وليس علينا أن نكتفي بذلك. الأشياء غير الحية كان من الممكن أيضًا أن تعوق الرصاصة. من الواضح إذن أن ما تسبب في موت كينيدي عددٌ لا يُحصى من الأشياء الغائبة. هل نريد أن يتصاعد عدد العِلل لأي حدث بهذه الطريقة؟ ألَا ينبغي أن نعتبرها علامةً على أن خطأً ما قد طرأ على رؤيتنا؟
لكنه ليس من السهل تحديد ما الخطأ الذي اعترى نظريَّتنا. لدينا مشكلة مشابِهة لحالة الخصائص السالبة. ربما للحدث عدد لا نهائي من العِلل. ويبدو أن غياب عنصرٍ ما يلعب دورًا حاسمًا في بعض التفسيرات السببية. إنه غياب الأكسجين تحديدًا الذي يخنق الناس، وليس غياب الدجاج المطاطي أو أي شيء آخر. هل يجوز القول بأن غياب الأكسجين نتيجة لوجود أشياء أخرى؟ هذا لا يبدو عملًا سهلًا للقيام به. في هذه الحالة، قد يكون الغياب سِمة أساسية في الحالات السببية، وهو ما لا يبدو مناسبًا للميتافيزيقا الإيجابية.
مجرد كلمات
إنها لفكرة آسرة أن العدم مجرد كلمة. فسيكون من أبلغ أنواع التبسيط الميتافيزيقي إذا حصرنا كل أشكال الغياب والعدم في اللغة: بأن نقول إنها من سِمات الطريقة التي نتحدث بها، لا جزء من العالم. هل هناك أمل في هذا الاتجاه؟ ربما، إنما يتوقف ذلك على وجهة نظرك بشأن العلاقة بين العالم، واللغة، والحقيقة.
إنك حين تقول: «لا يوجد فرس نهر في هذه الغرفة»، يجوز جدًّا أن تزعم أنه مجرد قول. فلك أن تقول إنك لا تدَّعي وجود خاصية لغياب فرس النهر، وقطعًا لا تدَّعي أن هناك أشياء سالبة. ليس واردًا أن يقول أحد إن الغرفة، بالإضافة إلى احتوائها على أشياء «موجبة» مثل الطاولة والكرسي، تحتوي كذلك على شيء «سالب» وهو فرس النهر غير الموجود. قد تدَّعي أنك توضح فقط أنه لا يوجد فرس نهر «موجب» حقيقي في الغرفة.
لا بأس بهذا المنطق لو أفلح، ولكن يعتقد البعض غير ذلك. إنني حين أقول صادقًا إن هناك طاولة في الغرفة، يبدو لي أن في العالم شيئًا يجعل عبارتي صحيحة. ما يجعلها صحيحة هو أن هناك طاولة بالفعل — كائنًا ماديًّا — بين الجدران الأربعة لغرفتي. إن عبارتي كيانٌ لغوي يحتمل الصواب أو الخطأ. يبدو أن ما يحدِّد ذلك (صوابها أو خطأها) هو ما إذا كان ثمة شيء في العالم يجعلها صحيحة. في بعض الأحيان قد يزيد ما يجعل العبارة صحيحة على شيء واحد. فقد أقول إن هناك كرسيًّا أيضًا في غرفتي. في الواقع، هناك عدة كراسيٍّ، وكل واحد منها كافٍ لصحة العبارة التي تقول إن في غرفتي كرسيًّا. يبدو الكلام منطقيًّا حتى الآن. ولكن ماذا عن عبارة على غرار «لا يوجد فرس نهر في غرفتي»؟ ما الشيء الذي يجعل هذا النوع من العبارات السالبة صحيحًا؟ ما الحقائق الموجودة في العالم لإثبات صحة الحقائق السالبة؟
مرة أخرى، نجد أن بعض الفلاسفة العاقلين فيما يبدو قد جسَّدوا الغياب نوعًا ما لشرح المشكلة. فقد انشغل برتراند راسل («محاضرات في الذرية المنطقية»، ١٩١٨) بهذه المسألة، ولم يجد بُدًّا من التسليم بأن العالم يحتوي على حقائق سالبة، بالإضافة إلى الموجبة؛ لأنه اعتقد أن وحدها الأولى تستطيع تفسير الحقائق الموجبة.
لقد سبق أنْ رأينا الأسباب التي دفعت راسل إلى قول هذا. يجوز القول بأننا حين نتحدث عن حقيقة سالبة، إنما في الواقع نؤكد حقيقة «موجبة» مختلفة لا تتفق مع عكس عبارتنا. إنها إحدى الحالات التي تتطلب فيها الفلسفة جهدًا ذهنيًّا. المراد هو أنك إذا قلت: «إن طول فريد ليس مترين»، فإنك في الواقع تؤكد الحقيقة الموجبة أن طول فريد في الواقع ١,٧ متر، وأن طول ١,٧ متر يتعارض مع طول مترين.
ولكن، أولًا، غير معقول أن يكون هذا هو ما تفعله. قد يكون طول فريد ١,٧ متر، ولكنك ربما لا تعلم ذلك. كل ما تراه هو أن طوله ليس مترين (ربما لأنه يمشي تحت قضيب ارتفاعه متران دون أن ينحني). ثانيًا، كما رأينا، حتى لو كان هذا هو ما كنت تقوله، فسيكون بمنزلة تبديل سالب بآخر. فإنك تؤكد أن طول فريد ١,٧ متر، وأن طول ١,٧ متر لا يتوافق مع طول مترين. عدم التوافق شيء سالب: لا يمكن لأي شيء أن يكون بطول ١,٧ متر ومترين في الوقت نفسه. وثالثًا، في حالة فرس النهر، من الصعب معرفة ما الذي يفترض أن يتعارض مع وجوده في الغرفة. كما ذكرت أعلاه، لا يوجد ما يمنع وجوده فيها: فمن الممكن أن يدخلها بكل بسهولة. كل ما في الأمر أنه ليس هناك.
أحيانًا ما نعتقد أن المقصود بالحقيقة هو العبارة الصحيحة. ولكن هناك أيضًا مفهوم ميتافيزيقي للحقيقة، وهو أن يحمل جزئيٌّ ما خصيصةً معينة؛ حيث كلا العنصرَين ضروري. ومن ثَم، فإن حقيقة أن التفاحة دائرية مختلفة عن حقيقة أن التفاحة حمراء. وجود فرس نهر في الغرفة سيُعتبَر أيضًا حقيقة. لمَّا لم يرَ راسل أي حلٍّ آخر لمشكلة الحقيقة السالبة، فقد ذهب إلى الإقرار بوجود حقائق سالبة أيضًا. لذا يجوز أن تكون حقيقةً — جزءًا من الواقع كأي حقيقة أخرى — أن الغرفة لا تحتوي على فرس نهر. يجوز أن تكون حقيقةً أن التفاحة ليست خضراء، وأن طول فريد ليس مترين. يمكن التعبير عن ذلك بطريقة أخرى بالقول إن فريد يجسد سلبًا خصيصة طول المترين؛ حيث إن تجسيد الخصيصة سلبًا هو نقيض التجسيد الإيجابي لها. وفي كلتا الحالتَين، نقرُّ بوجود نوع من العناصر السالبة.
ضجيجٌ بلا طحن
لدينا طريقة لمعالجة الأمر. في مقدورنا الإقرار بوجود حقائق سالبة، وبسببية أشياء غائبة، وخصائص سالبة، وما إلى ذلك. من ناحية أخرى، في مقدورنا أن نعود إلى الفكرة القائلة بأن الانتفاء سِمة لغوية وليس من سِمات العالم. إذا قلت ما من شيء في جيبي، فبالتأكيد لن يظن أحد أن هذا معناه أن لديَّ شيئًا في جيبي، وهو اللاشيء. فهذا الاعتقاد أشبه بتعمُّد تفسير الأمور خطأً. إذا كان لديَّ لا شيء، فإنني حقًّا حقًّا ليس لديَّ شيء. الخطأ بمعالجة هذا اللاشيء كما لو كان شيئًا يبدو واضحًا جدًّا في هذه الحالة، ولكن أقل وضوحًا في الحالات الأكثر تعقيدًا للحقيقة، والسببية، والخصائص. لكن يبدو واضحًا كذلك أن الرصاصة هي التي قتلت كينيدي، وليس عدم وجود شاحنة تحُول في أثناء مرورها بين القناص وضحيته.
الرأي القائل بأن العدم من تصوُّر أذهاننا فقط ربما يطرح شيئًا على غرار التالي. هناك واقع واحد، وكل ما هو موجود «موجب». لا توجد كيانات، أو خصائص، أو عِلل سالبة. ولأننا كائناتٌ واعية فإننا نستطيع تصوُّر العالم من حولنا. عندما نفعل ذلك، نراه بطريقتَين منفصلتَين. نفكر فيما هو موجود، ويمكننا الحديث بشأنه. ولكننا نستطيع أيضًا أن ننفي أشياء بشأن العالم. فإذا سُئلت عما إذا كان هناك فرس نهر في غرفتي، فسأنفي ذلك. إنني عندما أثبت شيئًا، أقدِّم بذلك بيانًا حول حال العالم؛ ولكن ليس هذا ما أفعله عندما أنفي شيئًا. فإذا نفيت أن طول فريد مترين، فإنني لا أثبت أنه طويل بمقدارٍ معين، وإنما أنفي أن يكون بهذا الطول تحديدًا.
الحديث عن مثبِتات الحقيقة ليس من الأحاديث المستحبَّة في الفلسفة، ولكن لنا أن نذكر تباينًا مهمًّا بين الإثبات والإنكار لأولئك الذين يروق لهم مثل هذا الحديث. وهو أننا حين نُثبِت شيئًا، نقرُّ بذلك بوجود ما يثبت حقيقته. فالقول بأن هناك كرسيًّا في الغرفة معناه الإقرار بوجود حقيقة في العالم تجعل القول صحيحًا: حقيقة وجود جسم مادي داخل الغرفة. إذا لم تكن هذه الحقيقة موجودة، تكون العبارة خاطئة. أما في حالة النفي، فلا يوجد إقرار بوجود أي شيء. لكنني إذا قلت: «جيمي ليس طويلًا»، فإنني ربما أقرُّ بوجود شيء ما. تنقسم الآراء في هذا الشأن. ربما أقر بوجود جيمي. ولكن جزء النفي من العبارة ليس به أي إقرار. إنني أنفي أن يكون جيمي طويلًا. لست في حاجة إلى شيء لجعل نفيي صحيحًا لأنه لا يفيد بشيء معين عن العالم: إنما ينفيه عنه.
نحن نستخدم النفي في مواقف عديدة. وقد ناقش جان بول سارتر مثال دخول مطعم، وملاحظة أن بيير غير موجود. كيف يمكن لأي شخصٍ أن يفعل ذلك؟ ليس الغياب بالشيء الذي ندركه مباشرةً، فكيف سيختلف غياب بيير بأي حالٍ من الأحوال عن غياب جاك أو غياب فرس نهر؟ الأشياء الغائبة ليس لها شكل، ومن ثَم فإنه لا يمكن التمييز بينها. يبدو القول بأنك استدللتَ على غياب بيير مما تراه، قولًا غير مقبول، لأنه تمامًا كما في حالة فرس النهر، ليس هناك شيء مما تراه يدل على أنه ليس موجودًا. كل ما هنالك أنه ليس موجودًا. إذن فهو يجوز أن يكون حكمًا فطريًّا، غير استنباطي. كل ما هنالك أن لدينا القدرة على الحكم بأن شيئًا ما ليس موجودًا، أي نفي وجوده. فقد نفيت أن بيير في الغرفة لأنك أمعنت النظر حولك، ولم تستطع العثور عليه رغم أنك حاولت.
ليت في مقدورنا قول الشيء نفسه في الحالات الأخرى التي يبدو أن الغياب يلعب دورًا فيها. ربما يرى البعض أنه لو كان جسم قد اعترض الرصاصة، لأمكنه وقفها. ولكنَّ هذا بعيد جدًّا عن القول بأن غياب هذا الجسم تسبَّب في موت شخصٍ ما. من شأن ذلك أن يعطي وجودًا ماديًّا لشيء يُفضَّل أن ندرك أنه من تصوُّرنا. وكما أشرنا من قبل، يمكننا تكوين فيض من العبارات عن الحالة المغايِرة للعالم — أن طول فريد ليس مترَين، على سبيل المثال — ولكن ذلك لا ينبغي أن يقودنا إلى اعتقاد أن ثمة حقائق بالسلب في العالم تجعل مثل هذه الأقوال صحيحة. ليست المسألة الحال التي عليها العالم؛ وإنما الحال التي ليس عليها.
موضوع العدم هو واحد من أصعب الموضوعات في الميتافيزيقا بأكملها. إنه متشابك. وأحيانًا ما يكون على الفلاسفة تفكيك الأشياء المتشابكة. ونأمل بعد أن يتيسَّر لهم ذلك أن يتبيَّن لنا أن العدم، والغياب، والنقص، وما إلى ذلك، ليست جزءًا من الوجود. فسوف تكون مشكلة كبيرة لو كانت كذلك.